فلسفة التاريخ والعلمية

 

لعل مباحث قانون التطور للوجود طبيعياً إنما يؤكد على مفهوم التطور في الحركة الكلية ويعني أن القانون ثابت وجوداً لاعتبارات جوهرية ، فالتطور ، ليس ينبغي له نبذ السنن التي تخرج عن أصل المطلب ولا هي قادرة على تحييد ذات الفلسفة بحيث تصبح نظرية أكثر منها قانوناً من قوانين الحياة والكون .

وإذا كانت الحركة الجوهرية للأشياء ثابتة بالتجربة فإنها ثابتة على أساس القانون العام وليس هي زمنية تحركها عوامل خاصة تتعلق بأفعال وآثار إجتماعية معينة لأن ذلك ليس إلاَّ تجربة لفلسفة الثبوت والتطور فلا أحد يستطيع إنكار دور الميتافيزيقيا في قوانين الحياة حتى الفلسفة الماركسية المعادية للميتافيزيقيا فأحد ممثليها الممتازين هو ( لوفيغر) يعرف المذاهب التي تعزل وتفصل ، بين ما هو مترابط بالقوى القائمة بذاتها (2) أي المذاهب التي تنظر إلى العالم المادي من جهة ، وإلى معرفة الإنسان بهذا العالم من جهة أخرى ، دون أنْ تدرك بأنَّ المعرفة ليست سوى مجموعة علاقات بين العضوية البشرية والأشياء على أنها مذاهب متافيزيقية  .

بيد أننا نرى أنَّ المادة تقع كوجود عام عند أصحاب المذهب المادي يعني ؛ خارج شعورياً لا يحتاج إلينا سابق لنا (3) . وهذا يعني فصل مسألة الأشياء عن مسألة معرفتنا بها فصلاً ميتافيزيقيا إلى حد كبير .

وهذا هو صورة التطور الداخل في حركة الكل وهو أمر يخص العالم الكوني الذي يمكن حدوث القضايا فيه ، وعليه يعتبر نفسير الحادثة ممكنة حسب علاقتها بالفعل الذي هو إراداة ذاتية والقوة التي هي إرادة خارجية ، لأن كل تفسير هو واقع للسلوك التكويني ، وقد يقال فيه : إنه ناشئ أيضاً بفعل عوامل مبدأ العلية ويؤكد ( دافيد هيوم ) ؛ ( على أن علاقة العلية لا تنشأ عن التفكير العقلي الخالص ولا يمكن إستنباط مبدأ العلية من مبدأ عدم التناقض ، إذ لا تناقض في تصور بداية شئ دون ردة إلى علة (1) ــ ونلاحظ ، في موقف (هيوم ) هذا ، الحاجة إلى التمييز بصورة جدية بين مبدأ العلية وعلاقات العلية القائمة بين الأشياء ونريد بمبدأ العلية : المبدأ القائل إن لكل حادثة سبباً ، ونريد بعلاقات العلية : العلاقة القائمة بين الحرارة والتمدد  أو بين الغَليَان والتبخر : ــ فإن الإتجاه العقلي على الصعيد الفلسفي الذي يسبغ على العلية طابعاً عقلياً قبلياً ، فمبدأ العلية من القضايا التي يدركها العقل بصورة قبلية مستقلة عن التجربة ــ (2) .

وبأختصار فإنِّ مبدأ العلية يمارس الإتجاه العقلي في إثبات حقائق ربما تكون خارجة عن مفهوم الحس والتجربة .

وعليه فالفلاسفة الأرسطيون إعتبروا مبدأ العلية عقلياً يثبت حقائقه من خلال إثبات قوانين العقل للأسباب الفعلية القريبة أو البعيدة ، نعم إن مبدأ العلية ليس قائماً على عدم التناقض كما صرح ( هيوم ) ، لأنه ليس من منطق أنْ يفترض حادثة بدون سبب ، ومنطق الأشياء يثبت حركة الكل بعلة مسببة خارجة أو ذاتية وعليه فقانون التطور في الأشياء ثابت للتاريخ إذ إن فلسفة الأحداث قائمة بدرجة من الضرورة على التطور الذي هو قاعدة وأصل عام للأشياء من دون فرق أن يكون الأمر طبيعياً أو ميتافيزيقياً ، ويجدر هنا إلى كلمة ــ ميتافيزيقي ــ مأخوذة من أصل يوناني هو ــ متاتا فوسيكا ـــ أي : ما بعد الطبيعة وحّولت كلمة ( فوسيكا ) إلى ( الفيزيقيا ) وخذفت منها حرف الإضافة ــ تا ــ فأصبحت ( اليتافيزيقا ) ؛ وقد استعملت أول مرة ، حسب ما يعتقد مؤرخوا الفلسفة ، في قسم خاص من فلسفة ( أرسطو) يأتي حسب ترتيب الكتاب بعد  قسم الطبيعة ، ولعل هذا الترتيب قد لوحظ فيه حال متعلمي الفلسفة فيبدأون معهم بالبحوث الأقرب إلى الحسّ ) (3) . كي يأنس إليها ويستعدّ تدريجياً للبحوث الإنتزاعية البعيدة عن الحس ولو أن هذه البحوث من جهات أخرى مقدمة على الدراسات الطبيعية ،  ونظراً لهذا فقد فضل بعض الفلاسفة المسلمين إطلاق إسم ( ما قبل الطبيعة ) .

إذن فلو عُطل قانون تفسير الظواهر موضوعياً ، فإن الحوادث تصبح جزئيات يعقلها قانون الجبر المحض ، وتبقى الإرادة ، للتسيير الواقعي للتاريخ ، حركة آلية عامة ليس فيها إبداع من طرف وتثبت أنَّ القوانين ما هي إلا تابعة للإرادة الخاصة وذلك على ما هو عليه نظرة ليست علمية ، فالقول بأن الحوادث التاريخة ذات فلسفة معينة إنما يرتب عليها قانون وأفكار الإتجاهات الأخلاقية والدينية والفلسفية العلمية لأنها بمثابة صور من التاريخ للحادثة المعينة ، فوقعة كربلاء كانت قائمة على قوانين ثابتة مرتبطة بروح وفكر الإنسانية وهذه مغذاة بنوع التربية الآلهية سواء نظرياً أمْ تطبيقياً .

فأسباب ونتائج الوقعة كانت تعبر عن فلسفة خاصة ترتبط بالبناء العام العلوي والتحتي للمجتمع فهي لم تكن حادثة مجردة أو نتجت عن عوامل جبرية شاء لها أنْ تقع ، بل هي قائمة على درجة من الترابط بين قوانين الطبيعة ومبادئ العقل الحقوقية والسياسية ، لأنَّ المتيقن من الخطابات الإلهية في هذا المجال وذات التصرف في مفهوم الكون والحياة ، كان عاماً هادفاً إلى تغيير تسجله فلسفة التاريخ على أنه هدف للمجتمع ومن المجتمع لأصل الترابط بين الموضوع والمحمول في القضية ، فأمر التخصيص فيها دون باقي أسبابها ونتائجها على الواقع يحتاج إلى علة مثبتة لحجية المدعي ولأنه يفقد دليل الثبوت نتمسك باطلاق مفهوم الواقعة أصولياً (1)

ولأن موضوع التغيير إجتماعياً وحسب النظم القائمة يحتاج إلى فعل ورد فعل فترجمة وتفسير ، الحوادث المرتبطة بالتاريخ ، أو بالنفس ، أمر غاية في الدقة ثم إنَّ التفسير يجب أن يعالج الحادثة بما هي وصول نحو عالم الحقيقة ، فمعرفة الحقيقة إبتداء تولد معرفة الحق مطلقاً وهذه كما ترى ليست بالثانوية والأولى ، إنما هي من باب المعرفة المعلقة بالصيغ الحادثة المرتبطة بالأمر التنظيمي الإجتماعي ، وذلك يعني فلسفة لمفهوم العلل الحادثة والأسباب المتقدمة فيها كما تتضح الصورة العلاجية بشكل ثابت ومعلن ؛

النظم الإجتماعية والسياسية لازمة لكنها متعلقة بفلسفة لذات النظم والأطر الدستورية وهي عمل يتعلق بقانون العلاقات العامة الذي هو فلسفة للواقع ، غايته متعلقة بالتبع لمصادر المعرفة الازمة سياسياً واجتماعياً وهذا مفهوم لمقدمة متعلقة بالكل الطبيعي .

فآراء المفكرين في باب طرح وتنظيم الأطر هو فلسفة لتحديد ضابط القياس والحكم والمسائل الدائرة مدار القوة في الحكم والحدث أو خارجهما .

ومن هنا كانت الآراء متشعبة لأنها ترتكز على مفاهيم البحث حضارياً وعلمياً وعقائدياً في الأمور الأزلية والعرفية أو التاريخة المحضة المعبرة عن التراث ، إو العلية لقوانين الاكتشافات أو اشتراكية واقتصادية وما شاكل من هذه الآراء الجامعة لفلسفة واحدة تدور حول القضية بما هي سلب وإيجاب إجتماعياً وسياسياً نحن نرى علمية وجود فلسفة للتاريخ ، فحينما نرى ونقول إنّ هناك فلسفة معينة تعبر عن خصائص معينة ترتب آثار وجود ما يجب وما كان بالفعل ، فالتاريخ يسجل لنا فلسفة ( لأبن رشد ) ومبدأ العدالة ( لأفلاطون ) ، ومبدأ الخير العام ( لأرسطو) ، أو مبدأ العصبية لدى ( ابن خلدون ) ، أو مبدأ السيادة لدى ( بودان ) ، أو مبدأ الحرية لدى (لوك ) .

وفلسفة التاريخ تحاول أن تفسر كل شئ بضوء معرفتها للقضايا والحوادث السياسية والعلمية التي تتعلق بالمبادئ أو المبدأ القائم فعلاً على نظرية الانتظام والوجود الطبيعي ، والإهتمام بفلسفة التاريخ ، إنما يقوم ، على الإهتمام بالغايات والأهداف والقيم التي ساهمت بالحركة والآلية والتطور بالفعل وبالقوة .

إن عالم فلسفة التاريخ يجب ان يكون عالم القيم والمبادئ والغايات ، وليس فقط عالم الوقائع والظواهر والحركيات التاريخية : ( ولذا يلزم اليوم أن يميز بين فلسفة التاريخ وعلم التاريخ .. من دون فرق للإعتبار في المعرفة أو المكاسب العلمية المنهجية التي تحققها الفلسفة بشكل عام ) (1)