التمهيد

القانون الطبيعي

 

دأب علماء البيولوجيا على إعطاء صورة معينة لتطور الكائن الحي ، وإذا كان هذا هو فلسفة الوجود لمجموعة النظم الداخلة في تركيبات الأحياء ، فإنه ولا شك إنما رتبته قانون للفعل وللحركة وللنظم ؛ والحركة معناها كل تطور حادث أي أن الترتيب جاء بصيغة قانون التطور العام ولكنه لا يشكل بالبداهة نظرية ثبوت بعض الماهيات على صورتها التشكيلية ، ولكنها تتطور خارجاً لا داخلاً في الصورة ويعني أخذ المراتب الطبيعية في الحركة .

وإذا كان علماء الانتربو لوجيا يضعون مفاهيم تصورية لتطور الأجناس ، فإن هذه المفاهيم تتعارض مع قانون النظرية الثبوتية للماهيات وللجوهر التي هي في الواقع غير قابلة للتطور الحادث ، وإذا كنا نعارض فكرة التغيير في الجوهر فإننا لا ننفي ، أنَّ التطور يصيب الفرعيات والأجزاء وهذا كما أرى ليس سنة خارجة عن القانون بل هو تأكيد لفعل القانون في الحياة والكون ، إذ إنَّ الإرتباط وعدمه إنما يتعلق بالحركة التكاملية للكائن الحي ، فليس من المعقول أنَّ يحدث شئ أو حصول نتيجة لعمل ما دون أثر وسبب له علاقة في الحدوث والنتيجة ، ولأن قوانين العلة والمعلول فلسفياً إنما تُثبت أنَّ الحركة الكونية في مجال الإدراك إنما هي ثبوت القانون من الناحية الفعلية ، وليست قوانين الطبيعة خارجة لزوماً عن قوانين العقل ، فالظاهر ، أن ما يحصل عليه الذهن من عمليات في المجال الطبيعي إنما هو استدلال للحركة في نوع التطور وهي قائمة أساساً على نظرية الانتزاع التي تشكل عدة مبادئ واستنتاجات لظواهر متعددة تشترك من حيث الفعل والممارسة بذاتيات مختلفة لكنها ترتبط بنفس القوانين  التي لها أثر في التطور والتغيير .

ولعل الاعتقاد الأكاديمي لواقع القانون الطبيعي أنه غير مُدوَّن لأن معرفتنا به ليست عملاً تصورياً بل نتيجة تصور مرتبط بالميول الجوهرية للوجود وللطبيعة الحية وللعقل ، وهذه تفعل فعلها في الفرد ، ولأن القانون الطبيعي يتطور بنسبة درجة التجربة الأخلاقية ورد الفعل الذاتي والتجربة الإجتماعية التي كانت في طوق في مختلف مراحل تأريخية .

وقد ندرك الظواهر المعتبرة بالقانون ، لكنه إدراك لعموميات ، وهذه بطبعها تعطي ، لا فقط صيغة الانتظام وإنما الواقع ، الذي يجعل من ذاتية التطور ليس مذهباً لتطور الكائن الأخر للفروق وعدم التشابه .

ولعل عالم النفس ( نورمان ــ ك ــ ميرون ) التفت إلى هذه النقطة ورتب من خلالها الطبيعة الإنسانية ، قائلاً : ( الطبيعة للإنسان منظمة ديناميكية من الأنظمة السلوكية التي يكونها كل منا عن طريق عمليات التعلم ، خلال نموه من وليد بايولوجي ولد حديثاً إلى راشد طبيعي إجتماعي في بيئة من الأفراد الآخرين ومنتجاتهم الثقافية وهي دائماً هذا التفاعل بين البايولوجيا والمجتمع ) (1)

وليس التفاعل هو صياغة للقانون بل هو أثر مترتب عليه اعتباراً ، فصدق ثبوت القضايا لايعزى إلى خطأ في تقييم وإنما إلى جوهر النظرية في القانون التي هي أصل لا لثبوت شئ معين أو حاجة خاصة بل إن الثبوت هو مصداقية القانون المنظور له ، حسب التحليل العقلي ، وليس هي وحدة إنسجام متعلق بالجذب في الطرفين بل هو كون الطرفين عاملين أصيلين في القانون .

إنَّ ما جاء في ( رسالة القديس بولس إلى أهالي رومية ) يُثبت القانون نظرياً وبالإستدلال العقلي فهو يقول : ( لأنه الأمم الذين ليس عندهم الناموس متى فعلوا بالطبيعة ما هو في الناموس فهؤلاء إذ ليس لهم الناموس هم ناموس لأنفسهم ) (2) .

ولعل ذات الفكرة اعتقد بها اليونانيون وأصحاب الفلسفة فشيشرون والرواقيون والأخلاقيون العظام آمنوا بالفكرة على أنها إرادة عليا وليست هذه القوانين في الفكرة وليدة نظام حادث أو قديم بل تحيا مع الواقع الموضوعي وتنبعث من القدرة المطلقة .

وتلك كما هي صيغة عامة في الفكر لكنها تعتبر خاصة في كل حياة من كائن حيّ وليس القياس العام في مورد اعتبار الكليات نظام  يتفرع منه النمط الطبيعي سلوكاً للجزئيات ، ذلك لأن القياس العام لا يصح في موارد إستخدام كل فرد فرد دونما ملاحظة بقية الأفراد وقانونها الطبيعي ، نعم يلاحظ ثبوت العموم في القانون كالموت والحياة وطرق الإكتساب وشكل التزاوج حالما تقسم بالتصنيف البيولوجي لكل منها ، وتقسيم ذلك إلى نوع العمل الذي يقوم به وهذا ناظر إلى فرد الصنف دون فرد النوع العام وليس التخصيص في ذلك  إلاَّ السنن الطبيعية للقانون .

ملاحظة : ثمة موضوع دار فيه البحث عن علاقة الفرد ــ ذلك الإنسان الذي يحيا بقوانين معينة ــ وبين الطبيعة التي تعتبر مركز التعدد بالأفكار المنتجة عن عموم الواقع ، وهو بحث يورد مسار الفكر البشري . ولعل استخدام روح التضادّ ، بين القوانين وبصيغة فلسفية ، يولد التركيز على الجوهر بما هو وجود مع الوجود ثابتاً في الذهن لكنه ، على حدّ تعبير الفلاسفة الذرّيين ، مختلف من حيث التكوين الطبيعي وهل هو جزئيات أولية ليست هي إلاَّ خصائص هندسية من صورة ، أبعاد ، موقع ، تولد تجمعاتها وحركاتها المختلفة في أعضائنا الحسية الوهم بوجود عالم كيفي ؟ هذا من الناحية الاعتبارية للقانون الطبيعي .

أما من الناحية الحقيقة فقد اعتبرت الصفات الثانوية ليست ذات بعد حقيقي إنما الصفات الأولية هي ذات الوجود الحقيقي . وكأنما للطبيعة وجودها ومعرفتها من خلال الصفات وهي ما نطلق عليها بالقانون الطبيعي ، ولكن هذا الأمر من القانون ناظر إلى الأشياء المادة ولأن ( ديكارت ) يرى بوجود حقيقة مع المادية واقعياً ، ولكن هل القانون الطبيعي هو علم واقعي ؟ ويجيب ( ما يرسون ) المختص بنظرية المعرفة قائلاً :

( إن القانون الطبيعي علم واقعي تماماً ، لأنه يقوم كجهد لكشف الهوية وكجهة يظهر الهويات الأساسية الكامنة وراء مظاهر العالم المختلفة والتي تجعل المعلول مشابهاً دائماً للعلة التي يصدر منها ) (1)  ولكنه لم يبين ما هو الحق أهو ذات الهويات المتخفية التي يكتشفها الفكر وهي من طبيعة عقلانية لأن الفكر يدركها ؟ أم إنها العنصر اللاعقلاني الذي يعترض البحث العلمي ؟ ولكنه بالنهاية لم يستطع توضيح المطلب فليس العمل بالقول ــ النشاط العارف لا يبدل الغرض المعروف ــ هو منحى استقامة الرأي في أتجاه القانون الطبيعي بالإدراك الواقعي عند ( هورسول ) .

ولقد اعتبر ( جروش ) في دراستة لمصادر القانون الطبيعي ومقوماته إلى أن القانون الطبيعي هو ما يمليه العقل وينسجم مع القيم الأخلاقية وهو بذلك إنما يشكل مصدراً للقانون الوضعي ويرتب ( جروش ) من ذات النظرية عنصر السيادة للشعب لكونه هو صاحب حق الاختيار لنظام الحكم الصالح له ، وإذا مارس الشعب هذا الأختيار فليس له حق الرجوع عنه والتغيير (2) .

 

القانون الطبيعي والإعجاز

 

ابتداءاً لاينكر أن السنن الطبيعية مشروطة بالإختيار الإرادي حالما يتعلق الأمر بالإنسان ، إذ حينما نسبغ على القانون طابع العلمية فإننا نؤكد قانون العلية في الاعتبار السائد وما يمكن ان يحتويه الذهن للوجود في حوادث معينة فهو لاينكر أسباب ونتائج القانون وإنما يضفي عليه صيغته التكوينية ، فالظواهر الإيجابية والسلبية يمكن أن تحكم عليها بمجرد إحساس العقل ، وإحساس الإدراك بها وهذا الإحساس بذاته لا يعطي للظاهرة حق الوجود الثابت فلربما تتحكم بها العوامل النفسية والإجتماعية ، ولكن هذا التحكيم ليس هو سنة القانون بل هو حالة حادثة قابلة للتغيير حالما تنتفي العوامل المؤثرة ، ولهذا ، فلا تكون الظواهر قيد القوانين أو هي من داخلها ، بل لعلها تعبر عن صيغة معينة لحالة خاصة في الوجود العام ولذا فلا تعتبر هي نتيجة لقانون لأنها زائلة بحكم الواقع الموضوعي الذي يتحكم بالقانون ، فحينما تدخل العوامل البيالوجية في حياة الكائن المعين ندرك أن القانون : هو ما يعبر عن الحالة التي يعتبرها العقل طبيعية ،

فالموت مثلاً ظاهرة طبيعية عندما يتحكم بها القانون الطبيعي ، يعني حينما تكون العوامل التي تؤثر في الواقع من الحالات الطبيعية المشروطة بعامل الحدثية التامة ، فحينما نتحدث عن موت أبي طلب وخديجة (ع) نقول إنها خاضعة بالضرورة لحكم القانون الطبيعي الذي هو استمرار لمفهوم العقل عن الموت من حيث اشتراك القوانين العلمية في جسميهما ففسلجة جسم أبي طالب (ع) وصلت إلى حد نهاية إكمال الدورة الحياتية للخلايا الجسمية حين ذلك يكون الموت مع الكبر قانوناً طبيعياً  تابعاً للنظرية العلمية في فسلجة الأعظاء . ولكنا حينما نتحدث عن قتل عثمان بن عفان يخرج القتل من واقع القانون الطبيعي ويدخل ضمن سننه ، لأن الحالة تيك دخل فيها عامل تقديم لأجل عثمان وهذا التقديم بذاته سنة طبيعية متعلقة بالحدث والنتيجة . (1) . وهذا الاستدلال على القانون إنما يرتبط بالحركة الإرادية للقانون فلو شذ عن قاعدته الطبيعية فإنه يكون بمستوى السنُة المعبرة عن وجود ظاهرة تحكم بالإيجاب أو السلب وهي ما يُعبرَّ عنها بالظاهرة المتغيرة الخارجة تخصصاً عن مجرى القانون .

ولكن السؤال الذي يطرح بإلحاح هو : ما دور القانون الطبيعي في المعجزات ؟

هنا لابد من القول : إن المعجزة هي كما يعبر عنها العلماء : الخروج على العادة ، أو تجاوز المألوف وينبغي أن نعلم إن المعجزة إنما تحصل بفضل عاملين :

الأول : القدرة العليا القابلة للتصنيف والامتلاك .

الثاني : الوجود الخارج بالقدرة عن الواقع الطبيعي . طبعاً الأول يعبر عن الإرادة الألهية ذات الطاقة الهائلة  التي هي صاحبة الأمر والفعل ، فتحكيم مبادئ خارجة عن الارادة البشرية في واقعها الحياتي متعلق بالهدف الذي يبتغي من ورائة والحاجة إليه في تثبيت المبدأ من الناحية الفعلية . فقوله تعالى لموسى (ع) :

{ انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلىّ ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً }

هذا القانون الإعجازي خارج عن مفهومنا للواقع الطبيعي أو قوله تعالى لإبراهيم (ع) { قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً } .

وهذا الواقع كما هو خروج عن مألوف الفكر إذ إن قوانين الطبيعة قائلة بأن الموت هو نهاية الكائن هذه النهاية متعلقة بشرط ثبوت الموت فعلاً وعلى الطريقة الطبيعية أما كون العلاقة قائمة على تقطيع الطير إلى أربعة أجزاء كل جزء يختلف عن الآخر ويفقد وجوده الطبيعي في حال إثبات الهيئة الطبيعية إلى صورتها الأولى هو تجاوز للقانون الطبيعي ، لكنه تجاوز يربط بقوانين العلية التي تهدف إلى أن الثبوت متعلق بالسببية الدالة على تثبيت المبدأ الإعجازي لثبوت القدرة الإلهية كما أن قوانين التوالد الطبيعي ثابتة من خلال العلاقة الزوجية وهي قوانين طبيعية ثابتة لكنها تصبح خارجة عن مألوف الظاهرة حينما تسند إلى وجود عيسى (ع) الذي يقول فيه الله سبحانه وتعالى:

{ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب } (2) .

يعني ولادة عيسى (ع) كانت إعجاز لأنها خرقاً للعادة المعروفة لقوانين الطبيعة ، ولكنها لا تنفي القوانين لأنها ثابتة تعطي مبادئ يرتب العقل الأثار تجاهها ، هذه الآثار هي سُنة للواقع الموضوعي للحياة وهي ارتباط مع ذات القانون من جهة الإنجاز ،

لكنها مستثناة  من نزوع القانون وثبوته المطلق وليس هو بمستوى نفي الوجود الإستثنائي ، وإنما هو توكيد على أنَّ فعل الإعجاز يدخل ضمن قانون خاص يتعلق بالمتغير من الحاجة المرتبطة بشأنية الثبوت ؛ وفيها يكون القانون خارجاً تخصصاً ليفسح للظاهرة باستكشاف قدراتها ويثبت من ناحية أخرى على أن الظاهرة ليست من سنخ القانون بل متعلقة بالشرط الإثباتي للمعجزة بالتصنيف والامتلاك للقول بالقدرة المطلقة بما يستوجب نفي الضد وتثبيت القانون على انه يتبع المصلحة العليا في التصنيف الخاص والامتلاك  ،

اما  الثاني : فهو أيضاً يثبت قوانين العلية للغايات المترتبة على وجود القدرة لأنها أما تكون مغيرة للإتجاه أو محكومة بعوامل القدرة الزمنية ، فالتغيير الإتجاهي قائم على احتواء المصلحة والغاية منها فالقانون لا يقف إزاء هذا التغيير إذا كان يحتوي على معادلة هادفة لحاجة معينة وهي مشروطة بالحاجة لأنها لا تشذ عن الإختيار فلو خرجت عنه فإنها تصبح عديمة الجدوى يعني ليس فيها خرق للقانون إن الخرق ليس معناه

إثبات قوانين أخرى لأن ذلك مستحيل لعدة أسباب منها ما يتعلق بكون الوجود لغاية حادثة وذات الغاية ليست مستمرة فالتغيير يتبع عدم إستمرارية الغاية . وهذا توكيد  للقانون الطبيعي ومنها :

محددوية الخرق بالزمان والمكان . وظاهرة الخرق ، لأنها تتعلق بشرط تحقيق ، شئ من قوانين الوجود الكوني سواء المتعلق بالمدى الشعاعي أو قوس الصعود الغائي والأثنين بالإعتبار حقيقة قائمة على ظرفية معينة لا تتهيأ لأي فرد وفي كل الأزمنه ، فحينما يدعو رسول الله (ص) الشجرة أن تنقلع بعروقها وتأتي إلى رسول الله (ص) وتقف بين يديه (1) . وهذا الإعجاز هو خروج عن قوانين الطبيعة لكنه متعلق بهدف إثباتي إما لأصل النبوة أو لقدرة النبي (ص) وهذا وجود خارج وليس هو بالطبيعي الذي يستند للواقع الموضوعي للقانون .

ونفس قدرة المسيح (ع) على أن يخلق من الطين كهية الطير وقصة موسى (ع) والثعبان ومن عنده عُلمٌ من الكتاب ، كلها تثبت حقيقة واحدة : أنه لا تضاد من حيث الفعلية بين القانون الطبيعي والمعجزات المتعلقة بهدف إثباتي خاص ، ولكن أن يكون القانون غير معارض بالحقيقة الاعتبارية له وجود الظاهرة الإعجازية ، لأن الفرز قائم بالقانون على وجود علل معينة مؤثرة في الظاهرة من جانب والقانون من جانب آخر ، وهذا يثبت أن آراء ( أو غسطين ) والمفكرين اللاهوتين كانت قائمة على الإعتقاد بالمباشرية بالكلية مع الله سبحانه يعني لا أثر للوجود الطبيعي في الحركة إنما كل شئ هو إعجاز ظاهر لعلاقتي الإرتباط العام والجذب الذاتي .

وهذه الآراء ظلت معلقة بين ثبوتها ومسخها فلسفياً عند جملة من المفكرين المسيحيين أي أنها ترجع

( إلى غرتيوس ) ( ومسوارز ) ( وفرنسكوري ) الذي بدأ يمسخها والتعليق عليها . ومن ثم جاءت آراء

( توما الأكويني ) لتقلب نظرية الإرتباط بالقانون العقلي الخاص بالقدرة المطلقة (2) . ولعل فترة القرون الوسطى حافلة بتذبذب بين الإيجاب والسلب تجاه القانون والنظرية الإعجازية إلى أن جاءت أفكار

( كانت ومندليف ) وغيرهم مما بدا فيها التوضيح بين القانون الثابت والمتغير حسب الإرادة البشرية واعتقدوا أنها تامة بفعل عوامل القدرة الخارجية والداخلية .