المعجزة والسنة :

الأصل في اللغة : معجزة بالهاء من باب تعب وتعني ضعف عنه ــ فالمعجزة إذن الضعف وعدم القدرة ـ (1)

والمعجزة في الأصطلاح ، هي كل شئ يخرج عن العادة المألوفة وليس بمقدور الإنسان صناعتها .

وقد عُرفت أصولياً : بأنها الخروج على العادة أو تجاوز المألوف .. وهذا التعريف منهم ليس كافياً والصحيح القول : بأنها حركة غير مألوفة تمت بشروط موضوعية من داخل القانون ــ أعني الطبيعي منه ــ فهي جزء منه ومعبرة عنه وحصولها لا يتم إلاّ عبر مايلي :

ذ – الإرادة والمشيئة .

2 – الوجود الموضوعي الناتج من القدرة بالواقع الطبيعي .

فالأول يعبر عن الإرادة والمشيئة الإلهية ذات القدرات الهائلة التي هي صاحبة ــ الأمر والنهي ــ الفاعلة في الوجود الموضوعي والمترشح منه إرادة الإنسان في الواقع الموضوعي الحياتي ، وكأن الإرادة والمشيئة في الواقع الخارجي يعني تعلقهما بالهدف الذي تم بموجبه خلق الوجود الموضوعي فعلياً ، وهي بهذا اللحاظ تعني :

أولاً : التنبيه إلى قوانين الطبيعة العامة .

وثانياً : دور هذه القوانين وعدم تقاطعها مع الواقع الموضوعي .

وكأن المعجزة هنا تعني ـ الحدوث العالم ــ بواقع القانون لذلك تكون صيرورتها جزءاً منه ، ولو لم تكون كذلك للزم التناقض والتضاد ، وهذا يؤدي إلى تفكك وحدة النظام المنتظم في سير كينوني ثابت !

وهذا يلزمنا التأكيد بل والتفريق بين ماهو حقيقة ثابتة مطلقة في النظام وبين ما هو حقيقة متغيرة نسبية معاً لتجدد الضرورة في المبدأ القائل : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) فالمحو والإثبات من جنس الواقع الموضوعي وهما حدوثان يرتبطان بسر الوجود وقابليته على التطور . والتفريق رفع للتناقض المزعوم بين الثابت والحادث المتجدد ــ غير المألوف ــ والرفع إثبات لصحة الزعم القائل بأن عدم الإمكان في الحدوث يعني فقدان القابلية على ذلك في عالم الإمكان ( وعدم الإمكان في عالم الإمكان متعذر بل مستحيل ) وهذا تتويج لقدرة النظام الأزلي على أستيعاب كل متطور حادث ، ففيه :

1 – حفظ الماهية وحفظ الكمال .

2 – رفع التناقض والتضاد .

والمعجزة من الوجهة العلمية هي عبارة عن مشيئة العقل وإرادة العقل في إثبات قضية ما وجعلها بمستوى الحجية المشعرة بالصدق ، وهي كذلك دفع لنزاع أو لخصومة ما . وهذا الاستنتاج قائم على القول التالي : إن عقله عين إرادته ــ مما يوحي بعدم التمايز ، فالتمييز بينهما يخلّ بوحدة الموضوع المراد أكتشافه أو التدليل عليه .

وهنا لابد من القول إن التفريق بينهما يكون حالما تكون الإرادة غير التصور على شئ ما ، منه تأتي وفقاً لطبيعتة وكماله وهي ضرورة تجعل من الإرادة تسير وفقاً على الأتفاق لا على الخلاف .

ومن هنا يصحّ القول الفلسفي : إن الحقيقة والوجود لا يكونان  إلاّ بأمر منه ــ ويترتب على ذلك كون القوانين الطبيعية ليست سوى التي تصدر عن طبيعتة وكماله ، حيث أن حدوث شئ ما لو خالف طبيعته فإن حدوثه لا يتم وفقاً لذات الطبيعة بل على خلافها ، والحدوث على الخلاف ممتنع ضرورة .

والتعريف القائل : إن المعجزة عبارة عن حدوث غير مألوف ولكنه واقع بفعل الإرادة والمشيئة إذ بهما توجد وبدونهما تنعدم ، قول صحيح بحدود كون ــ العدم ــ فيه تحقق ذاتية الأمر المتعلق بعقله وتدبيره وطبيعته ، وهذا هو معنى القول التالي : ليس في الوجود شئ إلاّ وله سبب وعلة معينة ، والعلة والسبب قد يكونان على نحو المباشرية من الله سبحانه وتعالى ، او يكونان على نحو اللامباشرية منه ـ أي من خلال الأثر الطبيعي ـ .

وذلك لأمتناع الحدوث دون علة وسبب ما وهذا ما يمكن تسميته ــ بالسنة ــ .

فحينما يقول الله تعالى : { .. إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً ــ بإذن الله ــ وأبْرئُ الأكمَهَ والأبرص وأُحَيي الموتى ــ بإذن الله ــ وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } ( آل عمران /49) .

هذا القول فيه جدل معرفي واضح ، فهو جدل بين القوم الذين ينكرون نبوة عيسى ـ ع ـ وإثبات لتلك النبوة من قبل الله ( فطرفي الجدل ــ القوم والله ــ ) وإثبات النبوة جرى تقريره في عالم الإمكان ؛ العالم الذي يتحرك في دائرة من المعلومات الخاصة المحكومة بواقع معين وبظرف زماني مكاني خاص ، ولأن الجدل جرى حول معلومة ـ الخلق ــ التي هي حصراً لله وذلك يستوجب أعتبار الحصر في الخلق ذو جنبتين :

الأولى : حقيقة .

والثانية : مجازية أو إعتبارية .

فهو من جهة ــ الخلق ــ ومتعلقاته وشؤونه أمر ملازم لأصل الخلق الأول ولكنه إن حدث من إنسان فإنه يُنسب إليه تجوزاً وإعتباراً ، لذلك جاء التأكيد من جهة كون الفعل منه على نحو الحقيقة ومن عيسى ـ ع ـ على نحو المجاز ، ودليل ذلك التأكيد القائل ـ بإذن الله ــ أي أن شرط تحقق فعل ــ الخلق ـ صدور الأمر الإلهي وتحقيق الإرادة الألهية وبدونهما يمتنع حدوث الخلق قطعاً . ولكن نسبة الفعل إلى عيسى ــ ع ــ من جهة الواقع الموضوعي نسبة حقيقية  إذ الفعل صدر منه على نحو المباشرية ، وصدور الفعل وتعامله معه على وجه الحقيقة جعل المتيقن للناس حدوث الأمر منه ، ولكن عيسى ــ ع ــ  نسب الفعل إلى ــ إذن الله ــ ولولا تلك النسبة لأصبح القول مجرداً عن الصحة ، فالصحة في الفعل أنطباقه على مصاديقه الممكنة ــ بإذن الله ــ .

طبعاً فعل ــ أخلق لكم ــ يساوق معنى ــ أصنع لكم ــ ولكن الخلق والصنع هنا متعلقان بالمادة الطينية ، المادة الأولية اللازمة لخلق الكائن الحي ، ونحت هذه المادة وتجسيمها على هيئة ــ الطير ــ غير ممكن لكل الناس إذ المناط به الصنع هو الشكل الخارجي ــ كهيئة الطير ــ ثم يأتي بعد ذلك الفعل التجريدي لمفهوم الخلق في صيغة ــ فأنفخ فيه ــ والنفخ هنا مرادف للنفخ هناك قال تعالى : { ثم سوّاه ونفخ فيه من روحه } ( السجدة / 9 ) وقوله تعالى : { فإذا سوّيته ونفختُ فيه من روحي فقعوا له ساجدين } ( الحجر / 29 ) وقوله تعالى : { والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا } ( الأنبياء / 91 ) وقولة تعالى : { ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا } ( التحريم /12)  والنفخ يعني الإذن بالحركة وهي كناية عن الصيرورة والكينونة لذلك قال تعالى : { فيكون طيراً} أي أن النفخ من مستلزمات كون هذه الهيئة قادرة على ان تصير طيراً حقيقةً . وكل هذا الفعل مرتبط بلزوم كونه ــ بإذن الله ــ بدونه لايتم الفعل قطعاً !

وقوله تعالى : { وأبرئُ الأكمَهَ والأبرص وأحيي الموتى ـ بإذن الله ــ } لنتأمل لفظة ــ أبرئُ وأحيي ــ فإننا سنجدهما فعلان مرتبطان بنوع من الصناعات الطبية ، والآية تحكي عن سيادة علم الطب في ذلك الوقت ، ولذا جاء الحكم مرتبطاً بموضوعه في الخارج ، وإلاّ فالعمل به دون مسوغات موضوعية لا يعُد خرقاً للعادة ، مع أن الأمر جاء على نحو إثبات حقيقة نبوة عيسى ــ ع  ـ . فإعادة ــ البصر ــ لمن فقد البصر في الخليقة ( الأكمه ) أمر خارق للعادة وللعلم الطبي في ذلك الوقت ، وإعادة الحياة لمن فارقت روحه بدنه هو خرق للمتعارف من سنن الموت ، ولو كان الأمر هكذا بدون الضبط الإلهي بقوله ــ بإذن الله ــ لَعُدَّ خرقاً لقانون السنن في الكون والطبيعة ، والسنة هي ذلك القانون الموصوف بالذكر التالي : { سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} ( الأحزاب / 62 ) ، وقوله تعالى : فلن تجد لسنة الله تبديلا ، ولن تجد لسنة الله تحويلا } ( فاطر / 43) .

أي أن السنة قانون عام ، والموت سنة طبيعية وهو محكوم بعوامله الطبيعية قد يتقدم وقد يتأخر بحسب الوضع ولكنه كفعل واقع لا محال ، والخرق لهذه ـ السنة ــ وهذا القانون هو إعادة الحياة لمن وقع عليه فعل الموت دون مقدمات الإذن ، ولكنه ــ بالإذن ــ تكون العودة تتويجاً لفعل القانون المرتبط بالإرادة والمشيئة ــ والإذن امر لايخرج عنهما ـ.

 ولكن نسبة ـ فعل الإحياء ــ إلى عيسى ـ ع ــ على نحو المباشرية نسبة مرتبطة بالإذن الإلهي الذي يجعل الفعل محكوماً بقانون السنة التي هي الضابط والملاك في العملية أبتداءً  .

وقولة : { وأُنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } أي اخبركم بالذي تأكلون وتدخرونه ، إخبار عن أمور ترتبط بمعاشكم الخاص ــ والنبأ ــ هنا الإخبار الصادق ، وذلك يرتبط بعلم الغيب ، العلم المرتبط بالله ، قال تعالى : { إن الله عنده علم الساعة ، وينزل الغيث ، ويعلم ما في الأرحام ، وما تدري نفسٌ ماذا تكسب غداً ، وماتدري نفسٌ بأيَّ أرضٍ تموت ، إن الله عليم خبير } (لقمان / 34) وإعلام عيسى ـ ع ــ به جزء من نبوته قال تعالى : { عالم الغيب فلا يُظْهرُ على غيبه أحداً * إلاّ من أرتضى من رسول ..} ( الجن / 26 ـ 27 ) ويقيناً أن عيسى ــ ع ــ ممن ارتضاه الله لإبلاغ هذا الغيب على نحوه المطلوب . لذلك اعتبره آية للذين يسعون للحق ــ كونهم مؤمنين ــ أي صفتهم ــ الإيمان ـــ . والمترشح في ذهن الناس أن ذلك لن يتحصل من دون علم سابق ، والكشف عن المدخرات من دون هذا العلم آية ، ولكن الآية ليست وليدة صنع عيسى ــ ‘ ــ إذ المتيقن وقوعها بعموم قوله تعالى : (بإذن الله ) .

وكأن التقييد ــ بالإذن ــ المتقدم للعلم بالغيب الذي هو من أختصاص الله حصراً .

ولكن هل هذه الآية تعارض السنة أم لا ؟

إن المعارضة تكون حينما يكون التعبير عن المعجزة بنحو يجعلها فوق القانون ، او انها ليست من سنخه ومن جنسه ، ولو  كان هذا صحيحاً لما تم حدوثها في عالم الإمكان إذ الحدوث دليل على وحدة السنخية والجنسية ، ولكن العلم بذلك يرتبط وظرفه الموضوعي الخاص .

ولن يتاتى هذا من دون دواع منطقية وقيمية ووجودية ، فجدل التعارض المزعوم أحدثته بعض الأفكار السلفية القائلة بان الحجية لن تتم إلاً بشئ خارق ، وهذا الخروق شرطه الموضوعي أن يُعْجِزَ الآخرين الإتيان به في لحظته وفيما يليها من اللحظات .

والذي أراه أن الإعجاز المزعوم أنتفى حدوثه بصيغة المحاججة به ، أي أن دليل حدوثه نفي مقولة عدم إمكانية إحداثه لمرة ثانية مع وجود المقتضي وفقدان المانع .

فلو  نظرنا إلى جدلية ( الحياة + الموت) في الآية لوجدنا فيها أن إرادة الموت والحياة مع علتيهما الشرطية التامة مع عدم مناقضتهما لقانون الطبيعة يجعل حدوثهما عملية مترشحة من القدرة المطلقة أعني ــ وجود المقتضي وفقدان المانع ــ .

فتم الحدوث ضمن معادلة الكينونة الكلية المطلقة لمفهوم ــ كن فيكون ــ إذن فالتعارض بين القانون وأحد أجزائه مع حدوث الجزء وإمكانية حدوثه دوماً تعارض مرفوع ، ولا أجد أن للقائلين بالتعارض حجة سوى القول بإرادة الله ــ مع أنها أولاً وبالذات تعبر عن جوهر القانون وقوته .

***

 وفي نفس السياق هذا أي الجدلية التاريخية في حديث الإماتة والإحياء يأتي قوله تعالى بلسان إبراهيم (ع) : { ربَّ أرني كيف تُحيي الموتى ، قال أولم تُمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ، قال فخُذ أربعة من الطير فصُرُهن إليك ثم أجعل على كل جبل منهن جُزءاً ثُمَّ ادعُهنَّ يأتينك سعياً ، واعلم أنَّ الله عزيز حكيم } ( آل عمران / 260 ) .

هذا الاستعراض في النص استعراض جدلي يرتبط بمفهوم الإحياء بعد الموت ، والسؤال ب(أرني) جوابه مضاف بعنوان (ليطمئن ) والأطمئنان عن الإحياء بعد الموت مرتبطة بماهية عالم الموت بالوصف الديني الطبيعي ، والأطمئنان مرتبط بماهية الإحياء بعد الموت في العالم الدنيوي الطبيعي ، وهو امتصاص لمفهوم القدرة هناك وتوظيفها هنا .

ربما كان إبراهيم ـ ع ــ في مقام السؤال ولكنه كان في الوقت نفسه يعبر عن واقع موضوعي سائد وهو الأستفسار عن الإحياء بعد الإماتة ولأن الأرتباط المعرفي لما بعد الإماتة أمر نسبي ظني جرى تقريره في هيئة الأطمئنان في الدنيا ، وهذا الأطمئنان تقرير عملي لمستوى تحقيق ذلك في العالمين ما دام الأمر مرتبط بالقدرة الإلهية ، لذا كان الجواب في شكلي التجربة والبرهان من وحي الملاحظات العملية فقال : { فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ..} والصُر هنا مصدر صررته من باب قتل إذا شدّدته ، وصرهن إليك أي اضممهن إليك ، لماذا ؟ لتتعرف على أشكالهن وهيئاتهن ولكن لماذا ؟ كيلا تلتبس عليك بعد الإحياء ، وهذا دليل تجريبي آخر .

قال { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً } أي جزَّئهن أجزاء ، أو فقطعهن ، وقرُئ  بضم الصَّاد وكسرها وتخفيف الراء ، يقال : صارَه يَصُورُه ويَصيره ، أماله ، وصار الشئ : قَّطعه وفصله .

وقوله : ( إليك ) متعلق بصرهن على الأول ، وبخذ على الثاني بإعتبار تضمينه معنى الصمّ .. وكل هذا يجري في مجال العلم الاستدلالي مع السؤال ( أرني) وجوابه جاء على نحو ( ادعهن يأتينك سعياً)  فالمقطع أجزاء المتباعد في المكان عودته إلى هيئته الأولى ضرب من المستحيل ، مما يوحي للقارئ أن ذلك خرق للقانون والسنة وخلافهما .

ولكن الجواب في السؤال لن يتم إلاّ بملاحظة قوله تعالى : ( واعلم أن الله عزيز حكيم ) .

وهنا نلاحظ أن اسم الذات أرتبط بالصفات كالعزة والحكمة ، ومنه تتبينَّ صحة الرأي القائل : ــ إن صفاته عين ذاته ــ واسم الله المضاف هنا يرتبط بشيئين هما :

أولاً : يرتبط بمفهوم القدرة الخارقة .

وثانياً : يرتبط بكون تلك القدرة تسير بنظام .

فالحكمة : تعني قدرة الله المرتبطة بإذنه المساوق لطبيعته وعقله وإرادته ، وهذه كلها تشكل وحدة واحده ترتبط على نحو اللامباشرية في قوة القانون ودقته وانتظامه .

ومنه يتبين أن معنى قوله : ــ أرني ــ لكي أطمئن ــ إلى ان قدرة الله نافذة ضمن قانون ، وتطبيق هذا القانون يجري في عالمي الدنيا والآخرة ضمن سنة لن تجد لها تحويلا ما دام الأرتباط بالقدرة شأن مقدر بصفتيه ــ العزيز الحكيم ــ .

***

كان ذلك بحثاً في بيان ــ السنة ــ من الناحية المباشرة في مسألتي الإذن منه تعالى والآن سنبحث المسألة على نحو جدل الإنسان في إمكانية تحقيق ـ السنة ـ بقدرته المباشرة ، لنتأمل ذلك في الحديث الذي جرى مع النبي إبراهيم (ع) والذي فصّله القرآن بالقول التالي : { ألم تَرَ إلى الذي حاجَّ إبراهيم في ربه أن آتاه الله المُلكَ إذ قال إبراهيم ربي الذي يُحيي ويُميت ، قال أنا أحيي وأميتُ ، قال إبراهيم فإنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق فإت بهَا من المغرب فبُهت الذي كَفَرَ والله لايهدي القوم الظالمين } ( البقرة / 258) . أنظر إلى عبارة ــ في ربه ــ من الآية فإنك ترى النزوع في الجدل إلى تأسيس فكرة القرب والبعد تبعاً للإمكانات والطاقات ولأن المبحوث عنه في مدى القدرة والأستطاعة جاء التقرير من إبراهيم (ع) إذا الأمر يرتكز على مفهوم القدرة وأسبابها فإن : ( ربي الذي يحيي ويميت ) أي أن تلك صفة لازمة من صفات ــ الرب ــ فهو القادر على تنفيذ حكمي الموت والحياة وجملة : ( الذي يحي ويميت ) جملة خبرية تعني الإحياء بعد الموت والإماتة بعد الإحياء على نحو الحقيقة وبالفعل ، وهي إنشاء في معنى كون ذلك من رشحات قدرة الله المرتبطة بثنائي الإرادة والمشيئة ، وهي منه توكيد على أن ذلك داخل في جوهر الربوبية وأصلها .

وفي مقابل هذا الإنشاء وَرَدَ إنشاء آخر من الذي ( آتاه الله الملك) طبعاً هنا التنبيه إلى أن أتيان الملك من قبل الله لا على نحو المباشريه أي فعل الله لكي يتسلم ذلك الشخص الملك بل جاء على نحو الحكاية في أن الإتيان مرده للخلق الذي  هو بيده أبتداءً ، والمالكية له على نحو المجاز من حيث أنه صاحب هذا العالم بكل أجزائه وتباعيضه ، وكون ذلك له على نحو الأمتلاك الظاهر اعتبرت مسألتي الموت والحياة من شأنه أيضاً لذلك قال : ( أنا أحيي وأميت ) ولفظة ـ أنا ــ تعني القدرة أي أنني قادر على هبة الحياة والموت لمن أريد .

وكأني أرى ان الأية لم تستكمل جدلية البحث عن شكل الحياة والموت المزعوم على قوله ، فماهية الحياة والموت في مقام البيان جاء ذكرها بالعرض التالي : { وما كان لنفس ان تموت إلاّ بإذن الله كتاباً مؤجلاً } (آل عمران /145) وقوله تعالى : { الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم احسن عملاً } (الملك2) .

أي ان حتمية الموت والحياة شأن متعلق بالله لكنه قد يتفرع ويتسلسل للأسباب والظروف لذلك قيل : تعددت الأسباب والموت واحد : ــ والطواغيت والظلمة قد يمتلكون القدرة لى سلب الحياة كما قررت الآية ذلك ولكن هذا الحق تتداخل فيه عوامل عدة تنتهي في نهاية المطاف إلى أصل تأسيس هاتين القضيتين اعني الموت والحياة .

قال تعالى : { كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون } (الأنبياء / 35) .

***

وقال تعالى : { أو كالذي مَرَّ على قرية وهي خاوية على عُرُوشها قال أنْىَّ يُحيي هذهِ الله بَعدَ موتها فأماتهُ الله مائة عام ثُمَّ بعثهُ قال كم لبثت قال لبثتُ يوماً أو بَعَضَ يومٍ قالَ بل لبثتَ مائَةَ عامٍ فانُظر إلى طَعَامِكَ وشرابك لم يتسنَّه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس ، وانظر إلى العظام كَيِفِ ننُشِْزُها ثُمَّ نكسُوها لحماً ، فلمَّا تبينَّ لهُ قَالَ أعَلمُ أنَّ الله على كُلَّ شيءٍ قَدِيرُ } (البقرة/259) .

وهذا النص يسير بنفس إتجاه الجدل المعرفي في النص السابق ، أي أن قضية الإحياء بعد الموت هي التي توقف عندها السائل ، وإثبات حقيقة تلك القضية مرتبط بقدرة الله فكان الجواب يجري في السياق ذاته ، اعني أستخدام دليل التجربة في ميدان القضية على النحو الحسي فالقائل عندما عرض مبدأ : ( انى يحيي هذه الله بعد موتها ) كان العرض يحتاج جدلاً إلى تجربة عيانية ، أي تجربة من جنس السؤال في عناصره وأدواته وترتيب ذلك كان فعل المنجزية على هيئة : ( فأماته الله مائة عام ثم بعثه ) الموت لمدة معلومة والبعث بعد هذا  الموت لا يكون دليلاً معرفياً كافياً إلاّ بلحاظ المشاهدة ، لذا كان العرض الوصفي للحدث التركيبي جامع لكل معاني الحركة بعد السكون قال تعالى : ( وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً ) إذن فالسائل أنطلق من مقدمة تقول : بتعذر إمكانية إعادة الحياة لهذه القرية وهي كناية بمعنى ــ أهل القرية ــ سكانهاـــ والتعذر مترتب أثراً على المقدمات العقلية التي أختزلت في القول السابق ، لذلك جاء الإحياء بالطريقة التركيبية وبالكيفية التي رسمها القرآن ، أي الطريقة الأكثر انسجاماً مع واقع الحال بقرينة السؤال وطبيعة الجواب . .

إذن فالعرض القرآني تصدى للإجابة عن دور القدرة الإلهية في تشكيل الحياة بعد الموت ولأن منطق الفهم الإنساني يقوم على الدليل التجريبي لذلك جرى تطبيقه في ميدان الظاهرة التي دار البحث فيها .. يبقى كيف علم بأنه مات مائة عام ؟ هنا لابد من التذكير بما قاله صاحب مجمع البيان : ( علم أنه مات مائة سنة بشيئين :

أحدهما : بإختيار من إرادة الآية المعجزة في نفسه وحماره وطعامه وشرابه وتقطع أوصاله ثم اتصال بعضها إلى بعض حتى رجع إلى حالته التي كان عليها في أول مرة . والآخر : أنه علم ذلك بالأثار الدالة على ذلك لما رجع إلى وطنه .. (1) .

والذي أراه أن ذلك تم بإخبار من السماء كما ان الحوار حول كيفية الإحياء بعد الموت تم من قبل السماء كذلك ثبوت المدة الزمانية على نحو الخصوص جاء بإخبار متحرك في عرض السياق المتقدم ..

***