الضرورة والسنة :

كان فلاسفة النهضة على حق بقولهم الوارد بصيغة السؤال التالي : هل يجوز الجمع بين الأعتراف بنشاط الناس الواعي ــ الحر ــ ؟ مع العلم إن وعي الناس لا يشمل جدلاً سلسلة الأحداث بكاملها وبناءً عليه هل يجوز الجمع بين التطور التاريخي والحرية ؟

والأجابة عن السؤال المتقدم تكمن فيما يلي :

أولاً : النفي مطلقاً ، أي النفي الملتزم جبهة واحدة إما القوانين الموضوعية وإما النشاط الواعي وإما التطور وإما الحرية .. وهذا يعني أن الأعتراف بواحدة  ينفي الأخرى قطعاً . وهذا ما أجاب به خصوم المادية التأريخية .

وثانياً : إن المادية التاريخية لا تنفي القوانين الموضوعية للتاريخ مع أن الخصوم ينسبون إليها تجاهل دور النشاط الواعي للطبقات والأفراد والأحزاب ..

ففي الواقع لا يجوز الخلط بين الضرورة والسنة وبين الحتمية التي لامرد لها ، فالقوانين الموضوعية للتاريخ هي قوانين نشاط الأفراد وبدون ذلك النشاط لا تتحقق تلك القوانين بقرينة واقع الحال ، وهذا ما يجعل النشاط  الإنساني جزءاً من موضوع القانون لا  أنه تمامه . وبالتالي فالضرورةالتاريخية : هي الظواهر والعمليات الجارية في الواقع والمرتبطة بجوهره وقوانينه ، ولذلك فهي ليست ضد السنة كما اكتشفها أصحاب النظرة العلمية في المنهج التحليلي ، إذ إن التاريخ فيها ليس سوى عامل تغيير للطبيعة .

ولكن الطبيعة : هي عامل في وجه تغييرات التاريخ ومن وجهة نظر نقدية يبدو للوهلة الأولى أن الطبيعة ليست شيئاً بل هي لحظة علاقة تناقضية ونشاط واع في واقع موضوعي معين ومحدد .

ولعل الفكر الآخر ميَّز بين الضرورة والسنة وأعتبر أستحالة الجمع بينهما ، بينما في الواقع العلاقة بينهما علاقة جدلية ، فالسنة مرتبطة بالنشاط الواعي المرتكز على معرفة بقوانين التطور العام والسنة هي ذلك القانون .

إذن فالضرورة لا تلغي السنة أبداً والعكس صحيح ( السنة لا تلغي الضرورة ) فالضرورة تقتضي فهم السنة وإستعمالها ــ أي أنها المادة والوعاء بل والميدان لها والتلازم بينهما حاجة ترتبط  بواقع الفعل والنشاط الطبيعي .

ولكن هل الضرورة والسنة قادرتان على التحكم في الظروف التاريخية للإنسان ؟

وهل بمقدرهما تغيير اتجاه حركة وفعل الإنسان أم أن الإنسان قادر على تغيير حركتهما وفعلهما ؟

فالسؤال الأول يجعل من الإنسان أسيراً للنظرة التاريخة فمسيرته إنما هي وليدة قضايا التاريخ وأحكامه ، وفي هذا سلب للإرادة لمصلحة التاريخ فيكون فيها مجبراً لا مختاراً  وعند ذلك تعطل قواه بإتجاه قوى التاريخ وتصح المقولة الآنفه الذكر ــ التاريخ يُعيد نفسه  ــ .

والسؤال الثاني للإنسان الحرية في انتهاج طريق معيّن مشخّص في حياته أنطلاقاً من فكره وإرادته ، وهذه غير مسألة خضوع الإنسان لحتمية التاريخ العمياء التي تتحكم فيه وفي إرادته . وبالتالي فإن السنة وليدة فعل الإنسان في الواقع الموضوعي ، ولأنه كذلك فهو القادر على تحريك الفعل النشط في السنة بإتجاه الفعل الإنساني خيراً كان او شراً .