هل التاريخ يُعيد نفسه ؟

 

مازال الجدل قائماً حول إذا كان التاريخ يُعيد نفسه أم لا ؟ ولعل موجة الجدل تلك جرى تقريرها في قضايا الحضارة والعلوم والفنون ، ولأن التأريخ هو مجموعة قضايا وأحداث وقيم لذلك فللجدل ما يبرره من الوجهة المعرفية ..

أعني الوجهة المرتبطة بجدلية ــ الحدث والصورة ( في الزمان والمكان ) . ولأن التاريخ يرتبط بحقائق الماضي الموضوعية ، فهل يُعيد هذا الماضي تكرار نفسه ؟

وبعبارة أدق : هل قوانين الوجود والقيمة في الأين والمثال واحدة ؟

أي : هل إن هذه القوانين لا تخضع لعملية التطور الطبيعي ونظام الصيرورة ؟

ولو سلمنا جدلاً بحقيقة كون الماضي يُعيد نفسه للزم أن يكون التكرار في الماهية والكيفية ، وهذا ممتنع لأنه سيلغي ضرورة التطور والأبداع في الواقع على نحو الكمال والرُقي ، مع أن المفروض أن السير الطبيعي هو إراتقاء ونمو وتكامل وكل هذه العناوين ترتبط بالحركة والأبداع والفعل المؤثر في عناصر الوجود من أجل تسخيرها للمصلحة وللسعادة وللخير العام ، والتأثير في البنيوية في الأطر والصور المختلفة على نحو يجعلها أكثر قابلية للتطويع الإنساني الرفيع .

وهذه المعاني المختزلة من جدل الإنسان والواقع هي إشكاليات حقيقية تصطدم مع مفهوم ــ التاريخ يُعيد نفسه ــ وتجاوز هذه المعاني نوعاً من الخرق للنظام وللكينونة . إضافة إلى مفهوم ــ التاريخ يُعيد نفسه ــ لا يساهم مطلقاً في عملية الأنتاج الفكري والأجتهادي ..

إذ إن عناصر الأنتاج الفكري والإجتهادي هي عناصر الطبيعة المأخوذة في الحيز المعين ( الزمان والمكان ) وفي لحظة الممارسة لا الصورة المغرقة في عالم الماضي ودهاليز التاريخ ، والضابط في التفريق هو ــ الشأنية ــ في التوثيق والشاهدية على مستوى القناعة في ما يمكن أعتباره أداة في الأنتاج ..

والإعادة إرجاع لكل ما هو تاريخي على مستوى الأدوات والعناصر والقوى التي ساهمت في إنتاج وضع قضية وحدث معين ما في عمق التاريخ ، ولا شك أن أدوات الأنتاج الماضوية هي وليدة  نتاج ظرف موضوعي خاضع لقوى الأنتاج الطبيعي آنذاك ، وهي معرفياً تدل على واقع حضري موضوعي معين . وليس بالضرورة أن يكون ذلك الواقع قادراً على محاكاة الأطر الخارجة عن منطقه الزمني ، ولأنه كذلك فهو أمر مقبول   وله ما يؤيده ولكنه مرفوض إذا جئ به على نحو الإلزام والضرورة والثبوت والدوام والأستمرار والشمول لمطلق ــ الزمان والمكان ــ .

ذلك لأن المتحرك في التاريخ عناوين ووجودات موضوعية مادية معينة ، هي عناوين تلتزم ساحة معرفية وأخلاقية خاصة تتداخل فيها الممكنات والواجبات بحسب وضعها الخاص ضمن شرطها الموضوعي  التاريخي الخاص .

وإعادة وتكرار ذلك الخاص يعني لإلزام الفرد والجماعة بما لا يُلزم ، والإلزام بما يُلزم يتنافى ومبادئ التطور العلمي ، هذا التطور الذي يجعلنا أكثر إصراراً على تناسي تفاصيل الماضي وإدخاله في صياغة القرار المستقبلي .

فماضينا عبارة عن تاريخ للفرق والطبقات والطوائف والمقالات ، ماضٍ تتداخل فيه عن عمد قضايا وأحكام الفقهي والكلامي ووالفلسفي والتاريخي ، تداخل صنعته أيدٍ لها علاقة بالقرار السياسي والديني والرسمي وغير الرسمي . إنه تاريخ مجزأ يسود فيه الإختلاف والتعددية والسلبية . ودواعي التقدم تتطلب :

 أولاً : التحرر من عقدة الماضي وأحكامه وإعتبار ماتم فيه مرتبطاً حكماً وموضوعاً بواقعه وزمانه ومكانه .

ثانياً : يُلزم أن لا تنقاد لمقولة ـ التارخ يُعيد نفسه ـ فعدم الإنقياد دليل على التطور والتقدم ، والأنقياد يولد عندنا سلسلة من التوالي الفاسدة نحن في غنى عنها .

وثالثاً : ولأننا دعاة وحدة ، والوحدة لا تنتزع من التفرق والإختلاف والصراع ، بل إنها ترتبط بقضية خلق عناصر جديده للتعامل مع العقل والذهن محققة لهما الحلم والأماني القائمة والمؤسسة على قواعد من العلم والعلية .

ورابعاً : إن التاريخ الذي يصنع التباعيض والأجزاء والتناحر ، حريّ بنا أن نضعه في ميزانه الطبيعي وضمن عالمه الخاص ، وأن لا نعمل جاهدين من أجل إعادة وترتيب مواضيعه التي أنبنى عليها .

نعم إن دعاة هذا المفهوم ـ التاريخ يُعيد نفسه ــ يُريدون به تركيب ما هو كلامي على ما هو فقهي على ما هو فلسفي ، من خلال الأيعاز والتصديق بمفهوم ــ الرجعة ـ المادية تلك الفكرة التي أختلقتها يد الأخبار الكاذبة ـ الأسرائليات ـ التي تحكمت في قسط وافر من معارفنا وقد قام بالترويج والدعاية لها الوعاظ وأهل المنابر عند الشيعة ، ليضللوا فيها الناس ويُبعدوهم عن التعرف على قضاياهم الإجتماعية والسياسية والإقتصادية الملحة .

فالرجعة ـ عند هؤلاء تعني العودة المادية لأئمة أهل البيت ، أي أنها عودة أشخاص معينين لخصوص سبب معين هو إثبات أحقية اهل البيت بالخلافة وبطلان دعوى مخالفيهم .

فلو أفترضنا جدلاً عودة الإمام علي إلى الدنيا من أجل محاربة معاوية وغلبته وإثبات بطلان دعوته ، فإن للرجعة هنا غاية هي إثبات ما يلي : إن علي بن أبي طالب كان على حق ومعاوية كان على باطل ..

مع أن هذه الفكرة قد جرى بحثها طويلاً في الكتب الكلامية وأقر جمهور العلماء بأن علياً كان على الحق ومعاوية كان على باطل ، حتى أصبح هذا الحكم هو حكم الكافة في هذه المسألة هذا أولاً .

وثانياً : إن الإيمان بالرجعة الشخصانية على النحو الذي قدمناه يستلزم إبطال مَبِْدأَيْ ــ الثواب والعقاب .

وثالثاً : إن الإحتجاج بالقرآن في هذا المجال ليس على ما ينبغي ، إذ القول بأن للعُزَيْر وحماره ــ رجعة ــ قول بعيد لما نحن فيه ، إذ الأمر فيه يتعلق بقدرة الله ، وإذا تعلق الأمر بالقدرة فإن مجال البحث أختلف تماماً في الماهية والكيفية .

ولأنها كذلك فهي فكرة تخالف :

1 – الدين والعقل .

2 – وإنها تحتمل ظرفاً زمانياً مكانياً معيناً .

إذ الأصل الذي أنبنى عليه فكر ـ الرجعة ــ كان كذلك ، وهو في المفهوم الشيعي المتداول في كتب الأخبار والعقائد يعود لمقولة ــ التاريخ يُعيد نفسه ــ في مستويي الخطاب .. مع إن هذا الأصل من ترسبات الفكر التوراتي وتأثيره في الأدب والفكر الإسلامي ، وربما كان اًلمستفاداً من الذي قرره بولس الرسول إلى أتباعه تحت شعار ــ عودة الأبن إلى لأبيه ـ .

***

 

ولكن هل مقولة ـ التاريخ يُعيد نفسه ــ من السنن الطبيعية والتاريخية أم لا ؟

لابد من القول أولاً إن السنة هنا عبارة عن طريقة ونهج تجري ضمن علل وأسباب طبيعية ، وهذه العلل والأسباب هي نسيج حركي معين يرتبط بوعي مكاني خاص ، ولهذا فهي تعبير عن أنفصال في الزمان والمكان ، فحضورها في وعينا عبارة عن حضور لا زماني مما يجعلها في فوضى ، والفوضى ضد النظام بقرينة المقابلة لذلك فلا تصلح أن تكون سنة طبيعية .

وطبيعية عبارة عن نسيج متشكل من مجموعة قوانين ونظم وإرادات ، وهذا النسيج المتكامل هو الذي يتحكم بعملية التحرك فيها . قال تعالى : { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون } ( يس / 40 ) ، إذن فالطبيعة عبارة عن أجهزة منتظمة تؤدي وظائف معينة في خط حركي لا يجوز فيه الفوضى والتراكم والتدافع المخل بوحدة النظام .

إذن فمن الوجهة الطبيعية يعتبر كل ما هو لا نظامي من جهة الضد للقانون لا يمثل أحد أنسجة القانون خاصة بلحاظ الصرامة المتقدمة في العرض القرآني الآنف الذكر .

نعم إن الصنع الأول لقضايا التاريخ كان عبر تسلسل طبيعي قانوني والإلتزام بفكرة التسلسل تلك ليس ضداً للقانون ، مع أن الصنع الأول يحمل في ذاته صفة التطور الدائم المنبثق من صفات كلية أشير إليها بالعرض التالي : { .. إنا بنينا السماء بأيد وإنا لموسعون } ( الذاريات /47 ) .

فالسعة المشار إليها هنا هي ليست ضد القانون وضد الإرادة والصفة بل هي منها بضميمة قوله تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } ( يس / 82) . والكينونة هنا ليست ضد الحركة هناك . فهما في سير واحد يُعطي للتطور قيمته وأهميته ، وفي نفس الوقت هو دحض فاعل لمقولة ــ التاريخ يُعيد نفسه ــ .

إذن فالسُنة هي شاهد يمكن تحليله بذاته ، خاصة في عملية المراقبة الواعية للعناصر الفاعلة في السنة ، والتحليل عنصر زماني يقوم على مبادئ العلة والمعلول ، وهذه المبادئ هي الحصانة من التسويف والتراكمية  في الزمانية المركبة من النقل والعقل .

إن إعتبار مقولة ــ التاريخ يُعيد نفسه ــ جزءاً من القانون الطبيعي أدى بنا إلى أفكار أرثوذكسية محافظة في مطلق الزمان والمكان ، وهذا الأعتبار هو نتيجة واقعية للخلط المعرفي بين التحليل التاريخي وبين الأعتماد التاريخي . أعني بين أنتاج الفكر أعتماداً على القواعد والمقدمات المنطقية العقلية في الضبط والربط الفكري وبين إعتماد التاريخ كوعي فوق الوعي الزماني والعلمي .

وعليه فما يقوله بعض الفقهاء بصحة مقولة ــ التاريخ يُعيد نفسه ــ وإعتبار ذلك حجة في قضايا الفعل الإنساني في مطلق الزمان وبتعبيرهم ــ حذو القذة بالقذة ــ إعتبار ليس على ما ينبغي لأنه ردٌ لمقولة التطور الطبيعي والتكامل المراد من عرف الواقع والأشارات العلمية العقلية والنقلية .

 

***

 

ولكن هل رفض مقولة ــ التاريخ يُعيد نفسه ــ هو جزء من مفهومنا عن الثقافة الحديثة التي فيها كل شئ نسبي وليس شئ مطلق ؟

ولأن هذا المفهوم يلغي عن عمد المبادئ والقيم التي يصنعها الإنسان عبر جدلية ــ الفكر واللغة ــ على أساس أن هذه الجدلية تحتاج تحتاج إلى فلسفة غير مرتبطة بحقية تاريخية معينة بل هي بحاجة إلى نظرة في المستقبل الذي هو تاريخ الإنسان لما بعد هذه النظرة .

لقد كانت النظرة العقلانية إلى التاريخ ككونه مجموعة أعمال فيها الحسن وفيها القبيح ــ الباهر والفاشل ــ وهذه الأعمال تستمد قيمتها من أنها تخدم غرضاً وتعرض حقيقة وغرضاً من الأعراض التي هي أبعد ما تكون من التاريخ نفسه .

كذلك قال جان مريتان : إنه لا يمكن أن يكون للتاريخ غاية في نفسه (1)

لقد كان بروتاغوراس محقاً حينما جعل الإنسان هو مقياس لكل شئ ، فبه ومنه ومعه تعرف المصالح والمفاسد لأنها له أولاً وبالذات وقيمتها معلومة فيه لأنه مظهر التجربة . ولذا فإن الطبيعة فيه تمثل كل العناوين المختزلة من النسبي والمطلق والمتحرك والثابت والتناقض  والصراع والحركة والسكون فهي أجزاء عالمة الحقيقي وإنها تشكل عناصره الأولية ــ أعني مجموع تلك العناصر . ـ

وهذه الواقعية في النظر إلى الإنسان تجعله مصدر التطور المرتبط بالواقع الموضوعي التاريخي ، وهنا نكون قد دمجنا بين التصور المادي والتصور الميتافيزيقي للإنسان ، مع أنهما عند البعض على طرفي نقيض بناءً على المعتمد من المقدمات عند كل طرف .

***

 

ولكن هناك نقطة هامة تميز بين الأرادة بين الإنسان والله والإنسان والطبيعة فالأبداع عند الإنسان ناتج عن ظاهرة الأبداع عند الله ، وبعبارة كلامية :

ـ الأبداع في المريد الثاني يحدث كنتيجة لظاهرة في المريد الأول ـ . أي أن الظاهرة سابقة ومنه يتبين ان الإرادة عند الأول سابقة على الفكر عند الثاني ، وهذه الجدلية تخضع لجدل الإنسان والوجود ، الجدلية التي تعنى بشكل رئيسي بزوج ( الفكر + اللغة ) فالحكم على الأرادة عند الأول يحتاج إلى فكر يستدل به على ذلك ، ولاستدلال ظاهرة أجتماعية مرتبطة بأدوات معرفية أساسها اللغة في تقييم الظاهرة ، والذين رفضوها عند الأول رفضاً أرتبط برفض الأول قالوا : ( إن الأفكار تأتي في روح الإنسان قبل أن تعبر عن نفسها في الحديث ، وأنها تولد دون أدوات اللغة ، أي دون إطار اللغة ، وبعبارة أخرى إنها تولد عارية .. إلاّ أن هذا خطأ فمهما كانت الأفكار التي تأتي في روح الإنسان فلا يمكن أن تولد وتوجد إلاّ على أساس أدوات اللغة ، أي على أساس الألفاظ والجمل اللغوية ، فليست هناك أفكار عارية متحررة من أدوات اللغة ، أو متحررة من المادة الطبيعية التي هي اللغة ، فاللغة هي الواقع المباشر للفكر ولا يمكن أن يتحدث عن الفكر بدون لغة إلاّ المثاليون وحدهم ) (1) .

ويُعلق ــ بولتزير ــ قائلاً : ( لقد لاقت هذه الأفكار تدعيماً باهراً في العلوم الطبيعية بفضل الأبحاث الفسيولوجية التي قام بها العالم ــ بافلوف ــ فقد أكتشف ــ با فلوف ــ أن العمليات الأساسية في النشاط المخي هي الأفعال المنعكسة الشرطية التي تكون في ظروف محددة ، والتي تطلقها الإحساسات سواء الخارجية او الداخلية ، وأثبت ــ با فلوف ــ أن هذه الإحساسات تقوم بدور الإشارات الموجهة بالنسبة لكل نشاط الكائن العضوي  الحي ، وقد أكتشف من ناحية اخرى ان الكلمات بمضمونها ومعناها يمكن أن تحل محل الإحساسات التي تحدثها الأشياء التي تدل عليها ، وهكذا تكون الكلمات إشارات للإشارات ، أي نظاماً ثانوياً في العملية الإشارية ، يتكون على أساس النظام الأولي ويكون خاصاً بالإنسان .

وهكذا تعتبر اللغة هي شرط النشاط الراقي في الإنسان وشرطه نشاطه الأجتماعي وركيزة الفكر المجرد ، الذي يتخطى الإحساس الوقتي ، وركيزة النظر العقلي . فهي التي تتيح للإنسان أن يعكس الواقع بأكثر درجة من الدقة ، وبهذه  الطريقة أثبت ــ  بافلوف ــ أن ما يحدد أساساً شعور الإنسان ليس جهازه العضوي وظروفه البيولوجية ، بل يحدده على عكس ذلك المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان ) (2)

فاللغة إذن هي أساس الفكر وحيث أن اللغة ليست إلاّ ظاهرة أجتماعية فالفكر بناءً على هذا ليس سوى ثانوية للحياة الأجتماعية . ولكن هذه الفكرة تطرح سؤالاً على غاية من الأهمية وهو : هل أن اللغة هي التي خلقت من الإنسان كائناً مفكراً بصفتها ظاهرة أجتماعية كما يقرر ــ بولتزير ـ ؟

أم أنها وجدت في حياة الإنسان المفكر نتيجة لأفكار كانت تريد الوسيلة للتعبير عنها وعرضها على الآخرين ؟ ويبدو أن الأجابة على ذلك لا تكون واضحة دون الألتفات إلى آراء ـ بافلوف ــ وطريقته في تفسير الفكر تفسيراً فسيولوجياً ــ فبافلوف ــ أستطاع أن يوضح بالتجربة ، على أن شيئاً معيناً إذا أرتبط بمنبه طبيعي أكتسب نفس فعاليته ، وأخذ يقوم بدوره ، ويحدث نفس الأستجابة التي يحدثها المنبه الطبيعي ..

وقد أفترض ــ بافلوف ــ من أجل ذلك نظامين إشاريين :

الأول : النظام الإشاري الذي يتكون من مجموعة المنبهات الطبيعية والمنبهات الشرطية التي لا تتدخل فيها الألفاظ .

الثاني : النظام الإشاري المشتمل على الألفاظ والأدوات اللغوية بصفتها منبهات شرطية ثانوية فهي منبهات ثانوية أشترطت بمنبهات النظام الإشاري الأول واكتسب بسبب ذلك قدرتها على إثارة أستجابات شرطية معينة .

 

***

تعتبر الحركة والسكون مقولتان أساسيتان في علم أجتماع ــ أوغست مونت ــ فالسكون عنده عبارة عن مطالعة الموضوع الذي أطلق عليه ــ كونت ــ أسم الأتفاق الأجتماعي فالمجتمع يشبه تركيب أعضاء الكائن الحي الكلي الذي ينتمي إليه . فكذلك شؤون أجزاء المجتمع لا يمكن إحلالها إلاّ بالمجتمع الكلي خلال لحظة معينة من التاريخ ..

والحركة عنده عبارة عن الوصف البسيط للمراحل المتتالية التي تطويها المجتمعات البشرية . (1) وهذا الأتجاه في التاريخ نطلق عليه ــ فلسفة التاريخ ــ وهو : العلم بالتحولات والتطورات التي تنقل المجتمع من مرحلة إلى أخرى .. والقوانين المتحكمة في هذه التطورات والتحولات .

وبعبارة أدق : هو العلم بصيرورة المجتمعات لا بكينونة المجتمعات ، وهي كالتاريخ العلمي علم كلي لا علم جزئي وعلم   عقلي لا علم نقلي ولكنه خلافاً للتاريخخ العلمي علم بصيرورة المجتمعات لا بكينونتها وهو بالضرورة لا يعني أرتباط أحداث هذا العلم بالماضي بل يعني تفهم تيار انطلق في الماضي ومازال مستمراً وسيبقى يواصل مسيرته في المستقبل .

والزمن ليس ظرفاً عنده بل هو بعُد من أبعاده ، والظاهر أن أية نظرية للتقدم تعتبر وليدة إذا كانت ترى الحاضر أو المستقبل القريب بوصفه الغاية  النهائية .

بيد أن المؤرخين البرجوازيين لا تزعجهم الإخفاقات الماضية لنظريات التقدم المختلفة وحسب بل هم واعون للإتجاه القائم في العلم والذي قد يمتلك بعض المعايير الفعلية للتقدم التاريخي . ولكن ليس مطلقاً او ملموساً كما هي حال مادية ماركس التاريخية .

إن الفلسفة البرجوازية تركز في التاريخ على مكافحة الجبرية لأنها في الواقع ترفض الأتجاه الجبري في التاريخ . على أساس أنه حامل للنذر العلمية والتطورية في مجال صراع الطبقات .

وهذا الأتجاه في مكافحة النزعة الجبرية قام على الرد المعاكس في التعلق بالوجودية القائلة بأن الشرط المسبق للخلاص هو تقديم فكرة البديل فالمستقبل دائماً موضع أختيار ، إذ يمكننا دائماً إن نختار بين طريق وآخر .

وبالتالي فإن الماضي هو وحده موضع الدراسة العلمية ، وهذا التصور قانونه التطور التاريخي إذ إن الفكر لم يكن سوى ظاهرة نشأت من اوضاع أجتماعية معينة مما يولد حالة من التفسير لمجمل الظواهر الفكرية على انها وليدة عوامل أجتماعية ساهمت في أنتاج الأفكار والظواهر وهي لذلك جدلاً تأتي بمرتبة متأخرة من ناحية الوجود ، فالتاريخ لايسجل الوجود الفكري إلاّ كونه ظاهرة ناتجة عن عوامل أجتماعية خاصة .

وهذا السبق للوجود الأجتماعي على الوجود الفكري يستتبع محاولة من التدليل السكيولوجي للتفسير المادي للمجتمع والتاريخ . (1)