إنهيار الأمم والشعوب

 

في العرض التحليلي لجدل ــ الذات الموضوع ــ كان النشاط الاجتماعي مرتبطاً بالأسس التي تساهم في البناء والأنهيار  الحضاري ، وصادفنا الفعل في الوصف القرآني واعتبار مركز القاعدة في البناء والهدم  ـــ كقيمة كلية مرتبطة بواقع الممارسة والتطبيق ، ولأنها كذلك اعتبرت بمثابة  التحول بين الله والإنسان في صناعة القانون وتنفيذه ، وهذا التحول هو ما يسمى ــ بالسنة ــ في التاريخ .

واعتبر الوعي بها وعي بالمستقلات بين المتداول في الذهن والعقل تاريخياً .  فالمدّ والجزر في القوة والضعف الأممي يرتبط بالعامل ــ الأخلاقي ــ فهو الصيرورة التاريخية لهما ، ولأن التبدل من الضعف إلى القوة وبالعكس ليس عملية دورية ، بل هو مرحلة اخترامية ، التداول فيها رهن للشروط الموضوعية التي تعتبر شروطاً تبادلية ذاتية موضوعية .قال تعالى : { قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين . هذا بيان للناس وهُدىً وموعضة للمتقين ولا تهنوا ولا تحزنوا  وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين . إن يمسسكم قرحٌ فقد مَسَّ القوم مِثُلهُ وتلك الأيام نُداولهُا بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يُحبُ الظالمين } ( آل عمران / 137 ، 140 ) .

ففكرة المداولة التاريخية تتخذ طابعاً واقعياً ، أي أنها تتحرك ضمن القانون الذي يحكم علاقة الإنسان بالطبيعة تلك العلاقة التي تقوم على تناسق فيما لو مورس القانون بنحوه التحليلي الدقيق . من خلال الالتزام بالمواد المقترحة فيه واعتبارها قوانين تتحكم في سير العملية الأممية .

والجهد المبذول في صياغة هذه العلاقة لا يرتبط بماورائية زائفة بل يتموضع داخل قيم ارتبطت بالإنسان كجنس وبالطبيعة كجنس وقواهما في الفعل ورد الفعل إيجاباً وسلباً ، فهما متساويان من الناحية الموضوعية ، فالقرح ؛ من حيث هو هو قرح سواء اكان بسبب فعل الخير أو فعل الشر وهو في كلا الممارستين ومن أي طرف كان هو قرح نتائجة وآثاره الطبيعية ترتبط  بالبنيوية العامة .

والدعم الماورائي الغيبي هو عبارة عن كتلة من ألطاف وعنايات مخزونة في المعنى ومتعلقاتها الرجاء لما بعد الواقع الموضوعي ــ أعني الموت ــ وتبادل الواقع الموضوعي في النتائج والآثار الطبيعية سنة إلهية تاريخية بين الناس هي ــ أيام ــ جرى تعميمها لتصبح سنة ترتبط بفعل وجهد ونشاط ولكن الجهد المستخلص ؛ هو الجهد الإضافي في باب ــ ليعلم ــ في دور إتمام التجربة وإنجازها بالفعل على نحو اختياري وتأكيد على أن الدور إنما أريد أن يكون منه ــ شهداء ــ حاضرون وغائبون في العالم الدنيوي والعالم الأخروي ..

وأيضاً للمداولة صيغة حقيقة ( في أن القرح ) الذي يصيب جماعة ــ المؤمنين ــ إنما بسبب ــ الظلم ــ الواقع عليهم من خلال زيادة العنف والتبكيت والقتل ، وهذه الممارسات لا أخلاقية ظالمة لا يحبها الله . فالقرح من حيث هو ــ ألم ــ مرتبط بسبب وهو نتيجة طبيعية للسبب ذاته ، وإن عنصر الهزيمة في شكله المادي والمعنوي مرتبط بالسبب الأخلاقي والأجتماعي والسياسي ؛ وكذلك عنصر النصر مرتبط بأسبابه ، والأسباب من صنع الإنسان ، أعني الأسباب المباشرة  المرتبطة بآثارها المباشرة ، وليس التداول في ذلك صيرورة طبيعية بل هو أفعال داخل العناصر والأسباب هي التي تسبب فكرة ــ التداول ــ والأنتقال .

فالانهيار الأممي مرتبط بأسباب ذاتية وموضوعية هي من صنع الأمم ، وتداول هذا الأنهيار يرتبط بأسبابه الذاتية والموضوعية حيثما كان ، سواء مع جماعة المؤمنين أو مع الجماعة الأخرى .

وللمداولة صيغة تذكير بأن البناء والهدم مرتبطان بدور الفاعل وطبيعة الفعل في المقتضى والمانع وعدم المانع ، فهزيمة الجماعة المؤمنة في أحُد وحُنين  ترتبط بأسبابها الموضوعية ، كذلك الأنتصار في بدر وخيبر يرتبط بأسبابه الموضوعية ، وجريان السنن التاريخية في النصر والهزيمة للمؤمنين والظالمين واحدة من الأثر والنتيجة الطبيعيين ، لذلك كانت المداولة ــ بين الناس ــ والمراد بذلك عموم السنة ، وفي بيان العموم تربية للمؤمنين على الصبر في تحمل الألم والجراحات والأذى لأنه يرتبط بالأخلاق وبعوامل البناء الطبيعي . طبعاً لآبد من التذكير بأن جريان السنة في هذا المنحى التاريخي مرتبط بعلم الله الذي يُقدم ويؤخر بحسب ماهية العلم وحتمية الصيرورة وطبيعة السلوك البشري ، وكل هذا هو الذي يجعل من حداثة الواقع الموضوعي مرتبطاً بصفته في حدود الضرورة والحتمية والعلة .

قال تعالى : { وما أهلكنا من قرية إلاَّ ولها كتاب معلوم ، ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون } ( الحجر / 4،5 )، وقال تعالى :

{ ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين } ( الحجر / 24 ) ، وقال تعالى : { وإن من قرية إلاَّ ونحن مهلكوها قبل يوم القيامة ، أو معذبوها عذاباً شديداً ، كان ذلك في الكتاب مسطوراً } ( الأسراء / 58 ) ، وقال تعالى :

 { ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون }

( الأعراف / 34) ، وقال تعالى : { يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى ، إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون } ( نوح / 4 ) .

هذه النصوص تتحرك في دائرة الفعل المحسوب حتماً في العلم الإلهي ، فالآجال في القرب والبعد بين الثابت والتحول ترتبط بالقدرة وباللطف إذا شاء الله أن يمدَّ في آجال بعض الجماعات البشرية ، كي تستكمل دورها ونشاطها في المسيرة الأممية ، وأيضاً كي تكشف عن دورها وواقعها وحركتها لا لبس فيه . والأصل هو أن تعي دورها التاريخي الأممي فتعمل على صقل مواهبها ونزع كل ما من شأنه أن يؤدي إلى تراجعها وانحطاطها ، والسعي الدائم لكي تلتزم المنهج الحق قبل مجئ الأجل .

وفسحة المجال هذه اعْتُبَِرتْ عند البعض أماناً وخروجاً عن دائرة العقاب لأن المرتبط في الذهن عن العقاب بأنه فعل ناتج عن عمل تقوم به جماعة معينة في الأرض .. والبعض الآخر يحاول أن يستعجل العقاب استعجالاً ، داخلاً في تحِّد  سافر للمشيئة والقدرة والعلم والإرادة ، مع أن طبيعة الاستعجال تلك سنة ترتبط بالإنسان كونه عجولاً ، ولكن ذلك الاستعجال لا يقدم لأنه مرتبط بضروراته التاريخية والموضوعية . والأجل ؛ حتمٌ مقدر وأمر مرتبط بعوامل متعددة ، وانكشاف الحال في نوع الممارسة والسلوك إرادة إنسانية إلهية .

قال تعالى : { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم ، إنما نُملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين } ( آل عمران / 178 )  وقال تعالى :

{ ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } ( النحل / 61 ) .

وقال تعالى : { وربك الغفور ذو الرحمة ، لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجّل لهم العذاب ، بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً } ( الكهف / 58 ، 59 ) ، وقال تعالى :

 { ويستعجلونك بالعذاب ، ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب ، وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون } ( العنكبوت / 53 ) ، وقال تعالى :

{ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم كان الله بعبادة بصيراً } ( فاطر / 45) .

لكن الله سبحانه وتعالى يعتبر العقاب أمراً يتعلق بفعل داخل بالواقع الموضوعي ، فعل عاشته الجماعة البشرية من خلال حركتها وعلاقتها ، وللعقاب في المفهوم الأرضي محددات منها ؛ مادتي الجذب والطرد اللتين تحددان صورة العقاب ، إذ ليس من الضروري أن يكون العقاب أخروياً ، بل للعقاب صفة دنيوية ترتبط بحركة الجماعة ومدى التزامها بمبادتي ــ الأمر والنهي ــ .

والصفة الدنيوية للعقاب تأخذ أشكالاً موضوعية تتعلق بنوع المادة التي أدت إلى إنزال العقاب وتطبيقه ، ولا يكون التطبيق فعلياً إلاّ بجريان السنن الموضوعية بالفعل والواقع وذلك مرتبط كما قدمنا بنشاط الجماعة وفعلها وحركتها ، ولذلك فالقيمة في بعديها إنما تعرض كونها نموذجاً من الواقع الموضوعي الحقيقي ولا سواه . وهذا ما يسمى بالتجربة ــ بالمداولة ــ طبعاً صفة التداول لا تعني النسخ أو التناسخ  أو التبديل على نحو لزومي ضروري ، بل تعني أن وحدة الملاك في التجربة ، وحدة موضوع ، ووحدة ميدان ، لأن ميدان التداول هو ساحة الفعل والنشاط الإنساني ، ولا يعقل أن يكون ــ الملاك أو المناط ــ في الموضوع الواحد مختلف أو متعدد لأن الاختلاف أو التعدد ينفي جدلاً وحدة القياس وبالتالي ينفي وحدة الحكم ، ولكن الملاك أو المناط ستكون له آثاره الخاصة في مستوى فعل الإنسان ونتيجة هذا الفعل ، والفعل ونتيجتة الفعل مرتبطان بضوابط التكليف ــ القدرة والاستطاعة والإرادة ــ بالإضافة إلى ما يختزن من رؤى وأفكار ، وهذه مجتمعة كفيلة بجعل الإنسان قادراً على خوض الصراع الأممي بكل ثقة ومسؤولية ...

ولا ريب أن الصراع ليس بالضرورة أن يكون صراعاً مع الجماعة البشرية ، بل قد يكون صراعاً من أجل كشف المجاهيل في الكون والطبيعة ، قال تعالى : { يا معشر الإنس والجن إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلاًّ بسلطان } ،

 ( الرحمن / 33 ) وكما أن عملية الكشف ظاهرة طبيعية ترتبط بسلوك أممي رفيع ولكن ذلك الكشف والتطور في البحث تحكمه عوامل طبيعية إذ لابد له من ــ أجل ــ الذي يأتي على نحو الضرورة الحتمية ، وذلك على الضد من حركة الكشف بإعتبارها حركة صيرورة في البناء ، والأجل ، معناه أختزال لهذا البناء خاصة وأن من ــ قرية إلاَّ ونحن مهلكوها قبل يوم القيامة ــ . إذن فالعمل من أجل البناء يناقض عملية الأختزال حتى في بعدها الطبيعي أعني قوله تعالى { لكل أجل كتاب }  { ولكل أمة أجل } ،

فالقيمة المعيارية لفعل البناء تتقلص مادام الدور هو الانحلال والانهيار ، والانهيار هنا حتمي تفرضه طبيعة التكوين . ولكني أجد أن صيغة ــ الحتم ــ صيغة  عامة تنظر إلى القانون الطبيعي من حيث مبادئ النشوء والارتقاء ، والحتم لا يلغي ضرورة أن تعمل الجماعة على صيانة نفسها من الداخل ، وتعمل كذلك لولادة جماعة أخرى تواصل مسيرة البناء ، وهذا كما ترى صراع الوجود الذي هو صراع الضرورة التاريخية والحتمية الطبيعية ، ذلك لأن مبدأ التوالد سنة طبيعية وإن عوامل بقاء صيرورة السنة في نسق البناء السابق تقوم على المبدأ الإيجابي القائل ، قال تعالى :

{ إن الله لا يغير ما يقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } ( الرعد / 11 ) ، وفي بعدها السلبي قال تعالى : { ذلك أن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم قط حتى يغيروا ما بأنفسهم } ( الأنفال / 53 ) ،

وهذه الإشارة تعني صيانة الذات وبناءها وتعميم الأفكار النشطة الواعية لأن استكمال الدور التاريخي يتطلب وعياً بالواقع الموضوعي وبالشرط التاريخي . والقرآن يطرح مبدأ التغيير الذاتي كحالة للحدّ من الانحلال والانهيار واعتبار التغيير ضرورة تاريخية من أجل البقاء والدوام .

طبعاً هذا ليس معناه أن تظل الجماعة البشرية تحمل عناصر التحدي في إرادة متوترة ، لأن التوتر العالي المستمر سيؤدي إلى الزوال والضعف والهزيمة ، ولكن التغيير معناه بناء جيل جديد وتنمية فاعل الإرادة فيه من أجل أن يكون قادراً على خلق إرادة جديدة ، وهكذا لتستمر في صنع تاريخها بأدوت أكثر استجابة لمنطقها الحاضر .

والقرآن حينما عمم مبدأ التغيير الذاتي في بعديه الإيجابي والسلبي إنما يترك للجماعة حرية التصرف في بناء مصيرها بنفسها والعمل الجاد ليكون ذلك مرتبطاً بإرادتها ، وذلك لأنه يريد ان يجعل من البناء الذاتي المادة الرئيسية في صنع الجماعة وقدرتها على صنع مستقبلها ومدى مواجهتها للتحديات المطروحة عليها .

وفي هذا الطرح يعرض القرآن صورة الحل أمام التحديات والحتميات التي تواجه الإنسان ، فالبناء الداخلي ولإحكامه كفيل بصيانة الواقع الموضوعي والتخفيف من حدة العوامل المؤثرة فيه ، ولأن شرط البناء الذاتي الحرية والاختيار الطبعيين مع شرطهما المسبق سواء أكان تاريخياً أم أجتماعياً ، فإن اللحظة التقديرية فيه قادرة على تكثيف الجهد لمجابهة التحدي الطبيعي والوضوعي الناتج عن الصراع ، وإن أي فشل إنما هو نتيجة طبيعية لعدم الالتزام بمنهج البناء الداخلي ، وعند ذلك فمسؤولية الفشل والانهيار تعود بدرجة أساسية عليه بالفعل . والمسؤولية هنا نتاج فعل الفرد والجماعة على السواء ، إذا كان الأنهيار عاماً ، وبالتالي فالمواجهة مع المصير هي ليست وليدة لحظة المواجهة بقدر ما تكون مسؤولية أمام الله والتاريخ ، ولا يمكن بحال أن تتولى جماعة تبعات فعل جماعة أخرى ، إذ الشرط الموضوعي في قبول المسؤولية  في المصير هو نتيجة العمل الممارس بالفعل لجماعة محددة بعينها .

قال تعالى : { ولا تزر وازرة  وزر أخرى } ( الأنعام / 164 ) ، وقال تعالى :

{ تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ، ولا تسألون عما كانوا يعملون } ( البقرة / 134 ) .

فالنص إنما يتحرك في دائرة الفعل والفاعل وفي الظرف الزماني المكاني المعين ، ولا يجر إلى اللحظات التالية حكماً وموضوعاً ، فمثلاً ما قام به ــ يزيد ــ من أعمال عنف وقتل واضطهاد ، تتعلق بيزيد حكماً وموضوعاً وبالجماعة التي ساهمت بدفع يزيد إلى هذا المنزلق ، وكذلك بالجماعة التي نفذت أوامر يزيد مع علمهم بأنها أوامر تخالف النصوص القرآنية والسيرة النبوية وطريقة المتشرعة والأدلة الفقهية ..

وعليه فما ينسب اليوم جماعة أهل السنة من مسؤولية عن أعمال يزيد ليس سوى تطرف وغلو وخروج على النص من دون دليل ، وما يدعيه البعض من كون الفعل الصادر هناك يجد تبريره هنا ، أدعاء غير مسؤول وتناقض مع النص ، وأيضاً فالادعاء فعل سياسي الفرق والطوائف من خلال الكهنة على أمل الإبقاء على المنافع والمكاسب المالية والأجتماعية والسياسية ،

 وإلاًّ فالمسؤولية مرتبطة بالفرد أو الجماعة حكماً في اللحظة التاريخية والزمنية المعينة ، أعني ــ  لحظة حاكمية يزيد ــ ولا تتمدد إلى باقي اللحظات . ومن هنا الحجة التاريخية الملغومة والمؤسسة في العهد الأموي والقائلة : إن أهل الكوفة هم الذين قتلوا علياً والحسين ـ وكما لايخفى فالسبب في القضية هناك مرتبط بعوامل تاريخية وموضوعية ، وهو ليس سبباً كافياً تاماً لتكون نتيجته عامة شاملة للأزمان اللاحقة ..

والالتزام بالرأي الفارسي هذا يجعل الربط بين المصير والعمل مستحيلاً وكلامياً قيل : إن عدم الربط ظلم وهو محال على الباري سبحانه ــ .

 

***

تعتبر قضية الانهيار الأممي التي رصد القرآن حركيتها مرتبطة بفعل العامل المؤدي إليها سلباً في عملية الحضور ، والانهيارالأممي في الرصد القرآني أخذ مجاله في المثل القرآني ــ القرية ــ التي هي عبارة عن تجمع بشري مرتبط معنىً باللحظة التاريخية والموضوعية زمن النزول ، باعتبار التوظيف القرآني للألفاظ في معانيها يتمظهر بالواقع الملامس لذهنية الإنسان زمن النزول والتنويه إلى الطبيعة الموضوعية هناك وهنا .

والأنهيار ؛ كما قلنا فعل بشري ينم عن اضطراب في ممارسة الإنسان الفرد والجماعة لدورها التارخي المنوط بها والموكل بأدائه في الواقع الموضوعي . فيأتي كحقيقة موضوعية تاريخية لتسجيل عوامل الانهيار سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو عقيدية ..الخ ، ولأن التسجيل إنما جاء على ذكر الكليات دون ذكر التفاصيل والجزئيلت . فهذه المهمة من فعل الإنسان ولكن حكمها اعني القواعد الناظمة لها تدخل ضمن تلك الكليات . وعندما نتحدث عن الدور القيادي للنبي ( ص) أخذنا بعين الاعتبار العوامل والأسباب الطبيعية التي جعلت من قيادته مصدر قوة وتقدم وتطور ، وقيادة النبي (ص) بالعنوان الأولي تمثل عصارة فكر أممي مختزل لحركة الإبداع والتطور الماضي ، وهذا الجمع والاختزال كان سبباً مباشراً لازدهار الدولة والحكومة الإسلامية التي أسسها ،

أي أنه استطاع تسخير قواه الذاتية خدمة للبناء والتطور والتقدم والنهوض ، وهذا جدلاً يرتكز على مجموعة قواعد وقيم منها الذاتي ومنها الموضوعي ، وهي مجتمعة أدت على الصعيد الحضاري دور البناء القاهر المنضبط ، وبالمقابل فالإخلال بوحدة مباني القيادة يؤدي إلى عملية أنهيار أممي حضاري ، فظلم القائد عنصر رئيسي في عملية الانحطاط  والانهيار ، ذلك لأن ــ الظلم ــ كما قدمنا تكسير لقوى الإبداع والبناء والنشاط الفاعل عند الإنسان ، وهو تقليص لعنصر النمو الأممي فهو تقليص للفكر وللثقافة وللمعرفة وذلك لأنه تحجير على العقل وسلب للإرادة منه وسلب للحرية والاختيار لديه ، فيصبح أداة جبر تنفيذية تخدم قوى الاستبداد والظلم .

ولهذا فالانهيار الأممي بالمستوى السياسي يعتبر الظلم علته التامة ، أعني ظلم القيادة والقائد ، وعدم إدراكهما للمسؤولية الحضارية والإنسانية فتأتي عملية السقوط مساوقة تماماً للواقع السياسي الموضوعي . ولأن القيادة  في الافتراض الجدلي هي وليدة الجماعة البشرية القائمة فهي :

أولاً : إما مستسلمة لفعل القيادة .

وثانياً : أو راضية لفعل القيادة .

وفي كلا الحالتين تقع المسؤولية على الجماعة ، لأنها شاركت في صنع القيادة وربتها وساهمت في إنتاج فعلها المخالف للطبيعة والعقل الرفيع ، والجماعة المتصفة بذلك تصبح المصداق الخارجي للقول المأثور : ( كما تكونوا يولى عليكم ) .

فالحكم الطاغي الظالم يعتبر الأمة مجرد قطيع من البهائم يسوقه كيفما شاء ، فالحاكم هو المالك للأمة ملكية عامة ، وله حق التصرف بها بالاعتبارات التي يراها مناسبة لمصلحته ، وهذا شأن الحكام الدكتاتوريين في كل زمان ومكان . قال تعالى : حكاية عن فرعون : { ما أريكم إلاَّ ما أرى وما أهديكم إلاَّ سبيل الرشاد } (غافر/ 29 ) .

وجدل الظلم كما لا يخفى مركب من ثنائية ــ الظلم والمظلوم ــ والمظلوم ينقسم إلى شقين :

أ – مظلوم وهو راضٍ ، وهذا يكون أحد أدوات الظلم .

ب – مظلوم بالقهر والغلبة والعدوان ، وذلك مدفوع بالاعتبارات الواقعية الموضوعية من أدوات وعناصر على مستوى الحيازة والتمكن .

ولابد من التأكيد بأن ما يسمى جبراً في الأحكام لا يرتبط بالله ، إنما يرتبط بفعل الجماعة التي ترضى الظلم وتستسلم له وتؤيده ، فالجماعة التي تكون كذلك تكون مؤهلة لوقوع العقاب تنفيذاً للوعد الإلهي في تطبيق العدل ، ووقوع العقاب بالجماعة نتيجة منطقية لممارسة الظلم ــ والظلم إمارة موضوعية لسقوط الجماعة تاريخياً .

قال تعالى : { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليهم القول فدمرناها تدميرا ، وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح ، وكفى بربك بذنوب عباده بصيراً } ( الأسارء / 16 ،17 ) ، وقال تعالى :

{ وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ، وما يمكرون إلاَّ بأنفسهم وما يشعرون } ( الأنعام / 123 ) ، وقال تعالى :

 { فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يُرد بأسه عن القوم المجرمين } ( الأنعام / 147 ) ، وقال تعالى :

 { وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ، ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً } ( الأحزاب / 67 ، 68 ) ، وقال تعالى :

{ وما أرسلنا في قرية من نذير إلاَّ قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون ، وقالوا نحن أكثر أموا لاً  واولاداً وما نحن بمعذبين } ( سبأ / 43، 53 ) .

ولأن جدل القيادة مرتبط بالحكم إذ هو الميدان هو الساحة التي تخرج فعل القيادة من حيزه السكوني النظري إلى حيز الحركة الحيز العملي ، فالميدان هو الواقع الموضوعي للتجربة والحكم عليها من خلال قدرتها وقدرة فعلها في الحياة ، وكلما زادت الحدّة بين النظرية والتطبيق ، تتشكل بفعل ذلك قوى معرضة هدفها ممارسة الدور لتصحيح المسار من خلال التذكير بالقيمة والرابطة الفعلية بين القيادة والجمهور ، فالمعارضة فعل جماهيري تقوم به القوى الطليعية لتصحيح المسار وتطبيق القانون واحترام الحقوق الطبيعية للإنسان ، فهي فعل إيجابي يرصد حركة الحاكم وينبه الأمة إلى المخاطر التي تحيق بها من خلال الفعل الممارس والمعارضة كما يفترض فعل إيجابي هدفه خدمة الأمة وتحقيق مصالحها . .

وهذا الهدف من حيث هو هو نبيل لأنه تعبير عن آمال الإنسان وطموحاته في البناء والتقدم ، وهي بهذا العنوان مشعرة بدور الرقابة الإيجابية التي تعمل لصيانة المجتمع والحفاظ على مكتسباته ، والتأكيد على العمل المؤسساتي ... وهذا الدور هو الغاية من إيجاد مؤسسة معارضة للحكم الفعلي ..

ولكن المؤسف أن الأحزاب والتنظيمات التي تمثل المعارضة ماهي إلاَّ شكل آخر عن الاستبداد والظلم فهي وفي دور المعارضة تمارس الإرهاب مع الآخر ومصادرة الرأي الآخر واستعمال وسائل العنف والقتل والتعاون مع الأجهزة القمعية في أداء وتنفيذ الدور الخبيث ، ومحاولتها دائماً التعامل بأنصاف مشاعر مع أبنا المجتمع الواحد بين من ينتمي إليها ومن لم ينتم العمل من أجل التفريق في الرؤية حسب التقويم الطائفي الفرقي المذهبي ..

وهذا ما تؤكده التجارب التاريخية في ميدان العمل المعارض ، وقد رصد القرآن هذه الظاهرة وأعلن بكل صراحة عن عدم شرعيتها ومشروعيتها ، وإني أرى أن أكثر الأحزاب والتنظيمات الإسلامية المعاصرة هي أسوأ بكثير من الحاكم المستبد الظالم ، فهي قد جمعت بين ظلم الحاكم وطريقته في التعامل مع الشعب ، وظلمها الخاص الذي هو عبارة عن مجموعة ممارسات وإجراءات ضد المخالفين في الرأي ...

وأما ما ترفعه الأحزاب من شعارات عن قضايا العدل والحرية وسيادة القانون واحترام حقوق المواطنين وقضايا المرآة وتصحيح المسار التربوي والتعليمي وزيادة  الدور والمنتديات الثقافية ، ما هي إلاَّ شعارات دعائية وبرامج تغطية تهدف لكسب الرأي العام وضمان تأييده .

قال تعالى : { ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يُحب الفساد } ( البقرة / 204 ، 205 ) ، وقال تعالى :

 { ألم تر إلى الذين بدّلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار } ( إبراهيم / 28 ، 29 ) ،

إن قضية الحفاظ على نقاء المضمون مع الشعار وممارستها في الحياة على النحو الذي يحقق مصالح الناس وآمالهم وطموحاتهم هي القضية الأهم التي حببها القرآن ودافع عنها ، ومارس نقداً موضوعياً للصورة التي تجعل من الشعار وسيلة إغراء للوصول إلى السلطة والحكم ، وما إن تجد الأحزاب محلها في قمة الحكم حتى تمارس العنف والقمع بأبشع صورهما مع القوى والأحزاب والتنظيمات والأفراد المخالفين لها .

نعم إن قضية تشكيل قوى تحررية تعمل للعدل وتجاهد من أجل الحرية والسلام ودفع الظلم مطلب إنساني إسلامي حضاري يجد صداه في مجموعة الأطر التي قدمها النص القرآني عن جدلية العدل والظلم ، وفي نفس السياق التاريخي والعلمي جاء التأكيد في الأثر الذي يروي عن الحسين (ع) عن جده رسول الله (ص) إنه قال : ( من رأى سلطاناً مستحلاً لحُرُم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة الله فلم يغير عليه بقول ولا فعل كان حقاً على الله أن يدخله مدخله ) ــ وللمثال على سبيل العمل الإسلامي المعارض نأخذ :