الذاتي والموضوعي

 

قال تعالى : { وإنك لعلى خلق عظيم } ( القلم / 4 ) ، في هذا العرض القرآني تبدو غاية الرسالة واضحة وساحة العلاقة بين السماء والأرض هي الأخرى واضحة ، والوضوح في الغاية والعلاقة دليل على خاصية أرتبطت بالتطور الطبيعي والتاريخي . وجملة ــ خلق عظيم ــ أي واقع موضوعي في مستوى السلوك ــ عظيم ــ قائم على توازن وحفظ ما للأرض وما للسماء بكل العناوين المفترضة ، ولأن الآية / 4/  من صورة القلم وصف وعرض للواقع بما هو ذاتي وموضوعي أعني التناسب بين الشرط الموضوعي والواقع التاريخي في الأحوال والظروف عامة ، لذلك كان مورداً لبيان ــ العلو ــ في الخلق وبمستوى عظيم ، والعلي العظيم من صفات الله الإيجابية ، إذا ارتبطت بموضوع صار الموصوف فيهن ــ الكمال في الصفة ــ المراد توضيحها ، وطبيعي أن ذلك مرتبط بالتجربة كونها أرقى مراتب الفعل وأدقه ، وتحصيل نتيجة التجربة مرتبط بالنفع المادي والمعنوي للناس في الطبيعة ، وللطبيعة في الكون .

وهذا البيان الإلهي تجسيد لواقع الحال عند محمد (ص) الإنسان والنبي والرسول ،

وهو تجسيد كذلك لواقع الرسالة التي هي عبارة عن كتاب إلهي فيه عرض لمجمل القوانين والعناصر التي تحكم الطبيعة والإنسان وعلاقتهما بالله . وهو كذلك كتاب هداية وإرشاد ومعارف سلوكية ، وهو أيضاً بيان للتناسب بين واقع الأرض في الصورة الإنسانية ووافع السماء في صيغة الكتاب الإلهي ، وهو تناسب بين فكرة ــ جاعل في الأرض خليفة ــ وبين سر الاستخلاف ، ويكون المستخلف في دوره الطبيعي في أرقى مراتب الكمال الموصوف { إنك لعلى خلق عظيم } ليتم من خلاله إنجاز المشروع الإلهي في التغيير

{ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } ( الحشر / 7 ) وهو بيان ضمني لسر العلاقة واللقاء بين الله والإنسان ، فالكمال في المنحى المراد من السماء عبر عنه بالقول

 { إلاَّ ليعبدون } المترجم في الشرح التجريبي ــ إنما بُعثت لأتَمَّمَ مكارم الأخلاق ــ .

إذن فيمكن اقتباس الحكم بأن مراتب الخلافة أكملها وأعظمها مرتبة في الوجود هو ــ الخُلق ــ والتسلسل اللاحق إنما يكون { وأن ليس للإنسان إلاَّ ما سعى } ( النجم / 39 ) ، على أساس  إن الإنسان غير متروك في المشاهدة والحكم في الفعل ونتائجه .

قال تعالى : { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } ( القيامة / 36 ) .ولذا فمن يمارس دور القيادة والزعامة الزمنية لابد له من تحقيق هذا الشرط الموضوعي ــ أعني الخُلق ــ فهذا الشرط شرط موضوعي لصحة القيادة في بعدها التاريخي والزمني ، وكذلك كان هذا الشرط ضرورياً بالنسبة للأنبياء والرسل .

إذن فهو شرط موضوعي ولكنه لايكون كذلك إلاَّ بعد أن يكون ذاتياً . إذ جدلية ــ الاصطفاء ــ المرموز لها بصفة الاختيار هي بيان لجدل العلاقة مع السماء والأرض ذاتياً وموضوعياً ، ولأن فعل ــ اصطفيتك ــ أي اخترتك ودرجات الاختيار ملاكها الفعلي التقريري هو هذا التناسب بين ــ الذاتي والموضوعي ــ .

طبعاً المراد من الشرط ــ الذاتي الموضوعي ــ هو كمال الصفة في الخلق فمن باب أولى يكون ذلك شرطاً ضمنياً لمن يمارس دور النبوة في بعدها ـ التابع أي الخلافة الزمنية ــ فالإخلال بوحدة الشرط ينفي ضرورة دور الخلافة الزمنية في كونها معبرة في الممارسة والسلوك عن دور النبوة .

فلو كان وصف الله لمحمد (ص) فيما يجب أن يكون عليه في العلاقة بالبعد الزمني فإن ما يترتب على النبوة من دور زمني سينتفي بانتفائه باعتبار شرط التكليف فيه منتفياً ، وإذا أنتفى الشرط  أنتفى المشروط ..

قال تعالى : { لو كنت فظاً غليظ القلب لانفظوا من حولك } وقال تعالى :

{ ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } وقال تعالى : { فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } .

لنتعرف على جملة ــ فظاً غليظ القلب ــ :

وهل تتناسب ودور الدعوة الموصوفة بالحكمة والموعظه الحسنة ؟

وهل تتناسب ومعنى ــ ولي حميم ؟

الله في مقام نعت النبي (ص) بأنه ليس ــ فظاً ــ في تعامله مع الآخر وليس ـ غليظ القلب ــ في تبادل وطرح المعلومات ووجهات النظر ، ولأن تلك ــ الصفات ــ سلبية بطبعها منفرة عن التلاقي على وحدة موضوع سواء أكان في الأرض أم في السماء ..

فالمقابل بقرينة التوضيح هو الممارسة والتطبيق العاقل الحكيم القائم على دور إرشادي يهتدي بالحجة والدليل والبرهان ، إذ لا أحقية في كون النبي ( ص) مبعوثاً من السماء ، إنما الأحقية في كون النبي (ص) يؤدي دوراّ علمياً قائماً على الأدلة والبراهين العقلية المقنعة .

إذ ملاك الصحة في العمل ليس الدعم الماورائي الغيبي المجرد ، بل الصحة في كون العمل قائماً وفق الضوابط والشروط الموضوعية ، إذ محال أن يكلف الله فاقد الاستطاعة غير القادر على أداء التكليف أو ليس في إمكانه أن يكون بمستوى المسؤولية لأن ذلك سيعود بالخدش في العلم الإلهي المحيط ، والعلم ملاك في التقرير ـ اعني ــ في بيان كون الإرادة من المريد متعلقة بالتكليف بملاك الإرادة والعلم لذلك كان ــ الاصطفاء والاختيار ــ منه دليل تقرير للعقل في اعتبار ذلك الاختيار في هذا الباب ــ الدعوة ــ حجة ملزمة في باب الممارسة .

إذ لا يجوز بمعنى يحرم أن يتولى شأن الأمة والدعوة إلى أهداف السماء من ليس صفته ــ الخلق العظيم ــ في المراتب النسبية بكل حسب إمكاناته ..

والمراد بعدم الجواز هو المعنى المطلق لمن يتولى شأن القيادة والدعوة ، فلا يجوز أن يكون القائد ظالماً مستبداً قاهراً ، فلو وجد إنسان في مقام الحكم وهذه صفته ــ ظالم مستبد قاهر ــ جاز بل وجب على الأمة ان تعلن البراءة منه وتثور عليه ، وهذا الحكم لا يرتبط بالزمان والمكان المعنيين بل هو حكم لمطلق الزمان والمكان ، فالحكم مرتبط بأصل الممارسة في الأين والمثال المطلقين ، وهو واجب عيني إذا توقف عليه دفع ضرر من الحاكم على الإسلام .

والخُلق : هو مجموعة الفضائل والشمائل الحسنة التي يعني توفرها في إنسان صيانته عن الخطأ في الممارسة ... وهي هنا تعني بذلك الآداة التي تعصم الإنسان من الخطأ في السلوك ، ولذلك فلزوم توفرها في شخص القائد أمر ضروري لحفظ النظام من الدخول في الصراع المنهي عنه .

ولأنها كذلك أعتبرت في البني ( ص) سر بعثته لذلك قال : ( إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) هي الغاية القصوى الموجو تحقيقها في المجتمع باعتبارها الشرط الضمني الملازم لبقاء المجتمع وتطوره وتقدمه .

إذ جدل ــ الأنهيار والنهوض الحضاري الأجتماعي ــ مرتبطان وجوداً وعدماً ــ بالأخلاق ــ كقيمة نوعية واقعية تحدد مدى الاستجابة للقانون وتطبيقه ، فمادتي الأمر والنهي هما بمثابة القيمة التي تنظم الحياة الواجب تشكلها . ولا بد أن ينفذ القانون بروح تتناسب وحجم الواقع وقدراته ، مع العلم أن مصدر القانون في الأرض ــ الله والعقل ــ فالكليات لله والتفصيل للعقل ، إذ في الحياة لا فرق بين التشريع والقانون إذا أرتباطا بصفة واحدة قيمتها السير بالمجتمع إلى أرقى صور التكامل . قال تعالى : { وجعلناكم أئمة يهدُون بأمرنا } (الأنبياء / 73 ) ، وقال تعالى : { وجعلنا منهم أئمة يهدُون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } ( السجدة / 24 ) .

إذن فعناصر النهوض الأممي ترتبط جدلاً بمبدأ ــ الأخلاق ــ فالقانون أو التشريع إذا أفتقد إلى الروح الأخلاقية سقط وأدى إلى توالي أجتماعية فاسدة .. فالأخلاق هي الكفيلة بحفظ القانون من الكذب والتعدي والغلو والتطرف والانحراف ، هو الملاك الذي يتقولب داخل مفهوم { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } ( القرة / 143) المفهوم المرتبط أساساً بمبادئ الأمر والنهي .

قال تعالى : { كنتم خير أمة أخْرجَتْ للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } ( آل عمران / 110 ) ، الأمر والنهي قضايا قانونية هدفها صيانة الإنسان الفرد والإنسان المجتمع من الخطأ في السلوك ... هي عند النخبة تمثل عصب العملية التغييرية إذ التحرك فيها ومن أجلها قال تعالى : { .. لا ينال عهدي الظالمين } ( البقرة/ 124) . فالظلم ؛ وهو الجانب الأسوأ في السلوك البشري ــ الظلم ــ منهي عنه للحاكم أن يتصف به حين توليه الحكم ، فالحاكم الظالم يؤدي إلى أنهيار البنى المؤسسة للمجتمع ، فحينما وُجد الظلم وُجَدِ الأنهيار والأنحطاط والسقوط في المستويات كافة .

والعدل ؛ بقرينة المقابلة شرط تضمني لازم للحاكم ، فالحاكم العادل يؤدي إلى تقدم المجتمع وتطور بناه المفوتة ، إذ بالعدل يتحقق النهوض والتقدم الحضاري وفي المستويات كافة .

ولذا فكل تحرك في مستوى الواقع الطبيعي الموضوعي إذا لم يُبْنَىَ  على قواعد وقيم أخلاقية راقية فإنه سينتهي إلى زوال وأنهيار وتلك سنة تاريخية والعكس صحيح .. والشواهد من التاريخ الماضي والحاضر دليل على تلك المقدمة بل هي السنة الإلهية . قال تعالى : { ولن تجد لسنة الله تحويلاً } ( الأسراء / 77 ) ، وقال تعالى : { فلن تجد لسنة الله تبديلاً ، ولن تجد لسنة الله تحويلاً } ( فاطر / 43) وقال تعالى : { ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً } ( الفتح / 22 ، 23 ) .

 

***