الموجب والسالب

 

هذا العنوان يرتبط بالعناصر الفاعلة في الحدث التاريخي ، الحدث الملامس لحركة الإنسان ، فما هو موجب على صعيد الفعل التجريبي ؛ هو ذلك الفعل المرتبط بنظام معرفي دقيق ، وهو الفعل القائم على مجموعة قواعد وضوابط وإرشادات عقلية ودينية ، قال تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ، إن قتلهم كان خطأً كبيراً } ( الأرسراء / 31 ) . وقال تعالى :

 { ولا تقتلوا النفس التي حرَّم  الله إلاَّ بالحق ومن قُتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً } ( الأسراء / 33 ) ، وقال تعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاَّ خطأ } ( النساء / 92 ) .

إذن فالفعل مرتبط :

أ - اسباب ذاتية .

ب -  عوراض موضوعية .

وهي لذلك لا تتخذ شكل الرغبة والهوى لمجرد ــ الفعل ــ والقتل ، متعلق بسبب ونتيجة ، فالأول من متعلقات الذات والموضوع وهو شأن إنساني ولذلك قال { ولا تقتلوا } أي أن النهي مرتبط بالسبب والنتيجة ومتعلق الفعل ؛ الذي هو عملية كفاح إنساني في الأرض جعله الله مباحاً وسخره بالفعل والقوة للإنسان .

والنهي رفع للمتعلق وتقييد ذلك بالفعل بقوله { إلاَّ بالحق } والحق : هو تأصيل السبب والنتيجة المتعلق ــ لأنه سيربط بجدل ــ المظلوم والظالم ــ ووجوب إنصاف المظلوم من ظالمه ــ بالعدل ــ فالحق في الاستثناء المتقدم  هو ــ العدل ــ المرتبط بالمتعلق أعني الذات والموضوع ، والمتعلق يتبدل بحسب إمكانية البدائل المتاحة ، خاصة إذا كان القيد بالتعليل الاحق ــ فلا يسرف ـ .

وعدم الإسراف عنوان آخر من عناوين ــ العدل ــ إذ إن الإسراف يعني التضييع وهو ضد في الفعل والممارسة بالفكر والقوة ، فالتقييد تقييد للمتعلق في مستوى الذات والموضوع ، والمتعلق يرتبط بالإنسان أي بمدارك الإنسان وعقله ونشاطه وجهده . قال تعالى :

{ من أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً } ( المائدة / 32 ) ، وقال تعالى :

{ وأن ليس للإنسان إلاَّ ما سعى وأن سعيه لسوف يُرى } .

فالخطوة التي يعرضها النص ليست بمثابة الترف الفكري بل جاءت كقانون يحفظ العملية التي أعطيت نوعاً من المشروعية في الفعل ضمن القيود المرتبطة بالسبب والنتيجة والمتعلق ، وجعل الشأن فيها مرتبطاً بحاجة المتعلق إلى البديل دون الزيادة ، فالقانون إنما رتب على أساس مواجهة الحالة السائدة وفتح ملفها وإمكانية جعل ذلك مرتبطاً بالعامل التاريخي ؛ الذي هو فعل ونتاج الإنسان ونشاطه ، مع التأكيد على إن الفعل والنشاط مرتبطان بالمنسوب الثقافي والعلمي العام ، فهو من جهة ؛ إلغاء لما هو سائد قبل القانون وتأصيل القنون وتقعيده  تحت إمكانية العمل بالبدائل التي لا تسبب ولا تلحق أذىّ في المجتمع ، وهذا بأعتقادي نزوع دقيق لكشف الذات وجعلها أكثر أنسجاماً مع الفطرة

 { فطرة الله التي فطر الناس عليها } البعيدة عن المؤثرات الأجتماعية والسياسية والفرقية البيئية والصوتية ، والحدِّ من ظاهرة التطرف والغلوّ لأنهما ظاهرتان خطيرتان في كل مستوى وفي كل ممارسة ، وإشعار الإنسان بالمسؤولية والأمانة بإعتباره ــ خلفية ــ عن الله لصيانة القانون وتطبيقه ضمن المقاصد والمصالح الإلهية الإنسانية ، ورفع كل حاجز يجعل الإنسان أقل شأناً في تأدية الوظائف والتكاليف ، وهذه إرادة إلهية لصقل المواهب الذاتية وجعلها قادرة على تسخير الواقع الموضوعي خدمة للواقع التاريخي ، مع أن الإرادة معللة بالواقع المرتبط بالذات الإنسانية الفاعلة المريدة  .

قال تعالى : { إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها ، وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً }

 ( الأحزاب / 72 )

، وقال تعالى : { خُلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون } ( الأنبياء / 37 ) ،

وقال تعالى : { الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ، ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير } ( الروم / 54 ) .

 

***

 

 

وأما السلبي فهو ذلك الفعل الذي يقوم على الرغبة والهوى ، أي انه لا يستند إلى قوانين علمية تحكم عملية الفعل فيه . فالصراع من اجل الزعامة ومن أجل السيطرة على مناطق النفوذ ، والصراع من أجل السيطرة على الموارد الطبيعية والثروات الاقتصادية ، والتجارة والصناعة والزراعة ، وهذه كلها كانت تؤدي إلى الصراع والعدوان والحرب والقتل والتدمير والغصب ، ولعل التاريخ يحدثنا عن صور لهذا الصراع ؛ الذي هو في الحقيقة خروج عن القوانين التي تحكم عالم الطبيعة وعنصر التسخير المدّخر فيها ، وهو كذلك خروج عن الفطرة ؛ باعتباره شحنة موظفة لخدمة النظام والقانون . فلو لم يكن ــ معاوية ــ مثلاً أكان يمكن أن يشهد التاريخ العربي الإسلامي ذلك الصراع الخطير ؟ والذي أنتج التعددية البغيضة والطبيقية والفرقية والطائفية ، وبالتالي أنتج الخمول والكسل والعود إلى سابق العهد ما قبل الإسلام في تفسير النص وتعليله ، وبالتالي لما حدثت وقعة كربلاء بكل فصولها الدرامية التاريخية والإنسانية .. ولما نتج لاحقاً ــ الغزو الصليبي والغزو التتري ــ ولما تمكن السلاطين والمماليك من تسخير طاقات الأمة وقواها المبدعة في مجالات تافهة ..

إن التحايل والتبرير في تغيير مجرى القانون وجديته أدى إلى تضعيف حدّة المبادئ ، وتقزيم المعالم الحيّة وإشعار الكافة من خلال الثقافة التعليمية والبرامج الاعلامية وسلطة الاستبداد ، وترسيخ صورة البطل الرمز والقائد المنتظر والاتكاء على نظم معرفية مستوردة تربط الواقع بالميتافيزيقيا وتعمل من تجذير الصور الحالمة الرومانسية في الشخص القائد وأن الحلَّ فيه ومعه وتضييع حق الشعب وإلغاء دوره ومشاركته في صنع قراره ومصيره ،

 والعمل على تفتيت قانونية القانون وإلزاميتة وسيادة المبادئ .. فصار الحاكم ــ الخليفة ــ ظل الله البطل الألمبي ظل الله في الأرض ، العالم بالغيب الواجب طاعته دون قيد أو شرط ، وقد رسخت هذه المعاني أخبار وروايات وتأويلات باطلة ،

واعتبرت الطاعة عنواناً للجماعة حتى لو دعت الضرورة لرفض هذه الطاعة ، ملتمسين لها حججاً من المأثور وأقوال السلف ، الحجج والأقوال المنتجة  في دهاليز سلطة ــ الاستبداد ــ سلطة الحاكم الفرد .

وبالتالي تقلص دور الرأي الحر وانتفت ضرورة الرقابة على الحاكم . وكان ــ الخليفة ــ في العصر الاموي والعباسي التجسيد الأمثل لفكرة الجبر في العقيدة والفكر والدين والتاريخ . وأصبح الدين عن عمد صورة مستنسخة عن التوراتية الماضوية والإغريقية والرومانية والفارسية .. مع أن الدين وما هو النص القرآني عبارة عن آمال وطموحات الإنسانية الخيرّة ودورها ونشاطها الحّر المبدع الخلاق في عالم الوجود .

فالاستبداد جعل من العقل آفة ومن العلم رذيلة ومن التفكير زندقة ، مع أن الله وهو في مقام التقرير نبَّه إلى اهمية العقل والعلم والتفكرَّ وحاول رفع التكتل المصاغ من قبل قوى الاستبداد ضد ذلك ، وقدم عبر المقولة الخالدة { لاإكراه في الدين } ثم طرح جدل علاقة الفعل بالنشاط المنتج المحسوب والمقدر في وحدتي الزمن والتاريخ وفي بعديهما .

قال تعالى : { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ، ونخرج له يوم القيامه كتاباً يلقاه منشوراً ، أقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا } ( الأسراء / 13 ، 14 ) ، وقال تعالى :

{ قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً } ( الأسراء / 84 ) ، وقال تعالى :

{ وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } ( التوبة / 105 ) ، وقال تعالى :

{ يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً } وقال تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } ( محمد / 24 ) ، وقال تعالى :

 { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس } ( الحديد / 25) .

***