الحسن والقبح :

 

دار جدل بين علماء الكلام وعلماء الأصول والفلاسفة وعلماء المنطق من جهة ، وبين الإخباريين والسلفيين من جهة أخرى حول ما إذا كان الشئ في نفسه حسنٌ ام قبيح ؟

أتفق الأشاعرة والمحدثون والفقهاء من أهل السنة على أن القبيح هو المنهي عنه شرعاً ، والحسن الذي لم يرد عنه نهى من الشارع سواء ورد به أمر إلزامي اولم يرد ، فتدخل فيه حتى المباحات .

أما الشيعة الإمامية ومن وافقهم من المعتزلة فقد ذهبوا إلى أن الأشياء منها ما هو حسن لذاته وإن لم يرد به أمر شرعي ، ومنها ما هو قبيح لذلته ويستحق فاعله اللوم والذم وإن لم يرد به نهى من الشارع .

ولكن ما المراد من الحسن والقبح اللذين أدعاهما الإمامية وأنكرهما الأشاعرة ؟

فقد ذكروا للحسن والقبح معاني ثلاثة :

الأول : صفتا الكمال والنقص ، فحسن الشئ كماله وقبحه ونقصانه .

الثاني : الموافقة لغرض الأمر وعدمها ، فإذا وافق مطلوب الأمر كان حسناً وإلاَّ قبيحاً .

الثالث : ما يترتب على الشئ من مدح وذم .

أما الحسن والقبح بالمعنى الأول والثاني محلاً للخلاف بين جميع الفرق وكلهم متفقون على ان العقل يحكم بالحسن والقبح بذين الأعتبارين .

وأما المعنى الثالث للحسن والقبح فهو الذي أدعاه الإمامية وأنكره الأشاعرة فالإمامية والمعتزلة يدعون بأن في بعض الأفعال حسناً ذاتياً أمر بها الشارع أو لم يأمر ، وفي بعضها قبحاً ذاتياً يستحق فاعلها اللوم والذم نهى الشارع او لم ينه .

ومثلوا للحسن الذاتي بالصدق والإحسان ، وللقبح الذاتي بالكذب والظلم وغيرهما مما يراه العقلاء قبيحاً حتى ولو لم ترد به الشرائع والأديان ..

وقالوا : لو كان الحسن والقبح موقوفين على أوامر الشارع ونواهيه ، لما حكم بحسن الصدق والإحسان وقبح الكذب والظلم من ينكر الشرائع والأديان . هذا بالإضافة إلى أنه يلزم أن لايقبح من الله شئ حتى إظهار المعجزة على أيدي الكذابين ، وذلك يؤدي إلى عدم معرفة الأنبياء ولجاز على الله أن يأمر بالكفر وتكذيب الأنبياء وغير ذلك ، لدوران القبح والحسن مدار الأمر والنهي الشرعيين ، فإذا أمر بهذه الأشياء كان أمراً مقتضياً لحسنها ، وإذا نهى عن الصدق ورد الوديعة والإحسان إلى اليتيم كانت هذه الأمور قبيحة ، إلى غير ذلك من اللوازم الفاسدة التي لايمكن للأشاعرة الألتزام بها . ثم أن المعتزلة القائلون بالحسن والقبح في الأفعال بين من يقول بأنهما ذاتيان وهم المتقدمون منهم ، وبين من يقول بثبوتهما في الأشياء لوجود صفة في الأفعال تقتضي حسنها او قبحها وهم المتأخرون من المعتزلة .

واحتج الأشاعرة وأتباعهم على إنكارهما ، بأن الإنسان ليس مختاراً في أفعاله . والفعل إذا لم يكن اختياراً لا يوصف بالحسن والقبح .

والجواب : إن القائلين بالحسن والقبح الذاتيين إنما يقولون بهما بلحاظ ذوات الأفعال مع قطع النظر عن العناوين الطارئة التي تبدل وجه الشئ وتشتمل على مصلحة أقوى من المفسدة القائمة بذاته ، وتختلف الأشياء في ذلك أختلافاً بيَّناً فبعضهما يكون علة للقبح بحيث لا يختلف مهما أختلفت عناوينه واعتباراته كالظلم ، فإنه أينما وجد وكيفما أتفق حصوله لا يمكن ان يكون حسناً ، وبعض الأشياء ليست بذاتها علة للقبح والحسن ، وإنما تكون بذواتها مقتضية له ، كالكذب مثلاً فإن ذات الكذب مع قطع النظر عن جميع العناوين مقتضية للقبح , كما وأن الصدق مقتضٍ للحسن ولا ينافي ذلك أن يطرأ عليهما عنوان آخر يمنع تأثير ذلك المقتضي في الجهة التي يقتضيها ، وليس ذلك إلاَّ لأن أقتضاءهما للحسن والقبح ليس كأقتضاء العلة والمعلول (1)

وللإجابة عن السؤال الذي بدأنا به البحث نقول : إن الصف الأول آمن بالظاهرة على أنها مرتبطة بالشئ بما هو هو ، والحكم عليه من خلال ظهوره في الواقع من دون وجود حكم مسبق في هذا الشئ ، طبعاً الحكم هنا يرتبط بساحة الفراغ التي يجب أن تُمْلأ من خلال الفعل الإنساني الرفيع القائم على المعادلة التاريخية بين ما للسماء وما للأرض ، أعني الإرساليات والبعوث السماوية والمعارف الأرضية المرتبطة بالواقع الموضوعي حسب ظرفي الزمان والمكان ـــ وهذا ما يسمى بالطريقة التأويلية المعتمدة على قوتي الإرادة والأستطاعة .

والعقل يمثل هنا النشاط الواعي المفكر الذي يربط بين الحاجة والواقع في وعاء الطبيعة وقوانينها لذلك ورد :  { إن أستطعتم ان تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلاَّ بسلطان } ( الرحمن / 33) والسلطان هنا العقل الذي هو عبارة عن كاشف لغطاء تلك القوانين التي ليست من خلقه وإن تكن من كشفه ، فالعقل يكشف لك الاطّراد والأتساق والنظام ..

ولا يتم ذلك إلاَّ إذا ميز ما يصح وما لا يصح لأن النفوذ الوارد في الآية عبارة عن نشاط إنساني يقوم على أساس القواعد والمقدمات التي تربط بين العلم والعمل ، ولايتم موجب الربط بدون حقائق تمتص من الواقع على أساس التجربة والبرهان والحس وهي ادلة التعريف المنطقي في السمع والبصر والفؤاد .

{ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } ( الأسراء / 36) .

وقال تعالى : { فإنها لاتعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } (الحج / 36) .  فهذه الأدوات اجهزة مفاهيمية  هي بمثابة أدوات النشاط الواعي الذي لا ينفك عن قواعد المعرفة التي اهدت إليها رسل السماء .

فهذه الأجهزة لها ظرف ووعاء موضوعي يتطور بحسب مادتي ( اللغة والفكر ) التي هي أيضاً نتاج معرفي لنشاط العقل والواقع ــ الجماعة والأفراد والطبيعة ــ والتمييز إنما يتم بحسب المصلحة والمقصد والغرض ، والممارسة دليل معرفي على الغرض إذ به يتم التمييز .

فالحسن هو المتجلي في دور التجربة وليس هو ما في الذهن ولكن من حيث هو هو ، لأن الحسن ــ ليس مادة تجريدية بل هو قيمة موضوعية مصنوعة بالإرادة والعلم والمصلحة القائمة بالفعل على قواعد عقلية تعترف بنواميس الطبيعة وإرشادات السماء فمادة : أيكم احسن عملاً ــ مرتبطة بميدانها العلمي ونتائجها الفعلية . أي انها لا ترتبط بالتجريد المحض ، ذلك لأن الأول : يدخل في باب الأختيار ويرتب عليه مَبْدَأيْ ــ العقاب والثواب ـــ .

يقول جون لوك : ( إن الدين فردي خاص ، معينة في نفسي ، وأستنبطه من ذات نفسي ، ويستحيل على إنسان آخر في الدنيا بأسرها ان يهديني في الدين صراطاً مستقيماً إذا لم تهدني نفسي ) (1) .

والثاني تعبير عن نشاط ذهني في حيز سكوني غير متحرك . ــ والقبح ــ كذلك ظهور مادي خارجي يُعلم من خلال الكيفيات التي يتمظهر فيها ، وهو على النقيض من ــ المصلحة ـــ والإرادة ، لأنك ستقابل بمادة الفعل الطبيعي : { ومن أساء فعليها } ( فصلت / 46) . الإساءة فعل الفاعل المريد ، والإساءة فعل مادي له آثار ونتائج طبيعية مرتبطة بالواقع . والإساءة حركة فعل وضمير فعل وعاؤه الواقع ( الطبيعة ) .

يقول ابن تيمية : ( إن الأفعال مشتملة على اوصاف حسنها ووجوبها ، وتقتضي قبحها وتحريمها ، وأن ذلك قد يعلم بالعقل لكن الله لا يعذب احداً إلاَّ بعد بلوغ الرسالة ) (1)

ــ فالقبح ـــ لا يمكن رؤيته من خارج إطار التجربة ، فالتجربة ميدان للكشف عن ماهيته لا بلحاظه المجرد بل بما هو فعل مادي مؤثر في عناصر الوجود .

قال تعالى : { إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه } ( الأنشاق /6) . هذا المبدأ يعبر عن صيرورة  اجتماعية تاريخية ترتبط بالعمل لذلك علق الحساب على العمل ، والتعليق مرتبط بميدان التجربة والظهور الموضوعي ، ولذلك ففعل التعليق لا يقوم على فضاء بل يقوم على جدل  معرفي رصين ، لا يتنافى مع الثابت بما هو هو ، لأنه ليس متحولاً بما هو هو ، وإنما هو مجموعة تراكيب :

1 – منها ما يرتبط بنظام التطور بإعتباره يمثل حاجة طبيعية .

2 – ومنها ما يرتبط بالأنظمة والقوانين المهداة من عمل [ يقول بريدو : ( الله هو الذي يقدر بإرادته المطلقة الخير والشر أو انتاج الكمالات التي يرتضيها أو تجنيس حركاتها وسكناتنا مع النظام الكوني الأمثل وفي جميع هذه الحالات يجب الألتجاء إلى حقيقة عليا يتمخض كشفها عن توجيه لسيرتنا وتبيان لواجبنا ) (1) .

3 – ومنها ما يرتبط بالمصلحة .

4 – ومنها ما يرتبط بالواقع الطبيعي وبالظرف الموضوعي العرفي .

[ يقول جون كارل فلوجل : ( ولكي يعيش الإنسان عيشة طيبة في البيئة الإجتماعية المعقدة التي صنعها لا بد منا ان يفرض عليه عامل خارجي بالإضافة إلى الفضيلة الطبيعية أي الغريزة التي تختلف أشد الأختلاف من شحص إلى آخر ، وهذا العامل  الخارجي هو عالم التوجيه والتحكم المكتسبين وهو عنصر يمكن اعتباره من بعض الوجوه أقل طبيعة وتلقائية من الغريزة ] (1)

وكل هذه تحدد ما ينبغي وما لا ينبغي ، والإنسان بإعتباره عصارة فكرة مبدع فهو جزء من المطلق وشبيه بالخالق من جهة أخرى ، وهو كيان قادر على تتويج العمل النشط وترسيم خارطته ، والتنويه إلى ما هو حسن وإلى ما هو قبيح ، التنويه الأختباري المرتبط بالتجربة والبرهان لا على مستوى الخيال وحده .

ومن هنا أصبح الإنسان خليفة في المعيار الوجودي لله فهو النسخة المعبرة عن صفات الله في الأرض والمكلف بإنجاز وتطبيق مَبْدَأي  الأمر والنهي على نحو أختياري في العمل والتكليف ، ومن ثم ترتيب نتيجة فعل التكليف على الإنسان داخل  مَبْدَأي ــ العقاب والثواب ــ .

فنشاط فعل الخليفة الإيجابي العاقل الواعي وسرعة هذا الفعل وتقليص دور القوى المعارضة لحركته وفعله في البناء والإعمار وتسخير ما في الطبيعة لما في العقل ، والضد في ذلك عكس لأنه نتاج لعمل ردئ كسول يقوم على التواكل والأنقباض  إزاء  قوى الطبيعة وقوانينها الجبارة ، وفي كل الأحوال فالتكليف أشتراط على الإنسان ان يدير الصراع مع الطبيعة ضمن مبادئ المصلحة وسيادة القانون اعني احكام الله .

 

***

ولكن ربما يسأل المرء هل الحسن والقبح ذاتيان أم عقليان ؟

أولاً : ما المراد بكلمة ــ الذاتي ـــ .

وثانياً : وما المراد بكلمة ــ العقلي ــ .

هل المراد بالذاتي المعنى المجرد ــ الذاتي من حيث هو هو  دون صفة إضافية زائدة ــ اعني ذاته ؟

وإذا كان كذلك فالحسن والقبح ألفاظ لمعاني مختزلة من التجربة الإنسانية ، فالقبح إضافي للغير الذي لا بسه او اتصل به ... وأما ما وراء ذلك فهو خير يؤدي وظيفته في كمال الوجود وحسن نظامه ، على أساس ان الأصل في الوجود ـــ الخير ـــ .

ولكن هل المراد كون اللفظ الدال على معنى حسن وقبيح في ذاته ؟ أي حسن وقبيح في ما هيته وجوهره ، ومعنى ذلك أن الحسن والقبح قريبة الصلة بالمفهوم الجبري ...

إذن فما دور التجربة والفعل والنشاط الإنساني ؟

بل ما معنى ــ الأختبار ــ الثواب والعقاب ــ ؟

الواقع أن القول في ـــ الذاتي ـــ على هذا النحو من دون أرتباط بموضوع خاص قد يجر إلى هذا التوالي ، ولكن لو أرتبط بموضوع معين على نحو أرتباط المفهوم بأحد مصاديقه ، لقلنا : إن العدل بما هو صيانة لحقوق الإنسان وحفظ لنواميس الطبيعة وتطبيق للقانون فهو حُسنٌ لذاته ، لأن المفهوم المترشح عن معنى حُسن في ذاته .

وكذلك بالنسبة للظلم بما هو تعبير عن القتل وسلب الحقوق ومصادرة الحريات والعدوان على الطبيعة والإنسان والقانون فهو قبح لذاته ، لأن المفهوم المترشح عن معنى الظلم قبيح في ذاته . وعليه فجدلية المطلق والنسبي في تعليل معنى الحسن والقبح تجد مجالها العلمي المعرفي ، فنسبة الشئ إلى موضوعه المتقولب فيه هو الذي يجعل من الحكم مرتبطاً به ، إذ التناسب بين الحكم والموضوع حاجة من صلب القانون الطبيعي ، والنسبة هنا نسبة الجزء إلى الكل .. هذا بالنسبة للأول ــ الذاتي ــ .

أما بالنسبة ــ للعقلي ـــ فهنا لا بد من القول كما قال أرسطو : إن العقل يرتب أحكامه حسب المقدمات والقواعد ، فالمقدمة والواسطة والنتيجة فلو قيل : سلمان عالم ، وكل عالم إنسان ، فسلمان إنسان . كما لو قيل : الإنسان ينتفع من الأرض ،  لقيل الأنتفاع هو مما ينتج في الأرض ، وذلك مرتبط بأسبابه وعوامله الطبيعية كالمطر والخصوبة والعمل . والأنتفاع واقع مترشح عن عمل قيمته مرتبطة بحاجة الإنسان ومتطلباته الأساسية .

يقول ريبو : ( إن قوام قيمته الأشياء هو رغائبنا وأذواقنا وإن فكرة القيمة من خلق الوجدان ) (1) .

فإذا كانت للخير فهي حُسْنٌ ــ وإذا كانت لغيره فهي قبح .

وهنا لا بد من التفريق إذ ليس الخصوص وارداً في حيز العموم ، بل إن العموم هنا له موارد خاصة تتموضع في مناطقها هنا او هناك ... لذلك ــ فالحسن والقبح ــ عقليان من جهة عدم التعارض مع المقدمات واللوازم واللواحق وعدم التعارض جاء على نحو الكلية المطلقة . لأن حدوث الأمر في مكان على مقتضى التعارض مع الفطرة والذوق لا يُعد  حُسناً بل يُعد قبحاً وإن تسالم المجموع على قبوله والعمل بموجبه .

يقول وليم جيمس : ( إن الإنسان هو مصدر الخير والشر والفضيلة والرذيلة ، إن الخير خير بالنسبة له ، والشر شر بالقياس إليه .. إن الإنسان هو الخالق الوحيد للقيم في ذلك العالم ، وليس للأشياء من قيمة خلقية إلاَّ بإعتباره هو ) (2) .

ويقول رويس : ( إن المثل الأعلى في الأخلاق هو ان يقوم بين مختلف الإرادات أتساق وتناغم وانسجام ) (3) .

فالعمل في المكان الخاص سنة عرفية ولكنها تتعارض مع مبادئ القانون العام المتولد من الواقع الطبيعي المرتبط بالفطرة .

قال تعالى : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } (الروم / 30)

 والفطرة موضوعياً المراد بها التشكيل الأول للخلق قبل التعليم والأكتساب ، لأن الثانية اعني بعد التعلم والأكتساب تقع تحت ضابطة ( وأبواه يُهَوَّدانه أو يُنَضَّرانه أو يُمَجَّسانه أو يُسلمانه ) وهذه الضابطة ترتبط بنظام من المتعلقات بعضه ديني وبعضه الآخر بيئي وعرفي :

 ( قد برهنت التجارب المستفيضة على أن قوانين أهل البلاد وعملها هي التي توجد أكبر مقدار ممكن من الرضا للمفكرين من أهل ذلك البلد إذا ما أخذوا بها جميعاً ، وأما في حالات الخلاف فيفترض الحق دائماً في جانب ما يعترف جمهور الناس بانه فضيلة فلابد للفيلسوف من ان يكون محافظاً مراعياً تقاليد البيئة وعرفها عند وضع معاييره التقديرية ) (1) .

وكلها إن لم تتطور بفعل عامل الخلق والإبداع والعلم ستنشأ تحت تأثير هذه العوامل وتفعل بفعلها إيجاباً أو سلباً . لذلك كان الوحي وكانت النبوّات والأنبياء والرسل من أجل تقويم وإبقاء ــ الفطرة ــ كمرآة صافية تعكس الصورة على لوحة الحياة بشكل بعيد عن الضبابية والأنكسار وعدم الوضوح ، أي أنها تقوم بربط كل قضية بمحدثها بعللها بأسبابها :

{ كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما أختلفوا فيه وما أختلف فيه إلا الذين أوتوهُ من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما أختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } (البقرة / 213)

 وقال تعالى :{ وكذلك جعلناكم امة وسطاً لتكونوا شهداء } (البقرة / 143)

 وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أتقوا الله وقولوا قولاً سديداً ، يصلح لكم أعمالم ويغفر لكم ذنوبكم } ( الأحزاب / 70 ، 71) .

***

يرى ابن سينا أن الحسن والقبح هي من قبيل الخير والشر ولذلك يقول : ( إذا نظرنا إلى كلمة شر نجد الناس يطلقونها على أشياء متعددة منها :

1 – أمور عدمية كالموت والجهل .

2 – وأمور وجودية كالحياة والعلم .

3 – ومنها ما يحس الأشياء عن كمالها كالبرد الذي يحول بين الثمار وبين النضج .

4 – ومنها الأفعال المذموة كالظلم والزنا .

5 – ومنها الأخلاق الرذيلة وهي الهيئات الراسخة في النفس التي تحول بين الناس وبين الكمال .

6 – ومنها الآلام التي تحرم الإنسان الراحة وتجعله شقياً .

يقول ابن سينا هذه هي أغلب ما يطلق عليها أنها شر ..

فهل هي من حيث أنها شرّ لها وجود ذاتي ؟

فيقول : الأمور العدمية لا وجود لها بل عدم وجود ( كالموت الذي هو صفة سلب والصفات السلبية لا يحس بها أحد) .

وأما ما حال عن الكمال كالبرد فهي من حيث هي ليست شراً بل هي بمقتضى علته من كمال الوجود ، وإنما صار شراً نسبةً إلى الثمار لحيلولته دون كمالها فالشر عارض له ، والشر في الحقيقة هو فقدان الثمار ما يجب ان يكون لها من الكمال ، فالشر هنا امر عدمي .

وكذلك الأفعال المذمومة فهي شر بالقياس إلى غيرها كالظلم فالظلم شر بالقياس إلى المظلوم .

يقول ابن سينا : ( فالشر من حيث ذاته أمر لا وجود له ، وإنما هو أمر يعرض للأشياء التي يكون وجودها عن علتها خيراً في الوجود . أو الشر في ذاته ليس إلاًّ عدم وجود ، أو عدم كمال لموجود ، من حيث أن ذلك غير لائق به أو مؤثر عنده .

والشرور أمور إضافية مقيسة إلى أفراد شخصية معينة ، وأما في نفسها ، وبالنسبة لما يجب أن يكون عليه الكل من النظام فلا شر أصلاً .. فالخير مقتض بالذات والشر مقتض بالعرض ، والأصل في الوجود أن يكون له خيرٌ وإنما يعرض له الشر الأشياء خارجة عن ذاته ) (1) .

ولكن الإسلام نظر إلى الأمر من خلال :

أولاً : أنه جعل الحسن حسناً لذاته والقبح قبحاً لذاته ولم يُعْنَّ بالتصورات الذهنية لطبيعة الحسن والقبح .

وقال تعالى { زُين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا } ( آل عمران / 14) .

ولكن هذا لايلغي مبدأ : { والله عنده حسن المآب } ( آل عمران/14) .

قال تعالى : { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ؟ للذين أتقوا ربهم جنان تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، وأزواج مطهرة ، ورضوان من الله والله بصير بالعباد } ( آل عمران / 15) .

وثانياً : كشف الإسلام عن كثير من وجوه الخير والشر ، إذ نص على كثير من الأمور التي أعتبرها خيراً ودعا الناس إليها وأمرهم بها ووعدهم الجزاء عليها ، كالصدق ، والصبر ، وبر الوالدين ، والإحسان بالقول والعمل والوفاء بالعهد ، وأداء الأمالنات .

قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أتقوا الله وكونوا مع الصادقين } ( التوبة / 119) .

وقال تعالى : { وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة .. } ( القرة / 156) .

وقال تعالى : { وقضى ربك ألاَّ تعبدوا إلاَّ إياه وبالوالدين إحساناً } ( الأسراء / 23) .

وقال تعالى : { الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين } ( آل عمران / 134) .

وقال تعالى : { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا } ( البقرة / ذ77) .

وقال تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى اهلها ، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } ( النساء/ 58) .

وهناك قضايا أعتبرها الإسلام قبحاً رفضها وشنع بها ونهى عن إتيانها ووعد مقترفها بالعقاب الشديد ، كالقتل والسرقة والخمر والميسر والربا والزنا والكذب وشهادة الزور والغيبة والنميمة والغش والظلم والبغي والعدوان .

قال تعالى : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلاَّ بالحق } ( الأنعام / 151) .

وقال تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما .. } ( المائدة / 38) .

وقال تعالى : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } ( المائدة / 90 ) .

وقال تعالى : { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً } ( الأسراء / 32) إلى غيرها من الآيات الكثيرة في هذا الشأن .

 

***