السُنَن التاريخية

في

القرآن المجيد

الطبعة الأولى 1996 م

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

.

تعتبر الدراسات القرآنية الحديثة خطوة هامة ومتطورة ، لأنها تعنى بشكل رئيسي بالكشف عن دلالات النص القرآني ومدى إنطباقه على الواقع ، وتلك الدراسات آليات بحث وأدوات إنتاج على غاية من الجودة والدقة .. وهذا يعني إن نتاج الدراسات يحمل في ذاته عناصر ديمومته وقدرته على حلِّ كثير من التناقضات والأرباكات التي تواجه العقل والذهن معاّ .

والفضل في ذلك يعود بكل تأكيد إلى الطريقة العلمية المتبعة في مناهج الدراسات تلك فهي أولاً:  تخضع النص إلى مبدأ الصلاحية لكل زمان ومكان وهذا الإخضاع ليس قهرياً بل عقلياً علمياً قائماً على قواعد تحكم سير العملية البحثية .

وثانياً : إن هذه الدراسات تتوخى إنسانية راقية هدفها الكشف عن أسرار الكتاب وتسخيرها من أجل الإنسان وتقدمه ومراعاة مصالحه وبناة .. ولا يخفى أن الوصف المتقدم للدراسات تلك بالعلمية والعقلية يعني ذلك ضمناً أنها أخذت بالحسبان مفهوم النص في السياق التاريخي ، ومصداقه ، ودلالته ، وسببه وشأنه مع كل المفردات اللاحقة به لفظاً ومعنىً في طول السياق وعرضه .

وهذا يعني أن ما نسميه علوماً قرآنية قديمة لم تستوف كثيراً من الأستحقاقات واللوازم والتوابع ، بل لم تبحث كثيراً من القضايا والمسائل التي أجد أنها لم تكن غريبة عن واقعه الموضوعي والذاتي ، وقد أثبتت الأيام أن ـ العلوم القرآنية ـ القديمة كانت عبارة عن ظنون ونظريات معيارية محكومة بالواقع السائد آنذاك . ذلك لأنها لم تميز بين ما نسميه ـ المطلق والنسبي ـ في عنصري الزمان والمكان ، ولأن الأمر كذلك فقد جرى تحوير ومماطلة وإلصاق أحكام في غير محلها ، حتى غدت تلك الأحكام وبالاً يثقل النص ويُقيده عن الحركة والأنفتاح .

ولابد من التذكير بأن المنطق العلمي لا يعتبر القرآن مجرد كتاب هداية وإرشاد وعبادة كما جرى تقريره عند أصحاب المذهب التجزيئي ، بل هو أيضاً كتاب علم وبرهان يعتمد في محاكمة معلوماته على الحجة والدليل العلمي العقلي المنضبط بحدود العلاقة المنفتحة على عالمْي وبُعْدَيْ ــ العقل والطبيعة ــ البعدين اللذين هما دوماً في تطور جدلي محكوم بمبدَأيْ المحو والأثبات ونظرية ـ كل يوم هو في شأن ــ النظرية المستفرغة بقانون ــ والسماء بنيناها بأييد وإنا لموسعون ـ وهذا يعني الأضطراد والنمو والتكامل ، وذلك واحد من الأسرار التي كشفت عنها الدراسات العلمية الحديثة .ويقيني أن القرآن سيستوعب على الدوام ما ينتج من  نظريات و أفكار علمية راقية ، لأنه بإختصار جاء مناسباً ومتناسباً مع عالمْي ــ الطبيعة  والعقل ــ ..

والسنة التاريخية في القرآن المجيد هي عبارة عن ذلك القانون الذي يحكم سير الفعل البشري . وبعبارة أدق : هي ذلك القانون المنتزع من حركة وفعل الإنسان في الطبيعة ، وهي تعبير عنه في السلب والإيجاب ..

وهذا التعريف الأصطلاحي يجعل من السنة التأريخية حدثاُ يساهم الإنسان في صنعه على نحو مباشر ، الحدث المرتبط جدلاً بواقع موضوعي معين وشرط تاريخي خاص . .

وفي القرآن المجيد جدلية ــ الواقع مع الشرط ــ أحد أهم الأسس التي تشكل البعد القيمي لمفهوم ــ السنة ــ كظاهرة ترتبط بعوامل الصيرورة الطبيعية أعني ــ ولن تجد لسنة الله تحويلا ــ   

وفي المراقبة الأحصائية لحدوث السنة في القرآن تاريخياً نجدها ترتبط ــ بالظلم ــ أرتباط علة بمعلول ، وأرتباط شرط بمشروط ، وكأن الظلم علة تامة لحدوث السنة التاريخية ، والأستعراض المنطقي للنص تاريخياً وطبيعياً يدلي بهذه المعلومة في مستوى صياغة الحدث ، وخير دليل على ذلك مافي القصص القرآني والدراما التاريخية ، والصعود والهبوط ، والتقدم والتخلف ، والعلم والجهل .. الخ ، وكل تلك العناصر بمثابة الفعل المؤثر المباشر في صناعة النص فنياً وقيمياً ووجودياً .

إن ظاهرة البحث العلمي في القرآن عن سنن تحكم موضوعاته ، ظاهرة صحية ونزوع نحو أستدراك مافات في خضم التجزئ لمملّ والذي يُباعد بين الحكم والموضوع ، مع إن الأقتضاء يتطلب الحصر حتى يُصار إلى وحدة منهج ينتج وحدة بُعد حضاري تأسيسي هدفه الإنسان صيانة الإنسان ودفعه ليُمارس دوره الحضاري في تحمله للمسؤولية والواجب التاريخي ، تلك المسؤولية المنبثقة من تلاق بين الأرض والسماء ، ذلك التلاقي المشهود الذي جاء ضرورة لتقسيم الأدوار في بابَيْ العمارة والخلافة ، وهو تلاقٍ نوعي يبين ما لله وما للإنسان ، التلاقي الذي من أجله تم تحمل الأمانة لا في الأستثناء المنقطع فقط ، بل وفي وعي ذلك الأستثناء في مرحلتي العمل والأنتاج ، والأستثناء ليس فصلاً بين الثابت والمتغير بل إشارة إلى طبيعة السعي والفعل في الأرض بإعتبارها ميدان التجربة وساحة الفعل المباشر المترتب عليه أثراً مادتي ـ العقاب والثواب ــ في الآجل والعاجل ، وهو بيان للمراد في قوله ــ إما شاكراً وإما كفوراً ــ القول المتمحور في باب الأختيار والحرية والمشيئة والإرادة والقضاء والقدر ، الباب المركوز في الفطرة الإلهية ـ التي فطر الناس عليها ــ .  

إذن فالسنة التاريخية قانون طبيعي يحكم عالمي النهوض والأنهيار الأممي الذي يظهر ويتجلى في المعجزة والصدفة والضرورة والعدل ، ويتجلى في كل جزء تحرك أو يتحرك فيه الإنسان ، وظهورها شاهد على نوع هذا التحرك وماهيته وكيفيته ومصداقيته  .

ولقد حاولت جهدي أن أرتب الموضوع من الزاوية المرتبطة بنشاط الإنسان وفعله والذي اعتبره الأهم قياساً إلى التفريعات الأخرى التي ربما أتخذت هدفاً في السبر التاريخي لموضوعات القرآن .

وإنا لا نجافي الحقيقة إذا ما قلنا إن الملاك في حدوث السنة التاريخية هو ــ الظلم ــ ولا سواه ، والأعتبارات الأخرى من قبيل المتعلقات ..

إن البحث التاريخي في القرآن إشارة كلية لعناصر الفعل التاريخي المادي وغير المادي ولقد أرتأيت أن يكون هذا فاتحة عهد جديد مع القرآن أتتبع موضوعاته وأقارب بينها وبين أحكامه تبعاً لظرفي الزمان والمكان .. وأنا كلي إيمان وثقة بأن هذا الكتاب سيمارس دوره العملي في حملة التوعية والتثقيف المجتمعي العام ، وسيساهم في زيادة المنسوب الثقافي والعلمي خدمة لقضايا التنمية والحضارة والتقدم ... وهو بكل الأعتبارات سجل موضوعي نرجو ان يكون حيادياً وقابلاً للنقاش وللحوار وللرد والبدل ، والكتاب يمكن إعتباره واحداً من العلامات البارزة في الدراسات القرآنية والتفسير الموضوعي ، نرجو أن يساهم في حلً كثير من التراكمات والإشكاليات التي تغلف العقل الإسلامي ، وتحريره من التبعية والتقليدية والسكونية ولأنطوائية ، وذلك بإعتقادي لن يكون ميسوراً من دون نقده من الداخل ، وهذا ما سنقوم به على حلقات بعون الله .

( وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب ) .

الركابي

15 شعبان 1411 هجرية