الإصلاح ... والإجتهاد :

عُرّف الاجتهاد : بأنه بذل الجهد من أجل تحصيل الحكم الشرعي من أدلته !

مع أننا نعتقد أن هذا التعريف لا يفي بالغرض المنشود لذلك نقول : إن الاجتهاد عبارة عن حركة فكرية وعلمية واعية يقوم بها العقل للحصول على درجة اليقين والأطمئنان في أحكام الموضوعات المتنوعة ـــ وهذا التعريف بما هو هو غير متحصل للجميع ، خاصة مع تغييب مادتي الاجتهاد الرئيسيتين أعني ــ العقل والتأويل ــ  

والإنتاج المعرفي : هو عبارة عن أحكام لموضوعات ومواد ولذا فهو حركة واعية مركبة من عنصري الزمان والمكان وعنصري الخاص العام ، فهو إذن نتاج مادي وجودي له تأثير وتأثير مباشرين ، خاصة عندما نلحظ كونه قائماً فعلاً على مصادر منتخبة ومقررة ، أعني كتاب الله والسنة (16) .ومع إن العمليات الاجتهادية الممارسة اليوم إنما تعيش الفكرة التي عاشها مجتهدو الأمس بذات الجدلية والتراتبية ، ممارسة تكرار وأجترار مثقل بأوهام الماضي في ــ جدل الخاص العام ــ والذي يدور بمدار هذه الفكرة نفياً وإثباتاً . فإن ما يجري من عمليات في هذا المجال وخاصة في البعد العملي نجد فيها التمثيل الماضوي السلفي السكوني في التعامل مع الحدث ... والتأكيد على مقولة ان الحلَّ قد حُكم فيه بلحظة تاريخية معينة تأكيد ليس على ما ينبغي !!!

فالتاريخ لايعيد نفسه لابمستوى الزمان والمكان ولا بمستوى الشكل والمضمون !! ولهذا فتأكيد الحلّ وإجراؤه على كل الحلقات التاريخية وعلى مطلق الزمن بحيث يكون هو الحقيقة العلمية المقدسة ألبتة .. والقول الذي يردده الكهنة ؛ بأن ذلك إنما يعبر عن إرادة الشارع المقدس ورأيه , الرأي الذي لايجوز الخروج عنه أو حتى محاولة فهمه من جديد ، هذا القول على خلاف الفطرة والطبيعة وعلى خلاف النص يقيناً .

إن تعليل الأحكام تبعاً لهذا القول ناشئ من السلوك الفرقي المعلل داخل معلومة الخوف من الوقوع بالمحذور ــ القياسي ــ (17) فالقياس مرفوض تبعاً لذلك السلوك ، وليس لأنه ممارسة تجريبية وعقلية خاطئة ، وماورد منسوباً إلى الإمام جعفر الصادق (ع) ليس على ما ينبغي ، لأن النسبة تلك باطلة من وجهين :

الأول : صحة الاستدلال بالشاهد على الغائب ، كما هو مقرر عند الكلاميين .

والثاني : صحة قياس الأولى وتنقيح المناط ـــ القياس المنصوص العلة ـــ كما هو مقرر عند الأصوليين .

هذا من الناحية الفعلية وأما من الناحية الروائية والخبرية فبطلان النسبة من جهتي السند والمتن ، أعني ضعف السند التاريخي وسلسلة الرواة ، وضعف الدلالة فيما نحن بصدده . ولكن رفض القياس سجل فرقاً على أساس جملة امور ومراتب منها الاعتباري ومنها الخبري ، وهو في كل ذلك أبتعاد عن منطق الخبر والاعتبار المشار إليهما ، في الصحيح منه تحت ضابطة ــ الموافقة والمخالفة ـــ المشار إليها بلسان الروايات والأخبار أصولياً . وقد جرى تمديد هذا الرفض في كتب المقالات والفرق وكتب الفقه ، وصار الحكم من خلاله حُكماً جزافياً يمارس التراكمية في النعوت تارةً بالخروج من الدائرة وطوراً بالتكفير والتضليل والتفسيق ، وشواهد التاريخ حية ناطقة على ذلك . والرفض السائد تؤكده التربية والتعليم والتثقيف الفرقي ، في ظل قوى الصراع السياسي بين شكلي ــ المرجعية والسلطان ــ ،

والرفض مؤكد عليه بالفكرة القائلة ــ خذ بما خالف الآخر ــ وإبعاده عن ساحة الصراع حتى لايدلي بمعلوماته في مادتي ــ الخبر والرواية ـــ ولأجل ذلك قدمت المصلحة الخاصة وعممت على أساس القرب والبعد من الدائرة الإلهية . مع التأكيد بأن ـــ الدائرة الإلهية ــ قد استبدلت بمسوخ مرجعية الرجال وصنمية الوعاظ والكهنة ، الصنمية التي وقفت حاجزاً بين الإنسان وأحكامه ، وبين النظرية والتطبيق ، وبين الفكر والممارسة .

***

ولعلنا لا نجافي الحقيقة إذا ما اعتبرنا الاستبدال قد تَّم بمؤامرة قام بها بعض المتفقهة ورجال الوعظ المملوكي بهدف إلزام الفرد والمجتمع بقضايا وأفكار ومسائل هي من خارج وعيه وعقله وضميره وإراته وحاجته ، وقد جرى تعميم أفتراضي لهاذ الإلزام من خلال الفتاوي والأحكام . وأصبح الإلزام خاضعاً ضرورة للمادة المختارة من الأطر الفرقية بحيث غدت مادتا ــ الخطأ والصواب ــ ما يقرره المذهب وليس ما تقرره الحقيقة والطبيعة والمصلحة والغاية في بعدها الإنساني والأخلاقي .

وإذا كنا ممن يدعون إلى إعادة بناء المشروع الإسلامي حسب المبادئ التي سجلتها رسالة السماء في مجال التربية والعلوم والحضارة ، فإننا نلتزم بالموقف الأصولي العام من قضايا الأخبار والروايات ، الموقف الذي يصنف الخبر بحسب مادته اللغوية وأدواته المعنوية وزمنه التدويني وسنده التاريخي ، وموضوعه الذي تحرك فيه سواء اكان  ــ في العقيدة والشريعة ام في التاريخ ــ الخبر الذي يتم أختياره معرفياً في معاني الدلالة والمضمون لا في شكلية اللفظ والنظم الجامدين ، وهنا نكون قد حققنا لمبدأ الإصلاح قيمته المعرفية والإيديولوجية تأريخياً وموضوعياً ، ولهذا نعتقد ان إنجاز الإصلاح يتطلب وعياً مركباً ودقة وتدبراً وصبراً ، ذلك لأن المادة المعروضة واسعة ومكثفة ومصاغة بعبارة معجمية خاصة تنتمي إلى ظرف زماني وتاريخي خاص .

وللأمانة العلمية يلزم القول : ــ إن بعض فقهاء العصر الحديث أبعد ما يكونون عن قضايا التحرر الفكري والعلمي ،

ذلك لأنهم يلتزمون صيغاً جامدة ، ويستخدمون آليات وأدوات عمل متخلفة ورديئة ، وهم كذلك يُعيدون إنتاج ما قد سلف بشكلانية تراثية وقراءة توقيفية في ـــ البناء للمجهول ـــ من دون ملاحظة المتعلق والشأن في الزمان والمكان .

إن البداية المشروعة تقتضي أولاً : رفع حالة الجدل المرجعي المصاغ ضمن مادتي ــ الربح والخسارة ـــ في إطارهما المادي الضيق والمرتبط بالتكتل الطائفي ــ والكانتون ـــ السياسي ، الإطار الذي أدى إلى انفكاك بين مادتي العمل والإنتاج ، الإطار الذي أفقد في الإنسان حسه الوطني وشعوره بقضايا العدل والحرية والاستقلال والتقدم وحقوق الإنسان والشورى .

وثانياً : الفصل بين الدين ورجاله ، ذلك لأن ممثليه هم أقل الطبقات الأجتماعية ثقافة وعلماً وكفاءة وشعوراً بالمسؤولية تجاه قضايا المصير والهوية والانتماء والتاريخ والارض ، ناشئ بفعل العوامل البيئية والمتلقيات الفكرية ولغة الخطاب السائد في اوساطهم ، والفصل حلٌّ للمشكل الآجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي يواجه المجتمع .

وثالثاً : الفصل الزماني والمكاني في الأحكام على الأصيل والوافد ، والركون إلى الواقعية في تبني الاحكام ، والابتعاد عن المثالية فهي على الضد منها بقرينة واقع الحال ، وهذا يعني أن لكل شعب رجاله تصديقاً لقوله تعالى : ( وما أرسلنا من رسول لإَّ بلسان قومه ) (18) وهذا الفصل تمييز واقعي يحدد العلاقة بين الجذر والهوية وبين الانتماء والواقع .