مقدمة ... في التصحيح والإصلاح الديني :

في البداية لابد من الاعتراف بأن قضية التصحيح والإصلاح الديني حاجة تتطلبها حقائق الواقع الموضوعي والنسبي في عالمي الإمكان والوجود ، وهي إعادة تقويم في بناء المشروع الإسلامي ليكون أكثر قدرة في أستيعاب حركتي التطور التأريخي والأجتماعي ..

والتصحيح والإصلاح ممارسلت واعية في العمق مهمتها القيام بعملية التعريف بمناط التكليف وعلله ، وهما كذلك تغيير وصيرورة أجتماعية وتاريخية طبيعية ولذا فهما لا يتحددان في الزمان والمكان ، وهدفهما دائماً تحقيق السعادة والفضيلة والعدالة والخير العام ، ولذلك فهما دائماً إبداع في وعي الزمن وإبداع في عقل الزمن ، وهذا الإبداع هو المشار إليه بالاجتهاد لما بعد النص ، وهو بهذا اللحاظ التقريري على الضد دوماً من الانقباض والتكلس والتحجر والدوران في حلقات مغلقة ، وهذه الضدية من الملازمات الضرورية إذ هي عبارة عن تناقض في الجوهر وعلى كافة الصعد والمستويات والضدية من الملازمات الطبيعية التي من خلالها يتميز الحق عن الباطل ، والصواب عن الخطأ ، والحلال عن الحرام .

ولأن ذلك كذلك فهو يحتاج إلى :

أولاً : أمتلاك أدوات معرفية راقية تأخذ بالحسبان طبيعة عالم الإمكان من االتغيّر والتحول والتبدل .

وثانياً : يحتاج إلى رؤية موضوعية واقعية ذات أهداف استراتيجة متحركة ، تأخذ بالحسبان مَبَدأي الزمان والمكان في الشكل والمضمون .

والإصلاح لايتم إلاَّ من خلال الالتزام المنطقي بالقواعد والمقدمات الصحيحة التي شكّلها وأنتجها العقل الكاشف ، العقل الحرّ ، العقل الطبيعي الواعي ، العقل الفاعل ، عقل الأرض والسماء .

العقل الذي يرُصد  الواقع ويحُلله بلحاظ زمانيته ومكانيته تحليلاً يقوم على شرطي الموضوعي والتاريخي عبر الاستقراء والقياس والبرهان الشمولي لكل ما يمكن تسميته دليلاً في طريق استنباط الحكم . ومجال العمل فيه لا يقتصر على الفقهي والكلامي بل يتناول كل القضايا والعناوين الاعتبارية الكلية والجزئية ، والتي هي في مجال عمله واختصاصه أولاً وبالذات .

إن الإصلاح قيمة حضارية شرطها الحرية التي هي ـــ عبارة عن أمتلاك الإنسان نفسه ـــ ونعني بالامتلاك الصيغة الحقيقة لا الاعتبارية ، وقد عرفناها هنا على سبيل الاستعارة والمجاز للتدليل عن حالة الناتج عنها بإعتباره تمثيلاً لواقعية متمحورة داخل مجال دائرة الاستنباط والتحليل والرأي والاجتهاد ، وهي الدائرة التي يفترض بها تقوم على لا عنف ولا كبت ولا جبر ولا إكراه ولا إلزام بما لا يلزم ،

وهذه إن تمت في دائرة علاقتها المفترضة صَحَّ مبدأ ــ العقاب والثواب ـــ وصار الإنسان بفعلها مسؤولاً عن وجوده ، وعن نتاجه ، وعن هويته وإنتمائه ، وعن حركته وتطوره وتقدمه وعما يؤول إليه ... والمسؤولية هنا جزاء الشرط ، أي المسؤولية في إطارها الموضوعي والتاريخي والتي تشكل هنا شرطاً واقعياً مسبقاً ، شرطاً ــ للعام وللمطلق ــ .

ومن مهام الإصلاح الرئيسية ــ التعرف على الحق والتعرف به ، فالحق عنوان عام يستبطن مجمل قضايا الوجود والإمكان ، ويستبطن العوالم الربوبية واليتافيزيقية ، ومنه تترشح القوى الحركية الفاعلة والديناميكية ، وهو أستنباط واقعي بلحاظ زوج [ الشهود والوجود ] .

ولهذا فبالحاظ القيمي يعتبر الحق كلٌ لا يتجزأ لأنه في ذاته يحمل المعنى الطبيعي للحقيقة ، التي حاول جمهور الفلاسفة تمييزها عنه مرحلياً ، وهو تمييز في الدرجة الأولى نسبي ويخضع لقواعد ومقدمات الوعي ولارتقاء والتقسيم اللغوي والدلالي . ولهذا التمييز ما يبرره في الوجود الموضوعي الخارجي ، ولكنه ليس عنواناً للصواب على الدوام ، لأن التمييز هنا أيضاً تمييز واقعي ويرتبط بقضايا جدل الإنسان والطبيعة ، وجدل الإنسان والله ، وجدل الإنسان الذات ، والإنسان الموضوع ، وهذه الجدلية تثير هنا مجموعة أحداث ومفاهيم لها في الواقع الطبيعي الحركي تمثلات موضوعية خارجية ، وإن هذه الإثارة موضوعية بلحاظ ذات الجدلية ، ولكنها تمثل بالنسبة لنا عصب العملية ، طالما نحن نخوض تجربة النقد الذاتي والموضوعي لكل ما نسميه عقلاً إسلامياً ، سواء أكان مُكَوَّناً أو عقلاً كما أصطلح عليه فلاسفة اليونان ولاغريق أو عقلاً كاشفاً كما اصطلح عليه متكلمون وأصوليون وعرفاء عرب .  

فالنقد بحد ذاته : عملية كشف واعٍ يقوم بها العقل من خلال أدواته ومنظومته ووسائل إنتاجه ، كشف للخليط اللامتجانس الذي صنعته قوى الاستبداد السياسي والديني ، أعني الخلط بين التأريخي والفقهي والكلامي ، هذا الخليط الذي أدى قهراً إلى تأسيس واقع غير منتظم وغير مبدع مما أنتج أحكاماً تراكمية مكررة مجترة منقبضة ، وأنتج كذلك كماً هائلاً من الخلافية والذرائعية والتبريرية والعصمة و و و ... نتاجات لا لزوم لها في الواقع الطبيعي والحياتي المتجدد والمتطور . وهذه النتاجات ضد الزمن والإنسان والتاريخ والإسلام الذي اكدته النصوص الصحيحة والمنادي إليها بلسان الواقع ، وهذه النتاجات شكلت تناقضاً واضحاً بين الواجب والممكن ، أعني التناقض الحاصل بين النص وطريقة الإنتاج ، مما يجعل إمكانية الصيرورة في الأحكام غير ممكنة او مستحيلة بلحاظ مستوى التطور والتقدم الواجبين . ولذلك عدنا نعتمد الماروائية السلفية التقليدية وتقديس مقالة من سبق ، وصيّرنا الأخيرة حجة ثانية مع أنها في الواقع نزوع ضد التاريخ وضد الزمن ، وضد الطبيعة ، فتباعد عندنا الحكم عن موضوعه ، كما تباعد الإنسان عن ثقافة عصره ، حتى غدا الإصلاح لهذه العلل والأسباب مجتمعة حاجة ومطلباً إنسانياً رفعياً ، وغدت الحاجة ماسة للتمييز بين ما هو تاريخي وما هو فقهي وما هو كلامي ، لأن التمييز في تلك الحالة يجعلنا اكثر واقعية وملامسة للحكم على الأشياء وتسمياتها ...

والإصلاح أيضاً تنبيه في عدم الاستغراق في الطوباوية والمثالية والاختزال والماضي ، لأن الإصلاح دعوة للحق وإظهار للحقيقة ودفاع عن العدالة والحرية وحقوق الإنسان والشورى .. فالدمج القهري غير مبرر وغير مقنع لأنه تعبير عن ممارسة سياسية وليست دينية ، وهو قريب الصلة بعالم التسويف واليأس والقنوط منه إلى الإبداع والخلق والتطوير ، ولعل هذة الممارسة هي وليدة ذلك الجو السياسي الحاكم آنذاك ... ويهتم الإصلاح في طبيعته بقضية الكشف عن ذلك وبيان صوابيته وخطئه ، وهو يصبح أكثر أهمية إذا تعلق في مجال العقيدة والشريعة ، المجال الأكثر حيوية وخصوبة مادة وموضوعاً ، المجال الذي جرى عليه تزييف وقوننة لماهيته ، خاصة من قبل السلطات المرجعية الحاكمة ـــ السياسية والدينية ــ حيث عملت من أجل جعله يتناسب وحجم واقعها وما ترغب وما تريد ، وبالتالي قولبته ليصبح جزءاً من وجودها الفكرية والاستفادة منه كعنوان مرخص به ليؤدي دوراً مزدوجاً :

1 – على الصعيد الداخلي بأستخدامة كأداة لقمع المعارضين وأصحاب الرآي الآخر .

2 – على الصعيد الخارجي بأستخدامه كأداة لإشعال الحروب والنزاعات وأعتماد الإرهاب والإغتيال وذلك لإسكات الصوت المعارض من أجل الحصول على مزيد من الأموال والغنائم ..