مبدأ السيادة لدى بودان

يعتبر بودان صاحب نظرية السيادة المطلقة في العصور المتأخرة في أوروبا . فيعد أن نشر كتابه الجمهورية حاول أن يحدد معالم السيادة . فهو يعتبرها أمراً دنيوياً محضاً . لذلك فالسيادة للملك على رعاياه خاضعة لقانون الطبيعة والمتطلبات النظام الأخلاقي . غير الملك سيداً من جهة كونه صاحب سيادة بشرية . ولهذا جاء تعريفه لها ؛ بأنها السلطة العليا الأبدية على المواطنين والرعايا في الجمهورية . وهذه السلطة ينبغي أن تكون أبدية . لأنها القادرة على أعطاء القانون وخرقه . وقد اعتمد على الملاحظة التاريخية في اثبات منهجية نظرية . لأنه يعتبر التاريخ يتضمن القسم الأكبر من التاريخ العام . ولكنه في الوقت ذاته ينتقد طريقة ميكافيلي في فهم التاريخ ويعتبرها ناقصة . قادته إلى واقعية زائفة . فنظرية ميكافيلي غير حقيقة وغير موضوعية . لأنها تعتمد على فصل السياسة عن الأخلاق . وهذا النوع من التصور هو المنحى الاستبدادي الذي كان صاحبه ميكافيلي في فهمه للسيادة والنظام ، ولكن بودان لا يختلف عنه كثيراً . لأنه يجعل من الملك حاكماً مطلقاً إلى الأبد طوال حياة الشخص المالك للسلطة . وذلك خلافاً لأولئك الذين يرون انهم ليسوا سوى اناس عهد إليهم بأمر ما . وأنهم يحتفظون بسلطة السيادة إلى أن يعلن للشعب أو الأمير الذي اعطاهم اياهم أن يسترجعها ؛ فإذا ما أعطى الناس كل سلطتهم إلى أي واحد طالما هو على قيد الحياة سواء أكان قاضياً أو نائباً أم حاماً . أو لمجرد تخليص أنفسهم من ممارسة سلطتهم فإنه لا يعتبر في هذه الحالة سيداً بل موظفاً بسيطاً او نائباً أو وصياً او حاكماً أو قيماً على سلطة أخر . ولكن إذا ما اعطى شخص ما هذه السلطة المطلقة خالصة وببساطة دون أن يسمى قاضياً أو حاكماً أو نائباً أو أي  شكل أخر من أشكال الوكالة . فمن المؤكد أن مثل هذا الشخص يسمى أو يحق له أن يسمي نفسه ملكاً سيداً . لأن الشعب قد تنازل بطوعه عن سلطة السيادة ليخولها إلى شخص آخر . ويلقي على عاتقه كل السلطات والصلاحيات والسيادات التي تشتمل عليها ، ولكن هذا التفسير للسيادة المطلقة هو أن يجعل الناس تحت سلطة الحكام في الجمهورية دائمة وخالصة يتصرف بأموالهم وأرواحهم وجميع شؤون الدولة على هواه . ومن ثم يتركها لمن يرغب فيه من بعده مثلما يفعل المالك عندما يهب دون ان يذكر سبباً . سوى ان كرمه دفعه إلى ذلك . وهذه هبة حقيقة لا اقيدها الشروط بعد امضائها بعد امضائها وانهائها على الوجه الصحيح ، بحيث تكون السلطة معزولة تماماً عن الشعب ؛ وبودان يعتبر الأمير أو الملك ظل الله وأن لا سلطة تحاسبه على اعماله مهما بلغت م الصرامة والشدة والاكراه إلا الله ، وهنا إذ لا يعتبر الملك نفسه جزء من الجولة والشعب ، بل هو الكل المطلق الذي لا ينافسه أحد ، وتجد عبارته في كون الأمير ظل الله واضحة كالتالي ؛ وكما أن الله وهو الرب العظيم لا يستطيع أن يصنع إلهاً أخر مساوياً له . لأن له قوة وعظمة لأحد لهما . ولا يمكن أن يكون هناك شيئان لا نهاية لهما .  كما تدل على ذلك القرائن فإنه من الطبيعي أن الأمير الذي قلنا عنه بأنه ظل الله لا يستطع أن يجعل واحداً من افراد رعيته مساوياً وإلا انتفص من سيادته . وهذا اللون من الرؤية لا يجعل الأمير في قمة الهرم من السلطة بل فوق القمة .

إن نظرية بودان لا تختلف كثيراً فيما ذهب إليه هوبز في السيادة أو الآله الفاني . لأنهما يرونها حق الإستقلال التام والسلطة العليا الذي هو حق طبيعي ومصون ، وحق في استقلال وسلطة يعتبران في مجالهما أعلى مما سواهما بصورة مطلقة ومجردة وليس بصورة نسبية . أو باعتبارهما أعلى جزء في الكل لأن استقلال الأمير وسلطته تقع في المرتبة العليا . وهما منفصلان عن الكل فاستقلاله وسلطته ليسا استعلائيين فقط بالنسبة إلى قسم أخر من الكل السياسي . لكونه في قمة أعلى جزء من هذا الكل . بل انهما استعلائيان بصورة مطلقة . لكونهما فوق الكل منفصلين عنه ، وتأتي هذه النظرة الراديكالية من مفهوم الإنسان عندهم كونه شريراً يطبعه وإلا فإن نظرية السيادة إذا اخذت شكل الأستعداد فإنها تفقد في الإنسان هويته وأرادته . وتجعله ميالاً كثيراً إلى قبول قهري الزامي بأحكام السلطة ، وهذا التجني على الفرد إنما هو النظرة التامة إلى فلسفة السيادة داخل في مصلحة السيد أو الأمير . وهي فلسفة تجريدية تنفي عن المجتمع طابع الإيمان الفطري بحقوقه الإجتماعية في الحرية والمساواة والعدالة أمام القانون . وفي الحقوق الملكية العامة والمباحة . ولعل التصور السياسي الذي مال باتجاهه عدة من المفكرين الأوروبين ، أصحاب النوعة الاستعلائية إنما كانت ميولهم باتجاه تحقيق الفرد الحاكم . لا ان المصلحة الأجتماعية الذاتية كانت الهدف السياسي الذي يجب ان تصان فيه حقوق الرعية . وأن جدلية التبادل الايجابي تظل عقيمة ، لأنها لا تتفق مع رغبات السلطات وأصحاب الفكر الاستعلائي .

بل لعلها تجابه برفض عنيف يولد مشاكل جمة باتجاه مجموعة قد لا ترى فيها ذات الرأي ، ان مبدأ السيادة المطلقة لا يركن إلى دليل ولا يهتدي إلى عقل . بل كل ما يمثله من نظام هو بناء فوقية مقيته من القوانين القسرية . التي تدعو إلى الإيمان بالحاكم المستبد دون وجه حق ودون أدنى دليل . ومن هنا كان هذا المبدأ يحارب الانسان في ذاته ويكبل فيه حريته ويجعله اسير شهوات الحاكا الذي لا يرعى للمبادئ والقيم الانسانية أية رعاية . فأكثر ما يمثله فلسفة حكمه دفع الكافة إلى قبول حكمه . وبهذه الفرضية السابقة لأنه بالاعتبار الذاتي له يمثل الكل المطلق . في حين لا يمثل الشعب حتى الجزء المفترض الطاعة ، ولأجل هذا الاتجاه فالمبدأ محارب من كل وجه لأنه يحارب الانسان ويمتهن الوجود ويحطم الكرامة ويحرق السيادة الشخصية .

ويجعل الكافة آلة ووسيلة غايته البيع والقتل والخوف والدمار وكل الشهوات الحيوانية الضالة والمفترسة ، ولمجموع الاعتبارات السالفة تلك كان تبرير هذا المبدأ من الناحية العقلية خيانة للضمير وللشرف الإنساني الكبير . ولعل الاتجاه السياسي المعاصر عند المفكرين يرفض ذلك الاتجاه بصورته المظلمة . لأنه يجعل السلطات جميعاً بيد الحاكم وهي بدورها لا تمثل إلا إرادته ورغبته ، أن عجز المجتمعات الأوروبية عن صياغة نظام حكم سياسي يأخذ بالاعتبار كافة تطلعات الفرد والجماعة . يوحي بأن القائمين على هذا الأمر إنما ينطلقون من النزعة الذاتية التي تأخذ بالحسبان رؤية المجتمع واتجاهاته المختلفة وتطلعاته وآماله نحو العدل والحرية والكرامة والاستقلال . بحيث يشعر قبل كل شئ بوجوده كانسان نافع يشارك في بناء الحياة الأنسانية السعيدة ؛ ولذلك تعتبر كلمة السيادة من المصطلحات الأساسية في الفكر السياسي المعاصر . وذلك لأن الدولة المعاصرة شعرت بحاجتها الضرورية لممارسة حقها في الدفاع عن نفسها من الأخطار الخارجية . ومن التدخل المباشر في شؤونها الداخلية . فضلاً عما تعنيه كلمة السيادة من تمتع الدولة بسلطة عليا تمارس بمقتضاها سلطة الأمر والنهي على رعاياها في ظل الدستور ، الذي يعتبر القانون الأسمى في الدولة ، وكانت فكرة السيادة قد نشأت في االتاريخ السياسي الأوروبي للدفاع عن حق الملوك والأباطرة في مواجهة القوى الخارجية التي كانت تتطلع باستمرار للتدخل في اختصاصاتهم السياسية لاعتبارات متعددة . منها ما يدخل ضمن الصراع الديني الذي كان قائماً . باستمرار بين السلطتين الزمنية والدينية حيث كانت السلطة الكنسية تحرص على أن تمد سلطاتها وتبسطه باسم الكنيسة . للحد من سلطان الملوك كمظهر من مظاهر صراع الأقويا . للتحكم في شؤون الشعوب التي تجد نفسها باستمرار أسيرة تحالفات غير أخلاقية . للحد من تطلعها للحرية وللمطالبة بحقوقها المشروعة ، ولما تمكنت السلطة الزمنية من احكام قبضتها على السلطة . وتصفية نفوذ السلطة الكنسية باسم السيادة ابتدأت توسع من مدلول كلمة السيادة على المستوى الداخلي . لكي تكون أجاة القمع السياسية لمواجهة تطلعات الجماهير ومطالبها ، ولهذا فسر معنى السيادة حسب مراد السلطة السياسية . ذلك انه لم تكن كلمة الشعوب مطروحة في ذلك الحين . في مجال البحث عن الفكر السياسي . وذلك لأن السيادة كما حرص أباطرة أوروبا على تفسيرها . يستمدها الحاكم من الله مباشرة ، باسم الحق الإلهي المقدس وبالرغم من الجهود التي بذلتها الكنيسة لتقليص نفوذ الملوك . فقد اضطرت للاقرار بفكرة التفويض الإلهي الدي يمنح الملوك سلطة دينية عليا يتمكن بها الحاكم من تدعيم نفوذه امام الجماهير ؛ ومن الطبعي أن تلك النظريات لم تكن في مصلحة الجماهير والتي بدأت تشعر بتحاليف غير اخلاقي بين الكنيسة والملوك . لذلك تخلت عن التزاماتها تجاه الكنيسة شيئاً فشيئاً ، وهذا ما جعل صورة الكنيسة تهتز في المجتمعات الأوروبية . وبالذات خلال ظهور النظريات الاجتماعية التي يقودها فلاسفة الثورة الفرنسية ، وعندما أبتدأ عصر ما يطلق عليه بالنهضة الحديثة . بدأت تلك النظريات العتيقة تتساقط أمام موجة الرفض الجماهيري لها وظهور النظريات الاجتماعية في الفكر كنظرية العقد الإجتماعيي . ولعل هذا المصطلح قد طرح عند فلاسفة عصر النهضة من أمثال هوبز وروسو ولوك .  

   . ولكنهم اختلفوا في تقدير حجم التفويض الذي منحته الجماعة للحاكم . وبالرغم من أن نظرية العقد الاجتماعي بالمفهوم الذي طرحه فلاسفة عصر النهضة لاقت شديداً من رواد الفكر السياسي المعاصر . لأنها تقوم على أساس افتراض وهمي خيالي ليس له أي أساس من الصحة ، لكنها على أي اعتبار ساهمت إلى حد معين في تقيد دور السلطة المطلقة . التي كان الملوك يمارسونها . وأنها ساهمت في ما يبدو في بروز فكرة الدولة القانونية .التي يخضع فيها الكل إلى حكم القانون . القانون الاسمى الذي ترتضيه الأمة والمسمى بالدستور .