مبدأ الحرية لدى منتسكيو

 

يبدو أننا لا بد أن نناقش أصحاب النزعة القائلين بمبدأ الحريةكلوك ومنتسكيو فهو من حيث الفلسفة دستوري ليبرالي
. وهو بذلك إنما يشابه لوك . لكنه يختلف معه من حيث المنهج . فهو لا ينطلق من مبادئ أولى رياضية أو هندسية . بل أنه يضع نقطة عند ملاحظة الوقائع ويبدو انه قد برع في هذا المجال وعليه فقد تخطى أي مفكر سياسي أخر كأرسطو وابن خلدون أو بودان . لأنه حاول أن يمتد بنظره تجاه مجمل القوانين التنظيمية للمجتمعات السياسية على طول الزمان والمكان . وكان إلى جانب ذلك يمتلك من القناعة ما تؤهله لمعرفة القوانين . لأنه ينظر إليها كعلاقات ضرورية تستمد من طبيعة الأشياء . ولذلك جاءت ملاحظات مقنني السياسة عن منتسكيو منسجمة مع هذا التوجه . فيعتبرون ؛ أن منتسكيو لم ينسجم في كتابه روح الشرائع على منوال الذين سبقوه . فلم يسترسل في مناقشات ميتافيزيقية كتلك التي يسترسل فيها الذين يتصورون تجريدياً . ولم يقتصر كسواه على تناول بعض الشعوب في أحوال خاصة . ولكنه تناول جميع سكان العالم وتطرق لأحوالهم الحقيقية . ودرس كل ما يقوم بينهم من علاقات . وقد لا تكون النظريات التي توصل إليها في بحثه الدائم عن أصول المجتمعات السياسية . دليلآً في الأحاطة التامة عن معلومات المجتمعات الأخرى . وإن كان يلاحظ فيه تتبعه لبعض الجزئيات في المجتمعات العالمية . وربما سجلت عليه تلك الملاحظات كأحد عيوب نظريته السياسية . ولهذا الأعتبار حاول تفنيد تلك الملاحظات , بارجاع ذلك إلى ذاتية القوانين والطبيعيات والسياسة . بحيث لا يمكن أعتبار رذائل السياسة كلها رذائل خلقية . وليست كلها رذائل سياسية . وبذلك يوجه العناية إلى اللاهوت . ويعتبر نفسه يتحدث إنسانياً عن المنتظم الإنساني للآشياء , وسياسياً عن المنتظم السياسي . فيدافع بذلك عن أعمق ما يؤمن به . وهو أن علم السياسة لا يمكن أن يبني إلا على موضوعه الذاتي . أي على الاستقلال التام للسياسة من حيث هي , وبهذا يكون قد تخطى المنهج الأستقرائي لأرسطو في تصنيف المجتمعات السياسية . وبذلك يكون ما كتبه في هذا المجال , يفوق ما توصل إليه هوبز ولوك وهيوم . وهذا يعود إلى أنه تابع الوقائع والظواهر دون المبادئ والجواهر . كما أنشغل بها لوك وجماعة من المفكرين الأوروبين . لأن ؛ علمهم كما هو واضح يبعد عن علم منتسكيو بعد طبيعيات ديكارت النظرية عن طبيعيات نيوتن الأختبارية . وهذا البعد في متناول الموضوع يقترن بثورة في المنهج . وإذا لم يكن منتسكيو أول من تصور فكرة تكوين طبيعيات أجتماعية . إلا أنه من أراد أن يعطيها روح الطبيعيات الجديدة . فلم ينطلق من الجواهر بل من الوقائع . وأستخراج القوانين من الوقائع التي لاحظها . لقد أعتمد منتسكيو في دراسته لأنتاج نظريات ضخمة . كنظرية فصل السلطات التي صارت مصدراً في دراسة الدستور , ولكن النظرية ظلت عاجزة عن مجازاة الواقع الأجتماعي للمنظمات في الدول الأخرى . لأنه بنى تصوراته على ملاحطة المنتظم السياسي البريطاني . ولذلك فملاحظاته تلك لم تكن بالمستوى الأكاديمي . الذي يمكن تعميمه على المدارس السياسية المختلفة . ولكنه مع ذلك يحتوي على نوع من الأيجابية الموضوعية التي يمكن ملاحظتها بصور مختلفة من الأتجاهات المنهجية في علم السياسة , ومع كل هذه الملاحظات التي يمكن تصويرها . لكنه يظل من أولئك الذين ساهموا على قدر ما في كتابة العلم السياسي وبحوثه التجريبية في المجتمع والدولة بشكل واسع ؛ أن منتسكيو كمفكر سياسي له طريقته في تصنيف المنتظمات السياسية . والذي يدقق النظر يلحظ عنده مرحلتين . الأولى ؛ المرحلة التي يصنف فيها المنتظمات السياسية تصنيفاً أستقرائياً , والثانية ؛ المرحلة التقييمية التي يصنف فيها الدولة المثالية أو المنتظم النموذجي , ففي الأولى يستخدم مقولة العدد . لكنه يضيف إليها فكرتي طبيعة الحكومة ومبدأها . وفي الثانية يعتمد على مقولة الحرية . وقد يتسرب إلى تصوراته حاجات تأريخية تأخذ قسطاً وافراً من تفكيره مع أنه يعتمد الملاحظة في البحث . ولقد تطرق منتسكيو إلى مبدأ له علاقة في البحوث السياسية في الوقت الحاضر . وهو مبدأ الأليات والوسائل التي قد تنسجم في المبادئ المفضلة . والظاهر أن التقسيم الذي يعتمده في تصنيف الحكومات هو التقسيم اليوناني الثلاثي . فعنده الحكومة على أنواع ثلاثة هي ؛ الجمهورية والملكية والمستبدة . ويكفي لآكتشاف طبيعة الحكومات ما عند أقل الناس ثقافة عنها من فكر عنها . وأفتراض ثلاثة تعاريف بل ثلاثة أمور ومنها أن الحكومة الجمهورية هي التي تكون السلطة ذات السيادة فيها للشعب جملة أو لفريق من الشعب فقط . وأن الحكومة الملكية هي التي يحكم فيها واحد ولكن وفق قوانين ثابتة مقررة . وذلك بدلاً مما في الحكومة المستبدة من وجود واحد , بلا قانون ولا نظام . فيجر الجميع على حسب إرادته وأهوائه , ويظهر بذلك أن نظرية العدد والقانون تتداخلان في تحديد طبيعة المنتظم السياسي . ولكن ليست هي تمام التصور لأن هناك كمبدأ الوجود له . ولذلك ترى العبارة تامة ؛ لأنه يوجد بين طبيعة الحكومة ومبدئها فرق , أن طبيعتها هي التي تجعلها كما هي . وأن مبدأها هو الذي يجعلها تسير وأحد الأمرين هو كيانها الخاص , والأمر الأخر هو الميول البشرية التي تحركها , فالأول هو المكان والقدرة فيه والثاني هو المقوم لها , ولهذا فعنده مبدأ المنتظم الديمقراطي هو الفضيلة والارستقراطي هو الأعتدال . ومبدأ المنتظم الملكي هو الشرف أما الأستبدادي فهو الخوف . ويظهر لديه أن المنتظم الديمقراطي أحوج إلى الفضيلة لأنه ؛ لا أحتياج إلى كبير صلاح في الحكومة الملكية أو الحكومة المستبدة حتى يستقيم أمرها . أو تبقى فقوة القوانين في الأولى , وذراع الأمير المرفوعة دائماً في الأخرى تنظيمات أو تمسكات كل شئ ولكنه لا بد للحكومة الشعبية من نابض زيادة لا بد لها من الفضيلة . وما أقوله يؤيده التأريخ بأسره ويلائم طبيعة الأمور كثيراً
وذلك لأن من الواضح أن يحتاج في الملكية حيث يرى من يأمر بتنفيذ القوانين أنه فوق القوانين إلى فضيلة أقل مما في الحكومة الشعبية . حيث يشعر من يأمر بتنفيذ القوانين بأنه خاضع لها بنفسه , وبأنه يحمل عبئها .
والفضيلة في الجمهورية أمر بسيط جداً فهي حب الجمهورية , وهي شعور لا نتيجة معارف . ويمكن آخر رجال الدولة أن يكون حائزاً هذا الشعور كأولهم , أن حب الجمهورية في الديمقراطية هو حب للديمقراطية وأن حب الديمقراطية هو حب للمساواة . وهنا التعليق ينسجم مع الدولة الديمقراطية التي تؤمن بمبدأ الفضيلة وحب المساواة . في حين لا تقوم الأستبدادية إلا على عامل الخوف والأرهاب , ولذلك ؛ فلا ضرورة للفضيلة فيها مطلقاً ويكون الشرف فيها خطراً ويجب أن يحكم في الشعب بالقوانين وفي الأكابر بهوى الأمير , وتستلزم طبيعة الحكومة المستبدة طاعة متناهية . فإذا ما عزمت إرادة الأمير مرة كان لها الأثر المقدر كالذي تناله الكرة من الأخرى عندما تطرح عليها , وليس هناك مزاج ولا تبديل ولا اصلاح ولا مواعيد ولا اكفاء ولا مفاوضات ولا ملاحظات مطلقاً , ولا شئ يعد نداً أو اصلح من سواه للاقتراح . فالإنسان مخلوق يطيع مخلوقاً يريد , إذا ما أراد همج لوزيانه نيل ثمرة قطعوا الشجرة من أسفلها وأقتطفوا الثمرة فهذه هي الحكومة المستبده . والذي يبدو أن منتسكيو لا يطرح منهجاً مقارناً بقدر ما يطرح وصفاً للأستبداد . الذي كان سائداً في عصره . ولذلك كانت مقارنته للمنتظمات السياسية قائمة على درجة من الوعي لبلوغ مبدأ الحرية والحفاظ عليه . ومحاصرة الأستبداد والقضاء علية . وهذا الأتجاه المقارن ما كاد ليصل إليه لولا طرح نظريته القائمة على فصل السلطات . بحيث صار كما تصفه الكتب السياسية الزعيم الفكري للأنظمة الدستورية الحديثه . والزعيم المنهجي للدراسات المقارنة الدستورية , ولقد توصل إلى هذا اللون من الفصل ملاحظاً الجو الميداني ومعززاً نظريته بالتجربة البريطانية . ولهذا فقد تراه يصف الحرية بتعبير يدلي فيه ؛ حقاً أن الشعب في الديمقراطيات يصنع ما يريد . كما يظهر غير أن الحرية السياسية لا تقوم على صنع ما يراد مطلقاً . ولا يمكن الحرية في الدولة أي في المجتمع ذي القوانين أن تقوم على غير القدرة على صنع ما يجب أن يراد. وعلى عدم الأكراه على صنع ما لا يجب أن يراد . ويجب ان ينقش في الذهن ما هو الأستقلال وما هي الحرية , فالحرية هي حق صنع ما تبيحه القوانين . فإذا استطاع أحد الاهلين أن يصنع ما تحرمه القوانين فقد الحرية .وذلك لامكان قيام الأخرين بمثل ما صنع . ويعتقد منتسكيو أن الحرية أمر لازم الممارسة في الدولة والنظام , ولكنه لا يقوم على تجرد إنما يجب مراعاة النظرية القائلة بفصل السلطات . لكي يتسنى ممارسة السلطة لحقوقها دون وصاية أو حق قهري يلزم بنقض القانون وصيانة الفرد الحاكم . والرأي الأكثر أنسجاماً عنده هو المحافظة على نفوذ النظرية . لأن الحرية السياسية للمواطن تقوم على اطمئنان النفس وهذه ؛ تنشأ عن رأي واحد حول سلامته . ويجب لنيل هذه الحرية أن تكون الحكومة من الوضع ما لا يمكن المواطن معه أن يخشئ مواطناً آخر . ولا تكون الحرية مطلقاً . إذا ما اجتمعت السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية في شخص واحد . أو في هيئة حاكمة واحدة . وذلك لأنه يخشى ان يضع الملك نفسه . قوانين جائرة لينفذها تنفيذاً جائراً . وكذلك لا تكون الحرية إذا لم تفصل سلطة القضاء عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية . وإذا كانت متحدة بالسلطة التشريعية كان السلطان على الحياة وحرية الأهلين أمراً مرادياً , وذلك لأن القاضي يصير متشرعاً وإذا كانت متحدة بالسلطة التنفيذية أمكن القاضي ان يصبح صاحباً لقدرة الباغي , وبهذا يكون منتسكيو يخالف نظرية تجمع السلطات في يد واحد , وهذا التصور الذي أبطاه إنما يقوم على منهج الملاحظة المقارن . الذي شمل منتظمات سياسية متعددة في أزمان وأماكن مختلفة . ولكن معلوماته لم تكن صحيحة عن تلك المنتظمات , بحيث يمكن الوثوق إليها والتعويل عليها , لأن أكثر أحكامه إنما تقوم على منهج للملاحظة المقارنة . وهو منهج له أيجابية خاصة وسليبة عامة . ذلك لأنه قارن على حد المنتظم السياسي البريطاني . ونظريته في فصل السلطات هي ذاتها النظرية التي تمارسها الحكومة البريطانية . ولهذا فهو لم يحط بحقائق الأفكار السياسية العامة . لذلك فنظريته تبقى مجرد نظرية خاصة في مجال مبدأ الحرية . الذي هو أثمن حاجة للضمير الإنساني لما لها من قابلية منطقية في جعل الأنسان يحس بوجوده ومبدأه وحركته وسكونه . ولكنها تظل فوق مستوى التنظير لأنها بحاجة إلى تطبيق عملي , يجعلها بمستوى اللازم وفي الجوهر لا في الشكليات والظواهر . كما أعتقد منتسكيو ؛ وإليك ما جاء في الباب الحادي عشر من كتابه روح الشرائع . قال في الفصل الثاني : ( لا تجد كالحرية كلمة دلت على معان مختلفة ووقفت النفوس بأساليب مختلفة . فرأى بعضهم انها تنطوي على سهولة عزل من عهدوا إلية بسلطان طاغ ٍ . ورأى أخرون أنها تنطوي على حق أنتخاب من يجب عليهم أن يطيعوه , ورأى اناس غيرهم أنها تنطوي على حق التسليح والقدرة على ممارسة العنف , ورأى أناس سواهم انها تنطوي على عدم الحكم في القوم من قبل من لم يكن رجلاً منهم . أو بغير قوانينهم الخاصة . ورأى شعب طويل زمن أنها تنطوي على عادة أطلاق اللحى الطويلة وقد ربط هؤلاء هذه الكلمة بشكل للحكومة مبعدين الأشكال الأخرى منه . ومن تذوقوا الحكومة الجمهورية وضعوها في هذه الحكومة , ومن تمتعوا بالحكومة الملكية وضعوها في الملكية . وأخيراً أطلق كل كلمة الحرية على الحكومة التي كانت تلائم عاداته وأهواءه) وبما أن آلات الشرور التي يشتكي منها لا تبدو للعيون حاضرة في الجمهورية دائماً , وبما أن القوانين تظهر أكثر كلاماً ومنفذو القوانين أقل كلاماً فيها . فإن الحرية تجعل في الجمهوريات عادة . وتبعد من الملكيات . ثم أن الشعب في الديمقراطيات يظهر فاعلاً لما يريد تقريباً . فإن الحرية جعلت هذه الأنواع من الحكومات وخلط بين سلطات الشعب وحريته