فلسفة الحق الأول

ولا بد لمن أراد في عالم الفضائل العقلية أن يرى اثنتين تتعلقان بالحادثات ، وهما الفطنة والصناعة . وهاتان يفضلهما الايمان يقيناً باعتبار موضوعه ، لكونه يتعلق بالازليات التي لا يمكن أن تكون على خلاف ما هي عليه وأما الفضائل العقلية الباقية فهي الحكمة واعلم والفهم وكلها تتعلق بالضروريات ، وقد ينبغي أن الحكمة والعلم والفهم تعتبر من وجهين أولاً : من حيث يجعلها الفلاسفة في مقولاتهم الاخلاقية فضائل عقلية ، وثانياً : من حيث تجعل من مواهب الروح القدس . فعلى الوجه الأول يجب أن يقال أن اليقين يجب اعتباره من وجهين : أولاً من جهة علة اليقين فما كانت علته أيقن يقال أنه أيقن والإيمان أيقن الاعتبار أيقن من الفضائل الثلاث المتقدمة ، لأنه يستند إلى الحق الإلهي ، وهي تستند إلى الدليل العقلي ، وثانياً من جهة محله فما كان عقل الإنسان أتم ادراكاً له يقال أنه أيقن ، ولما كان ما يتعلق به الايمان فوق عقل الإنسان بخلاف ما ما تتعلق به الفضائل الثلاث المتقدمة كان الإيمان بهذا الاعتبار اقل يقيناً منها إلا أنه لما كان كل شئ يُحكم عليه بإعتبار علته مطلقاً وبإعتبار استعداد محله من وجه كان الإيمان أيقن مطلقاً والفضائل الأخر المتقدمة أيقن من وجه أي بالنسبة إلينا ، وكذلك لو اعتبرت من حيث هي مواهب الحياة الحاضرة كان الإيمان إليها نسبة المبدأ الذي تبُنى عليه وتقتضي تقدمه ، فهو إذن بهذا الاعتبار أيقن منها ، ولأنه فضيلة بذاته ينبغي أن يكون فعله كاملاً . وكمال الفعل الصادر عن مبدأين فعليين يقتضي أن يكون كل من المبدأين الفعليين كاملاً . فإنه لا يمكن إحكام النشر ما لم يكن الناشر عالماً بصناعة النشر ،   ولأن محل الإيمان هو العقل النظري كما مر جلياً من موضوعه . إلا انه لما كان الحق الأول الذي هو موضوع الأيمان غاية لجميع اشواقنا وأفعالنا ، أقتضى كون كل فعل وشوق متعلق بأصل الادراك وحقيقته الوجودية من هنا كان قول افلاطون :

أن شاهق المعرفة أشمخ من أن يطير إليه كل طائر وسرادق البصيرة أحجب من ان يحوم حوله كل سائر . صحيح لأنه يعلق تمام المعرفة بتمام الوجوج ولأن الثاني أقرب إلى فلسفة الحق المخلوق كان مبدأ العلم البرهاني قاصراً داركاً لهذه الحقائق على أساس فكرة الوجود المحض فما يتعلق بالبداء الغاية التامة فهذا مستحيل البتة . ولذا أشار الشيخ الرئيس بقوله : جل جناب الحق عن ان يكون شريعة لكل وارد او يطلع عليه إلا واحد بعد واحد . ومنه يتضح لك عين مقالة السهرودي القائل : الفكر في صورة قدسية يتلطف بها طالب الأريحية ونواحي القدس دار لايطأها القوم الجاهلون ، وحرام على الأجساد المظلمة ان تلج ملكوت السماوات فوحد الله وأنت بتعظيمه ملآن ، وأذكره وأنت من ملابس الأكوان عريان ولوكان في الوجود شمسان لانطمست الاركان وأبى النظام ان يكون غير ما كان . ولاشك أن الحق الأول هو السبب الأول لوجود سائر الموجودات كلها وهو برئ من جميع انحاء النقص وكل ما سواه فليس يخلو من أن يكون فيه شئ من انحاء النقص ، أما واحداً وأما أكثر من واحد ، وأما الأول فهو خلو من انحائها كلها فوجوده أفضل وأقدم الوجود ولا يمكن ان يكون وجود أفضل ولا أقدم من وجوده وهو من فضيلة الوجود في أعلى انحائه ، ومن كما الوجود في أرفع المراتب . ولذلك لا يمكن أن يشوب وجوده وجوهره عدم أصلاً ، والعدم والضد لا يكونان إلا فيما دون فلك القمر والعدم هو لا وجود ما شانه ان يوجد ، ولا يمكن أن يكون له وجود بالقوة ولا على نحو من الانحاء ولا امكان لا يوجد ولا يوجه ما من الوجوه ، فهذا هو أزلي دائم الوجود بجوهره وذاته من غير أن يكون به حاجة في أن يكون ازلياً إلى شئ آخلا يمد بقاءه بل هو بجوهره كاف في بقاءه ودوام وجوده ولا يمكن ان يكون وجود أصلاً مثل وجوده ، ولا ايضاً في مثل مرتبة وجوده وجود يمكن ان يكون له أو يتوفر عليه وهو الموجود الذي أن يمون له سبب به ، أو عنه أوله كان وجوده إذ ليس له علة صورية أو مادية أو فاعلية أو غاية ولهذا فإنه ليس بمادة ولا قوامه في مادة ولا في موضوع أصلاً بل وجوده خلو من كل مادة ومن كل موضوع وليس له صورة جسمية لأن الصورة لا يمكن ان تكون إلا في مادة ولو كانت له صورة لكانت ذاته مؤتلفة من مادة وصورة ، ولو كان كذلك لكان قوامه بجزئية اللذين منهما أئتلف ولكان لوجوده سبب فإن كل واحد من اجزائه سبب لوجود جملتة وقد وضعنا انه سبب فإن كل واحد من اجزائه سبب لوجود جملته وقد وضعنا انه سبب اول ، ولا ايضاً لوجوده غرض وغاية حتى يكون إنما وجوده ليتم تلك الغاية وذلك الغرض وإلا لكان يكون ذلك سبباً ما لوجوده ليتم تلك الغاية وذلك الغرض وإلا لكان يكون سبباً من لوجوده فلا يكون سبباً اولاً ، ولا أيضاً استفاد وجوده من شئ آخر أقدم منه وهو من أن يكون استفاد ذلك مما هو دونه أبعد ، وقد أشار الشيخ الرئيس في الاشارات والمبدأ والمعاد إلى ذلك بقوله : ولا يجوز أن يكون شئ واحد واجب الوجود بذاته وبغيره معاً فأنه إن رفع غيره ذاك أولم يعتبر وجوده لم يخل : أما ان يبقى وجوب وجوده على حاله فلا يكون وجوب وجوده بغيره وإما ان لا يبقى وجوب وجوده على حاله فلا يكون وجوب وجوده بغيره وإما ان لا يبقى وجوب وجوده على حاله فلا يكون وجوب وجوده بذاته .

لأنه مباين بجوهره لكل ما سواه ولا يمكن ان يكون الوجود الذي له لشئ آخر سواه ، لأن كل ما وجوده هذا الوجود لا يمكن أن يكون بينه وبين شئ آخر له أيضاً هذا الوجود مباينة أصلاً ولا تغاير أصلاً . فلا يكون اثنان بل يكون هناك ذات واحد فقط ، لأنه إن كانت بينهما مباينة كان الذي تباينا به غير الذي اشتركا فيه فيكون الشئ الذي باين كل واحد منهما جزءاً مما به قوام وجودهما ، والذي اشتركا فيه هو الجزء الآخر . فيكون كل واحد منهما منقسماً بالقول ، ويكون كل واحد من جزئية سبباً لقوام ذاته فلا يكون أولاً بل يكون هناك موجود آخر أقدم منه هو سبب لوجوده وذلك محال ، وإن كان ذلك الآخر هو الذي فيه ما باين به هذا ولم يكن في شئ يباين به ذلك إلا بُعدّ الشئ الذي به باين ذلك ، لزم ان يكون الشئ الذي به باين ذلك الآخر هذا هو الوجود الذي يخص ذاك ووجود هذا مشترك لهما فإذن ذلك الآخر وجوده مركب من شيئين من شئ يخصه ومن شئ يشارك به هذا فليس اذن وجود ذاك هو وجود هذا ن بل ذات هذا بسيط غير منقسم وذات ذلك منقسم فلذلك اذن جزآن بهما قوامه فلوجوده اذن سبب ، فوجوده اذن دون وجود هذا وانقض منه فليس هو اذن من الوجود في الرتبة الأولى وأيضاً فإنه لو كان مثل وجوده في النوع خارجاً منه بشئ آخر لم يكن تام الوجود ؛ لأن التام هو ما لا يمكن ان يوجد خارجاً منه وجود من نوع وجوده وذلك في أي شئ كان ، لن التام في العظم هو ما لا يوجد عظم خارجاً منه والتام في الجمال هو الذي لايوجد مجال من نوع جماله خارجاً منه . وكذلك كل ما كان من الاجسام تاماً لم يمكن أن يكون من نوعه شئ آخر غيره ، مثل الشمس والقمر وكل واحد من الكواكب الآخر ، إذا كان الأول تام الوجود لم يمكن أن يكون ذلك الوجود لشئ آخر غيره فأذن هو منفرد الوجود وحده فهو واحد من هذه الجهة ولهذا قال ابن سينا في الاشارات : ان واجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع جهاته ، وإلا فإن كان من جهة واجب الوجود ومن جهة ممكن الوجود . فكانت تلك الجهة تكون له ولا تكون له ولا يخلو عن ذلك وكل واحد منهما بعلة يتعلق الامر بها ضرورة كانت ذاته متعلقة الوجود بعلتي أمرين لا يخلوا منهما فلم يكن واجب الوجود بذاته مطلقاً بل مع العلتين سواء كان احدهما وجوداً والآخر عدماً او كان كلاهما وجودين ، فبين من هذا ان الواجب الوجود لا يتأخر عن وجوده وجود منتظر بل كل ما هو ممكن له فهو واجب له اراده منتظر ولاله طبيعة منتظرة ولا علم منتظر ولا صفة من الصفات التي تكون لذاته منتظرة انتهى ، وأيضاً فإنه لا يمكن أن يكون له ضد ، وذلك يظهر إذا عرُف معنى الضد ، لأن الضد مباين للشئ ، فلا يمكن ان يكون ضد الشئ هو الشئ ذاتاً ، ولكنه أنه فيس كل مباين هو الضد ، ولا كل ما لم يمكن أن يكون هو الشئ هو الضد لكن كل ما كان مع ذلك معانداً ، شأنه أن يبطل كل واحد منهما الآخر إذا اجتمعا ، ويكون شأن كل واحد منهما أنه ان يوجد حيث موجود بعدم الآخر ، ويعدم من حيث هو موجود فيه اوجود الآخر في الشئ الذي كان فيه الأول ، وذلك عام في كل شئ يمكن ان يكون له ضد ، فإنه ان كان الشئ ضداً للشئ في فعله ، لا في سائر أحواله ، فإن فعلهما فقط بهذه الصفة فإن كانا متضادين في كيفيتهما ، فكيفيتهما بهذه الصفة وإن كانا متضادين في جوهرهما فجوهرهما في هذه الصفة ، وإن كان الأول له ضد فهو من ضده بهذه الصفة فيلزم ان يكون شأن كل واحد منهم أن يُفسد ، وإن يمكن في الأول أن يبطل عن ضده ويكون ذلك في جوهره ، وما يمكن ان يفسر فليس قوامه وبقاؤه في جوهره بل يكون جوهره غير كاف في ان يبقى موجوداً ، ولا ايضاً يكون جوهره كافياً في ان يحصل موجوداً بل يكون ذلك بغيره ن وأما ما امكن أن لا يوجد فلا يمكن ان يكون أزلياً وما كان جوهره ليس بكاف في بقائه او وجوده ، فلوجوده أو بقائه سبب آخر غيره ن فلا يكون أولاً ، وأيضاً فإن وجوده إنما يكون لعدم ضده فعدم شده أذن هو سبب وجوده فليس أذن هو السبب الأول على الاطلاق لأنه يلزم ان يكون لهما أيضاً حيث ما مشترك قابل لهما حتى يمكن فيه أن يبطل كل واحد منهما الآخر ، أما موضوع أو جنس أو شئ آخر ويكون ذلك ثابتاً ويتعاقب هذان عليه فلذلك أذن هو أقدم وجوداً من كل واحد منهما وان وضع واضع غير ما هو بهذه الصفة ضداً لشئ فليس الذي يضعه ضداً ، بل مبايناً مباينة آخرى سوى الضد ، ونحن لا ننكر ان يكون للأول مباينات اخر سوى مباينة الضد وسوى ما يوجد وجوده ، فإذن لم يتمكن أن يكون موجود ما في مرتبة وجوده ، لأن الضدين هما في رتبة واحده من الوجود ، فإذن الأول منفرد بوجوده ،

لايشاركه شئ آخر ذاتاً موجود في نوع وجوده فهو أذن واحد وهو مع ذلك منفرد برتبته وحده ولهذا صار واحد من هذه الجهة ، ومنه كان غير منقسم بالقول إلى أشياء بها تجوهره ، وذلك لأنه لا يمكن ان يكون القول الذي يشرح معناه يدل كل جزء من اجزائه على جزء مما يتجوهر به فإنه إذا كان كذلك كانت الاجزاء التي بها تجوهره أسباباً لوجوده على جهة ما تكون المعاني التي تدل عليه اجزاء حد الشئ اسباباً لوجوده المحدود ، وعلى جهة ما يكون المادة والصورة اسباباً لوجوده المتركب منهما ، وذلك غير ممكن فيه إذ كان أولاً وكان لاسبب لوجوده أصلاً ، فإذا كان لا ينقسم هذه الأقسام فهو من ان ينقسم اقسام الكمية وسائر انحاء الانقسام أبعد ، فمن هنا يلزم ضرورة أيضاً ان لا يكون له عظم ولا يكون جسماً لأنه واحد من هذه الجهة وذلك أن احد المعاني التي يقال عليها الواحد هو ما لا ينقسم ؛ فإن كل شئ كان لا ينقسم من وجه ما ؛ فهو واحد من تلك الجهة التي بها لا ينقسم ؛ فإنه إن كان من جهة فعله فهو واحد من تلك الجهة ، وإن كان كم جهة كيفيته فهو واحد من جهة الكيفية .