العقل والمعجزة

هنا لا بد من القول : إن المعجزة هي كما يعبر عنها العلماء بأنها الخروج على العادة ، أو تجاوز المألوف وينبغي أن نعلم إن المعجزة إنما تحصل بفضل عاملين الأول :

القدرة العليا القابلة للتصنيف والأمتلاك ــ الإرادة والمشيئة الذاتيتين ــ والثاني : الوجود الخارج بالقدرة عن الواقع الطبيعي . طبعاً الأول يعبر عن الإرادة الألهية ذات الطاقة الهائلة التي هي صاحبة الأمر والفعل ، فتحكيم مبادئ خارجة عن الإرادة البشرية في واقعها الحياتي متعلق بالهدف الذي يبتغي من ورائه ، والحاجة إليه في تثبيت المبدأ من الناحية الفعلية ــ أي أنها قوانين للطبيعة العامة ودور العقل الفعال والمفكر . ويلزم هنا التأكيد على الحقائق المطلقة الثابتة والتي لا تناقضها قوانين المعجزة سواء من خلال السببية أو المشيئة الألهية ، فهي لا تناقض الحقيقة الطبيعية لكنها غير مألوفة في حينها أي إنها لا تشذ عن نظام الأزلية الثابت والمتطور فهي تحتفظ بماهيتها وكمالها الذاتيين ، فما ذكرنا عن موضوعات القانون الإلهي تجاه الظاهرة المتطورة ودور العقل في الأحتفاظ بها  ، وهو أن كل ما يشأوه الله أو يحدده يتضمن ضرورة وحقيقة أزلية ومتطورة حدوثية ، وهذا الأستنتاج قائم على عدم التمييز بين عقله وإرادته ، وقد يتصور البعض أن هنا فرق بين المشيئة حال كون الإرادة غير التصور على شئ ما ، فالضرورة في إرادة الشئ منه وفقاً لطبيعته وكماله لا تجعل الإرادة منه على خلافه بل وفقاً لها فالحقيقة لا تكون مجردة إلا بأمره ،

يترتب منها أن القوانين العامة للطبيعة ليست إلا مجرد أوامر تصدر عن ضرورة طبيعته وكماله ، بحيث لو حدث شئ ما يخالف طبيعته فإنه لا يتم وفقاً لذات الطبيعة ، فحينما لا تكون بذاتها غير مألوفة فإنها حقاً واقع طبيعي ولكنه واقع بالإرادة والمشيئة الذاتيتين فمعهما يحدث وبدونهما ينعدم ، لأن العدم فيهما تحققه ذاتية الأمر المتعلق بعقله وطبيعته وتدبيره ، وهذا يعود بالنفع العملي على الحقيقة التأملية بأن ما من شئ يحدث دون علة وإرادة منه سبحانه ، لأمتناع الحدوث دون إرادة وبدون سبب ( فأبراء الاكمه وإحياء الموتى ) تمت لوجود إرادة الأماتة  والأحياء مع علتيه الشرطية في ذات السؤال مع عدم المناقضة لقانون الطبيعة ـــ لأن العقل يدرك أن ما تم كان عملية مترشحة من القدرة المطلقة وانتفاء المانع ــ أي أنها بحسب الوجود تامة في نفس الفعل ــ كن فيكون ــ ولأننا على الطبيعة صفة الأمكان الحدوثي منه فما فيها بالقدم والحدوث منه لتعلق الكل بقدرته تعالى ، التي هي ذاتها ماهيته ، مما يدفعنا للقول بأن للقول بأن الحدوث الآستثنائي ليس علة خارجة لا تقرها الطبيعة وقوانينها ، لأنه لو صح ذلك لأمتنع الحدوث .

فالإرادة إنما تضفي على الصفة المتحركة القابلة للحدوث منه والممتنع من غيره أي أنها محدودة بشرطها وظرفها وعلاقتها بالوجود والإثبات ، لأن كل ما يحدث حقيقة بإرادة الله وبإمره ، أي أنه لا يحدث شئ إلا وفقاً لقوانين وقواعد المشيئة الضرورية مما يستتبع ذلك توافق بين شرط القانون والمشيئة مع الطبيعة التي هي وعاء الحدوث في ظرف معين . في حين أن الطبيعة المجردة ليست لها قوة وقدرة بلا حدود ، إذ أن المعقول هو انها محدودة تتحرك ضمن قانونها العام الذي يضفي على كلياتها صبغة الاستدامة على أن لا تكون ذاتية لأنها في الواقع جامدة ، وما حركتها إلا بفعل نظام الضبط والربط الموافق لطبيعتها الوجودية ، فهي إذ تنطبق على الجل ولكن البعض لا تنطبق عليه ، فالموت والحياة والتوالد قوانين طبيعة مستديمة كلية ، تتعلق بمفهومنا العام للطبيعة ولكنها تصبح بعيدة عن القانون مرتبطة بإرادته حالما ينسب إلى النبي عيسى (ع) فالأذن منه والعملية في الحدوث على الهيئة الطبيعية ، أي أن الضرورة حقيقتها أنطباق الكل على بعض مصاديقه ولكنه قد ينطبق بالمجموع إذا ما قلنا بأن الحدوث اللا مألوف هو منها بعد تعلقه بالإرادة والمشيئة الألهية ، ولأن النفي المتقدم من قبلنا كان على أساس التفريق بين قدرة الله وقدرة الطبيعة الذاتية .

أما كونها من قدرته تعالى فذلك صحيح لأنها جزء من الممكنات بقدرته وزلهذا فلا يصح القول بأن قوانينها هي أوامر الله إذ ليس الأعتقاد بأن قدرتها لا نهائية . وأن قوانينها من الأتساع بحيث تسري على ما يتصوره العقل الألهي ثم أننا لا نقصد بذلك القول بعجز الطبيعة وعمقها ، بل نريد من ذلك أنها لا تتحرك بفعل ذاتها أو بفعل عقلها المحجرد ما هي طبيعة ، فالقول بوجود عنايته فيها لا يعني سلب إرادته الذاتية بل يعني المحافظة على سيرها بإتجاه قوانينها العامة ، حتى لا يقع التصادم بين قانونها ومصاديقه الطبيعية ، ولكنه أيضاً يجب الاعتراف بأن ما في الطبيعة من مصاديق قد لا تسير بالرغبة الذاتية المقررة ، بل تشذ أحياناً وفي كثير من المرات يقع التصادم بين عقل الطبيعة وأفرادها ، مع الاعتراف المسبق أن التصادم ناشئ من الأفراد لا من عقلها المستديم الغير ذاتي .

مما يولد نزعة تسري تجاه الحقيقة القائلة ؛ أن القوانين فيها ليست ثابتة بحيث لا تتغير ترتب على أثرها نظام ثابت لا يتغير ، مما يشكل فيما بعد قناعة مشتركة بأن المعجزة ليست اللفظ الذي لا يمكن ان يفهم إلا من خلال صلته بآراء الناس ، بل هي حادثة لا نستطيع أن نبين علتها أعتماداً على مبادئ الأشياء الطبيعية كما ندركها بالنور الفطري ؛ ولقد أخطأ سبينوزا وجماعة م الفلاسفة الأوروبيين الذين حاولوا تأويل الظاهرة الأعجازية ، على انها قانون طبيعي مألوف لكنه غير متكرر ، لذا فالتذكير به على أساس ما يشابهه ، قد يعود على العامة بالفائدة ونفي الظاهرة ككونها خرق للعادة الطبيعية وقالوا : من المؤكد أن القدماء قد أدخلوا في باب المعجزات كل ما لم يستعطيعوا تفسيره بالوسيلة التي أعتاد العامة الالتجاء إليها لتفسير الأشياء الطبيعية ، أي بالإتجاه إلى الذاكرة لتذكر حالة مشابهة يتصورنها عادة دون دهشة ، إذ يظن العامة أنهم يعرف5ون جيداً ما يرونه دون أن تعتريهم الدهشة .

مع أن القانون للطبيعة مشتق منه وتسير وفقه ظواهر الوجود جميعاً بغير أستثناء ، فهذا لكون المجسد من الله بمنزلة الجسر من قوانينه الرياضية الميكانيكية التي بني على أساسها ، إذ القوانين هي جوهرة وقوامة إن زالت أندك هو على الأثر .

ولكن الفكرة تبقى صحيحة إذا ما أدخلنا عليه أن نفس الإدراك للطبيعة من العقل  ، إنما هو توكيد على الإدراك باتجاه المطلق فرؤية الطبيعة بكل تجلياتها وماهيتها وكمالها هي رؤية الله بأكمل صوره . وإلى هذا يشير أمير المؤمنين علي (ع) : ( والله ما رأيت شياً إلا ورأيت الله معه وقبله وبعده وفيه . إذن فلا العقل ولا الإرادة المجردتين جزء من طبيعة الله بمعناها المعروف ؛ ولكن إرادة الله هي مجموع الأسباب كلها والقوانين التي تسير في الطبيعة على أساسها .  وعقل الله مجموع العقول كلها المنبثه في الكون ؛ ( إن عقل الله هو كل القوة العقلية المنبثة في أرجاء المكان والزمان ، هو الإدراك المنتشر في العالم وهو الذي ينفخ فيه الحياة )

ولكن يجب التذكير بأن لفظة العقل كما جاءت في المعجم الصغير إنما تطلق اصطلاحاً على سلسة الأفكار ، وكما تطلق لفظ الإرادة . أي أنهما يمثلان جوهراً مشتركاً واحداً ،له صفة معينة لا تشذ حركة أحدهما دون موافقة الأخر ، لأنهما يمثلان صورة عامة في الماهية لكنهما يختلفان على أساس طبيعة كل منهما ، ومع هذا كله فإن العقل لا يمكنه أن يفرض هذا الأنتقال إلا مشاركاً للتخيل والحس ولا يمكننا إذا رجعنا إلى العقل الصريح أن نعقل جملة الحركة وأزاء الانتقال العقلي فيما نعقله دائرة معاً ، فإذن على الأحوال لا عنى عن قوة نفسانية تكون هي المبدأ القريب للحركة ، وإن كنا لا نمنع أن يكون هناك أيضاً قوة عقلية تنتقل هذا الانتقال بعد استناده إلى شبه تخيل .

وأما القوة العقلية مجردة عن جميع أصناف التغير ، فتكون حاضرة المعقول دائماً أن كان معقوله كلياً عن كلي أو كلياً عن جزئي .

نعود إلى المعجزة وطريقة الاستدلال بها وعليها ونقول : يكن معرفة ماهية الله ووجوده من المعجزات كما نستطيع أن نعرف العناية الألهية والقدرة الألهية . وهذه المعرفة لا نستطيع أن نكسبها من قانون الطبيعة لأنه ذاتاً لا يبين الطريقة الفضلى في ذلك .

لأن قوانين الطبيعة ليست ثابتة دائماً بحيث يستحيل معها خرقها ، لأن الخرق لقانون الطبيعة لا يناقض أثبات الله عن طريق المعجزة ، ولأن إثبات المعجزة توكيد على وجود الله .

لأن المعجزة علة من معلولاته وهي بذاتها لا تنفي الفكرة الواضحة تجاه الله بل تزيدها رسوخاً وثبوتاً ، ولأن جوهر المعرفة العقلية لا يجد تناقضاً بين إثبات الوجود وطريقة المعجزة لأنها دالة عليه وهي منه بالقدرة ، لأن الطبيعة الخالصة لا تؤدي بنا دائماً للمعرفة اليقينية ، إنما تثبت القانون الطبيعي وتجربة وفق سننه العامة ، ولمن المعرفة بالواجب او بالله تحتاج إلى أستنتاج الأفكار وطريقة الوصول إليها ، مع الأهذ بعين الإعتبار أن ما يمكن تصوره لا يخل بنظام الطبيعة الثابت ، فلو شككنا على سبيل المثال في أصل الوجود ، مع تراكم الأفكار لدينا عن الطبيعة وقوانينها ونريد أن نثبت صدق الوجود فإنه يلزم أن نؤكد أن القانون يجب أن يبقى على حاله مع تغير في موازين طريقة المعرفة تجاهه ، أي إننا لا ننفي ثبوت القانون ، وإنما نعتبر كل تغير في ظواهره العامة توكيد على حدوث فعل له صفة مشتركة ، لا تلغي القانون ولكنها تضفي عليه صفة القوة والرسوخ من حيث تقبله للظاهرة الجديدة مع كامل عللها وشروطها .

في حين قد لا نعلم تلك العلل وطريقة العلم بها قد تؤدي إلى شك مسبق في ذات العلة أي أنه يمكن فرض أن القانون ثابت حسب الطبيعة العامة ،لكنه يكتسب الصفة المتغيرة حالما يكون له توكيد للعلة وثبوتها وتقريرها ، لأن واجب الوجود الذي هو مورد التأمل في استدلالنا تام الوجود ، لأنه ليس شئ من وجوده وكمالات وجوده عنه ولا شئ من جنس وجوده خارجاً عن وجوده يوجد لغيره كما يخرج في غيره ... فإن أشياء كثيرة من كمالات وجوده قاصرة عنه ، وأيضاً فإن إنسانيته توجد لغيره بل ةواجب الوجود فوق التمام لأنه ليس له الوجود الذي له فقط بل كل وجود أيضاً فهو فاضل وجوده .

مما يثبت أن الوجود وحده قد يحتاج إلى برهنة على الوجود نفسه ، أي هو لا يختلف عنه إنما يجعل الاستدلال بالغير من خلاله ، استدلال إلزامي حجته قائمة بتمام الوجود واختلاف العينيات لكنه لا يفرقث الطبيعة أو يلغيه حتى في جزئه الخاص ، ولهذا فالمعجزة لا تنفي القانون حسب ما أعتقد بعضهم .

إذن فالمعجزة إذا عرفناها قلنا إنها أعمال لا تناقض نظام الطبيعة وهي أيضاً طريق مع الغير لمعرفة وجود قدرة الله .... إذ الاعتبار الذي الذي ينسب إلى بعض المتقولة بأن المعرفة عن ذاته لا تستوجب الإثبات بالمعجزة ، ذلك ما يخالف عقيدتنا فنحن لا نقول ان المعجزة دائماً لا تفسر بالعلل الطبيعية ، ولكننا نقول ان العلل الطبيعية عاجزة عن تفسير بعض المعاجز لكن الأصل فيها العلل الطبيعية لا تنفي الظاهرة الاعجازية إذ أن لها أيضاً عللها الذاتية المحدثة ،

وقد يستحيل على الذهن الإنساني كشفها والبحث عنها ؛ وهي بلا شك لا تشذ عن إرادة الله لتي تخلق العلة الطبيعية ، والتي تحتم علينا أن نخلص من ذلك القول بأن المعجزة سواء أكانت لها علل طبيعية أم لم تكن عمل يتجاوز حدود الفهم الإنساني ، والحق أن كل ما تعرضه بوضوح وتميز يجب أن نعرفه إما بذاته وإما بشئ آخر يعرف بذاته ، لذلك فنحن نستطيع أن نعرف عن طريق المعجزة صفات الله وقدرته ، على ان لا تكون معرفتنا على أساس ثبوت القوانين وأزليتها ، التي تحث بناء على ديمومة حركتها لأن ما يحدث من معجزة لا يتكرر مما يدحض العلم بالطبيعة وقانونها وشرط عدم الشذوذ عنه ولكن المعرفة أيضاً لا تكون إلا بمعرفة العلة الأولى ــ أو علة العلل ـــ التي تزيدنا ثقة بمعرفة إرادته وقدرته . على أن تبقى الخصوصية في أن ما نجهله بالكلية ليس هو عدمية محضة وليس هو خلاف قوانين الطبيعة العامة ، ولو حدث شيئاً نجهله يعني نجهل ما هيته الحقيقية  بالموضوع ، فحدوثه لا يغير من الاعتقاد بصحته وأنه من القوانين الطبيعية الغير مألوفة بل العقل الكامل يستأنس لهذا التبرير الذي هو أحد مقدمات الحكمة الطبيعية . ثم أن الإلتجاء إلى معرفة القانون الطبيعي الثابت والمتغير من الإرادة الألهية إنما هو تمام العلم بالواقع وليس هوطريقة جزافية تميل تجاهها العقول الجامدة ، ويجدر التنبيه إن إيماننا بالمعجزة على أنها خرق للعادة لا يقوم بالإستمرار على إثبات الإرادة والقدرة الآزليتين ، بل هو إيمان في ظرف معين وحاجة محدودة مما يجعل القول بأن المعاجز إنما تأتي للبرهان إما عن طريق المشاهدة القائمة على أصولها الموضوعية ، وإما على الحركة الجوهرية في الأبعاد والحدود ،

مما يكشف عن أن القدرة ليست محدودة بحاجة خاصة لا تتبدل وتنتقل من وقت لآخر ، حتى يمكن أعتبارها تراكماً للأفكار تختزنه الطبيعة وتقدمة كجزء من البراهين لعللها العامة ؛ بل هو يؤدي منها على أكتشاف العلة من هذا المعلول ؛ لأن الطبيعة ليست تفعل بإختيار بل على سبيل التسخير .وسبيل ما يلزمها بالذات فإن كانت الطبيعة تحرك على سبيل الاستدارة فهي تحرك لا محالة إما من أين غير طبيعي أو وضع غير طبيعي ، هرباً طبيعياًعنه وكل هرب طبيعي عن شئ فمحال أن يكون هو بعينه قصداً طبيعياً إليه ، والحركة المستديرة تفارق كل نقطة وتتركها وتقصد في تركها تلك النقطة ، وليست تهرب عن شئ إلا وتقصده فليست إذن الحركة المستديرة طبيعية .

ومن ذلك نستطيع أن نستنتج مرة أخرى أن أية معجزة تناقض الطبيعة أو تتجاوز الطبيعة هي أمتناع وإمكان محضين ، وبالتالي نستطيع تفسير المعجزة بوصفها عملاً للطبيعة وخرقاً لها يتجاوز الفهم الإنساني له علله وأسبابه الخاصة ،فالأمور جميعاً سواء كانت عادية أو خارقة للعادة .

وسواء كان خارقاً للعادة في جانب الخير والسعادة كالمعجزة والكرامة أو في جانب الشر كالسحر والكهانة مستندة في تحققها إلى أسباب طبيعية وهي مع ذلك متوقفة على أرادة الله لا توجد إلا بأمر الله ، أي بأن يصادف السبب أو يتحد مع أمر الله وجميع الأشياء وإن كانت من حيث إستناد وجودها إلى الأمر الإلهي على حد سواء ، بحيث إذا تحقق الإذن والأمر تحققت عن أسبابها وإذا لم يتحقق الإذن والأمر لم تتحقق ، أي لم تغم السببية إلا أن قسماً منها وهو وهو المعجزة من الأنبياء أو ما سأله عبد ربه بالدعاء لا يخلو عن إرادة موجبة منه تعالى وأمر عزيمته كما يدل عليه قوله : ( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ) وقوله تعالى (أجيب دعوة الداع إذا دعان )  إن المعجزة من حيث أنها مستندة إلى أمر مفارق للعادة غير مغلوب السبب قاهر العلة . وأن القرآن الشريف إنما يؤكد على أمر الله ومشيئته ، ومن ثم بالعناية الألهية . وحالما يركز على نظام الطبيعة يركز على العناية والإرادة منه ، لا ذات النظام لها فالأمر يتعدى كونه وصفاً لها بما هي نتيجة ضرورية لا زلية لقانون فيها .

وأما معجزات القرآن فقد جاءت لتبيان الخط وقت الدعوة أو قبلها فما حكي عن موسى قوله تعالى : ( إذهب أنت وأخوك بآياتي ) . وهذا الخط يستمر على طول المسيرة فقوله تعالى في عيسى : ( ورسولاً إلى بني إسرائيل إني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهية الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله وآنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ) .

فالعقثل الصريح لا يرى تلازماً بين حقيقة ما أتى به الأنبياء والرسل من معارف المبدأ أو المعاد وبين صدور أمر يخرق العادة عنهم ، ولكنه أيضاً متعلق القانون بما هو سبب موجز أو تام في حقيقة أزلية معينة ليست على أخلاق ما أتى به الأنبياء ، لأن تحققه في الظاهر يسبغ عليه صفة الإيمان به ، وهذا لايكون جاري إلا بمورد قبوله اليقيني واليقين بذاته لا يتحقق بمجرد الخرق في القانون بل يكون دالاً فيما يكشف عن الثبوت حالما يكون حقيقة موضوعية مصدقة ، لا انها تركز على الخرق المحض إذ ذاك بدونه لا يفيد في أغناء الحقيقة شئ ، بل لا يكسبه أي موضوعية والحق فيه لا يكون صادق إلا بمجال ثبوته والثبوت مرآة للدلالة على صدق التحقق من جهة في الطبيعة ، ومن جهة تصديق العقل لها ، وعليه فلا يتم بمجرد الحدوث الخالص ، لأن الحدوث  إذا لم يسبقه مورد الإثبات لكان الوجود الحدثي أزلية طبيعية ليست فيها ممارسة للخرق بما هو ثبوت للمعجزة . ولكن الثبوت وعدمه فيها على حد سواء وهذا ممتنع بل هو تأييد لما ذهب إليه جملة من الفلاسفة الأوروبيين القائلين بوحدة الطبيعة والله .

إذن فما تقدم يمكن أستنتاجه كالتالي :

1 – المعجزة حادثة خارقة للعادة تنطبق على الطبيعة ، تناقض القانون الأزلي للطبيعة في بعض أبوابه ، وهي بعد تقرير للعقل في مقولاته العملية لا التبريرية العاجزة والعقيمة ، أي لا تعطي الآلية والميكانيكية بل تضفي عليه صبغة العلم بالسبب والمسبب الطبيعين مع ضمان الفكرة عن العلة القاهرة الغير مغلوبة واختزانها .

2 – نستطيع بالمعجزة أن نتبين القدرة الألهية من خلال معرفة ماهية الله ، على ان لا تكون من باب الأولية والثانوية ، بل من باب كون العقل له قدرة الاكتشاف للقانون الطبيعي بحيث يستطيع قبول الظاهرة على أنها حقيقة موضوعية غير مغلوبة العلة ، مع الآحتفاظ بكون الحدوث لا يناقض القانون الطبيعي في مستوى العقل لعلة عدم تحقق الشئ دون إمكانه .

3 – والمعجزة تبين مشيئة الله وأمره وإرادته ثم العناية الألهية بالحياة الطبيعية ، لا الأحتفاظ بالفكرة القائلة أن ذات نظام الطبيعة الأزلي هو صاحب قدرة الاعجاز لما يحتويه من تسلسلية يختزن بها لوقت الضرورة ، بحيث تنتفي الظاهرة على أنها فعلاً ليست خرق إنما هي عدم إدراك واقعي للقانون الطبيعي ، والعقل الصريح يرد هذه الفكرة ويعتبر حدوث المعجزة دليلاً على  قدرة العلة باقية تنفرد وتتفرق بالأزمان والأماكن ووالحاجات وذلك من وجه لا ينفي القانون إنما يعتبره جزءاً منها وقت الحاجة .

4 – وما جاء في القرآن الشريف آيات تبين إن المعجزة قد تكون موافقة لوقت الدعوة أو قبلها ، بحيث تكتسب قدرتها وعدم تكرارها وليست هي طريقة ضرورية لحكاية من أجل ترغيب العامة وجرهم للدعوة الجديدة ، ولو قيل بما نسبته للديانات الأخرى وفي سفر الخروج والمزمور أو في العهد الجديد من متى ليس إلا تبريرات علمائهم ، أما نحن فنقول القعل لا ينفي الإعجاز وإلا لا متنع الحدوث والقبول فهو منه ومترشح عنه لا بإعتباره كونه علة ناقصة بل بما هو على تامة .