العقل ونظرية المعرفة

لقد دار نقاش طويل منذ زمن حول ما إذا كان الإنسان يتحرك ويفعل ويحكم من خلال الإدراك الظاهري ، أو ما يمليه عليه العقل الباطن ومنذ ذلك الحين والآراء متشعبة ومختلفة ولعل جملة من الأفكار التي حصلنا عليها كانت شاهدة على ان هناك قوانين ونظم وإرادات تتحكم بها قوانين الإدراك المحسوس هذه قائمة بإحتمال الإدراك التجريبي . ولا يخفى أن مبادئ التجربة ثابتة بتحديد  الظواهر وعلاقاتها من مبادئها العامة سواء فيما يتعلق بالفكر وحدود التفكير او القوانين الممتدة إزاءها ، وهي ليس حكم بإزاء قوانين علمية يحكم العقل بقبولها قبلياً على اساس التكرار والديمومة ؛ فتلك من المبادئ الأولية للبرهان ولا يحتمل التكرار إلا بوجود العلل الرئيسية له من وجود وطبيعة وقدم أي انها لا تخرج عن مفاهيم المادة بجوهرها وماهيتها ، في حين انها لا تحتمل الإستنثناء إلا من خلال الإختلاف في طرق المعالجة الموضوعية عينياً ... مما يولد إستنتاج مباشر يثبت ما قررته التجربة ضمن اجواء الملكة الناتجة بالذات لظواهر المعاني العامة المبتكرة التي قد تندفع إلى علاقات اخرى لها نفس المقدمات العقلية والقوانين العلمية الموضوعية ، ولعل ذلك يشمل التقسيم المنطقي للظاهرة حسب ما يدركه العقل بإعتبار ذلك بداية مقدمة ليست هي توكيد لارقى منابع المعرفة المحرزة بل هي من باب المقدمية المنهجية ذات الأستقراء المتكرر المحكوم عليه موضوعاً على انه تمثيل طبيعي لتوفر الأساس المنطقي العام في وظائف العقل واحتوائه على ملكة المبادئ ولكن يقتضي ان ننبه إلى ان مصطلح مبدأ مصطلح غامض يرمز عادة إلى نوع ما من معرفة الذي قد يجوز فقط إستعماله كبدأ مع انه بذاته ووفقاً لأصله ليس بمبدأ إطلاقاً .

إن كل قضية عامة حتى مع انها قد تكون مستخلصة بواسطة الاستقراء يمكن لها أن تقوم مقام القضية الكبرى في قياس العقل . ولكنها لا تكون نظراً لهذا الإعتبار مبدأ فالبدهيات الرياضية مثلاً كالبدهية القائلة بأنه من الممكن أن نرسم خطأ مستقيماً واحداً فقط بين نقطتين تشكل مفهوماً قبلياً للمعرفة العامة ، ولهذا جاز أن تسمى اصطلاحاً وحسب ما تقدم بالمبادئ ولكنه استخدم صحيح بناء على ما أجخل تحتها من قوانين موضوعية ، ولكن تبقى المسألة عندنا مورد تأمل فليس ذلك هو مفهوم قبلي جاء ذاتاً ولهذا يمكننا أن نورد قياساً للعقل هو شكل لاستقراء نوع من بعض المعرفة لأحد المبادئ تلك ، ذلك لأن القضية الكبرى تحتوي دائماً على معنى عام يمكن ان ندركه بمقتضى شروط العموم تلك ، في حين قد يتسنى ان تقوم المعرفة العامة مقام القضية الكبرى في ذلك القياس الذي قلنا به ، لكن تبقى المسألة قائمة على أساس ان ما ندركه سواء بالتحصيل أو بالوعي هو قضايا عامة امكن على ذلك الأساس أن ندعو ما توصلنا إليه بالمبادئ الممكنة لأن ما ندركه ان يتحصل بناءً على القياس الاستقرائي لكل القضايا التي منها البديئيات مقدمة من التحصيل الذي كونها عن القياس العقلي لكليات القائمة موضوعياً . ولكن إذا تأملنا في مبادئ الفهم هذه وبناءً لأصلها نجد أنها أي شئ فضلاً عن معرفة من المعاني وهي بعد لن تكون حتى ممكنه إلا إذا جعلنا مبدأ الإحتمال قائم ، أو جعلنا شروط الخبرة المتقدمة ممكنه بصورة عامة في حين نعلم ان لكل شئ يحدث علة لايمكن  بأي وسيلة من الوسائل أن يستنتج من المعنى العام . لذلك الذي يحدث بل العكس فإن ذاك المبدأ بالذات يرينا أي نمط نستطيع ان نشكل وقفه وحدة معنى عاماً تجريبياً معرفياً لذاك الذي يحدث . وهذا يدفع إلى الاستحالة بأن الفهم يزودنا بالمعرفة التركيبية ، ولكنه يزودنا بمعرفة هي ما نطلق عليها بالمبادئ تماماً . ولهاذ تقسم القضايا بحسب المعرفة تلك إلى مطلقة ونسبية . ولكن هذا التقسيم يدعو إلى تنوع لا متناه من القضايا والمفاهيم المركبة والبسيطة ولايخفى أن المعرفة بهذه الأشياء ستظل نسبية طالما هناك من تعارض بين قوانين الطبيعة المجردة وقوانين الطبيعة العملية .

وهذا التعارض يكشف عن مدى قابلية العقل في القياس والإستقراء ، ومدى ما يستنبطه وفقاً لتلك المظاهر التي قد تشكل هيئة قوانين تضفي على الفرد صيغة تشريعية قسرية مما يحد من إبداعه تجاه معرفة تلك القضايا واستنباطها أخذاً بعين الإعتبار التباين المشار إليه في القوانين الطبيعية . ولأنه في بعض الأحوال يبدو التناقض شديداً لأن المعرفة بالذات ليست هي تمامها المعرفة المجردة مما يشكل فهماً أولياً حول سهولة الحل القائم بين التناقضات لأن الفهم هنا هو الملكة المشار إليها لتحقيق الوحدة بين الظاهرات وفقاً لقواعد ، ولأن العقل هو الملكة لتحقيق الوحدة بين قواعد الفهم وفقاً للمبادئ ، لذلك فإن العقل قد ينظر مباشرة إلى الخبرة أو إلى أي موضوع لأنه نظر للفهم بإعتباره مقدمة قبلية في النظر للموضوعات التي تشكل المعاني وسائط لها ؛ مما يولد وحدة المعرفة بين الفهم الظاهري والعقل ، وهذا تدور حسب قوانين العلاقات الطبيعية بوصفها قاعدة غير جامدة مقام الادراك الذي نعني به الفهم المجرد البعيد عن التجربة ولكنه يوافي ما تقدمه التجربة من مقدمات موضوعية وفقاً لأحساسة بالظواهر الكلية ، وهذا الإحساس قائم بدرجة معينة على وعي بالوجود تارة وطوراً بالوعي الخالص .

ومن هنا أمكن التمييز بين مدركات العقل الوافدة إليه سواء ما يتعلق بالمباشرية او ما يتعلق بالاستدلال ، وليس المباشرية هي نفي للاستدلال على أساس نفي العلل التي ساهمت في الأحداث . لكنهما هو نفي بمثابة ترتيب درجة الوعي المطلق . تجاه الظاهرة التي هي بالإساس علاقة قياسية لكنها محدودة ، والمحدودية فيها إنما ترتكز على ما يقيسه العقل استنباطاً وهذا ما يمكن معرفته بالفهم القائم على حساب الأبعاد النظرية البحتة . لذلك فما ادركناه مباشرة يوجد أولاً في كل قياس قضية أساسية وثانياً قضية أخرى تستقرأ منها وأخيراً استنتاج حيث ترتبط وفقه حقيقة القضية الثانية المستقرأة بحقيقة القضية الأولى الأساسية ربطاً محكماً قابل او الذوبان . فما يمكن ملاحظته دون تدخل ثانوي نسميه مباشرية الحكم تارة الحكم الإستدلالي أو النتيجة المستقرأة ولا يعقل أن يكون استنتاج لطريقة المعرفة المؤطرة . إذ ليس مما نقول به . إذ ذلك ليس مما نقول به بناءاً على ما نعتقد المباشرية الذي هو باللحاظ فهم استدلالي يعني تحتمه الارادة ويقره الاستنتاج المرتبط بالمعرفة الأصلية ذلك ما نطلق عليه بالبرهان العقلي . فالقضية القائلة : ( كل مادة تتعرض للجاذبية ثم أفرض أنني لم أستبح لنفسي أن أحكم هذا الحكم في النتيجة إلا بعد أن استقصيت ذلك في كل أجزاء المادة ـــ ولنرمز لعينات المادة والتي بحثناها ووجدنا انها معرضة للجاذبية بالرمز :

س1 ، س2 ، س3 فسيكون استدلالي على النحو الآتي :

س1 ، س2 ، س3 ... س ق معرضة للجاذبية .

س1 ، س2 ، س3 ... س ق هي كل أجزاء المادة .

أي أذن ... كل المادة معرضة للجاذبية . (1)

وإليك مثالاً آخر وضوحاً عندنا قضية تقول : جميع الناس هم فانون . تحتوي على القضايا التالية : بعض الناس هم فانون ، أو بعض الفانين هم ناس . أولاً يوجد أي يكون خالداً هو إنسان فهذه جميعها استدلالات مباشرة من القضية الأولى ، ولكن هذا الإستدلال لا ينطبق على المقولة بأن جميع المتعلمين هم فانون ، لأن الحكم الأساسي لا يحتوي عليها وذلك لأن المعنى العام للمتعلم لا يحدث فيه . أما الحكم عليه فبأسقراء منطقي على الواسطة الحكمية المتداخلة ، لأن لكل قياس قاعدة من قضيتين كبرى وصغرى شرط أن يتوافق محمول القضية وموضوعها جرياً مع شروط المعرفة والحكم . ويجب ان لا يغيب عن الذهن أن القياسات هي أحكام ولكنها مختلفة تبعاً لأختلاف منهج الفهم في المعرفة . فحينما نقول بالقياس الشرطي المقولي والقياس الشرطي الاتصالي والقياس الشرطي الانفصالي نعني به الأحكام الشرطية المقولية والاتصالية والانفصالية . ولكنها لا تستنتج صدفة إنما تأتي بإعتبار الموضوع والمحمول والحكم عليهما داخل القضية سواء الأساسية او الثانوية . ويقوم العقل بأختزال التنوع الضخم في القضايا ليصل إلى معرفة كاملة في الفهم مستقرأة بأصغر وأرقى وحدة للمبادئ والحكم عليها .

ففي مثالنا المتقدم حول تعرض أجزاء المادة للجاذبية رأينا أن الكل كان متعرضاً للجاذبية بناء على ما تحصل لنا من استدلال يسميه أرسطوا : ثبوت الاستقراء من الحد الأكبر اللأوسط بواسطة الأصغر ، أي أنه عكس القياس وتكون النتيجة المستقرأة ان كل أجزاء المادة تتعرض للجاذبية لا ان هذا الحجر أو ذاك يتعرض للجاذبية (1) .

فيكون لدينا ان قياساً بوصفه وظيفة للعقل قد يشير إلى بعض المفاهيم بغية ان يضعها تحت قواعد كما يفعل الفهم بمقولاته ، أي أن العقل يكتشف عناصر القياس بوصفها داخله في العلة أو في المعلول ولكنه لا يستنتج المعلول دون علته . من هنا كان مكتشف العلاقة الجدلية بين العقل والعلة مؤكداً على أن العلل راجعة في الإكتشاف الوجودي إلى العقل . لا انه يجعل فقط وحدة الخبرة المنتجة امراً ممكناً . بل انه يستعير حتى مقدمات الخبرة من العقل مما يسهل علينا إكتشاف الظواهر وعلاقاتها الثابتة بالحركة . فوحدة الخبرة قائمة بدرجة الوعي القادم بالمفهوم العقلي ، أي أنه كاشف بقدر ما هو مستنتج للعلاقة المركبة .وهذا اللون من التفكير تميل إلى تأكيده المدرسة الألهية فهي تقول بأن المبدأ سواء أدرك بالفهم المجرد النظري او بالتجربة العملية إنما هو وليد إدراك العقل لمقدماته ، التي توحي فيما بعد إلى شرط عام بالحكم على المدُرك المعين ، وهو رد على ما ذهب إليه ( عما نوئيل كانت) الذي قال بأن العقل لا يستطيع أن يحيط بالحقائق اللامحدودة وأنه مهيأ بطبيعته لادراك الجزئيات فقط بينما هو قاصر عن إدراك الوجود الكلي ... ويقول أن الوجود الإلهي مثلاً إنما نعرفه بالضمير لا بالعقل فشوقنا للعدل كان دليلنا على وجود العادل ... كما أن ظمأنا إلى الماء هو دليلنا على وجود الماء . في حين اثبت ارسطو من الظاهرة السببية أن العقل هو المدرك والمحيط للوجود الكلي او الفكرة المطلقة لدى (هيغل) وجمع من الفلاسفة الثنويين ، بل أن المدارس المثالية أثبتت جدلية العقل والإحاطة الممكنة بالوجود الخارج عن الإدراك المحسوس مستدلين على أن برهان التجربة يضفي على الظاهرة صورة المحدودية ، في حين تعلق الخالص بظواهر لا تسكشف بالبرهان التجريبي .

خذ على ذلك مثلاً الحركة الجوهرية أو ظاهرة الابعاد الأربعة ــــ فهي ليست على أساس المدى والمساحة بل تتبع الظاهرة الانتزاعية المتشكلة بدءاً بقانون النظر إلى الوجود العام . فما يوجد بالبداهة يحيط به الفهم المجرد ، وما لم يكتشف بالتجربة يحيط به برهان الإدراك ، وما لم يكتشف بالقوانين العلمية يثبته العقل بالتركيب والخبرة والمعاني والرموز ، بحيث لا يكون مشروط بشرط التعيين الأسبق حتى لا يدخل ضمن التجربة والفهم إنما يدرك بالوعي المتقدم على الوجود ، ولهذا فالذهن حالما يستنتج قياساً يجد حاله مراراً مضطرباً وهو يبحث عن تعبير يتوجب عليه أن يتطابق تطابقاً صحيحاً ومعناه العام .

والذي نظراً لافتقاره إليه لا يستطيع أن يوضح نفسه تماماً للآخرين أو لذاته ، وقد مر أن ذلك لا يتنافى وقواعد اللغة التي تتناسب وحجم الإستعمال ومفاده والمعنى الدال عليه (1)  الذي هو بلا ريب مشتق إما من الاستعمال او من الاصطلاح العرفي واحياناً اللغوي . وقد يتقدم هذا على ذلك ولكنه بالنتيجة يؤول إلى المعنى الكلي المراد قياسه او استقراؤه ، والعقل بدافع الإيمان المبرم بصحة استعمال يستنتج علاقة عامة مشتقة من المفهوم الإصطلاحي المستخدم في تبيان الإيجابية والسلبية أو الخطأ والصواب .

وأنه لمن اليسير علينا أن نرى بعد ذلك من الأسلوب المنهجي الذي استعمل وفقه ( إفلاطون) تعبير كلمة فكرة ، أنه لا شك كان يقصد به شيئاً ما ليس فقط غير مقتبس أبداً من الحواس بل أنه يتجاوز في بعض الأحيان المعاني العامة للفهم ، والتي كانت مدار بحث وتتبع لدى ( افلاطون) بكونه كما يعتقد مثاليو الذاتية انه لا يوجد أي شئ في الخبرة متطابق والفكرة او منطبق عليها . في حين نرى جماعة من الفلاسفة اللاهوتيين جعلوا من الفكر نموذجاً للشئ ذاته وليس هو فقط كالمقولات . ومن هنا جعل ( افلاطون) الفكر عبارة عن تدفق من العقل الأسمى الذي لم يعد على كل حال يوجد في حاله الأصلية . بل يتوجب عليه أن يتذكر بصعوبة الفكرة القديمة لكنها شديدة الغموض الآن ، وحيث يقوم العقل هذا العمل بواسطة استجماع الذكر بالمعروف بالتبادر أو بالتخيلات لصور وحوادث شائعة واحياناً مبهمة غامضة ، تحتاج بالاستجماع إلى كثير من التفكر مما يولد في التالي استجماع لهدف الذكر واخرى استجماع للنتيجة المتوخاة ، وهذه النواة شكلت لدى علماء الأغريق البحث العلمي حول فلسفة الوجود وفلسفة الحق .

فلا افلاطون كان يعرف معرفة جيدة بأن ملكة المعرفة التي تجيش بداخلنا تلك الأمنية التي هي أرقى من مجرد تهجية للظاهرات وفقاً لوحدة تركيبة : ( الأمنية لئن تقرأها على هذا الشكل وتفهمها بوصفها خبرة . ولقد كان يعلم بأنه إذا ما تُرك عقلنا وشأنه فأنه سيحاول التحليق متسامياً إلى معرفة لا يستطيع أبداً . أي موضوع قد تعطيه الخبرة ان ينطبق عليها ، هذه المعرفة التي تكون بالرغم من ذلك حقيقة واقعية ، ولاتكون إطلاقاً شقاً للدماغ ) (1) عند ذلك إكتشف إفلاطون بصورة أولية فكرة داخل ما هو عملي أي داخل ما يعتمد على الحرية التي تنتمي أيضاً إلى فعل من المعرفة ، وهو ثمرة خاصة بالعقل .

ومن هنا كانت الفكرة تجاه مبدأ العدالة عند أفلاطون شيئاً مثيراً مذهلاً لأن من تابع تصريحاته تجاه نفس المبدأ يجد أنه عمل بما يستطاع مغرقاً الواقع بكثير من الوهم والخيال . ولهذا أعتقد ( بروكر ــ  بأنه من الهراء ان يكون أفلاطون قد قال بأنه لا يستطيع أبداً أي أمير أن يحكم حكماً صالحاً إلا إذا شارك أفلاطون فكره ) (2) . ولكن هذا الإعتقاد ليس له ما يبرره إلا النظرة التشأومية تجاه المبدأ الذي يراه أفلاطون قابلاً للتفاعل مع أوسع مساحة جماهيرية . في حين تبدو النزعة باتجاه المبدأ ضرباً من الخيال ، أو أنها لا تحقق إلا متى ما توفرت شروط القبول المحكومة مبدئياً بمشاركة أفلاطون الجماعة العازمة على تحقيق المبدأ من الناحية الفعلية . ويبدو أن جملة الآراء والأفكار في هذا المجال تكاد تكون على درجة واحدة من الجدلية مما يعزي إلى تنافر جدلي بين الأطروحة الفكرية والعالم التطبيقي له . وهذا التنافر منشأه كما اعتقد (روبرت) بنكلي بالحاجة العرفية أو الظروف الإجتماعية . ولكنه تبرير على ما يبدو ظاهرياً إذ إننا بدوافع نسبغ على هذا الإعتقاد النظرة الديماغوجية الجامدة ، لأنها لا توكل بعض ما تؤمن به إلى الحلول الأكاديمية العقلية .ولهذا تبدو كثير من الثوابت أشياء مبهمة وغير واضحة ، طالما  كان مبدأ السببية لا يعزى إلى الفكرة العامة للوجود . بل إلى آثار ومسببات خارجية أوجدتها الطاقة وفعل الإنسان ، ومع أن هذا الإعتقاد صحيح ولكن صحته تكاد تتعلق بفرعيات وليس بمجمل ما يبحث أو يناقش .

خذ مثلاً على ذلك الأصول العرفية والمبادئ الأخلاقية . فهذه تارة تعزى إلى فكرة مطلقة ، في حين يراها البعض مجرد حاجات سيكولوجية تعززها التجربة وتثبتها الخبرة التي قد تنشأ منها اخلاق دائمة واخرى مؤقتة . ولكنها بالنتيجة تعطي الدور الأكبر في تثبيت ما يؤمن به وبصحته . وطرد ما هو خارج عن حدود الصحة او الأصول العرفية في المجتمع . وهذا الرأي وان علله الفلاسفة بالحاجات المؤقتة ولكنه تعليل لا يخضع لوجه حق . فالمتغير والثابت من الأشياء لا يحدده العقل والحاجة بل تحدده المبادئ ويمضيه العقل والحاجة . في حين لا نتصور ديمومة ما ينافي العقل والحاجة . حتى لو اثبتت التجربة صحة الخبر لدى مجتمعات اخرى . فالمثيولوجيا والاطيقا كلها ترتفع بوجود الحاجة مع التقرير وتثبت مع الحاجة الذي يمضيه العقل ، وبهذا يكون التشريع قد اعطى للعقل دوراً أكبر في تقرير الصح والخطأ في الواقع الذي تطبق فيه المبادئ ، ومن هنا نصل إلى نتيجة البحث الذي دار في المعرفة والعقل . ونستطيع بالإجمال ان نتصور النتائج التالية :

أولاً : الاستقراء والقياس المنطقيين إنما يمارسان الدور العلمي تجاه مجمل البحوث والدراسات حتى التأملية منها والرياضية بما يقرره العقل من مقدمات وحدود منطقية في القضايا التي يحتمل فيها الطرفان الطبيعيان .

ثانياً : العقل دوره كاشف ومقرر وحاكم ولكنها لا تأتي بالكلية على مجمل القضايا ، وإنما يمارس دوره ذلك حسب نوعا القضية وطريقة الكشف والتقرير .

فيدفع بالمقدمات كبراهين للقضية الثانوية التي لا تغيير من القضية الأساسية شيئاً ، كما لا تكون الخبرة التي هي الديمومة على القضية علاقة تركيبية لا تحتمل الخطأ والصواب ، لأن ما يحكم به العقل مع فقدان المبادئ التقريرية العامة ( والتي نقصد بها النص الصريح ) وهي بمثابة الحكم الأساسي المتجلي بطريقة العلم بطرفي القضية أو القضايا الخارجة عن المبادئ العامة للفهم .

ثالثاً : يمكن دمج العلم بالعقل المجرد أو بالاستقراء الكامل بحيث يشكل لنا برهاناً على صحة التقرير العقلي وكشفه للعلة ولكنه بإزاء العقل ممكن . لكنه تجاه الاستقراء ذاته للشئ نفسه فلا يكشف عن الصحة لأنه لا يتوفر في القضايا الكلية التي يدور فيها البحث كمسألة إثبات الوجود والوعي بالوجود الذي يشتق منه إثبات الوحدانية والألوهية .

رابعاً : من خلال العقل يمكن الاستدلال على إثبات الله ودور الأنبياء والمعجزات ، ولكنه إثبات على أساس ما جاء من تشريع في المبادئ وليس هو إثبات قهري دونما مقدمات وعلل ، ولهذا فهو يؤكد دور السببية والعلية ويمضي القول بأن الوعي متقدم رتبة على الوجود والوجود كاشف بالعقل على الوعي الذاتي المحدود الذي لايقصد به الوعي المطلق ، الذي تنفيه الفلسفة المادية وتعتبره اختزالاً انتزاعياً لروح التضخم المثالي العاجز عن إيضاح صور التطور الجدلي في الحركة التاريخية والطبيعة .