الأيديولوجيا والوحدة

 

 

تأتي كلمة الأيديولوجيا المركبة من ( أيد + لوجيا ) لترسخ في الذهن ذلك المعنى المتداول لمفهوم العقيدة وعلمها ومحتوى التفكير ، لذلك يرى بعض الباحثين التقدميين أن للكلمة معنيين أصطلاحيين احدهما أعم من الأخر .

 

الأول : يعني مطلق النظام الفكري والعقائدي .

الثاني : يختص بالنظام الفكري المحدد لشكل سلوك الإنسان .

وهي بهذا اللحاظ قد تبدو ، لأول وهلة ، لا تتفق والرأي الوحدوي القائم على المفاهيم الإنسانية والروح الأخوية ، ولكن يمكن تحويل الأيديولوجيا إلى مفهوم علمي واقعي يطور الأتجاه الخلاق للفكر الإنساني ، بحيث يصبح المرآة العاكسة للتعاليم الربانية والألهية . والأيديولوجيا حسب التعريف المتقدم لا تلغي نشاط الفرد ونشاط الجماعة ، وهي لا ترفض النشاط الخيّر والعمل الصالح ، بل لعلها أكدت عليه من خلال مفهوم مطلق النظام الفكري والعقائدي ،

والنظام الفكري المحدد لشكل سلوك الإنسان . وهذان المعنيان يعبران عن نسق متكامل لنظرات فلسفية ودينية وأخلاقية وسياسية وجمالية ، وبالتالي فهو يعبر عن كل هذا مجتمعاً ، بإعتباره في الأساس من نزوعات الوحدة الجوهرية . ولا يختلف أحد بأن الوحدة في عنصر فعلها المزدوج عبارة عن صيانة للإنسان ، وصيانة لنظامه الفكري والأعتقادي ، كما هو صيانة لسلوكه وهذه الصيانة واقعية ، وتلتزم بالحقوق الطبيعية والوظيفية عبر الحرية العامة المطلقة .

فالوحدة هنا تتفق مع الأيديولوجيا في نزوعها الإنساني ، وعدم الأتفاق البادي للوهلة الأولى ، أنما تعبر عنه المخاوف من التعاريف والسلوكيات لبعض المدارس الإنسانية ، التي تلغي الآخر بحجة مخالفته أيديولوجياً ، وهذا التقدير جرى ممارسته حتى في المدرسة الدينية عامة والإسلامية خاصة ، فصور التشهير والتسقيط والتكفير بل والقتل والتدمير والتشريد ممارسات جرى تنفيذها تحت طاولة المعتقد والسلوك ، ومحاكم التفتيش ودواوين الزندقة  مراكز عمل لتطبيق تلك الممارسات ، وهذا الحال ليس خافياً ، أعني أنه ليس حالاً تأريخياً نقرؤه في بطون الكتب وحسب ، بل هو واقع نعيشه اليوم في عصرنا الراهن . وهذا كله يعود للتسخير غير اللائق لمفهوم ـ الإيديولوجيا ـ والتحنط بظلاله ، في غياب مادة الحوار ومادة الأستماع وحسن الأصغاء وقبول الآخر بعلاته .

 

ففي الحوار تتقدم قضية ــ الأيديولوجيا ــ لتعزز بمجموعة أشكالات ومسائل وقضايا دعماً وتوظيفاً وتحريكاً . فغياب الحوار هو الذي يلجئنا للقول بأن الأيديولجيا لا تتفق والوحدة ، وغياب الحوار هو الذي يجعل نظرتنا إلى الأيديولوجيا بإعتبارها قمة مقدسة ومخالفتها يعني ألغاء ذلك التقديس ، وهذا ممتنع فيجب بالتقابل إلغاء الآخر ليسهل عملها ولتبقى قوية راسخة .

هذا الأعتبار الشعبي تغذيه ألتزامات متطرفة من بعض المرجعيات الناظرة إلى دورها السياسي والإجتماعي والإقتصادي الآني ، فهي إذن تغليب الذاتي على الموضوعي . والتغليب منشؤه أعتبارات آنية مادية محصورة في زاوية التعريف بالذات والتكلس ، دون الغوص في علاقات تهدف إلى كسر حواجز الأنا ،

والذوب في الفكرة بإعتبارها قاعدة التمدد في الحاضر والماضي والمستقبل . وهذا التعميم الذي نطلقه أساسه الحوار البناء الذي دعت إليه رسالات السماء ، واعتمده الله في علاقته مع الغير ، ولذا لم يكن حواره مع أبليس عبثاً أو ترفاً أدبياً . إنما كان تعليماً وتدريباً للآخرين في الحوار والأستماع والأنصات وعدم الألغاء .

كذلك ياتي الحوار كشأن تأسيس في عقل النبي (ص) وتدبيره وسياسته ورسالته ، وهذا الشأن نقرأه في العنوان التالي :

 

قال تعالى : [ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد إلاّ الله ولانشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون ] ( آل عمران / 64)

وقال تعالى : [ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحين ، إلاّ الذين ظلموا منهم ، وقولوا آمنّا بالذي أنُزل إلينا وأنُزل إليكم وإلهنا وإلهاكم واحد ونحن له مسلمون ] ( العنكبوت /46) .

 

وقوله تعالى : [ قل وإنّا أو أياكم لعلى هدىً أو في ظلال مبين ]

وهو ذات الشأن المقدر لحجم الحقيقة وعناصر التكيف معها والوصول إليها ، وهذا التقدير ليس إلغاء لدور الوحي والنبوة والرسالة ، بل هو منها كما تبين الآية ( آل عمران /64) والآية ( العنكبوت /46) ، وهذا يعني تعزيزاً لدورها في البناء والتطوير والمعالجة ، الهادفة للوصول إلى قناعات إنسانية مشتركة ، قناعات لافي المطلق بل في النسبي منه ، وهذا هو حجم معنى قوله تعالى : [ كل يوم هو في شأن ] .

 

***

الحوار الوحدوي

 

فالحوار أذن رسالة الإنسانية . الرسالة التي يلتقي عليها التعد ، والأختلاف والمناقضة أحياناً ، والمصلح أذا لم يجعل من الحوار أساساً في الردّ والبدل في الأقناع والأقتناع ، لن يستطيع أن يؤدي رسالته في الإصلاح والتصحيح على أكمل وجه ، ومن هنا  نجد أن الإمام جعفر الصادق (ع) قد تنبه  لهذا المفهوم فزاده إيضاحاً في ردّه على احد أنصاره قائلاً : ( ياهذا لاتقولن لأحد لست على شئ ) .

وهو ذاته التنبيه الذي تبناه الإمام أبو حنيفة في بيان حكمته تجاه قضية التقديس لمن سبق قال فيهم : ( هم رجال ونحن رجال ) .

وهي كلمة ممتصة من ذلك العمق الفكري والحواري الذي تبناه جيل الرواد من الصحابة كعبد الله بن مسعود وأبي ذر ، وهو ذاته الذي جاء في كلام الإمام علي (ع) عندما اعترضه أحدهم قائلاً : ( أيكما على حق ؟ ! أنت ام هذه ام المؤمنين ؟ ) فإجابه الإمام قائلاً : ( ياهذا إعرف الحق تعرف أهله ، لايُعرف الحق بالرجال ) .

أي لاتلتزم عنصر التقديس الأعمى للأشخاص ، بقدر إلتزامك وبحثك الدؤوب عن الفكرة الحق ، وعندما تصل إليها وتعرفها ستعرف تماماً مصاديق الحركة فيها ودوائرها ، وبالتالي يتسنى لك الحكم دون مؤشرات أو زوائد إضافية ، تقتضيها عوامل سياسية وإجتماعية وإقتصادية ودينية وعرقية وبيئية .

 

والحوار هو الذي يلغي ، وإلى الأبد ، عناصر التقديم والتأخير المصنوعة في زمن الإنحطاط ، وهذا يمكن أسقاطه معرفياً حتى على السلوك والمعاملات اليومية ، بل وحتى على العلاقات الزوجية ، كما يمكن أسقاطه على مفهومي الذكورة والأنوثة ، الذي غيب فيه عن عمد وسبق أصرار الدور الطليعي للمرأة وأستبدل بدور مضاعف للرجل ، فصار هو الكل ، وإنحسرت هي إلى  الظل محكومة بالتقسيم القبلي والصناعة العشائرية .

فمُنعت المرأة وهمُش دورها ، مع إن التنزيل الحكيم راعى ذلك  وأباح لها كل شئ ، حتى أجاز لها الإمامة بشقيها ، اعني الإمامة الصغرى أي إمامة الصلاة للرجال والنساء ، والإمامة الكبرى ، أي أجاز لها أن تصبح خليفة لهم . ولعل كثيراً من اهل الصلاح من علمائنا الأعلام كأبي ثور وأبن رشد والطبري أشاروا إلى ذلك وتبنوه ، وهو بلاريب يدلُّ على عقل متقدم ورؤية صحيحة  ، لها من المؤيدات والنصوص الصريحة والآدلاات الصحيحة نقلاً وعقلاً . 

وقبول هذا كله مقدمته تفعيل دور الحوار في الأمة ، على ان لايكون حواراً من طرف واحد ، أو من وجهة نظر واحدة ، أو القبول بأتجاة مدرسي واحد . فالحوار من طرف واحد ، وبهذه الشكلانية كما تقدمه بعض المؤسسات التابعة لبعض الحكومات الطائفية ، لايُساعد أبداً على قبول الآخر أو الأعتراف به ،

لأن الحوار عندهم شرطه الرئيسي هو الذوبان في إتجاههم المدرسي الوافد ، وشرطه كذلك إلغاء دور الآخر وحقه وتأثيره في الحياة .

وأذا كنا ننبه إلى ذلك ؛ فإننا ننطلق من قاعدة مركزها التداولي صور ومشاهدات تقدمها مدارس الظل والمراجع التقليدية والأحزاب ذات الرؤية المحلية الضيقة ، وكذلك مركزها نظام تدريسي عماده الفرقية ، وتقويم حالة معينة وإلغاءات  أخرى حسب الولاءات والأنتماءات القلبية .

فالصحابة عند قوم أشتات متفرقون منهم الهالك وهم  كثير ومنهم الناجي وهم قليل ، والقليل هذا مأخوذ حسب طبيعة الترجمة ضمن مبدأي ـ التولي والتبّرؤ ـ  عند الكلاميين ، اللذين جئ بهما لاحقاً تعزيزاً لدور سياسي مرحلي ، جاء بعد عصر الإنحطاط الفكري والديني وضياع بغداد وسحق مركز الخلافة تحت حوافز جيش التتار .

وأهل البيت عنوان يتوسع ويضيق بحسب الحاجة والإلتزام وأطراف الصراع والحصر والتكثيف والولاء ، كلها جئ بها لتدعيم خط تقاطع المعارض مع الرسمي . ولم يكن ذلك من وجهة النظر المؤسسة ، إعترافاً بدور أهل البيت الحضاري والإنساني أو تأصيله في العقول والنفوس ، بل هو إتجاه سياسي إجتهادي تقتضيه حاجة المعارض للتشكيك والطعن والملاعنة ( حتى أسقط على المفهوم قضايا من قبيل علم الغيب والعصمة والرجعة وتعطيل الأحكام في غياب المعصوم ) والمعارضة كما لايخفى تشكلت بفعل عوامل محلية وضغوطات السياسي الحاكم ، وتعميم مقولاته في الحسن والقبح وفيما يصح وفيما لايصح ، وهذا في الحقيقة أول بداية عممت مفهوم الأستبداد وإلغاء الآخر .

 

ومن اجل الحوار العلمي البناء ينبغي التذكير بهذه وتلك ، لأنها قضايا وموضوعات ستلتقي حتماً مع الإنسان المسلم في تفاصيل حياته وعلاقته بالتاريخي والكلامي والفقهي ، ولايجب أن نعمم مقولة : ( تلك امة قد خلت ) تعميماً يخرج تجربة الحوار من أطار موضوعاتها ، أذا كان الحوار يهدف لتشكيل قناعة جديدة وقراءة جديدة .