الدليل الرابع

 

العدل الإلهي ؛ الذي يقتضي أن لو أحرز المسلم السني أحكام الله وعمل به وفق الإجتهاد أو التقليد الصحيح والمخلص ، فإن أعماله ستكون مجزية ومقربة وثابتة عند الله ، على شرط أن لايقع تقصير في مقدمات الإجتهاد أو التقليد ، لأن العدل يوجب حتى لو لم يقع العلم الإجتهادي على نحو موافق للحكم الواقعي فإنه يحفظ له الأجر والثواب ، لأن عدم إنطباق الحكم على الواقع من جهة علمه لم يقع بإختياره ، وعدل الله يقتضي حساب الأجر على قدر العمل .

خذ على ذلك مثالاً الأفريقي الأسود المسلم  الذي يأتي من بلاده البعيدة ليطوف بالبيت وفي رحاب الكعبة المشرفة ، قادماً يملؤه الإيمان والأمل والرجاء ، وهو ينادي ربه : ( ربي البيت بيتك ، والعبد عبدك ، فأدخلني في ظلك يوم لا ظل إلاّ ظلك ) .

هذا المسلم الذي طوى المسافات الشاسعة البعيدة قاصداً بوجهه حرم الله وميمماً وجهه شطر المسجد  الحرام وباذلاً في سبيل ذلك الجهد والمال ، ومتحملاً الصعاب والمشاق وآلام السفر ووحشته ، فاعلاً ذلك كله أستجابة لنداء الرب وأداءً للتكاليف الشرعية الواجبة في أداء فريضة الحج ، وهو بذلك الحال يخاطب ربه بتلك النغمات والترنيمات الملكوتية وتلك المناجاة التي لا يرجو فيها إلاّ نجاته من عذاب نار الأخرة .

فإنه ليس من العدل الإلهي أن لايقام لأعمال هذا الرجل وزناً وقيمة ً ، لا لذنب أقترفه إلاً لأنه يعتقد بخلافة الخلفاء !!

وإنه ليس من العدل الإلهي أن تعتبر أعماله باطلة وأن يرد يوم القيامه كمن لا حج له ولا عمل !

أي ظلم أكثر من هذا ! يُطرد المسلم من رحمة الله مع إنه لم يقصر في أداء تكاليفه الشرعية والعبادية ، ولم يقترف ذنباً ، وأنه يقوم بوظائفه السلوكية على أكمل وجه .

إننا نعرف الله عادلاً يحب العدل هكذا نعرفه ، وهكذا عرّف نفسه إلينا ، فالعدل أحد صفاته ، هذا ما عرفناه بالعقل ومن الإسلام لذلك فإنه لن ولم يفعل ظلماً مثل هذا تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .

وعلى هذا الأساس فالعدل الآلهي يقتضي أن تقع أعمال المسلم السني الصادقة المخلصة والمراد بها وجه الله ونيل طاعته مجزية وموجبة للأجر والثواب .

 

***

الدليل الخامس

 

تقيّد الأدلة الشرعية : لا ريب أن الأدلة الشرعية هي الطريق المؤدي إلى فهم الحكم الإجتهادي وأستنباطه ، وطبعاً بموجب الأحكام الشرعية وسيلة لنيل السعادة المعنوية وكسب المعارف النورية المقربة إلى الله سبحانه ، والهادفة للوصول بالإنسان إلى كماله الذاتي ، وطبيعي جداً أن يأتي الكمال الذاتي أستجابة للعمل الإيجابي المقصود به تحصيل طاعة الله عبر أحكامه التكليفية والوضعية ، فمتى عمل بها الإنسان قرب ودنا من الله سبحانه وتعالى ، والقرب ذاتي وجداني وعقلي ، ولهذا يُشير التنزيل الحكيم عندما يتحدث عن فلسفة الذبيحة قال تعالى : { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم } ( الحج / 38 )

وسياق النص وسباقه مشعر بأن لحم ودم الذبيحة لا يصل إلى الله أصلاً ، وهو ليس المقصود من فلسفة الذبح ، إنما يتعلق الحكم بعملية الذبح كشرط للحصول على التقوى ، لأن الذبح هنا تم وفقاً لحكم الله وإرادته .

فالذي يصل من الذبيحة إلى الله هو العمل بحكم الله وتنفيذ أوامره ونواهيه ــ أي التقوى ـــ التي هي بمثابة المرتبة العليا في الأمتثال لحكم الله وأمره . لكن مادام الأمر والمقام فيه لحوم ودماء أستعملت لفظة ــ ينال ــ في مورد التقوى .

ولاشك إن الله يستهدف من هذه العملية البنيوية رفع المنسوب والمستوى الروحي للإنسان إلى غاية كماله الذاتي والمعنوي ، ولا يتعلق الأمر بحكم خاص بواقعة خاصة ، بل هو حكم شامل لجميع المسائل الدينية ، إذ إن هدف الشارع المقدس من جملة الأوامر والنواهي هو الأرتفاع بالإنسان إلى مستواه اللائق والمرغوب فيه عند الله ، والوصول به إلى مستوى عالم الحضور والشهود الحقيقي الواقعي الذي يكون مصداقه قوله : ـ المؤمن يرى بنور الله ـ

والنور إنما يأتي بفضل الأمتثال الطوعي لأحكام الله ، حتى لو وقع ذلك الأمتثال على خلاف الحكم الواقعي غيباً فإنه يُحقق السعادة ، كما في مثالنا المتقدم حول جواز الوضوء من الأسفل إلى الأعلى الذي أفتى به السيد المرتضى . لأن الفتيا تمت أمتثالاً لأمر الله وألتزام طاعته ، ومنها يحصل النور والكمال الذاتي ، وفي المقابل حصل ذلك النور الإلهي لمن يُفتي بوجوب الوضوء من الأعلى إلى الأسفل ، أمتثالاً لأمر الله وألتزام طاعته .

وهذا الأخلاف في الفتوى الإجتهادية لا يعني مطلقاً أنهما من جهة العمل ومقدمات الأستنباط كانا مختلفين ، بل وبالعكس كان عملهما من جهة مقدمات أستنباط الحكم واحداً وذلك لأن :

1 – كلاهما عمل بجد وإخلاص من أجل تشخيص الحكم الواقعي .

2 – كلاهما لم يقصر في مقدمات الأستنباط .

3 – وكلاهما أفتى أمتثالاً لأمر الله .

وهما بذلك قد حصلا على النور المعنوي ، حتى لو كان حكم أحدهما غير منطبق على الواقع في علم الله ، لأن إنطباق حكم أحدهما على الواقع وعدم إنطباق حكم الآخر عليه لم يكن بإختيارهما ، لا يمنع من الثواب والأجر .

فنبي الله إبراهيم (ع) أعتقد ان الأمر بذبح ولده أسماعيل ( ع) كان أمراً واقعياً لذلك قام بإجراء هذا الأمر أمتثالاً وطاعة له سبحانه .

وحتى لو كان الأمر من جهة الفعلية غير منطبق على الواقع ، لكن الأثر المعنوي والذاتي هو حصول الكمال ، والأمتثال لدى إبراهيم (ع) بتنفيذ الأمر الربوبي من اجل تحصيل الكمال في الطاعة والأمتثال للأمر المولوي .وهذا المثال يمكن ان نستعيره هنا في مسألتنا لتوضيح فيما لو وقع حكم المجتهد السني مخالفاً لحكم الله الواقعي ، ما دام المجتهد قد عمل بإجتهاده الحاصل لديه من خلال العلم القائم على معرفة الحكم من أدلته التشريعية التفصيلية من دون تقصير في مقدمات أستنباط ذلك الحكم .

وبإعتقادي لو كان العمل يشترط فيه الأنطباق الفعلي على الحكم الواقعي حتى يحصل الأجر والثواب ، للزم أن يكون عمل إبراهيم (ع) بلا فائدة ، لأن عمله وقع على خلاف حكم الله الواقعي . وهنا لابد من التذكير بإن إبراهيم النبي (ع) قام فقط بمقدمات العمل ، ولم يقم بالعمل نفسه ( ولكنه في المسألة هذه لايوجد فرق بين مقدمات العمل وذات العمل ) .

 

***

مثال فقهي أصولي

 

أعترف المحقق الحلي صاحب كتاب شرائع الإسلام وكذلك العلامة الحلي صاحب كتاب التذكرة ، وصاحب المعالم في الأصول بصحة ــ القياس المنصوص العلة ــ وأعتبروه  أحد الأدلة التشريعية في الإستنباط مثله في ذلك مثل الكتاب والسنة والإجماع والعقل (1)

فالمحقق الحلي  كان قد أستنبط مائة حكم فقهي من القياس المنصوص العلة ، وقد عمل بها هو ومن قلده بتلك الأحكام . ولكن السيد المرتضى كان قد أفتى ببطلان العمل ــ بالقياس المنصوص العلة ــ وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال هو : هل كانت اعمال المحقق الحلي ومقلديه باطلة في الموارد المائة التي أستنبط حكمها من القياس المنصوص العلة ؟

مع إننا نعتقد بإن المحقق الحلي لما أعتبر القياس المنصوص العلة حجة بعدما أكتشف دليله أو أدلته في الموارد المائة المذكورة آنفاً .

ونعتقد كذلك بأن المحقق الحلي لم يكن مقصراً في مقدمات أستنباطه للأحكام الشرعية في تلك الموارد المائة . وإذا كان ذلك كذلك ؛ فهل من الحكمة بمكان أن تعتبر أحكام هذه الطائفة من الفقهاء الذين أعتبروا القياس حجة ، ضالة ومضلة وأعمالهم مستحقة للعقاب الأخروي ؟

مع إننا نعلم جيداً إن الأدلة الشرعية لها طريقية وليست لها موضوعية والهدف منها أستنباط أحكام الله من خلالها ، وهي طريق للعمل من أجل التقرب إلى الله والحصول على درجات الكمال المعنوي والذاتي .

نعم إن المحقق الحلي حينما أستنبط أحكام الموارد الفقهية المائة من القياس المنصوص العلة (1) إنما أستنبطها بعد جهد علمي وإجتهاد نظري وفكري وعلمي هدفه أمتثال أمر الله وتحقيق طاعته ، ويقيناً فعمله مجزي ومبرئ للذمة حتى ولو وقع مخالفاً للحكم الواقعي .

وإذا تمّ هذا أمكن القول : ـ إذن ما هو الفرق بين المحقق الحلي والمجتهد السني الذي يستنبط أحكامه من القياس المنصوص العلة بإخلاص وتفان بها هو ومقلدوه ؟

أنني لا أرى بينهما أي فرق ، طالما أن الأثنين لا يُريدان من ذلك إلاّ مرضاة الله وإمتثال أمره . وبناءً عليه فما دام المحقق يرى أن له كامل الحق في أستنباط  الأحكام الشرعية من القياس المنصوص العلة ، فكذلك للمجتهد السني كامل الحق في أستنباط أحكامه الشرعية من القياس المنصوص العلة (1)