مثال فقهي

أفتى السيد المرتضى في كتابه الأنتصار ؛ بجواز غُسل اليدين في الوضوء من الأسفل إلى الأعلى ، وإعتبر ذلك الوضوء مُجزياً وصحيحاً . الجوامع الفقهية ـ ص ـ 95 ـ . وهذا يعني إن لا فرق بين السيد المرتضى الفقيه الإمامي وبين أي فقيه ومجتهد سني يُفتي بهذه الفتوى ويعمل بها ، وحتى لو أفترضنا جدلاً أن تلك الفتوى لم تنطبق على الحكم الواقعي ، ولو أفترضنا كذلك إن شرائط السيد المرتضى مع شرائط المجتهد السني واحدة فإن هذا يعني مايلي :

أولاً : إن الأثنين بذلا الجهد من أجل تحصيل الحكم الشرعي وإدراك الحكم الواقعي وتحصيله .

وثانياً : إن الأثنين لم يقصرا في مقدمات الإجتهاد ، وبتعبير النص إن كلاً منهما كان ــ محسناً وليس ظالما ً ــ .

وثالثاً : إن الأثنين إستنباطا الحكم الشرعي من أدلته الإجتهادية الصحيحة .

ورابعاً : إن الأثنين إنما أفتيا بذلك من أجل الحصول على مرضاة الله ورضوانه وإمتثال طاعته .

وإذا كان كذلك ؛ فلا يُعقل أن يُثاب أحدهما ويُعتبر إجتهاده صحيحاً ومبرئاً للذمة ، في حين يُعتبر إجتهاد الثاني غير صحيح ولا يُقرب إلى الله ولا يُبرئ الذمة .

وأيضاً ليس صحيحاً أن يكون مقلد السيد المرتضى معذوراً ومأجوراً في عمله بفتوى الوضوء المتقدمة ، ولا يؤجر أو يُعذر المقلد للمجتهد السني في ذات المسألة .

يتبين مما تقدم أن مفهوم الدليل الأول كان على النحو التالي :

( إن السني سواء أكان مجتهداً أم مقلداً وعمل بوظائفه الشرعية حسب الوجه الصحيح الذي يعتقده من دون تقصير ، يكون عمله مأجوراً ومثاباً عند رب الأرباب ، وبتعبير كلام الإمام الباقر (ع) : إذا كان محسناً وليس ظالماً ــ  فإنه سيكون مشمولاً برحمة الله ورضوانه ) .

 

***

الدليل الثاني

 

جاء مروياً عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في شأن أهل الكوفة بعد أن إنتهى من حرب الجمل (1) ...

قال الإمام علي (ع) ( .. جزاكم الله عن أهل بيت نبيكم أحسن ما يجزي العاملين بطاعته والشاكرين لنعمته ، فقد سمعتم وأطعتم ودُعيتم فأجبتم .. ) وهذا القول يُعتبر دليلاً عملياً واقعياً على إن الجزاء والثواب متعلقان بالعمل المخلص لا بنوعية المذهب أو الطائفة ، وهذا ما نراه جلياً في سياق الدعاء الذي دعا به أمير المؤمنين لأهل الكوفة مع إنهم ممن يؤمنون بخلافة الخلفاء الثلاثة ـ أبي بكر وعمر وعثمان ــ طبعاً هذا الدليل يُثبت قاعدة عملية مفادها مايلي :

إن عمل أهل الكوفة في عهد الخلفاء الراشدين الذين سبقوا أمير المؤمنين ، لو كان عملهم باطلاً فإن الإمام أمير المؤمنين (ع) لن يدعو لهم بأحسن الدعاء !! .

ويجدر التنبيه إلى إن عامة المسلمين وقتئذٍ كانوا يعتقدون بصحة خلافة الخلفاء الثلاثة ، وإن علي بن أبي طالب هو الخليفة الرابع (1) أي أن الأكثرية منهم كانت تعتقد بذلك وتقيم أعمالها تبعاً إليه ، وهذا الأمر كان طبيعياً جداً للاعتبارات الإجتماعية والنفسية التالية :

( لقد تعود الجيل الإسلامي على سماع كلمات التمجيد والأطراء والتأكيد على إمامة الخلفاء الثلاثة السابقين ، لما يقارب الربع قرن من الزمان في كل خطبة جمعة وجماعة ، حتى صار التعظيم مرتبطاً بأسماء هؤلاء الخلفاء أمراً إرادياً يتعلق بالمنبه والسماع الطبيعي ... )

وهذا الشئ لم يأت صدفة بل كان إمتداداً يعكس الجو العام والظروف البيئية والنفسية التي تربّوا ونشأوا عليها . مضافاً لما تقدم قد سمعوا أو رأوا مشاركة الإمام علي (ع) في صلاة الجمعة والجماعة في المدينة المنورة في عهد الخلفاء ، وكان يشارك بشكل فعال وجدّي لحلّ جميع الإشكالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والعسكرية والعلمية التي تواجه الدولة الإسلامية .

لقد ثبت تأريخياً أنه عليه السلام يرسل أبناءه للمشاركة في جبهات الحرب في زمن الخلفاء كما حدث في معركة تحرير إيران وشمال أفريقا ، وعلى هذا الأساس فطبيعي جداً أن يتعلم الجيل الإسلامي الولاء والأعتقاد بخلافة الخلفاء السابقين ، وإنه من دون شك فإن الشيعة قد أجمعت على أن قتلى الجمل وصفين الذين أستشهدوا مع الإمام علي (ع) وتحت رايته هم من أهل الجنة ( وفي مقعد صدق عند مليك مقتدر )

وهذا الإجماع هو إعتقاد الشيعة عموماً ، ولا يطرأ عليه ريب مع العلم إن أولئك الشهداء كانوا ممن يعتقد بخلافة الخلفاء الثلاثة .. والشواهد على ذلك كثيرة من أرادها يطلبها من محلها .

وإليك بعضاً منها : روي أبن أبي الحديد المعتزلي في شرحه على نهج البلاغة عن أستاذه أبي جعفر النقيب وهو يتحدث عن أصحاب الإمام علي (ع) من أهل العراق وقوته الذين بهم خاض الحروب قال : ( .. وأهل العراق الذين هم جند علي (ع) وبطانته وأنصاره كانوا يعتقدون إمامة الشيخين إلاً القليل من خواص الشيعة ) . شرح نهج البلاغة ج 15 ص 185

وما قاله أبو جعفر النقيب صحيح جداً وما قلناه كان أمراً طبيعياً جداً .

***