التوحيد

 

بعد تسجيل هذه الحقيقة ننتقل للتعريف بكلمة ــ التوحيد ــ التي يبين مفادها انها كلمة مركبة ومشكلة من عنصري ــ النفي والأثبات ـ أي إن الكلمة مركبة من عنصر النفي ( لا إله ) وعنصر الإثبات ( إلاّ الله ) وهذان العنصران معاً يعطيان للكلمة مفهومهاً الحقيقي الثابت والمتعلق بالجانب العقيدي النظري .

كذلك فتوحيد الكلمة هي إنبثاق عن هذا المشروع التآلفي بين عنصري النفي والإثبات  بحيث يؤدي عنصرالنفي إلى دحض كل أنواع التعددية السلبية ، والخلاف الذي ينشأ بسبب عوامل سيكيولوجية وإجتماعية مختلفة ، يساهم الزمن الثقافي الراكد في إبرازها وإعتبارها حاجات يومية معاصرة ويضفي عليها أحياناً صفة الديمومة والإستمرار .

نعم ، إن قضية التعددية السلبية نشأت بفعل عوامل طبيعية ، وجاءت كرّد فعل إنعكاسي ، عبَّر عن رغبة  متدنية لدى بعض الجهلة وأهل الأهواء والمنافع ، وساهم التهريج الإعلامي بشكل مباشر في إذكائها وتسويقها من خلال حملة ممارسات خاطئة غير مسؤولة حاول التركيز عليها ، مستغلاً ما هو سائد تحقيقاً لهدفه الإعلامي ، وهذا عن عنصر النفي .

وأما فيما يخص عنصر الإثبات في الكلمة فهو عبارة عن إيجاد جو اخوي تسود فيه الأفكار الصحيحة والموضوعية ، الهادفة إلى تحريراً الإنسان من الخرافة والأسطرة والمثيولوجيا ، وتحريره من الخطابات المتدنية ، وإشاعة روح التكافل والتعاون والشورى عنده ، من خلال إحترام حرية الفرد والحفاظ على حقوقه الطبيعية ، والتأكيد على القيم والمبادئ الواقعية الرفيعة والنبيلة ، كالتأكيد على أصالة مبدأ الحرية الذي دعا إليه منتسكيو ، ومبدأ العدالة الذي دعا إليه إفلاطون ، ومبدأ الخير العام الذي دعا إليه أرسطو ، ومبدأ السعادة الذي دعا إليه الفارابي ، ومبدأ السيادة الذي دعا إليه جان بودان ،وجملة هذه المبادئ إنسانية وأخلاقية ، وهي مبادئ وقيم إليهة ، يساهم التأكيد عليها والعمل بمقتضاها جدلاً في إثارة دفائن العقول .

وهذه كلها تخدم طبيعة المشروع الوحدوي وماهيته ، وترتفع به إلى مستوى الخطاب العقلاني الواقعي ، الذي من مهامه الدعوة إلى إحياء السنة الصحيحة وإماتة البدعة والضلالة . والإحياء والإماتة حركة إعتبارية مجازية يُراد منها تقييم صورة العمل بمستوى الطموح والتحدي في المجال الأجتهادي ، والدعوة إلى إحياء السنة وإماتة البدعة دعوة حقيقة لا  شعاراً تعبوياً سياسياً لفظياً مجرداً من  معناه .

 

***

الوحدة هدف إستراتيجي

جدير بالذكر إن المشروع الوحدوي متى أصبح شعاراً ظاهرياً لا يحمل من معاني الموضوعية أدنى نصيب ، أصبح مشروعاً لا يحمل في ذاته مضموناً إستراتيجياً وحياتياً يعاصر الإنسان والفكر معاً ، إضافة إلى إن مشروعاً من هذا النوع لن يكون قادراً على التحدي والمقاومة والصمود وخدمة الجماعة الإسلامية ، وعلية فالمشروع الوحدوي لا بد أن يكون : عبارة عن مفهوم لصيغة  تنسيق أستراتيجي هادف لتشكيل  جبهة إتحاد إسلامي حقيقي ، وإيجاد سلسلة الحلقات الفاعلة الحقيقية في بناء الفرد المسلم والجماعة المسلمة . بحيث يؤدي إلى شعور واقعي بأن الفرد المسلم يمارس  إتجاهاً نابعاً من أعماق ضميره ووجدانه وعقله ، يشعر معه بقوة الأرتباط المعنوي في ساحات العمل ، وعلى الأصعدة كافة ، وهذا ممكن في حدّه الأدنى . ولكي نصل إليه لا بد من مجموعة ، ممارسات إيجابية جادة ، لإزالة التراكمات والترسبات والتزاحم في الفكر ومحتوى التفكير ، الناشئة من جماعات الضغط الأنفصالية المعادية لأهداف الوحدة الواقعية والتاريخية والثقافية والزمنية .

ومن أجل إيجاد الخطوة الأولى في هذا الأتجاه ، لا بد من مجابهة كافة التحديات والدعايات المغرضة ، التي تردد أفكار الأنتهازيين والطوباويين : ـ كمسلسل التكفير والتضليل المجتمعي العام ، والأدب الساخر من قبيل قولهم ؛ هذا من أهل التشبيه وذاك من جماعة التجسيم ، وهؤلاء من عبّاد القبور ، وأولئك من الحلوليين والمجسدين وأهل الباطن او من أهل الظاهر . وما إلى ذلك من مقولات زعماء الخلاف والمقولات المرجفة الضالة البعيدة عن جوهر الدين ومحتواه وقواعده وأصوله .

إن إيجاد المناخ الفكري الرافض لألوان التعددية السلبية والخلاف ممكن في حدّ ذاته ، ما دامت هناك مشاعر مسؤولة وعواطف إجتماعية مشتركة ، وهي بدورها  تؤدي إلى إمكانية  تحقيق حركي عملي للمشروع ، على الصعيد الأقليمي والدولي ، طالما أنه ينطلق من فكر الأمة ، وحاجتها الضرورية التي تمارس أتصالاً مباشراً بحركتها اليومية الفاعلة .

إن الوعي التاريخي ، ونظام الصيرورة وسجل الزمن التطبيقي اليومي ، يعطينا ملامح وصوراً للعمل المشترك الموحّد الفعال ، والممارسات العملية في المسجد وفي باب العقود والمعاملات تجعلنا نؤكد إن الرغبة والشعور بالوحدة من صميم المشروع . فما نراه في المسجد الحرام ، وما تقوم به الجماعة الإسلامية من مشاهد جامعة للسنة والشيعة وغيرهم من مختلف أقطار الأرض ، وهم يقفون صفاً واحداً من أجل أداء التكاليف السلوكية العملية من صلوات ومناجاة وأدعية تجعلك تحس وكأن الجميع يخوضون في غمار بحر واحد ، ويغرفون من فيض نور وروح واحدة ، تتعدى القوالب الجاهزة والعوالم الضيقة التي تخلقها النظريات المذهبية والطائفية .

إن الصلاة في المسجد الحرام ، ذلك المشهد الرائع الذي فيه الجميع مناجين ربهم مناجاة الخاشعين ، ذائبين في عالم الملكوت ودنيا التوحيد وسماء الربوبية ، وهم في لحظات عشق لا متناه غارق في بحر الأتصال الأزلي السرمدي الربوبي ،بحيث لا يشعر احدهم إلاّ بكيفية الفوز بطريق الرحمة والرضوان إلى دار السلام ، داعين لإدامة الأتصال بالحركة الجوهرية بإتجاه المطلق العظيم ، رافضين ما سواه من صور وألوان مصنوعة زائلة ، هناك تتجلى الوحدة والتوحيد بأروع معانيها وأكمل درجاتها ، تتجلى في مظهرها الأقدس للعيون والعقول ، هذه الحقيقة الموضوعية تسجلها الضمائر الحية في رؤية واضحة للإجيال ومع الزمن ، وهي لا تبدي كثير جهد وعناء لإيضاح صورة المشهد الوحودي بأبهى حُلله .

من هنا فنحن نرفض أن تتحول مفاهيم المشروع الوحدوي إلى مجرد شعارات أستهلاكية غير فاعلة ومؤثرة في الوجود والحياة ، كما نرفض أن يشعر السني في قلبه وضميره ان الشيعة على ضلال أو أنهم محرومون من لطف الله ورحمته . كما نرفض وبنفس الدرجة ، أن يشعر الشيعي في قلبه وضميره أن السنة على ضلال أو انهم مطرودون من رحمة الله وخارجون عن جادة الإسلام ، وأن أعمالهم ضالة مضلة وكلها بدع .

ونحن نعتقد بإن الوحدة التي تصنع الرجال وتغير معالم التاريخ والحضارة هي وحدة واقعية لا وحدة شعاراتية ، انها في الحقيقة مشروع حضاري في التطوير الإجتماعي والسياسي والإقتصادي ، وهي كذلك القادرة بفعل ذاتيتها وموضوعيتها على جمع أكثر من مليار مسلم في جبهة مواجهة قوى الظلم والأستبداد في الأرض والعرض والإنسان والأنتماء والهوية والتاريخ . وبأعتقادي إن تحقيق هذا الحلم لايتم من دون الأنفتاح العاقل والعادل ،

على جميع تيارات الفكر الإنساني الإسلامي إستيعابها ، والإيمان بها كمقدمات تخدم هدف المسلم في الحياة وتحقق إرادته في الوجود ، والإيمان بها على نحو لا يخرجها من المقاصد الصالحة التي أعتنت بها رسالات السماء ، وهذا كله مرهون بعمل الفقهاء ، والمفكرين ، والباحثين ، ورجال الإسلام الغيورين العاملين في سبيل إقامة الدليل الفقهي والبرهاني على صحة عمل كل فريق ،

 سواء في المستوى الأعتقادي أو في المستوى السلوكي . وأهمية الدليل هنا هو الأثبات المفيد للعلم اليقيني بأن اعمال كل فريق من المسلمين مجزئ ومبرئ للذمة ، وإن كل فريق في عمله لا يُريد إلاّ وجه الله وتحقيق مقاصده الكلية في الحياة ، وإن كل فريق في عمله لا يُريد إلاّ مرضاة الله طلباً للحق والحقيقة .

وقد تصدى جمع من فقهاء المسلمين المصلحين المعتدلين لإثبات الأدلة ونشرها على المستوى الشعبي والرسمي ، مما يجعلها تؤدي إلى عالم مشترك بالمسائل الشرعية وصحتها ، وإذا تمّ هذا فإن إمكانية قيام وحدة واقعية بين المسلمين ستكون أمراً طبيعياً قريب المنال ، وإنجاز هذا المشروع يؤدي حتماً إلى تشكيل قوة قاهرة قادرة على التصدي لكل أشكال التعددية السلبية وقوى الرجعية ، بل وقادرة كذلك على القضاء على كل الممارسات الطغيانية الظالمة ، والممارسات الأستبدادية والفاشية في عالمنا .

***