توطئة

 

1 – ما هو مضمون خطاب المشروع الوحدوي ، وما هي جوانب الضعف والقوة فيه ؟

2 – ماهي التحديات التي تواجه هذا المشروع في الحاضر والمستقبل ؟  وهل تختلف عن تلك التي واجهته في الماضي وبماذا تختلف ؟

3 -  هل المشروع الوحدوي الإسلامي ما زال قادراً بمضمونه القديم وصيغته القديمة على مواجهة قضايا الحاضر وتحديات المستقبل أم لابد من مراجعته ، وبالتالي لابد من رؤية جديدة ؟ (1)

لنحاول رسم بعض معالم الجواب عن هذه الأسئلة .

إما أن يكون المضمون الإسلامي للوحدة يعني التحول الدراماتيكي من طائفة إلى آخرى ، كأن يصبح الشيعي سنياً والسني شيعياً وبالعكس . على أن تتحد جميع العقائد والأحكام الفقهية والكلامية الأصولية لجميع المسلمين في أرجاء العالم ، بحيث تصبح الفروع والأصول واحدة ، وتنتفي كل أشكال التعددية والأنقسام الفكري والسلوكي والعقيدي ، فهذا التصور سطحي وغير تنموي وغير بنيوي ولاتحرري وغير منطقي ولا عقلي ، ويحتاج إلى قوة بيانية وبرهانية فوقية ومتعالية لتعليله وإثباته ، وذلك أمر غير متصور .

وإما ان يكون المشروع تجريبياً بمعنى أنه كان وليد التجربة والممارسة والفعل ورد الفعل ، أكثر من كونه مشروعاً نظرياً متماسكاً ومتكاملاً ، فهذا أيضاً غير صحيح لأن الفكر والممارسة أو النظرية والتطبيق كانا يسيران جنباً إلى جنب متساوين ، وأحياناً متزاحمين ، في كل حركة الإسلام وخاصة في عهد النبوة وعهد الخلافة الراشدة أي في الصدر الأول من التطبيق .

إن الإسلام في خطه البياني العام طرح شعار الوحدة كشعار واقعي تعبوي وتحريضي ، وهو الشعار الذي عبر عن مشروعه الحضاري ، أما مضمون ذلك فمعروف ، إذ أنه يعني الأتجاه المؤول والمبرمج للعناصر المشتركة والفاعلة في ساحة الأمة الإسلامية ، التي تجمع الطوائف والفرق المختلفة ، وهذه العناصر هي القوى المحركة في تدعيم المسيرة االعلمية وثوابتها البنائية المعلنة .

فال  مشروع الوحدوي ، في ظل النظام الإسلامي ليس خطاباً سياسياً منفصلاً عن المرحلة ووعيها وزمنها وتارخها ، بل هو ذلك الوعي بالتاريخ ، إذ المسلمون جميعاً بحسب طبيعة ذلك الوعي يعتقدون : ـ بنبي ورسول واحد وقبلة واحدة وقرآن واحد ـ وهذه المشتركات تشكل في العقل الإسلامي الكل المتجانس ، الكل القادر على تكثيف معطيات الواقع وصبها بقالب يمكنه حلّ جميع الأختلافات في العقيدة والشريعة ،

لأنها ستقع في دائرة العقل الكاشف وقدراته الطبيعية الفائقة في عمليات البحث والتنقيب الإجتهادية والفكرية ، التي لاتنفك جدلاً عن قضيتي الحرية والإرادة التامتين .

وهذا التوجه البياني ليس مدعاة لايجاد الفرقة والأختلاف في وحدة  الكل الإسلامي ، بل لعله يدفع ـ الكل ـ إلى أمتلاك القوة التدبيرية والعقلية ، في ما دتي الفكر والممارسة . وشرط ذلك كله وجود مجموعة ضوابط منهجية واسعة الأفق وموضوعية الحركة وهي ضرورية لازمة ، لأنها دعوة واقعية منطقية للتعامل مع ما يطرح من قضايا ومفاهيم علمية وفكرية ، وهي بدورها  تؤدي إلى احترام متبادل ومسؤول لجميع الآراء والأفكار الأخرى ، خدمة لقضايا التنمية وتعزيزاً لروح الأبداع الجاد الفاعل ، مع تهيئة كافة المقدمات واللوازم والمعدات وآليات العمل الأستدلالي المفيد ، والمؤدي إلى بيان الحجة وإثباتها ، وكشف الدليل الواقعي بالبرهان والأستنباط وتعقيب الحق ، والسماح للقعل بأن يجوب ساحة الفكر بحرية وعلمية تحقيقاً لمصلحة الإجتماع وأهداف الأمة النبيلة من خلال عنصر الحياة في المشروع :

1 – إثبات الحق بالدليل والبرهان المفيد للعلم اليقيني .

2 – كشف الحقيقة من خلال الأستنباط المشروع وضمن الأدلة والقواعد الدينية والعقلية .

إن جدلية إثبات الحق وكشف الحقيقة جدلية وجودية ، أي أنها تخضع لقوانين الوجود الطبيعي والعناصر المؤثرة فيه سلباً أو إيجاباً ، ولعل كثيراً من الفلاسفة الأغريق وعلماء اللاهوت مالوا إلى نزعة التفريق بين الحق المطلق والحقيقة النسبية المتغيرة ، وهذا التفريق له ما يبرره إذا ما أخذنا بعين الأعتبار المزايا في كل من الحق والحقيقة وطبيعتها .

فعلم الصيرورة مثلاً مجاله الخصب عالم الحقيقة ، وأما عالم الحق فالذاتي فيه ممنوع من الصرف لذلك تمتنع الصيرورة فيه ، ومن هنا يجد المرء الفاعل كثيراً من التناقضات والتقاطعات ، وكلها تبقى مقيدة بحدود الطبيعة والماهية ، ومن هنا تأتي أحكامها نسبية بنفس الدرجة التي هي عليها .

ملاحظة :

ـــــــــــــ

تزداد في الآونة الأخيرة نغمة مفادها : إن حضارتنا تكمن في إبقاء ما كان على ما كان وهي بذلك تعبر عن الجو التراثي الذي يسيطر على الفكر والعلم الديني في أطار الواقع وسلطة المؤسسات والمرجعيات الدينية . إن التراثيين يستخدمون هذه الأيام وبكثافة مصطلحاً دينياً في غير محله ، وذلك المصطلح هو ــ الردة ــ التي ذكرها في التنزيل الحكيم في سياق تاريخي ومعرفي معين . ولكن هذا السياق وبفعل سلطة المرجعيات غدا عنصر فعالاً بيدهم يرمون به كل من خالفهم في مجال العقيدة والشريعة . أي أنهم أفرغوه من محتواه وإطاره المعرفي التاريخي وألبسوه مفهوماً وأطاراً فقهياً سلطانياً .

بمعنى أدق : إن مصطلح ـ الردة ـ معرفياً نحا به فقهاء العصر الوسيط منحى يلائم طبيعة الحاكم المستبد الظالم ، فأصبح ـ المرتد ـ في عرف المتفقه  ويعني : كل مخالف لأصول المذهب السياسي والفقهي والكلامي ، وهو بناءٌ على مخالفته يجب قتله ، ولهذا حكموا عليه بذلك ، والحكم نقرأه في كل الكتب والدفاتر والأوراق الكلامية والفقهية والسياسية .

 وبهذا اللحاظ القيمي يصبح ــ المرتد ــ إنساناً يمتلك رؤية محددة عن قضايا سياسية وفقهية وكلامية ، ولكنها رؤية مغايرة لسلطة المرجعيات والأحزاب والمؤسسات التي تتخذ من الدين شعاراً لها . ولقد تحدث التنزيل الحكيم عن مفهوم ـ الأرتداد ـ على نحو عام ، أي انه لم يحدد على وجه الدقة المفاد الحركي لمعنى ـ الأرتداد ـ بل هو مطلق ( من يرتد منكم عن دينه ) والدين عموم وخصوص ، والمراد كما في سياق المعنى العام الذي يمكن تأطيره بما أصطلح عليه بمفهوم ــ العمل الصالح ــ .

وعندما ذكر التنزيل الحكيم ذلك لم ينس البتة التأكيد على الحرية كواقع وكضرورة وكحاجة ، حرية المعتقد ، وحرية السلوك . والحرية شعار تعبوي  صيغ في التنزيل على النحو التالي :

قال تعالى : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } .

وقال تعالى : { قل وإناّ أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين } .

والحرية نفرأها كذلك عند  محمد بن عبد الله  (ص) النبي والرسول أعتقاداً وسلوكاً ، بل أنه أعتبرها الموضوعي المساوق لطبيعة الوجود الإنساني .

فهو القائل : ( أول الإيمان الشك في الله ) ــ أو ( الشك أول الإيمان ) .

والحرية في هذا السياق عبارة عن أمتلاك الإنسان نفسه وعدم خضوعه للمؤثرات العقيدية والسلوكية التي تفرضها المدارس الفرقية والمذهبية الكلاسيكية .

إذن فالحرية في الأعتقاد وفي السلوك شرط أقتضائي لازم لصحة الأعتقاد والسلوك ، لكن المدارس الفرقية العتيقة تعتمد على ( التقليد ) كنهج مدرسي أكاديمي مطبق في التعامل مع الأشياء والموضوعات ومع ضغوطات الواقع وقلقة العرضي والشاقولي ، وأهل التقليد يتمسكون دائماً بالشعار القائل : ( من لم يقلد مات ميتة جاهلية ) ووضعوا من أجل ذلك الأحاديث المزورة والأخبار المكذوبة ، ومن بينها ما ورد في التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري (ع) (1)

وكذا كان اهل التقليد يتبنون ما قاله الشعراني عن علاقة : ( الشيخ بالمرتد ) تلك العلاقة المكونة للأدب الصوفي والفقهي في آن معاً . وهذا السلوك الدوغمائي جعل الكثيرين في عصرنا يعتبرون التقليد آفة خطيرة لأنها تحدّ من نشاط وإبداع الإنسان وتجعله أسيراً لسلطة الأوهام والخرافات ، مع أن الإنسان وجودياً خلق من أجل غاية نبيلة راقية ذكرها التنزيل تحت بند : ( أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً ) أي إن الغاية من الخلق هو دور الإنسان في الخلافة وعمارة الأرض والحياة والكون ، ومع التقليد ينتهي والى الأبد دور الإنسان في الخلافة والعمارة .

ولذلك نلاحظ وقوف رجال السلطات المرجعية الدينية عند نقاط تاريخية ما ورائية هي من بنات عصر ذلك الزمان بكل مفرداته اللغوية والمعنوية ، وهم بالتالي ليسوا الرجاء ولا الأمل بل لعلهم يساهمون ، عن عمد أو بدونه ، بتخلف المجتمعات اللإسلامية بحيث غدت سّماعة للإخبار منفعلة بها غير فاعلة وغير منتجة وأكثرها مستهلك في ظل عصر التقنية والتطور العلمي الرهيب .

إن مساهمة رجال السلطة المرجعية في التقليل من دور العقل في النهضة والإصلاح وإعادة البناء ، هو العلة المباشرة التامة في فك العلاقة بين الدين والحياة عند الكثيرين ، فلطالما كان العقل محكوماً عليه ومطروداً من الساحة ، فإنه بالتقابل المنطقي يحدث الأنفكاك والنزوح إلى ساحات وميادين عمل أخرى ، تساهم في التوعية  وزيادة الأنتاج في المديات التي تتحرك فيها .

لقد ساد في فترة من التاريخ ، ولازال يعمل به ، ذلك القول الشهير : ( من تمنطق فقد تزندق ) أي من فكر بعقله وبإدواته المعرفية العلمية وبحرية فهو عندهم ـ زنديق ـ يجب في حقه كل شئ من التهم والدعايات المغرضة والقذف بكل قبيح .

والزنديق ( كلمة فارسية معربة ) هو الذي لم يضع على عقله حجاب التقليد ، أي أنه المنفتح على الواقع الموضوعي يقرأه بعقلانية وهدوء دون إضافات أو زيادات او لواحق ، ينفتح على كل الساحات ويتحرك في كل الدوائر ، يحلل وينقد بعلمية من دون إساءة أو تهميش للآخرين مهماً كانت درجاتهم العلمية والفكرية .

إن ( من تمنطق فقد تزندق ) مقولة غاضبة على دور العلم الجديد في صناعة المواد وتحويلها إلى ـ ما ينفع الناس ـ لذلك سادت في الوسط الديني الذي يرفض النظام المعرفي ويؤمن بالفوضى والاضطراب والاهتزاز والخلط اللامعرفي لقضايا الحق والباطل بقضايا الحلال والحرام ، فصار الحلال عندهم حقاً والباطل حراماً والعكس بالعكس في إتجاهات وأحكام وموضوعات التاريخ والفقه وأصول الكلام والفلسفة .

من أجل هذا تضخم مفهوم ــ الأرتداد ــ تضخماً لا تاريخياً ولا معرفياً خاصة بعد الحكم الذي أصدره أحد رجالات الدين على كاتب روائي ، ذلك الحكم الذي أوجد موجة من الأرهاب المتقابل بين الفكر والفكر المضاد ..

ولكن كيف تعامل ــ التنزيل الحكيم ــ مع مفهوم الأرتداد ؟

لانود الدخول في بحث لساني للكلمة ، ولكننا سنرتل بعض الآيات التي ورد فيها ذكر الأرتداد ومن ثم نتبين الحكم :

قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } ( المائدة / 54) .

وقال تعالى : { ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } ( البقرة / 217) .

وقال تعالى : { إن الذين أرتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سوّل لهم } ( محمد / 25) .

وقال تعالى : { ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين } ( المائدة / 21) .

وقال تعالى : { وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون } (التوبة / 45) .

1 – مفهوم ـ الأرتداد ـ في التنزيل لايعني البتة أنكار وجود الله ، فهذا الموضوع ليس مصداقاً لهذا المفهوم (1)

2 – ةليس من مصاديق ـ الأرتداد ـ منكر الهوية كالمشرك او أصحاب الثالوث المقدس وغيرهم .

3 – وليس في التنزيل الحكيم ما يدلل على إن من أرتد فاقتلوه .

والأرتداد كمفهوم لايرتبط بقضية الإيمان بالله أو الإيمان باليوم الآخر ، إنما للمفهوم مصداق آخر في إنكار الطبيعة والعلاقة معها (2) ، وكذا للمفهوم مصداق يرتبط بقضية ـ العمل الصالح ـ الذي هو عبارة عن مفهوم كلي عام .

ولعل أقرب المصاديق إلى الذهن هو ما نعبر عنه ــ بالأعمال المناقضة للكليات ـ كالبعث بأمن العباد والبلاد ، والظلم والجريمة والقتل والبغي والفتنة ، وكذا مناقضة القيم والمثل الأخلاقية والإنسانية العامة . ويجب الأشارة إلى مايلي : قد يقع الإنسان مصداقاً لمفهوم الأرتداد بالمعتى المتقدم ولكن لايعني هذا ألبتة أنه يجب او يجوز قتل ذلك الإنسان ــ لمجرد مخالفته على الصعيد النظري ، فهذه المخالفة لامانع ولاضير منها ، وقد قدمنا إلى ذلك ببعض البيانات من التنزيل او من كلام سيد المرسلين ، وفي كليهما دعوة صريحة لتجاوز الأطر الضيقة والحواجز الأكليروسية والزوايا والتكايا التي تضعها سلطة الأراخنة من التراثيين وأصحاب الفرق والطوائف .

وإذا حددّنا المفهوم المعرفي ــ للآرتداد ــ خرج تخصصاً من هذه القيدية جميع اللواحق من قبيل : ترك الشعائر ، وعدم الأعتناء بالفروض ، وحتى الجدل وإثارة القلق المعرفي ـ الذي يقوم به رجال في العصر الحديث من الذين قدموا أنتاجات فكرية كان السلف الصالح قد فكر بها ونبه إليها ، ولكنها ظلت قابعة كأفكار في أطار مفاهيمي خاص أطلقوا عليه أسم ــ الشواذ ــ كآراء أبي حنيفة ، وسفيان الثوري ، وأبي ثور ، وأبي مسلم الأصفهاني ، وأبن رشد ، والطبري ، وابن تيمية ، وصدر الدين الشيرازي ، والكسروي صاحب كتاب أسراار الألف عام وغيرهم .. فهذه الآراء والأفكار يتداولها البعض في عصرنا ويكتبها آخرون تحت عناوين متعددة كالتجديد والتحديث ، والإصلاح ، وإعادة البناء ، والمعاصرة . وكلها تتفرع من الحرية الفكرية والتعددية والأختلاف المباح في وجهات النظر في القضايا والمسائل الحيوية .

فهل يُعدُ من جاء بها مرتداً ؟

لعل التصنيف التراثي لهؤلاء المبدعين يقع تحت أسم ــ المرتدين ــ بشكل أو بآخر ولكن ذلك التصنيف مخالف لطبيعة وواقع الأحكام الواردة في الصريح والصحيح المنقول .

بل ولا نجد في التنزيل ما يدل على اعتبار التفكير جريمة يُعاقب عليها ، لكنه دعا وبقوة للتدبر والتفكير ونزع الأغلال والقيود الجسدية والعقلية التي تكبل الإنسان وتقلل من أندفاعته بإتجاه العمل الصالح :

قال تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } .

وقال تعالى : { ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } .

ونجد الدعوة إلى التفكير العقلي والتدبر العلمي وردت في لسان الأخبار المنسوبة إلى رسول الله (ص) قال : ( تفكر ساعة خير من عبادة سنة ) .

وقوله : ( خير الأعمال التفكر في خلق الله ) .

وقوله : ( الشك أول الأيمان ) .

ولهذا فالإنسان في حدود العلاقة التي ذكرناها يظل في دائرة الأجتهاد النظري المباح ، وأما الأرتداد ــ الذي نسمعه بين الفينة ولأخرى ، فهو إخراج متعمد للإنسان من دائرة الإيمان والإسلام ، وهذا الأخراج مصدره السلطات المرجعية المهزومة أمام إبداع الثقافة والعلم الجديد ولغتهما . اللغة التي تعتمد على أدوات ووسائل إنتاج معرفية غاية في الدقة والصرامة ، وهي بالتالي تتحرك في دائرة اوسع من تلك التي يتحرك فيها التراثيون وزعماء الخلاف ، الذين ينشغلون طويلاً في الأحكام الوظيفية والفقهية من طهارات ونجاسات وعبادات ومعاملات .

والأرتداد كما قلنا خارج موضوع نكران وجود الله ، وهو يتموضع بالمسائل الملحة والتي ترتبط بشكل مباشر بحياة الناس ، فالظلم من الأرتداد ، والجريمة من الأرتداد ، والبغي والقتل والفتنة كلها عناوين بارزة لمصداق الأرتداد ، سواء حصل ذلك في البلد الواحد أو الشعب الواحد او في الدين والملة الواحدة . وإذا عُرّف ــ الأرتداد ــ مصداقاً خرج بقيدية التقابل وواقع الحال كل ما عدا ذلك .

فالأرتداد = الظلم ، وكذلك .

الأرتداد = الجريمة ، والفتنة ، والبغي ، والقتل .

يظهر ذلك في قوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين أقتتلوا فاصلحوا بينهما فان بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى امر الله } .فالبغي هنا يعني ـ الأرتداد ـ وبناءً على ذلك فما جرى في التاريخ الإسلامي ، كالذين ــ أرتدوا ـ في عهد أبي بكر ، إنما كانوا بغاةً خرجوا على النظام والقانون العام ، وحاولوا إثارة الفتنة والشغب والفوضى والقتل ، فهم لهذا يجوز قتالهم وقتلهم ، وهذا الجواز لا من حيث كونهم ـ مرتدين عن الدين أو المذهب ــ فهدة الحيثية لايجوز قتال أحد من أجلها ، ذلك لأنه :

قال تعالى : { لا إكراه في الدين } .

وقوله تعالى : { أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } .

وهذه منه تعالى قاعدة مضطردة  لا تقبل التخصيص أو التقييد أو النسخ ، إذن فالقتال الجائز والمرخص شرعياً هو : قتال الجماعة التي تحاول إفساد النظام العام بالقوة المسلحة ـ فمن هذه الناحية صار القتال جائزاً بل واجباً .

كذلك قوله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ..} .

أي إن الأذن بالقتال لوجود الظلم ، فالظلم هو العلة التامة التي يُرخص من أجلها القتال شرعاً وقانوناً .

وأما حكم ـ  المرتد ــ فإنه جدلاً يتحرك في هذه الدائرة ، إذ لايجب قتل :

أ – من سب الله .

ب – أو تهجم على رسول الله (ص) .

ج – أو أظهر القبيح بحق رسالته ونبوته .

وكذ لايجوز تسمية من فعل ذلك ـ مرتداً ـ (1) فالنبي والرسول (ص) سمع من قومه ومن غيرهم الكثير من ذلك ولم يسُمهم ـ مرتدين فقد قيل عنه : كاهن ، وساحر ، وكاذب ، ومعُلم مجنون ، ... ومثل ذلك مما كان يقوم به عرب الجاهلية والذي لايقل شأناً في السلوك عن السب والشتم في معاملتهم معه (ص) .

كذلك ولايصح إطلاق مفهوم ـ الأرتداد ـ على من خالف المذهب او الملة او الدين ، فالمخالفة طريقة مشروعة للوصول إلى غاية اليقين ، ولا تأتي هذه في كثير من الأحيان إلاّ بتلك . ولايجوز الحكم ـ بالأرتداد ــ جزافاً على من خالف رأيه رأي الكهنة وتجار المؤسسة الدينية . ولم نجد في التنزيل ــ الحكم بالقتل على المرتد ــ ولم يرد ذلك ألبتة في سنة رسول الله (ص) الفعلية والقولية الصحيحة ، وأما ما ينسب إليه انه قال ( من بدل دينه فأقتلوه ) فهذه النسبة ليست صحيحة من وجوه :

الأول : الأشكالية المفهومية التي تلف متن الحديث من مفرداته اللغوية والمعنوية والارتباك الواضح في معنى ــ الدين ــ وما المراد منه ؟ أهو الدين الطبيعي أم الدين الألهي ؟

الثاني : عدم صحة الحديث من جهة السند الروائي ، وهذا ما حكم به الإمام مالك ، وكذلك شيخ الإسلام أبن تيمية في فتاواه .

فحديث : ( من بدل دينه فأقتلوه ) ـ موضوع حكماً ولايعتد به في هذا الباب .

وحكم القتل في التنزيل لم يرد إلا بخصوص المحارب المعتدي الظالم بحق الجماعة ونظام الإنسانية وقانونها (1) . وإذا ثبت هذا فإنه ليس ذاك كما لايخفى على اهله .

إذن فدعوى ــ الأرتداد ــ التي نسمعها في وقتنا الراهن ، هي دعوى ذات دوافع سياسية وإقتصادية وإجتماعية ، وهي بالتالي ليست دينية يقيناً ، وإذا أردنا الدقة فإنها ذات دوافع خاصة ترتبط بمصالح الطبقة الدينية الرسمية والمرجعيات الوافدة ، التي ترغب بأن تبقى الأوراق دائماً بيدها . ولذلك فهي تسعى جاهدة لأن تصور للناس البسطاء والسذج منهم ؛ بأن الخروج عنهم هو بمثابة الخروج على الله ورسوله (ص) وهذا الحكم هو الذي تحاول المؤسسة الدينية الرسمية تعميمه وزرعه في قلوب وعقول الناس ..

بقي ان نقول : إن التنزيل الحكيم دعى إلى وحدة الناس من خلال وحدة الدين والمذاهب فقال تعالى : { إنما المؤمنون أخوة } هذا أولاً .

قال تعالى : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون } وهذا ثانياً .

***