مقدمة الطبعة الثانية

 

بسم الرحمن الرحيم

إن ــ خطاب المشروع الوحدوي ـــ هو المشروع الديني والسياسي للوحدة في الإسلام  منظوراً إليه داخل إطار الواقعية لا المثالية المغرقة في الخيال والطوباوية ، ولذلك فلا حاجة لإعادة تقديمه هنا مرةً أخرى بكلام سيكون في كل الأحوال تكراراً لما ورد بيانه في المقدمة الأولى ؟

ولانرى حاجة إلى عرض وصفي تحليلي لمحتوياته من جديد ، لأن أي عرض من هذا النوع سيكون بالضرورة تكراراً وإعادة لما أطلع عليه القارئ أو بإمكانه أن يطلع عليه في مطاوي الكتاب وفي فهرسته .

شئ واحد نريد أن نضيفه إلى هذا التقديم هو : إن الحاجة إلى إعادة طبع هذا الكتاب من جديد تأتي أستجابة لضرورات موضوعية وحاجات من وحي الواقع والزمان ، جعلتنا أكثر إصراراً على ملاحقة الأفكار الوحدوية في سُلم الصعود ، وطريقة التبني والعرض الذي جرى  ممارسته في السنوات القلائل الماضية ، والمحكوم بنزعة فوقية مؤسسة داخل زوايا فرقية ومرجعية بعيدة عن الواقع في الحال والمصدر ، وفي الزمان والمكان .

إذن فالحاجة إلى إعادة بناء المشروع الوحدوي هي من وحي الضرورات في الوجوب واللزم ، بلحاظ ما يجري من ضغوطات في الواقع واللزوم ، بلحاظ مايجري من ضغوطات في الواقع ــ زمانية ومكانية ــ كما إن الإعلام المعادي زاد من وتيرة الضغوط على الإسلام الوحدوي  وأخذ الضغط أشكالاً وصوراً شتى ، كان أخطرها ولاريب الأتهام بالارهاب والعنف ، الذي كان يمارس من قبل المنظمات والجماعات الإصولية الإراهابية بأسم الإسلام ، وقد تبنت هذه الجماعات والمنظمات هذه التهم دوائر ومؤسسات إعلامية عربية وإسلامية عن قصد أو بدونه ، ولعل لبعض هذا التبني مايبرره إذا ما فهمنا الطريقة الخاطئة في الأداء ، التي طرحتها بعض التنظيمات والأحزاب والمرجعيات الدينية لمفهوم الجهاد ،

رغم إن الأدب والثقافة والمعارف الدينية في التنزيل الحكيم أرتقت بموضعية الجهاد إلى مصاف القيم الإنسانية النبيلة والمُثل الراقية ، التي هي عبارة عن العدل ، والحرية ، وحقوق الإنسان ، والإستقلال ، والديمقراطية ، والوحدة . وهذا يعني إن الوقت قد حان لكي يُعيد المسلمون فهم الجهاد على أسس موضوعية تنسجم وطموحات الإنسان الحضارية الرافضة للظلم والإستبداد وكل أنواع الهيمنة الدكتاتورية الفاسدة اللامشروعة .

كما إن الوقت قد حان أيضاً  لإعادة تقييم وتفعيل الدور الديني والسياسي في حياة الشعوب الإسلامية ؛ بمعنى أدق : إن الحاجة غدت ماسة لإعادة تقييم وفهم كثير من الشعارات التعبوية والتحريضية التي ترفعها بعض التنظيمات والأحزاب والمرجعيات الدينية ، معتقدة أنها تمارس دوراً طليعياً في التمسك بها وإن ذلك يؤدي بالنهاية إلى تطبيق الشريعة ، الذي يجري تداوله في الإعلام الرسمي والحزبي ـــ قطرياً وإقليمياً ودولياً ــ والمتموضع داخل الشعار القائل : ( .. ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم [ الكافرون ، الظالمون ، الفاسقون ] ) ( المائدة / 44 ، 45 ، 47 ، ) .

وهذا الشعار ليس سوى جزء آية في سياق الحديث عن القانون وعن الكيفية التي يتم إجراؤه بها ، كما أنه تذكير بسلسلة إلتزامات فرضية قررت الطبيعة المادية بين الفعل والفعل المضاد ، ولذلك فهي ليست من قبيل مفهوم الحكومة والخلافة ، ولا حتى هي من قبيل المفهوم التداولي لتطبيق الشريعة في الجزء أو الكل عند الفقهاء والأصوليين .

ومفهوم [ بما أنزل الله ] مفهوم مطلق له عموم وخصوص ، يجري تطبيقه في الأعتقادات ، والسلوكيات ، والآداب والسنن ، وهو عند الفقهاء خصوص ــ الدين ــ مع إن التخصيص المزعوم ليس من لوازم الآية إلاَّ بقيدية المقدمة الأصولية في وجوب ـ أنتخاب الحاكم العادل (1) ــ الذي له صلاحية التخصيص في هذا المجال حصراً ، وهذه كما ترى قرينة مقامية ، والشريعة مفهومها نسبي يتبع طبيعة المصاديق والتعليل في الزمان والمكان ، والحكم المستنبط من الكتاب لابد أن يلتزم بطبيعة الأرضية المعرفية الخاضعة لمفاهيم من قبيل التقدم والصيرورة والمثال والأين واللحظة ، وهذه أمارات إعتبارية زمانية ومكانية .

وبالتالي وبعيداً عن شأن وسبب النزول الذي يلتزم به التراثيون فإن حكم ــ ما أنزل الله ــ لايعني البتة الدولة والحكومة ، بل يعني طريقة التطبيق المنتظم بسلم ــ التأويل ــ الذي هو من سنخ عناصر العقل الفاعل ، الحاكم هو والعرف في لحظة غياب العنوان الأولي والمقدمة الفعلية ، أعني : إنتخاب الحاكم العادل ، والحصر بهما حصر إقتضاء وإحتراز ، ويجب التأكيد على أن تقديم المتغير على نفسه باطل لأنه يستلزم الدور كما يقول جمهور الأصوليون .

وعليه فالمعول على المفكرين التخفيف من حدّة الإهتزازات اللاشعورية المتأثرة بلا وعي بمفهوم الشعار تبادرياً ، والتخفيف بحد ذاته عقلنة وإنتظام في الشعور المعرفي الجماعي الواقعي ، والعقلنة تأهيل كل ما هو غير طبيعي وترويضه ليكون في خدمة ( ما انزل الله ) ضمن مقتضيات العقل .

إن الوحدة بالمفهوم الواقعي والتي ندعو إليها هي تلك الوحدة الإنسانية التي هي وحدة أهل الديانات السماوية المعبر عنها بالقول التالي : ـ إن الدين عند الله الإسلام ـ فالوحدة ضمن هذا المناط محطة للتكامل الإنساني ، وأما التمايز فينحصر ضمن مفهوم : ـ إن أكرمكم عند الله أتقاكم ـ ذلك لأن الله قد جعل الناس في البدء شعوباً وقبائل من التعارف مع حفظ الهدف والغاية من الخلق . ولايظن أحد إن الوحدة بهذا المفهوم على خلاف ما تسالم عليه الناس من تسمية المسلمين بأنهم خصوص من آمن بمحمد إبن عبدالله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بل هم عموم من آمن بالله واليوم الآخر ، وبالتالي فالإسلام عنوان عام يشمل جميع الرسل والأنبياء إلى يوم يوم القيامة .

إذن فالوحدة التي ندعو إليها هي تلك الوحدة التي تحقق للإنسان قيمُه ومُثله العليا وسعادته وإرادته الخيّرة في العدل والحق والحرية ، وفي هذا المجال تصادفنا المقولة الرابعة : ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء ) جدلياً بالقول التالي : ( لا إكراه في الدين ) المندك في المأثور القائل : ( الناس صنفان أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق ) المأثور الذي يجسد معنى الحرية التي هي الشرط الإعتباري للوحدة ، وكذلك مبدأ إحترام التعددية الفكرية هي نتاج جهد ونشاط واع ، هادف للوصول إلى الحقيقة المرجوة في القول التالي : ( قل وإنا أو إياكم لعلى هدىً أو في ظلال مبين ) القول الفاعل في ساحة الفضاء الرحب المنفتح على الواقع دون سقوف أو حدود إصطناعية مذهبية وسياسية ، تلك السقوف التي تحد من نشاط وإبداع الإنسان في بلوغه لإهدافه المقررة .

والوحدة عندنا تتجاوز ذلك المعنى الطوباوي في الضم أو الألحاق وإلغاء الدولة القطرية ، لأن الدولة القطرية أصبحت حقيقة واقعية ، لذلك فالجهد المبذول في الإتجاه الوحدوي لابد أن ينصب لمفهوم التكامل في انساق والنشاطات الإنسانية التي تعزز طبيعة التحولات العلمية والمعرفية وأثرها في التنمية والبناء والتقدم ، ولهذا تصبح الوحدة دعوة للسلام ونبذ العنف والتمسك بالقيم التي تصنع الحياة وتحرر الإنسان من الكسل والخمول .

وهذه الدعوة بلا ريب لاتنسى مفهوم الدوائر ومراكز الأستقطاب ؛ أعني الأقرب فالأقرب وكذلك فعلنا هاهنا ، أذ دعونا أولاً للوحدة ضمن إطار : ( إنما المؤمنون إخوة ) ثم عززناها بدعوة لوحدة تأخذ البعد القيمي من الأطر التاريخية والجغرافية واللسانية ، وكل هذا بعيداً عن التوتر والقلق الأعتقادي والنفسي الذي تصفه وتمارسه بعض المذاهب والمدارس الدينية في رؤية تراثية دفاعية لاتتكئ على قواعد وأصول معرفية  رصينة  ، ومع إننا نلتزم بالشعار القائل : ـ إختلاف علماء أمتي رحمة ـ والموظف معرفياً في التكامل والتطور لا في التنابذ والخلاف الذي يجسده القول المزعوم : ـ تختلف أمتي إلى بضع وسبعين فرقة واحدة في الجنة والبقية في النار ـ وهذا القول ليس سوى ذلك الوافد التوراتي الذي ألصق بالفكر الإسلامي عنوة من أجل أهداف فرقية ومذهبية ضيقة سياسية في اغلب الأحيان .

كما إننا دعونا إلى الإبتعاد عن التطرف في الأحكام والفتاوى الجزافية من التكفير والتفسيق والإرتداد ، وإعتبرنا ذلك إسقاطات تأريخية وكلامية وفقهية غير موضوعية وغير واقعية ، أذ للفكر والفسق والإرتداد مجال تداولي وتقابلي خاص يجب مراعاته قبل النطق بأي حكم أو فتوى ، ودعوتنا هذه تسري على التاريخي وعلى ما هو حاضر ومعاصر . وبالتالي فنحن فخورون بما حققه هذا الخطاب في العقل والضمير ، وبما أدى وسعى إليه من تصحيح وإصلاح للديني والسياسي في مجال العلاقة مع الآخر ، وهو بعدُ جهدٌ مشترك ساهم فيه التنزيل والعقل والثقافة والزمن بدرجات متفاوتة ، مساهمة جعلت منه المشروع الأكثر إستجابة لطموحات الناس وآمالهم العراض ، خاصة وإنه لم يكن مشروعاً نظرياً بالمعنى التقليدي .

فليعزز هذا المشروع ثقة العالم بما يطرحه وبما يؤكد عليه وبما ينتجه وبما يؤول إليه .

( وما توفيقي إلاً بالله عليه توكلت وإليه أنيب )

الركابي

15 شعبان 1417 هجرية