.

الفصل الثامن

تصنيفات إشكالية تختزل الفكر والواقع معاً

 

الإشكال الأول

قالوا إن الإمام الحسين عندما خرج من مكة كان يقرأ قوله تعالى : ( فخرج منها خائفاً يترقب ) وهذا إشكال واضح وغير صحيح ..

وقالوا حول أسباب حركة الإمام من مكة إلى الكوفة : لم تكن حركة الإمام بسبب دعوة أهل الكوفة فقط ، بل أن الأدلة القطعية تثبت أن الإمام لا يستطيع بحال من الأحوال البقاء في مكة ! والقرآئن في هذا الأتجاه كثيرة منها

أولاً : ما ذكرناه سابقاً

وثانياً

إن وضع الإمام حينما خرج من مكة يشبه وضع النبي موسى بن عمران عندما خرج من مصر ، لأن الإمام كان يقرأ قوله تعالى : ( فخرج منها خائفاً يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين .. ) وهذا الأمر من موسى جاء بعد أن علم ( إن الملاء يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين ) ـ القصص آية ـ 20 ، 21 ـ وهم يريدون من قولهم هذا ان يثبتوا أن حركة الإمام إلى الكوفة فقط من أجل دعوة اهلها ، بل لأنه كان في مكة قد فقد الأمن ، ومن أجل إثبات دعواهم تلك ، قالوا أنه كان يردد قوله تعالى : ( فخرج منها خائفاً ...) وهو بذلك يشبه وضع النبي موسى بن عمران خرج من مصر .

وبما أن الإمام كان يقرأ تلك الآية فذلك دليلٌ على أنه فقد الأمن بمكة ..

ولكنه يجب أن يعلم أن قولهم ؛ لما خرج الإمام من مكة كان يقرأ قوله تعالى : ( فخرج منها خائفاً يترقب ...) لم يذكر في واحدٍ من التواريخ بل إن ما في تاريخ الطبري ج 4 ص 254 وما في الأرشاد للشيخ ص ، 181 وما في الكامل لأبن الأثير ج 4 ص 17 أن الإمام قرأ هذه الآية عندما خرج من المدينة ليلاً ( فخرج منها خائفاً يترقب )

والظاهر أن الذين ذكروا مكة أعتمدوا في نقلهم على الذاكرة والحفظ ، والأن لفظ مكة يقارن لفظ المدينة أحياناً في الذهن ، فذلك وضعوا مكة بدلاً عن المدينة وبالتالي ربطوا القضية المتعلقة بالمدينة بمكة ، وقالوا : إن الإمام قد فقد الأمن في مكة وعندما خرج كان يقرأ قوله تعالى : ( فخرج منها خائفاً يترقب ) وشبهوه با النبي موسى حينما خرج من مصر .

ولكن الإمام قرأ هذه الآية عند خروجه من المدينة وليس من مكة ، إذن فقد ورد في هذا الأمر خطأين هنا أولاً :

نسبة عدم الواقعية للإمام وهو تحريف خطير لحقائق التاريخ .

وثانياً : تمسكوا بدليل لا وجود له في الخارج من أجل إثبات عدم الأمن بمكة ، والدليل الذي تمسكوا به موجود ذهناً لا خارجاً .

قالوا أن الإمام كان يردد قوله تعالى : ( ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ) ـ القصص ـ بعد قوله تعالى : ( فخرج منها خائفاً يترفب ..) ويقولون أن الإمام قرأ الآيتين عندما خرج من مكة ، ولكن الحقيقة خلاف ذلك تماماً ومراجعة بسيطة للتواريخ التي ذكرناها يتبين أنه كان يقرأ قوله تعالى : ( فخرج منها خائفاً يترقب ..) لما خرج من المدينة .

وكان يقرأ قوله تعالى ( ولما توجه تلقاء مدين ..) عندما دخل مكة لا عندما خرج منها .

وبين دخول الإمام مكة وخروجه منها ما يقارب الأربعة أشهر لكل منها حالاته ووضعه وشرائطه المختلفة تماماً ..

وهذا يدل على أن القائلين بهذا الرأي لم يراجعوا التاريخ ، وأنهم أعتمدوا فقط على ما في الذهن ، وبدل أن يذكروا إن الآية إنما ترتبط بدخول الإمام إلى مكة قالوا إنها مرتبطة بخروجه من مكة ، وهذا تحريف واضح للتاريخ ، ولولا تذكيرنا بذلك لبقي الأمر سارياً نرجوا أن يتوجه الجميع إليه .

الإمام يردد قوله تعالى : ( ولما توجه تلقاء مدين ..) عندما دخل مكة وحاله يشبه حال النبي موسى عندما ذهب لمدين وبناءً على هذا الوصف فيمكن أن تكون مكة تشبه مدين ، يعني كما ان النبي موسى عند وصوله إلى مدين نجا من شر حكومة مصر كذلك الإمام نجا من الضغوط التي كان يواجهها بالمدينة حيث سُلبت أمنيته هناك ، ولما أستقر بمكة أمن من مهاجمة الأعداء له ، وعليه فالآية تناسب دخوله إلى مكة لا خروجه منها .

ولو أفترضنا أنهم شبهوا الكوفة بمدين نقول ان هذا التشبيه غير وجيه ، وعلى أي أعتبار فإن الآية كان يرددها الإمام عند دخوله مكة وليس خروجه منها إذ القول بأنه كان يرددها عند خروجه من مكة لا دليل عليه والنصوص التاريخية على خلافه .

 

الإشكال الثاني

قالوا : إن الإمام بعد سماعه بمقتل مسلم قال لبني عقيل : كفاكم ما أصابكم من القتل بمسلم ، أرجعوا فقد أذنت لكم ، ولكنهم رفضوا ذلك !

وفي هذا إشكال واضح ، لأن الإمام علم بمقتل مسلم بع عقيل وهاني بن عروة في منطقة يقال لها الثعلبية ، أي أنه علم بذلك قبل ان يلتقي بالحر بن يزيد الرياحي وأيضاً علم الإمام بمقتل رسوله الخاص عبد الله بن يقطر في منطقة يقال زبالة ، ولما علم الإمام بذلك أخرج كتاباً قرأه على الناس قال فيه :

بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد فإنه قد أتانا خبر فضيع قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر ، فمن أحب منكم الأنصراف فلينصرف ليس عليه منا ذمام ... فتفرق الناس عنه تفرقاً ، فأخذوا يميناً وشمالاً حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة ، وإنما فعل ذلك لأنه ظن أنما أتبعه الأعراب لأنهم ظنوا انه يأتي بلداً قد أستقامت له طاعة أهله ( تاريخ الطبري ج 4 ص 300 ــ 301 والأرشاد ص 223 )(1)

ولكن قالوا بأن الإمام أمرهم بالرجوع ، بعد سماع خبر قتل مسلم وقالوا أنه قال لهم : يا أبناء عقيل حسبكم من القتل ما أصاب مسلماً إذا أردتم الرجوع فأرجعوا ، قالوا له : يا أبا عبد الله ! يا ابن رسول الله ! لقد كنا معك حينما كان مسلم حياً ، فكيف بنا والآن ونحن نطلب دمه ؟ أبداً لا نفارقك

ولكننا لم نجد هذا القول في أي من المصادر التاريخية ، كتاريخ الطبري ، والأرشاد للشيخ المفيد ، ومروج الذهب للمسعودي ، والكامل لأبن الأثير ، وأعلام الورى للطبرسي ، وتاريخ أبن اعثم ، وتذكرة الخواص للسبط ابن الجوزي ، والأخبار الطوال للدينوري ، ونفس المهموم للقمي ، وحياة الأمام الحسين للقرشي ، فهذه المصادر لم تذكر هذا القول وربما يكون أصحاب هذا القول لم يلتفتوا إلى هذه المصادر ، وأنهم أعتماداً على ما في الذاكرة وكتبوا هذه المطلب ...

أما المطلب الذي جاء في كتب التاريخ فهو ؛ أنه ليلة العاشر من المحرم أمر أبن سعد قواته بالهجوم على معسكر الحسين ولما رآى الإمام ذلك منهم أمر أخاه العباس ان يؤخرهم إلى غداة إلى اليوم العاشر ، ثم ان الإمام الحسين جمع أصحابه كما قال الإمام السجاد وحمد الله وأثنى عليه ، وقال : فإني لا أعلم أصحاباً أولى ولا خير من أصحابي ، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من اهل بيتي ، إلا وأني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غداً ، إلا وإني قد رأيت لكم فأنطلقوا جميعاً في حل ليس عليكم مني ذمام ، هذا اليل قد غشيكم فأتخذوه جملاً ... فقال له أخوته وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر لم نفعل لنبقى بعدك ، لا أرانا الله ذلك أبداً .

بدأهم بهذا العباس بن علي .. فقال الحسين يابني عقيل حسبكم من القتل بمسلم ، أذهبوا قد أذنت لكم ، قالوا : فما يقول الناس ؟

يقولون إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا ، ولم نرم معهم بسهم ، ولم نطعن معهم برمح ، ولم نضرب معهم بسيف ، لا والله لا نفعل ، ولكن نفديك أنفسنا واموالنا وأهلونا ( تاريخ الطبري ج 4 ص 317 ــ 318 )(1)

: ـ ويروي أن مجموع آل عقيل الذين شهدوا وقعة كربلاء كانوا ثمانية ، وهم بحسب قول ابن عساكر في تاريخه ص 228 ـ 229 ـ كانوا خمسة من أخوة مسلم ، وقال أبي الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين ص 94 ، أن الذين أستشهدوا مع الحسين في كربلاء من آل عقيل كانوا أثنين من أخوة مسلم وواحد من أبناء أخوة مسلم هو محمد بن أبي سعيد بن عقيل والمجموع بحسب ما نقله ابن عساكر وأبي الفرج الأصفهاني من آل عقيل كانوا ثمانية ممن شهدوا كربلاء مع الحسين .

عود على بدء

إن زمن المحادثات التي جرت بين الإمام وآل عقيل كان يوم تاسوعا قبل الغروب ، أي لم تكن قد أجريت قبل ذلك الوقت وتحديداً في وقت سماع خبر قتل مسلم ، ولا حتى في المكان أي بين الطريق إلى الكوفة ، ولكنهم جاؤوا بالأخبار فخلطوها معاً ، ورتبوا لذلك زماناً ومكانأ خاصين ؛ فهم يقولون ؛ إن الإمام بعد أن سمع بمقتل مسلم أخذ طفلة من أطفال مسلم وبدأ يمسح بيده على رأسها ، فقالت له : ياعم آراك تمسح على رأسي كما يمسح على رؤوس اليتامى ، فبكى الإمام وهذه المقالة الأخيرة غير موجودة بكتب التاريخ إنما هي من نسيج خيال القصاصين والوضاعين ليس إلا ... إن كل هذه الأمور دائماً تصاغ على لحن الحكاية لما هو مسموع وله حضور ذهني ، لذلك نراهم جعلوا زمن المحادثات عندما سمع الإمام خبر مقتل مسلم والمكان في منطقة الثعلبية .. بدل زمان المحادثات وهو يوم تاسوعا غروباً وبدل مكانها وهو كربلاء .. إن الربط والتبديل في الزمان والمكان ناتج لوجود كلمة [ حسبكم من القتل ] وهذا الربط ناتج عن تداعي ذهني غير مقصود ، ينبغي لمن يريد ان يدقق ويصلح ، فإن ذلك من أوليات القراءة الصحيحة للتاريخ الإسلامي وكيفية إعادة بناءه على أسس النظام المعرفي لا التقليدي السماعي .

 

الإشكال الثالث

تسع إشكالات في رواية خبر مقتل مسلم بن عقيل .

وقبل أن نذكر تلك الإشكالات لابأس أن نعرض الذي ورد في الرواية كما عن الأرشاد ، قال أثنان من بني أسد (*)(ذكرهم المفيد في الأرشاد ص222 بأسم عبدالله بن سليمان والمنذر بن المشمعل ، وذكرهم الطبري في تأريخه ج 4 ص 299 بأسم عبدالله بن سليم والمذري بن المشمل ــ وربما يكون تغير أسم سليمان بسليم والمنذر بالمذري ناتج عن التصحيف ) . قالا : لما قضينا مناسك حجنا لم تكن لنا همة إلا اللحاق بالحسين في الطريق لننظر ما يكون من امره ، فأقبلنا ترفل بنا ناقتنا مسرعين حتى لحقنا ( بزرود) فلما دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رآى الحسين ، فوقف كأنه يريده ثم تركه ومضى ومضينا نحوه ، فقال أحدنا لصاحبه : أذهب بنا إلى هذا لنسأله ، فإن عنده خبر الكوفة فمضينا حتى أنتهينا إليه .. فقلنا : ممن الرجل ؟

قال : أسدي ، قلنا له ونحن كذلك ... ثم قلنا له : أخبرنا عن الناس وراءك ، قال : نعم لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة ورأيتهما يجران في السوق ، حتى لحقنا الحسين فسايرناه حتى نزل الثعلبية ممسياً ، فجئناه حين نزل فسلمنا عليه .. فقلنا إن عندنا خبر إن شئت حدثناك علانية وإن شئت سراً ؟

قال : ما دون هؤلاء ستر ، فقلنا : أرأيت الراكب الذي أستقبلته عشاء أمس ، فقلنا : قد والله أستبرئنا لك خبره وكفيناك مسألته ، وهو أمرؤ منا ذو رأي وصدق وعقل ، وأنه حدثنا أنه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة ورآهما يجران في السوق بأرجلهما ، فقال الحسين : إنا لله وإنا إليه راجعون .. فقلنا : له ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلا أنصرفت من مكانك .

هذه القصة ذكرها بعضهم أعتماداً على ذاكرته وقال : إن الإمام الحسين رآى في وسط الطريق رجل قادم من الكوفة ، توقف الإمام ليسأله عن أوضاعها ، ولكن الرجل تركه وذهب إلى جهة أخرى ، ولكن رجلين كانا قد أتما مناسك الحج عادوا مسرعين من أجل :

1 - نصرة الحسين لذلك أسرعوا اللحاق به .

2 – كانوا متأخرين عن قافلة الحسين بمنطقة تقريباً حينما ألتقوا بهذا الرجل القادم من الكوفة .

3- وهم قد سألوه عن أخبار الكوفة وأوضاعها وقد حدثهم بها .

4 – أسرع الرجلان للحاق بالإمام ولكنهم لم يخبروه في المنزل الأول الذي لحقوا به الإمام .

وأنما صبروا حتى ينزل منزلاً آخر ، وفي الليل جاؤوا إلى الإمام وهو جالس في خيمته يحيطه أصحابه وأهل بيته ؛ فقالا : يا أبا عبد الله إن عندنا خبر إن شئت حدثناك به سراً وإن شئت علانية ؟

فقال : ليس من هؤلاء ستر ، قالوا : ياأبن رسول الله إن الرجل الذي رأيته بالإمس كان من قبيلتنا وقد أخبرنا عن مقتل مسلم وهاني .... هذا النقل معتمد على التذكر والحفظ ولذا ففيه نقاط ضعف كثيرة منها :

1 – ما قالوا ؛ بأنهما كانا يريدان نصرة الإمام : فهذا القول لا وجود له في أي من المتون التاريخية ، وإنما هو مجرد أستنباط ... والشواهد الموجودة تدل على أن الرجلين لم يقصدا نصرة الإمام ومن بين هذه الشواهد :

أ – قال الرجلان : لما قضينا حجنا لم تكون لنا همة إلا اللحاق بالحسين في الطريق لننظر ما يكون من أمره .. فلو كانا يريدان نصرته لما تفوها بهذا القول .

ب – قال الرجلان للإمام : إلا أنصرفت من مكانك هذا .

ولو كانا يريدان نصرته لا يقولان ذلك

ج - : ولو انهما يريدان نصرة الإمام فيجب ان يذكر أسميهما مع أسماء الشهداء أو الجرحى الذين تابعوا الإمام في نهضته ، وقد جاء ذكر أسماء الشهداء في كتاب أبصار العين لمحمد السماوي ، ص 134 وما بعدها ، وذكرنا أسماء من بقي حياً في الفصل الخامس إذن فقد ظهر إن هذه الشواهد على خلاف من قيل أنهما يريدان نصرة الإمام .

2 – ما قالوه : أن الرجلين كانا متأخرين عنه بمنزل حينما ألتقوا بالرجل القادم من الكوفة ، وهذا على خلاف النص الوارد بكتب التاريخ والقائل ؛ فلما دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين ... فلو كان الرجلان بمنزل متأخرين عنه وهذا الفرض لا بد أن يكونا على مقربة منه حتى يريا هذه المشاهد .

3 – ما قالوه ؛ أن الرجلين كانا قادمين من المدينة ، وهذا مخالف لقولهم : لما قضينا حجنا لم تكن لنا همة إلا اللحاق بالحسين .

ثم ذكروا بأنهما كانا قد قضينا مناسك الحج ، وهذا دليل على أنهما كانا قادمين من مكة وليس من المدينة ، ولعل لفظ المدينة وردت سهواً بدل مكة .

4 – ما قالوه ؛ أنه عندما وصلوا لم يتكلموا بكلمة حتى ينزل منزلاً أخر .. وهذا مخالف لقولهم في الأرشاد : لننظر ما يكون من امره فأقبلنا ترقل بنا ناقتنا مسرعين حتى لحقناه بزرود ... فسايرناه حتى نزل الثعلبية ، فقلنا له : قتل مسلم وهاني .. يعني أنهما أخبرا الإمام بقتل مسلم وهاني في منزل الثعلبية ، وبتعبير أدق : إن الثعلبية هي أول منزل للرجلين بعد وصولهم إلى قافلة الإمام .

وقد نُقلت هذه المطالب أعتماداً على الذاكرة ، وليس لها في التاريخ وجود بل أن الموجود هو خلاف ذلك .

 

أختراعات تاريخية ذهنية

القصة التي ذكرناها حول مقتل مسلم ، والتي جاء بها الرجلان الأسديان نقلاً عن رجل أسدي كان قادماً من الكوفة .. هذه القصة غيرت وبُدلت ، فوضعوا بدل الرجل الأسدي القادم من الكوفة رجلين ، وأنهما قد أمتنعا عن لقاء الإمام ، فالأختراع الذهني التاريخي الأول هو الرجل الأسدي القادم من الكوفة ، والحامل لخبر مقتل مسلم وهاني ووضع مكانه رجلين ، وبدل الرجلين القادمين من مكة صار الرجل من أصحاب الإمام ولكنه متأخر عن قافلته ، وأن هذا الصحابي هو الذي أخذ الخبر عن الرجلين القادمين من الكوفة قالوا ؛ إن الإمام في الطريق وقعت عيناه على رجلين قادمين من جهة الكوفة فتوقف ركبه ليسألهم عن أوضاعها ، ولكنهم عرفوا أن طريق الحسين صعب ، وإن الإمام علم ما في قلبيهما وأنهما لا يريدان ان يبوحا به ، فأمر قافلته بالمسير ، ولكن أحد أصحابه كان متخلفاً عن القافلة فتكلم مع الرجلين عن الكوفة .

فأخبراه بمقتل مسلم وهاني ، فقال الصحابي : إني لأستحي ان أنقل هذا الخبر إلى الإمام ، ثم ذهب عند الإمام وقال له : يا بن رسول الله ؛ إن عندي خبراً إن شئت حدثتك به سراً وإن شئت حدثتك به علانية ، قال الإمام : ليس بعد هؤلاء ستر ، ثم قال : قتل مسلم وهاني فرأيت دموعه قد سقطت من عينيه ، وقال ( رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ) الأحزاب آية 23 ـ هذه المطالب جاؤوا بها أعتماداً على الذاكرة والحفظ ، مع أنها غير موجودة في المتون التاريخية المعتبرة ، وبتعبير أدق إنها مخالفة للمتون التاريخية ، وهذا النقل فيه زوايا ضعف كثيرة منها :

1 – إن ما قالوه : إن الإمام الحسين لما رأى الرجلين قادمين من جهة الكوفة توقف ليسألهما عن أوضاعها ... هذا القول على خلاف النصوص إذ أنه لم يأت من جهة الكوفة رجلان بل رجل واحد وأسمه ( بكير بن المتعبة ) ـ ولم نجد ترجمة له في كتب الرجال أذ لم يرد شرح لحال بكير بن المتعبة ، ولهذا فهو مجهول الحال لا يعلم ما إذا كان من شيعة الإمام أم من عدوه ؟ ـ

2 – أنهم قد حذفوا الرجل الذي جاء من الكوفة وأستبدل برجلين قادمين من الكوفة .

3 – قالوا ؛ أن الذي أخبر الإمام بمقتل مسلم وهاني كان أحد أصحابه .

وهذا مخالف للنصوص التاريخية التي أكدت على أن الذي أخبر الإمام الحسين بمقتل مسلم وهاني كانا هما الرجلان اللذان قدما من مكة .

4 – وقالوا ؛ إن الرجل الذي أخبر الإمام بمقتل مسلم وهاني قال : لأستحي إن أنقل هذا الخبر إلى الإمام .

ولكن هذا القول مخالف للنصوص التاريخية وغير موجود أساساً .

5 – وقالوا ؛ أن الإمام لما سمع بمقتل مسلم وهاني بكى وسقطت دموعه من عينيه ثم تلا الآية ( رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه .. ) هنا لا بد أن نشير إلى الخلط في الأوراق التأريخية فذكر الآية ورد في محل أخر أي انه : لما تحرك الإمام من منزل الثعلبية حتى ورد منزل عذيب الهجانات جاءه أربعة من أصحابه قادمين من الكوفة ، فسألهم الإمام عن أخبارها فقال له أحدهم وهو مجمع بن عبد الله ( بصار العين ص 85 محمد السماوي )(1) . وكان ممن أستشهدوا في كربلاء . أن رسولك قيس بن مسهر الصيداوي قد قتل وذلك لما ؛ أمره أبن زياد أن يلعنك ويلعن أباك ، فصلى عليك وعلى أبيك ولعن أبن زياد وأباه .. فأمر به أبن زياد فالقى من طمار القصر فترقرقت عينا الحسين ولم يملك دمعه ،ثم قال ( منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا )( تاريخ الطبري ج 4 ص 63 ) هنا ذكر الإمام لآية وترقرقت عيناه بالدموع ، ولكنهم من فرط زحمتهم أعتمدوا في روايتهم للحوادث التاريخية على التذكر والحفظ ، بحيث خلطوا بين الزمان والمكان ، فبدل أن تكون لقيس بن مسهر وفي عذيب الهجانات صارت لمسلم وهاني وفي الثعلبية ، وواضح جغرافياً ان بين المنزلين فاصلة كبيرة وهذا كما ترى تحريف للحقائق التاريخية ومقولاتها ، لمن يريد ان يعيد البناء في المنهج والرؤية من أجل سلامة الهدف ومقتضياته ومتبنياته .

طبيعي لو تصور احد أن الإمام قرأ تلك الآية عندما سمع بخبر قتل مسلم وهاني فأنه يستنبط حكماً بأن الإمام قد عرف أنه سيستشهد وأنه سوف لن ينتصر في المعركة ، كما أستنبطها القائلون بهذا الرأي ، ونقلوا الأية إلى ذلك وبلسان الإمام .. وحتى لو أفترضنا أنه قرأ الأية بعد سماعه لخبر مقتل مسلم وهاني فإنه حتماً بذلك أن يقول ؛ أن نهايتي أصبحت محتومه وسنقتل كما قتل مسلم وهاني ، مما مضى يتبين أن بين القولين فاصلة , لا بد من ملاحظتها ، وكذلك لا بد من مراعاة التفسير الموضوعي لهذه الحادثة مقارنة بما يتوفر من شروط وقواعد للأستنباط في القضايا التاريخية ..

الأشكال الرابع

قولهم ؛ أن نهاية الإمام أصبحت قطعية بعد قتل مسلم . وهذا أشكال واضح أعتبر جماعة من الكتاب ان نهاية الإمام الحسين أصبحت قطعية بعد قتل مسلم ، وأنه سوف لن ينتصر في رحلته تلك ، ومن هنا كان سعي الإمام لكي يُقتل هو ومن معه خصوصاً آل عقيل ، لأنهم أصروا على التوجه إلى الكوفة ليقتلوا كما قتل مسلم ، قائلين ، : ياأبا عبد الله سنطلب بثأرنا وسُنقتل كما قتل مسلم ، مع العلم أن القائلين بذلك أعتمدوا فيما رووه على الحفظ والتذكر ، وما قالوه فهو مخالف لما في المصادر التأريخية ، ونحن سنورد عين ما قاله آل عقيل من الكتب التأريخية المعتبرة حتى يتضح لنا حقيقة الأمر يقولون ؛ أنه لما نزل الإمام بمنزل الثعلبية ، أخبر بمقتل مسلم بن عقيل فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون فردد ذلك مراراً ... ثم شاور أصحابه حول كيفية العمل الذي يتخذونه في المستقبل ؛ فتباعدت الآراء وأقتربت حول أهل الكوفة ، فبعضهم رأى لابد من الذهاب إليها ، وأخرون قالوا ؛ والله ما أنت مثل مسلم ، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع ... إذن فالمصلحة تقتضي المسير إلى الكوفة ، والإمام قد أستمع إلى وجهتي النظر هاتين مع أدلتهما .. فوثب عند ذلك بنو عقيل بن أبي طالب وقالوا : لا نبرح حتى ندرك ثأرنا او نذوق ما ذاق أخونا ( أنظر الأرشاد ص 222للمفد وأعلام الورى ص 228 للطبرسي وتاريخ الطبري ج 4 ص 30 والكامل لأبن الأثير ج4 ص 4 مقاتل الطالبين ص 110 لأبي الفرج الأصفهاني وروضة الواعضين ص 178 للفتال النيشابوري )(1)

أذن فآل عقيل كان فيهم خمسة من أخوة مسلم أعتبروا الذهاب إلى الكوفة له جانبين ، الأول هو الأخذ بثأر مسلم والقصاص من عدوه ، والثاني هو الأستشهاد كما أستشهد مسلم ، وبذلك فقد رجحوا الذهاب إلى الكوفة دون العودة إلى الديار الحجازية ، وفي هذه لم يكن قد تحدد مصير الإمام النهائي لوجود ما ينافي ذلك من الأدلة منها :

1 – أن الإمام ترك القضية إلى قرار من الشورى وهل سيرجع أم يذهب إلى الكوفة ؟

فهذا العمل السياسي من الإمام ليس دليلاً على الخسارة العسكرية ، لأنه لو كان الأمر قد حُددت نهاية القطيعة أذن فلا معنى بعد للشورى وتشكيلها ، بل لا بد له أن يصمم على العودة فوراً ، كما حدث حينما ألتقى بالحر بن يزيد الرياحي ، أذ قد صمم الإمام على الرجوع من حيث أتى ، ولكن الحر وجنوده منعوه من التوجه إلى ما أراد .

2 – قال بعض أصحاب الإمام له ؛ والله ما انت مثل مسلم ، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع ، وهذا القول ليس دليلاً على خسارته العسكرية وأنه قد تحدد مصيره قطعاً ألبتة لا .

3 - قال خمسة من أخوة مسلم ، والله لانبرح حتى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق أخونا ، وهذا دليل على أن عدم الأنتصار ليس قطعياً ، بل لعل النصر أو الخسارة واردتان معاً ، وتحليل أخوة مسلم للوضع وترجيحهم للنصر هو الذي دفعهم لذلك .

ومنه يتضح أن لا مجال لقول القائل ؛ أن نهاية الإمام أصبحت قطعية بعد مقتل مسلم ، لأن هذا القول على خلاف النصوص التأرخية المعتبرة ، وإنه مجرد أستنباط مبنى على الحدس والتخمين ، ولكن صاحب هذا القول أردف لقوله ذلك عبارة أخرى وهي بلسان أخوة مسلم : أننا يجب أن نذهب لنقتل كما قتل مسلم ، ولكننا حينما اوردنا النص التأريخي لهذه القضية من مصادره الرئيسية لم نجد كلمة نقتل كما قتل ، بل أنهم رأوا أن الذهاب إلى الكوفة فيه للنصر وأحتمال للخسارة ، وقد رجحوا النصر على الخسارة وهم فيما قالوا أنما يعنون اننا سنقوم بالتكاليف فسواء انتصرنا أم أستشهدنا لا خلاف .

ومن هنا يظهر أن ما نسُب إلى بني عقيل أنما كان مبني على الحفظ والتذكر والظن وأنه لم يكن منطقياً على ما في التاريخ من نصوص بهذا الشأن وكلام آل عقيل الآنف الذكر هو ترجيح لقول من قال : والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع .

فبنو عقيل أكدوا على ضرورة القائد الذي يستطيع أن يكسب النصر ، أذا ما تحققت الشروط الموضوعية لذلك ، فالدخول إلى الكوفة ومساعدة اهلها عوامل مهمة في تحقيق النصر على العدو ، ليست هدفاً بل أنها وسيلة ، فالمقاتل في سوح الجهاد قد يستشهد وربما لا ولكنه في الأثنين ينال ثواب وأجر الشهادة ، كمثل محمد بن عقيل وهو اخو مسلم حضر كربلاء ولم يستشهد ( أنظر تاريخ أبن عساكر ص 229 الجزء الخاص بالإمام الحسين نقلاً عن محمد بن سعد صاحب الطبقات ، وسير النبلاء ج3 ص 203 للذهبي )(1) .

فالهدف هو أعلاء كلمة لا أله إلا الله وتحكيم القرآن والإسلام وأقامة حدودهما ، فلو أستشهد الإنسان في هذا الدرب فإنما يكون قد أدى ما عليه من التكليف ، لأنه أنما يسعى بكل ذلك لمرضاة الله سبحانه وتعالى .

الأشكال الخامس

قالوا : أنه لم يبق من أصحاب الإمام بعد تفرق الأعراب عنه ألا عشرون رجلاً . وهذا أشكال واضح .

هذا القول مبني على الحفظ والتذكر وهو أعجب رآي رأيته في عدد أصحاب الإمام بعد تفرق الأعراب عنه ، وحتى لو وقع أختلاف بين المؤرخين حول عدد من أستشهد مع الإمام يوم عاشوراء ومن بقي من أصحابه أحياء لم يذكروا لنا العشرين رجلاً كما زعم القائل ، ثم هذا القول لم يات به أي من المصادر التأريخية الموثقة ، ومن أجل ذلك أرتأينا أن ننقل الأقوال المختلفة في عدد أصحاب الإمام كما وردتها الكتب التأريخية :

1 – ففي أثبات الوصية (*)(وهذا المسعودي ، ليس المسعودي صاحب مروج الذهب ، ذلك ما صرح به الأميي صاحب الغدير عندما سُئل عن ذلك ) في الصفحة 141 ـ في نقل غير موثق جاء فيه ان عدد أصحاب الإمام الذين أستشهدوا معه في كربلاء (61) رجلاً .

2 0- قال الشيخ المفيد ؛ فعبأ الإمام أصحابه يوم عاشوراء وكان معه (32) فارساً وأربعون راجلاً ـ الأرشاد ص 233 ـ .

3 – وقال ابن شهر آشوب ؛ كان أصحاب الإمام أثنان وثلاثون فارساً وخمسون راجلاً ـ المناقب ـ ج 4 ص 98 ـ .

4 – وجاء في رواية عن الإمام الباقر أن أصحاب الإمام الحسين كانوا خمساً وأربعين فارساً ومئة راجل ـ البحار ج 45 ص 4 ـ وكذلك ورد هذا العدد في تذكرة السبط لأبن الجوزي ـ ص 246 ـ .

5 – وجاء في كتاب أبصار العين للشيخ محمد السماوي أن عدد أصحاب الإمام كانوا مئة وثلاثة عشر وهم كل شهداء كربلاء من صغير وكبير ـ أبصار العين في أنصار الحسين ص 134 ـ 136 ـ .

6 – وقال المسعودي ؛ فعدل الحسين إلى كربلاء وهو في مقدار خمسمئة فارس من أهل بيته وأصحابه ونحو مئة راجل ـ مروج الذهب ـ ج 3 ص 61 ـ .

ونقل المجلسي في البحار ج 45 ـ ص 74 ـ نفس عبارة صاحب مروج الذهب ، ولكنه وضع بدل الخمسمئة فارس ، ألف فارس وواضح ان الفرق في العدد ربما نتج عن النسخ الموجودة لدى المجلسي وعندنا ، احتمال ان تكون كلمة

( خمسمئة) هي خمسين ولكنها صارت كذلك بالتصحيف ، وبُدلت الخمسون بخمسمئة ، وبناء على هذا الأحتمال يكون عدد أصحاب الإمام خمسين فارساً ومئة راجل ، وهذا الفرض قريب إلى رواية الإمام محمد الباقر بأن عدد أصحاب الإمام كانوا مئة وخمس وأربعون ، ولعله يمكن القول ، وربما تكون النسخة التي فيها كلمة خمسمئة ناشئة عن أشتباه في تصحيف الكتاب او عند الكاتب .

وأما حول ما رواه صاحب أثبات الوصية ، فأضافة إلى أنه غير معتبر السند فالأستدلال به ضعيف أيضاً ، ولو تركنا قول صاحب أثبات الوصية ، فإن أقل عدد لأصحاب الإمام هو ما ذكره الشيخ المفيد ، وجاء في تاريخ ابن عساكر ان ؟ الإمام لما كان في مكة أرسل إلى بني هاشم وهم في المدينة للإلتحاق به فأنضم إليه منهم تسعة عشر رجلاً من بني هاشم ، أضافة إلى من أنضم إليه وهو في طريقه إلى العراق وكانوا ستين شيخاً من أهل الكوفة وذلك في يوم الأثنين في عشر ذي الحجة سنة ستين وساروا معه نحو العراق ( تاريخ أبن عساكر ص 204 ــ 205 وتاريخ أبن العديم ص 71 احسين بن علي سيد شباب أهل الجنة (1) .

وطبقاً لما رواه ابن عساكر بأنضمام تسعة عشر من بني هاشم إلى قافلتة وستين رجلاً من أهل الكوفة ، وطبق ما ذكره المفيد بأنضمام جماعة من أهل البصرة والحجاز إلى قافلة الإمام ، وبأضافة أهله الذين رافقوه من المدينة .

فيمكننا بناء على كل هذا القول ان مجموع من تحرك معه من مكة قارب المئة رجل وأنه بمساعدة هذا العدد أستطاع أن يرجع كتائب حاكم مكة التي حاولت منعه عن المسير إلى العراق ؛ أذ أنه لما خرج الإمام الحسين من مكة أعترضته شرطة أميرها عمرو بن سعيد بن العاص في جماعة من الجند ، فقالوا ؛ أن الأمير يأمرك بالأنصراف وألامنعناك ، فأمتنع عليهم الحسين ،

وتدافع الفريقان واضطربوا بالسياط ، ولما بلغ ذلك عمرو بن سعيد فخاف ان يتفاقم الأمر فأرسل إلى صاحب شرطته يأمره بالأنصراف (الأخبار الطوال ص 244 )(2) .

والتحق بالإمام عدة من أصحابه في منازل جهينة في أطراف المدينة وأستشهدوا معه بكربلاء ( أبصار العين ص 115 )(3) . وقد أنضم إلى قافلة الإمام عدة من الأعراب ظناُ منهم انه سيأتي أرضاً قد بسط له سلطانه ، وكانوا أهل دنيا وطمع ، فلما سمعوا خبر مقتل مسلم تفرقوا عن الإمام وتركوه . وأما أصحابه الذين جاؤوا معه من مكة وبني هاشم وجماعة أهل البصرة والحجاز ، فلم لم يرجع منهم أحد قط ، وما بقي من ذلك العدد كانوا يقاربون المئة .

أذن فمقولتهم ؛ أنه لم يبق مع الحسين من أصحابه إلا عشرين رجلاً ، قول لا ينطبق على الواقع ، وليس له ما يؤيده من الناحية التاريخية والموضوعية ، بل أنه قول يقوم على الظن والحدس والتذكر .

هنا لا بد من التوجه إلى هذه الملاحظة ؛ أن المئة والثلاثة عشر شهيداً من أصحاب الإمام والذين ذكرهم صاحب كتاب أبصار العين ، هم ليس كل من أستشهد من انصار الحسين ، لأنه قد ذكر صاحب كتاب أبصار العين ثلاثين فارساً من جماعة أبن سعد ألتحقوا بالإمام وأستشهدوا معه (أبصار العين ص 8 ).(4)

. ولكنه لم يذكر أسمائم مع المئة والثلاثة عشر وأنه ذكر منهم ثلاثة عشر رجلاً فقط ، والذين يشكلون مع الحر أربعة عشر رجلاً .

وأما المتعارف بأن شهداء كربلاء كانوا أثنين وسبعين فلعله ناتج عن الشهرة والتكرار ، وإذا توجهنا ودققنا بأنه ليس كل شهداء كربلاء قد دوُنت أسماؤهم يتضح لنا بأن رواية الإمام محمد الباقر هي أكثر الأقوال قرباً من الواقع وأنها من اكثرها قبولاً ، أذا ما لاحظنا عدد الذين أستشهدوا بأسمائهم مع العلم أن كثيراً منهم لم يُذكر ، وكل ما ذكر أنما يتبع شهرة الشهيد ومكانته بين قومه ...

 

الأشكال السادس

قالوا أنه فقط صاحب كتاب ناسخ التواريخ ؛ ذكر بأنه قد فارق الإمام ليلة العاشر من المحرم عدة من أصحابه ، وهذا أشكال واضح .

قلنا في كتابنا وقعة كربلاء أنه لم يفارق الإمام أحد من أصحابه ليلة العاشر من المحرم ، وجئنا على ذلك بثلاثة عشر دليل تاريخي ؛ وماقلناه هناك نؤكده هنا ، فلم يترك الإمام أحداً من أصحابه ليلة العاشر من المحرم ، وأما ما قاله صاحب كتاب ناسخ التواريخ فهو أدعاء غير صحيح ، وقد ورد هذا القول عند البعض قبل وبعد ناسخ التواريخ :

1 – إذ ورد في كتاب جلاء العيون للعلامة المجلسي ص 385 ـ 386 ـ أنه قال : روي عن الإمام الحسن العسكري أنه قال ؛ أن الإمام الحسين أشار على أصحابه أن يتركوه ليلة العاشر من المحرم ، وقد فارقه منهم جماعة ، وأختاروا ذلك على السعادة الأبدية .

2 – قال الفاضل الدربندي في كتابه أسرار الشهادة في المجلس السادس ص 268 : ان عدة من أصحاب الإمام الحسين قد فارقوه ليلة العاشر من المحرم ، وقد نقل ذلك عن كتاب نور العين ، وكتاب التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري .

3 – وقال باقر شريف القرشي في كتابه حياة الإمام الحسين ج 3 ص 171 ـ نقلاً عن كتاب بغية البلاء تأليف السيد عبد الحسين الموسوي ، أنه فارق الإمام ليلة العاشر من المحرم عدة من أصحابه .

4 – وقال العلامة الطباطبائي صاحب تفسير الميزان في كتابه الشيعة في الإسلام ؛ أن أكثر أصحاب الإمام الحسين قد فارقوه ليلة العاشر من المحرم ، وهذه عبارته بتصرف ، لقد جمع الإمام أصحابه وقال لهم ؛ أن القوم يطلبوني ولا يطلبون أحداً سواي ، ولو قتلوني للهو عن طلب غيري ، فأني قد أذنت لكم فأنطلقوا في حل ليس عليكم مني ذمام .. وقد فارقه أكثر أصحابه ، ولم يبق معه إلا أربعين نفراً من أصحابه وعدة من بني هاشم ( الشيعة في الميزان ص 280 ــ 281 الطباطبائي )(1)

.. ومع ذكر هؤلاء النفر يتبين انه ليس فقط صاحب كتاب ناسخ التواريخ هو الذي ذكر هذا المطلب ، بل ان هذا الأدعاء لا ينطبق على الواقع ولا يقوم إلا على الحدس والظن . . .

هنا يبدو أختلاف بين رأي العلامة الطباطبائي ، والرأي الأول ، فالعلامة الطباطبائي يقول ؛ أن أكثر أصحاب الإمام قد فارقوه ليلة العاشر من المحرم ، والرأي الأول يقول ؛ أنه لم يفارق الإمام أحداً من أصحابه .

ونحن نؤيد هذا الرأي ، ونقول أن كلام الطباطبائي ضعيف من وجوه :

1- أن العلامة الطباطبائي لم يذكر على قوله دليلاً تأريخياً معتبراً حتى يمكننا تتبع ما قاله أستناداً إلى التحقيق وعلم الدراية .

2 – ان العلامة الطباطبائي يقول أن ذلك العمل هو بمثابة غربلة للأصحاب ، وهذا أيضاً لا ينطبق على الواقع لأن الغربلة تأتي في المكان وعلى الشئ الذي يشك في أخلاصه .

والإمام حينما طلب منهم ان يفارقوه كان يتكلم مع أقرب الناس إليه وليس فيهم واحد يشك في أخلاصه ، أضافة إلى ذلك لم يفارقه أحد من أصحابه ليلة العاشر من المحرم لأنه لايوجد بين أصحابه أحد غير مخلص ، وعليه فلم يقصد الإمام الغربلة ، بل أراد ان يفارقه أصحابه بشكل جدي وبالذات آل عقيل وأصر على ذلك ولكنهم لم يفارقوه ، والإمام لا يستطيع ان يُلزم أحداً في هذا الأمر ، وأنما متروك لأراداتهم وأختيارهم .

3 – وان العلامة الطباطبائي قال بأنه ليس للإمام إلا الموت ، وهذا اللفظ غير موجود بكتب التاريخ .

4 – وان العلامة الطباطبائي قال أن الإمام حدثهم ليلاً ، وهذا القول ليس موجوداً في التاريخ ، والدليل على خلافه ففي الأرشاد قال : أن الإمام جمع أصحابه يوم التاسع من المحرم قبل الليل ، وطلب منهم أن يفارقوه ، وعليه فلا يكون قد جمعهم ليلاً ولا حدثهم فيه .

5 – ان العلامة الطباطبائي قال : أن أكثر أصحاب الإمام قد فارقوه ، وهذا القول لا دليل عليه ، ولا يوجد في كتب التاريخ ، وإليك قائمة بأسماء الكتب المعتبرة ، والتي لم تذكر هذا المطلب منها :

1- تاريخ اليعقوبي المعروف بأبن واضح ـ ج 2 ص 231 ـ طبع بيروت .

2 – تاريخ الطبري ـ ج4 ص 318 ـ طبع بيروت .

3 – مقاتل الطالبيين أبو الفرج الأصفهاني ـ ص 112 ـ طبع بيروت .

4 – الأرشاد للشيخ المفيد ـ ص 212 ـ طبع أيران .

5 – روضة الواعظين للفتال النيشابوري ـ ص 183 ـ 184 ـ طبع قم .

6 – أعلام الورى للطبرسي ـ ص 235 ـ طبع ايران .

7 – الكامل لابن الأثير ـ ج 4 ص 57 ـ 58 ـ طبع بيروت .

8 – مقتل الخوارزمي ـ ج 1 ص 247 ـ طبع النجف .

9 - تذكرة السبط لأبن الجوزي ـ ص 249 ـ طبع النجف .

10 _ مثير الأحزان أبن نما ـ ص 26 ـ طبع ليران .

11 – تاريخ ابن كثير ـ ج8 ص 176 ـ 177 ـ طبع بيروت .

12 - اللهوف ابن طاووس ـ ص 80 ـ 82 ـ طبع قم .

13 – المناقب لأبن شهر آشوب ـ ج 4 ـ ص 99 ـ طبع قم .

هذه الكتب تعتبر من المراجع المهمة في تدوين احداث وقعة كربلاء ، وجميعها لم تذكر انه قد فارق الإمام الحسين واحد من أصحابه ليلة العاشر من المحرم ، ومنه يتضح أن ما ورد في جلاء العيون ، وأسرار الشهادة ، نقلاً عن التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري حول مفارقة بعض أصحاب الإمام ليلة العاشر من المحرم غير صحيح ، ولا يمكن الأعتماد عليه ، أضافة لذلك فإن التفسير المنسوب للإمام العسكري موضوع ، وقد حكم بذلك أهل التحقيق فقد ذكر الشيخ محمد التقي التستري في كتابه الأخبار الدخيلة ج 1 ص 152 ، وما بعدها قال : أن التفسير موضوع عن سهل الديباجي عن أبيه بأحاديث من هذه المناكير ـ وما في أسرار الشهادة نقلاً عن نور العيون ساقط عن حد الحجية ، وايضاً ما ذكره القرشي عن بغية النبلاء ساقط عن حّد الحجية .

ولما كان كلام العلامة الطباطبائي ورد دون ذكر المصدر التأريخي فربما يكون كلامه هذا من المسموعات ، لأن هذا القول لا يردده إلا أهل المنابر وأكثرهم يعتمدون في ذلك على ما جاء في التفسير المنسوب للإمام العسكري الذي أعتبره أهل الفن والتحقيق موضوع كما ذكره سابقاً نقلاً ، عن أبن الغضائري ، وأبو الحسن الشعراني ، والشيخ البلاغي صاحب تفسير آلاء الرحمن ، وآية الله السيد الخوئي صاحب معجم رجال الحديث الذي قال فيه : التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري أنما هو برواية هذا الرجل ـ علي بن محمد بن سيار ـ وزميله ـ يوسف بن محمد بن زياد ـ وكلاهما مجهول الحال ، ولا يعتد برواية أنفسهما عن الإمام أهتمامه بشأنهما وطلبه أبويهما أبقاءهما لا فادتهما العلم الذي يشرفهما الله به ـ هذا مع أن النظر في هذا التفسير ، لا يشك في أنه موضوع ، وجلّ مقام عالم محقق أن يكتب مثل هذا التفسير فكيف بالإمام .

6 – ان العلامة الطباطبائي قال : لم يبق مع الإمام من أصحابه إلا أربعون رجلاً وعدة من بني هاشم ، وهذا القول لا ينطبق على الواقع ، لأن صاحب كتاب أبصار العين ذكر ما يقارب المئة وثلاثة عشر شهيداً من شهداء كربلاء بأسمائهم وصفاتهم ومن بين هؤلاء الشهداء ستة في الكوفة وواحد في البصرة وأثنان بعد وقعة كربلاء وأربعة عشر شهيداً كانوا مع جيش ابن سعد ، ومجموع هؤلاء يساوي 23 رجلاً ، ولو حذفناهم من المئة والثلاثة عشر لبقي عندنا من الشهداء تسعون شهيداً ، ولو خذفنا منهم الأطفال ـ لبقي 86 ـ شهيداً ، ولو أفترضنا أن عدد بني هاشم بأكثر الحدود كانوا عشرين رجلاً ، ومن غيرهم ستة وستون شخصاً ، أذن وبناء على هذا الحساب التقريبي يثبت أنه لا دليل على قول العلامة الطباطبائي من المصادر والكتب الموثوقة ، وبالتالي تظهر صحة الرأي الأول ورحجانه على رأي الطباطبائي رحمه الله .

الأشكال السابع

قالوا : إنه لما أراد الإمام علي قتل عمرو بن عبد ود ، بصق هذا الآخير بوجه الإمام .

وهذا أشكال واضح ، يبدوا ان هذا القول لا دليل عليه ولكنه ناتج عن ظن وتخمين ، ومراجعة بسيطة للكتب التاريخية تظهر لنا مدى صحة أو كذب هذا القول : لا شك أن قتل عمرو بن عبدود فارس جيش الأحزاب في معركة الخندق وفارس يليل من قبل ، وهذه من الحواث المهمة في التاريخ ، ونحن بمراجعتنا للكتب المعتبرة من تأريخنا لم نجد في أي منها مقال بهذا العنوان ؛ ان عمرو بن عبد ود بصق بوجه الإمام عندما اراد قتله .

ولم نجد هذه المقاله حتى في الكتب التي تعني بذكر الفضائل ، ولو كانت حقيقية لذكرت في فضائله التي يعرف الدهر فيها ذروة الكمال المتاح ، ولم نجد لهذه المقالة ذكر حتى بالكتب التي اعتنت بتنمية القصص الحربي بل لم نجدها حتى عند المثيولوجيين ، ونحن سنورد بعض الكتب التي اهتمت بوقعة الخندق ولم تذكر هذه المقالة :

1 – سيرة ابن هشام ـ ج 2 ص 225 ـ طبع بيروت .

2 – المغازي للواقدي ـ ج1 ص 471 ـ طبع بيروت .

3 – تاريخ الطبري ـ ج2 ص 239 ـ 240 ـ طبع بيروت .

4 – تاريخ اليعقوبي ـ ج 2 ص 41 ـ طبع بيروت .

5 – الأرشاد للشيخ المفيد ـ ص 45 ـ 49 ـ طبع ايران .

6 – المناقب ابن شهر آشوب ـ ج 3 ـ ص 135 ـ طبع قم .

7 – تفسير علي بن ابراهيم ـ ج 2 ص 182 ـ 185 ـ طبع قم .

8 – إعلام الورى للطبرسي ـ ص 100 ـ وأيضاً ـ 195 ـ 196 ـ طبع قم .

9 – الكامل لابن الأثير ـ ج 2 ص 181 ـ طبع بيروت .

10 – كشف الغمة ـ ج 1 ص 198 ـ 199 ـ طبع بيروت .

11 – تاريخ ابن كثير ـ ج 4 ص 105 ـ طبع بيروت .

12 – الفصول المهمة في معرفة الأئمة لابن الصباغ المالكي ـ ص 42 ـ 34 ـ طبع النجف .

13 – المناقب للخوارزمي أخطب خوارزم ـ ص 104 ـ 105 ـ طبع النجف .

14 – روضة الصفاء ـ ج 2 ص 345 ـ 349 ـ طبع ايران .

15 – حبيب السير ـ ج3 ص 360 ـ 362ـ طبع ايران .

16 – ناسخ التواريخ ـ ج 1 ص 218 ـ 221 ـ طبع ايران سنة 1310 هجرية .

17 – الطبقات لمحمد بن سعد ـ ج 2 ص 68 ـ طبع بيروت سنة 1376 هجرية .

18 – منتهى الأمال ـ ج 1 ص 51 ـ 52 ـ طبع ايران 1331 هجرية .

19 – شرح النهج ابن ابي الحديد ـ ج 19 ص 62 ـ 64 ـ طبع مصر سنة 1383 هجرية .

20 – بحار الأنوار ـ ج 20 ص 203 ـ وما بعدها طبع بيروت .

وكل هذه الكتب لم تذكر لنا تلك المقالة بأن عمرو بن عبد ود قد بصق بوجه الإمام علي ...

صيغت حول مقتل عمرو بن عبد ود من قبل امير المؤمنين والقصص والحكايات الكثيرة منها :

1 – قالوا ان عمرو بن عبد ود لما طلب البراز ، نهض الإمام علي لمبارزته ، ولكن رسول الله نهاه ، ولم يأذن له ، وقال : أجلس !

والسبب في ذلك كما يقولون يرجع إلى ان الرسول رآى فاطمة الزهراء تبكي وتقول ؛ أصيب علي يوم أحد بجراحات كبيرة وأنه في المقدمة دائماً ، ولو قتل لبقي الحسن والحسين يتيمين .

وهذا السبب في منعه من مبارزة عمرو بن عبد ود خوفاً من أن تغضب فاطمة وتحزن ، ولكنه قد نزل جبرئيل بأمر من الله يأمر فيه رسول الله أن يأذن لعلي بمبارزة عمرو بن عبد ود (المناقب ج3 ص 135 طبع قم ابن شهر أشوب1)

ربما يكون الذي وضع هذه القصة جاهل وأعتبرها كفضيلة ، ولكنه لم يتوجه إلى معنى قوله ذلك وتجاوزه على مقام السيدة فاطمة بحيث جعلها أمرأة فاقدة لروح العطاء والفداء في سبيل وجهاد عدو الله ، وهذا ما يجعلها دون نساء المجاهدين في الفضل وأيضاً لم يتوجه هذا الجاهل إلى أنه أتهم رسول الله بالأنقياد للعاطفة ، وتقديم ذلك على المبدأ والرسالة وجهاد العدو .

2 – قالوا ؛ أنه لما قتل الإمام علي عمرو بن عبد ود ، أعطى سيفه لولده الإمام الحسن وكان عمره آنذاك سنتين وقال له : قل لأمك أن تغسل هذا السيف ، فغسلته وبقيت به قطرة دم لم تزل ، فقال النبي ألم تغسل الزهراء هذا السيف ؟ قيل : نعم ، قال فلم هذه القطرة من الدم ؟

قال رسول الله : يا علي أسأل ذي الفقار يجيبك عن خبرها ، فلما سأله علي قال : إنك قتلت أبغض خلق الله ، وأن الله أمر أن تبقى هذه القطرة حتى تراها الملائكة فتصلي عليك (البحار ج20 ص249 ، نقلاً نقلاً عن الخرائج للراوندي المشتمل على اعاجيب )(3)

... ربما يكون صاحب هذه القصة جاهل وقد وضعها بعنوان الفضيلة لعلي ولم يتوجه أنه قد جعل الملائكة بشراً مثله ، وأنهم عندما ينظرون إلى تلك القطرة يمدحوا علياً ، ويعرفوا شجاعته وحتى لا يدخل السيف غمده ، فيرى الملائكة ذلك ، وكأن عيونهم كعيون البشر لا يرون السيف إلا خارج غمده . .. وقد سقنا هاتين القصتين لنقول لك أنه حتى أصحاب هذا الخيال لم يذكروا لنا قصة بصاق عمرو بن عبد ود بوجه الإمام .

ولو صحت لذكرت في كتب التاريخ ، ولو وجدت لكتبها أيضاً أصحاب القصص المثيولوجي ...

 

نظرة في السند

ذكر ابن شهر آشوب هذه القصة دون ذكر السند قال ؛ لما أدرك عمرو بن عبد ود ، ولم يضربه فوقعوا في علي فرّد عنه حذيفة فقال النبي مه يا حذيفة ، فأن علياً سيذكر سبب وقفته عن ضربه ثم ضربه فلما سأله النبي عن ذلك ، فقال : قد كان شتم أبي وتفل في وجهي ، فخشيت ان أضربه لحظ نفسي فتركته حتى سكن ما بي ثم قتلته في الله ( المناقب لأبن شهر أشوب ج2 ص115 وفي البحار ج4 ص 50 نقلاً عن المناقب )(3) .

أن أول شئ يلفت أنتباه المحقق هو أن هذه القصة لو كان لها واقع تأريخي ، فلماذا يحذفها المؤرخون من كتبهم أمثال اسحاق في القرن الثاني للهجرة ، وحتى المحدث القمي في القرن الرابع عشر للهجرة مع مالها من جاذبية وتشويق ؟

وهل يكون تركها بشكل طبيعي من قبل كل هؤلاء المؤرخين وأكثرهم من محبي الإمام علي ؟ لا سيما أذا ما توجهنا إلى دقائق وجزئيات تناولوها في قضية مقتل عمرو بن عبد ود كقولهم أن امير المؤمنين عرض عليه ثلاث خصال وهي أن يسلم وأن يرجع ولكن رفضها جميعاً ، وأذا تم هذا فكيف يغفل من سجل ذلك وينسى مثل هذا الأمر ؟

فهل كان أمر متعمد أم عن غفلة وجهل ؟

وكيف يمكن لابن شهر آشوب الذي نقل نص معركة الخندق وحذف منها هذه القصة ثم كتبها في مكان آخر لوحدها ؟

فهل كان غافلاً عن ذلك أم ماذا ؟

أليس من المحتمل أن تكون هذه القصة من قبيل القصص التي يذكرها الشعراء وليس لها في الأمر واقع وحقيقة ؟

وأن الذي أنتجها كان يُريدها بعنوان يمثل الأخلاص في العمل ، لا بعنوان تأريخية وواقعية ، ولما وصلت إلى يد ابن شهر آشوب لم يذكر مصدراً لها حتى نعلم ما اذا كانت قابلة للإعتماد أم لا ؟

وأبن شهر آشوب نقل هذه القصة بعد أن نقل قصة آخرى عن تأريخ الطبري بمقتل طلحة عبدرُي [ وقد وردت قصة طلحة في تاريخ الطبري ج 2 ضمن حوادث معركة أحد بالسنة الثالثة للهجرة ، والطبري ذكره بأسم طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين ولأن طلحة من بني عبد الدار ذكره أبن شهر آشوب طلحة عبدري ، ضمناً ان ابن شهر آشوب كتب ثمانية أسطر ملخصاً لما في الطبري ] .

ونحن بتحقيقنا حول أصل هذه القصة لم نجد ذكراً لها في المصادر التأريخية ، والذي يقرأ المناقب لا ينبغي له أن يتصور أن ابن شهر آشوب نقل هذه القصة عن الطبري ... ومع التوجه إلى أنه لم يذكر القصة أحد من المؤرخين ، وأن ابن شهر آشوب ذكرها دون ذكر المصدر التاريخي للقصة ، فأنه ينبغي ان نعلم انها ساقطة عن حد الأعتبار ولا يخلوا أمرها من كونها مجرد أشاعة ، مع العلم أن الشياع لم يكن عن طريق أبن شهر آشوب لأنه ذكر في نقله أن عمرو بن عبدو ود شتم امير المؤمنين وما هو الشائع لم يذكر هذا الأمر، ومن هنا يمكننا القول أن شياع القصة ناتج عن التبادر والتداعي الذهني ليس إلا !