الفصل السابع أزمة الأبداع الفكري في القراءة التطبيقية الأزمة الأولى قالوا ؛ إن الإمام الحسين عمل من أجل عدم الدخول في الحرب . وقالوا ؛ إن الإمام الحسين سعى من أجل جمع عدد كبير من الناس ليقتلوا معه . يعتبر الإسلام الوقوف بوجه العدوان مبدأ رئيسياً عمل على تركيزه في النفوس من خلال ما يطرحه من مشاريع تأسيسة في هذا الأتجاه والإمام هو الراعي والقائم على تنفيذ تلك المبادئ ، ولذلك نراه قد تبنى ذلك المشروع ورفض الطرح الذي تبناه زهير بن القين حينما أنزلهم الحر بن يزيد الرياحي عنوة في صحراء كربلاء ، إذ كان يرى زهير أن الوقت مناسباً للهجوم على العدو فهم أقل عدة ، وليس لديهم العون وحرباً معهم ضمن موازين القوى المادية ستكون رابحة حتماً ، والإمام يعلم ذلك ولكنه قال إني أكره أن أبدأهم بقتال . فالسلام في مفهومه العام قيمة أخلاقية عالية المضامين وهو عند الإمام بعد أخلاقي في ممارسة الإنسان لقواه ، فالسلام هو المروءة عند الإمام لذلك يعني له عدم البدء في القتال دليل مروءة ، وهذا الموقف من السلم ينطبق على المقولات النقلية والعقلية وهو تعبير أكيد على منهج رسول الله ومنهج الإمام علي في الحياة ، فالرسول في كل مواقعه الحربية لم يكن البادئ بالحرب وهكذا كان الإمام علي في معاركه وحروبه .وهذه هي سياسة الإسلام ، فالإسلام حينما يأمر بالأستعداد وجمع العدة لا من أجل العدوان إنما من أجل الدفاع وأن يُرهب الأعداء ويمنع العدوان ، إن عملية الأستعداد هي عملية ردع للعدوان وهو شكل وقائي يحمي الإسلام من اعدائه الحاقدين ... وسياسة الإمام الحسين هي سياسة الإسلام القائمة على الشروع بالحرب ، ولو تعامل مع هذه السياسة السلمية لما جرت أحداث وقعة كربلاء ، فالإمام كان يدافع عن نفسه وأهل بيته وأصحابه من حملات الأعداء . ولاريب أن الدفاع أمر مشروع تقره قوانين السماء ، وينسجم مع روح التشريع بل أن مبرراته العقلية والعملية في ساحة المقروء والمسموع كثيرة جداً ، وعليه فالقول ؛ بأن الحسين عمل من أجل عدم الدخول بالحرب ، قول صحيح ومنطبق على الواقع وشواهده التأريخية أكثر من أن تحصى . ولكن نجد قولاً آخر يناقضه تماماً هو ؛ أن الإمام بعد ملاقاته بالحر سعى ليجمع أكثر عدد من الناس ليقتلوا معه ، وأن دعوته للنصر إنما تحقق هذه المقالة ليس إلا ّ والملتزمين بهذا القول أوردوا بعض الوقائع مستدلين بها على قولهم هذا مثل :1 – قالوا : لماذا أرسل الإمام ليلة العاشر من المحرم حبيب بن مظاهر (*) إلى بني أسد ؟ ولماذا لم يُلزم أصحابه وأهل بيته بعدم البقاء معه ؟ فالإمام يُريد أن يُثبت للدنيا مظالم حكم بني امية ، وهذا الأمر لا يتم إلا أن يُقدم نفسه هو ومن معه بسيوف جند بني أمية ، لتبقى فعلتهم مع الزمن تحكي قصة ظلم الحكم وجبروته ، وهذا هدف الأمام من حركته2 – وقالوا : إن الإمام علم في ليلة العاشر من المحرم أنه مقتول حتماً ، ومع ذلك أرسل حبيب بن مظاهر إلى بني أسد حتى يزداد عدد القتلى ، لأنه كلما أزداد عددهم وكثر سفك الدم فيهم ، فإن ذلك الطريق السريع الذي يصل من خلاله ظلم بني أمية إلى أسماع العالم !3 – وقالوا : إن الإمام أراد أن يبين للدنيا ظلم بني أمية ولا يتحقق ذلك إلا بدمه لذلك قدم نفسه لكي يُقتل ، وليكون ذلك الدم شاهداً على جريمتهم النكراء ، وإلا فلماذا يدعوا الإمام حتى في ليلة العاشر من المحرم الناس لنصرته ؟ فبعد أن التقى بالحر بن يزيد دعا عبيد الله بن الحر الجحفي ، والضحاك بن عبدالله المشرقي وطائفة من بني أسد4 – وقالوا : إن الإمام لما دعا إلى نصرته لا لكي يظل حياً وينتصر بل لكي يُقتلوا معه ؛ ولذلك دعا إلى نصرته حتى يوم عاشوراء وهذا دليل اكيد على أنه يُريد ان يقتل أكبر عدد من أنصاره معه !5 – وقالوا : إن الإمام كان يُردد مجموعة من شعارات في يوم عاشوراء ، وهذه الشعارات حددت بوضوح روح ثورته ونهضته منها لماذا يُقاتل ؟ ولماذا لا يستسلم ؟ ولماذا أتى إلى هنا ؟ كل هذه الأستفسارات تقع تحت جواب أنه أراد أن يبذل دمه ودم أصحابه ، أنه يهدف من ذلك لكي يُقتل هو ومن معه من أجل أن يزداد عدد الدم المسفوح ليصل إلى أسماع الناس ظلم بني أميةهذه خمسة أقوال جاء بها المستدلين على صحة قولهم أن الإمام سعى لجمع أكبر عدد من الناس لكي يُقتلوا معه ! ولكن هذه الأدلة والأقوال تناقض بأن الإمام سعى من أجل أن لا يدخل في الحرب ، وأنه أعتبر ذلك مبدأ من مبادئ الإسلام الرئيسية الدالة على بُعد أخلاقي كبير ، طبيعي أن الإمام ما كان يُريد أن يدخل الحرب ، ولم يكن ليبدأ الحرب ، لأنه لايُريد حرباً من رأس ، ولا يُريد أن يسفك دماً طاهراً سواء أكان دمه ام دم من معه ـ بل ولا حتى دم أعدائه اعداء الله ، وهذه هي مبادئ الإسلام والقرآن العزيز والتي عمل الإمام من أجل تأسيسها في الحياة ؛ ولا ريب أنه من غير المعقول أن يفعل ما يناقضها ، وإذا تم هذا فنقول كيف أذا يمكن للإمام أن يدعوا الناس لكي يُقتلوا معه ؟ وكيف يمكن له أن يقول إنما جئت لأبذل آخر قطرة من دمي ؟ كيف يكون ذلك هدفاً للإمام وكيف يمكن أن يتصور أحد أن الإمام يوم عاشوراء دعا الناس لا لنصرته ، بل لكي يُقتلوا معه ؟ فلو تصورنا أن جميع جيش ابن سعد بكل أفراده أنحاز لنصرة الإمام فهل يصح له أن يقول لهم أنا لا أريد نصركم بل أريدكم أن تقتلوا معي ؟ أي منطق هذا ؟ ومن هنا يتضح التناقض بين القول الأول ، والقول الثاني ، وأنه لايمكن الجمع بينهما فالتناقض واضح بين عدم الشروع بالحرب وتقديم النفس من أجل أن يقتلها الأعداء ، إذاًً كيف يكون الإمام كارهاً للحرب وساعياً إليها بنفس الوقت ؟ كيف لهم أن يجمعوا بين هذين الموقفين ؟ فلو أجبنا نحن عن هذا السؤال لقلنا أن القول الأول هو الصحيح ، وأن القول الثاني ليس صحيحاً ، فما ورد بلسان الإمام وما نقله التاريخ يؤيد القول الأول ويدعمه فالشواهد على ذلك كثيرة ، وأما حول القول الثاني فليس في التاريخ ما يؤيده بل الشواهد على خلافه .. ولم يأت بلسان الإمام ما يشير إليه ، كل ما في الأمر أنه أستنتاج قائم على حدس وظن وهما معاً لا يؤديان إلى تأسيس بقدر ما يجعلان الأمر في باب الأحتمال ، والأحتمال يخضع لضوابط البرهان وفنونه ، فإن صح فذاك وإلا فالأمر على عكسه ..وأيضاً فهذا الأستنتاج لا يتناسب مع سيرة الإمام إذ لم يروي عنه أنه قال إنما جئت لأبذل آخر قطرة من دمي ، فهكذا عبارة لم تأت في المتون التأريخية إنما هي إستنباط ، وأن صح ذلك فهي نوع من التاريخ الأختراعي المجهول ! لأن قتل الإمام يعتبر فادحة ونكبة عظيمة حلت بالإسلام والمسلمين . فالحزب الأموي بإرتكابه لذلك سجل نفسه مع جناة التاريخ ويظهر ذلك بقول الإمام السجاد : ( إن الله قد أبتلانا بمصائب جليلة وثلمة في الإسلام عظيمة قتل أبو عبد الله الحسين وقد ورد في زيارة يوم عرفه قولهم : وأصبح القرآن بفقدك مهجورا . ومعلوم أن الإمام لا يُريد لهذه الخسارة أن تحل بالإسلام وبالقرآن العظيم ، فقتل الإمام كان جرماً كبيراً وحادثاً عظيماً حل بالإسلام والمسلمين ولذا أمر الأئمة بإقامة مجالس العزاء في يوم مقتله حداداً على قتله ، وأنتهاك حرمته إظهاراً للألم والحزن والتأثر . وهذا في معناه لا ينسجم مع قول القائل إن الإمام أراد أن يقتل نفسه ، إذ كيف يمكن للإمام بأن يفعل أمراً تكون فيه الخسارة على الإسلام عظيمة ؟ بل كيف يمكن للإمام أن يفعل أمراً يصير القرآن فيه مهجورا ؟ في الحقيقة أن الإمام لم ينه فقط عن قتله ، بل أكد على ذلك وعمل من أجل أن لا تقع مثل هذا المنكر الكبير والجرح العظيم ، وقد بين الإمام ذلك يوم عاشوراء بشكل صريح لا لبس فيه ، وأقام الدليل على ذلك .لو سلمنا بالقول الثاني للزم القول إن الإمام أراد قتل نفسه بدل أن يقتل يزيد ، هذه الملاحظة جديرة بالإهتمام إذا ما عرفنا الإمام تحرك من أجل أخذ الخلافة والحكم وإعادتها إلى وضعها الطبيعي ، وكان في بداية تحركه يأمل بالنصر 50% وهذا الأمل كان معقوداً على الدعوة التي وجهها أهل الكوفة له بتشكيل حكومة العدل الألهي ، وإسقاط حكومة الظلم الأموي ، ولأجل هذا قام الإمام بعمل سياسي وإعلامي لأبراز هذه الحقيقة ، والتأكيد عليها كمنحى وهدف لتحركه ، حتى لو كلف ذلك قتل يزيد الفاسق الفاجر ، وهذا التوجه الحسيني هو نفسه التوجه الذي قام الإمام علي في ممارستة تجاه الناكثين والقاسطين والمارقين ، إن الإمام الحسين تحرك لأجل هذا الهدف ، وهو لإقامة الحكم الألهي وظل مدافعاً عنه حتى أستشهد مظلوماً محتسباً ...الأزمة الثانية قالوا : إن الإمام لم يعمل بناءً على علمه الغيبي الماورائي .وقالوا : إن الإمام عمل بناءً على علمه الغيبي الماورائي لذلك أصطحب عياله ونساءه معه .إن عمل الإمام عملاً واقعياً إنسانياً لذلك فهو أسوة لنا وللبشرية ، ولو قلنا بأن عمله فوقياً وغيبياً لصار كل عمل وفعل قام به الإمام هو سري وخاص به ولا علاقة للناس فيه ،وهذا القول تحريف واضح لعمل الإمام ولذاته لأنه يلزم بخروج عمل الإمام عن ميدان الأسوة والقدوة ، وهذا النوع من التصور يعطي نتائج عكسية ومخالفة روحاً ونصاً لما ورد على لسان الأئمة ، وهذا التصور الخاطئ هو الذي أوجد نوعاً من الأراء والأفكار المحرفة تجاه ثورة وأهداف الإمام ، لأنهم أفترضوا أن الإمام فوق البشر وعنده أوامر سرية باطنية وغيبية خاصة به ، ولما كان هذا الأفتراض موجوداً ولَّد تصوراً خاطئاً أزاء حركة الإمام وبالتالي لو صح هذا الأفتراض لوجب أن تكون حركته غير ممكنة التصور أو في الإمكان جعلها أسوة في سيرنا التكاملي ، وهذا معناه خروجها عن أصول العقيدة التي جائت عن لسان النبي ، ومن اللازم هنا أن نأتي ببعض الملاحظات حول هذا الكلام تبياناً للأمر :الملاحظة الأولى التحريف المعنوي الثاني [ وأما التحريف الأول فقولهم أن الحسين بن علي ثار حتى يقتل نفسه ليكفر عن ذنوب أمته ] بنظر أهل التفسير لوقائع ثورة الأمام قولهم ؛ نعلم لماذا ثار الإمام وقتل ؟لأن ذلك أمر خاص به مأمور ومكلف بذلك ، لأنه قيل له ؛ أذهب وأقتل نفسك ، وعليه فالتكليف خاص به ولا يرتبط بنا ، بمعنى أدق أنه أمر غير قابل للأقتداء ولا علاقة له بالتكليف والأوامر الإسلامية ، لأن تكاليف وأوامر الإسلام كلية وعامة ومطلقة ... وهذا يعني أخراج ما حدث في كربلاء من عقائد المسلمين ، وإذا أخرجت من العقيدة فلا شأن لنا بها في المبنى والمعنى ، وإذا لم تكن قابلة للأقتداء فلا تصح الأستفادة منها وهذا التوجيه والتقسيم لثورة الإمام تفسير عقيم وفيه خيانة ليس فقط للثورة في أهدافها النبيلة بل للناس ودنيا الناس التواقة لئن تجعل من الحسين في نهضته نبراساً لها .الملاحظة الثانية التحريف الثالث في نظر أهل البيان حينما يقولون أن الإمام تحرك لكي يُقتل وهو عالم بذلك . ويرى أصحاب هذه المقالة أن ذلك العنوان يُمثل التفسير المنطقي لفلسفة الإمام في جانبها الغيبي ، بمعنى أن الإمام إنسان خارج حدود طبيعة البشر ، وإذا صار كذلك فلا نستطيع ان نجعله أسوة لنا ، وهذا الرأي عقيم لأنه جعل غير واقعي ، وإخراج لوقائع الإمام من شكلها الطبيعي إلى روحها الأعجازية المتعذر على البشر سلوكها والأقتداء بها ، وبالتالي نخرجة من العقيدة ومن الولاية التي ينبغي أن يكون لنا فيها قدوة وأسوة ، نعم مقام الأمامة والولاية يقتضي كون الإمام عالماً ولكنه في الوقت ذاته أسوة حسنة لا عالما غيبياً يصعب فهمه والتعامل معه ، فهكذا أعتقاد خاطي يحرف الأمور ويحجم دور الإمام في الحياة ودنيا الناس .الملاحظة الثالثة التحريف الرابع إن حركة الإمام معلولة لأمر خاص وسري ، وكانت له بنحو القضية الشخصية الخاصة . والأمر الخاص جاءه في النوم أو في اليقظة ، وهذا يعني أنه لو كانت حركة الإمام بناءً على أمر خاص فليس للإخرين حق الأقتداء به ، لأنهم لا يستطيعون ذلك ؛ وهذا في معناه لا يمثل بعداً واقعياً لحركة الإمام لأنه من المفروض ان تكون حركة الإمام ( طبقاً لأوامر كلية ، وينبغي للإمام أن يعمل تبعاً لتلك الأوامر فهو يطبق الإحكام على زمنه ويعمل بوظيفتيه التكليفية لأنه عالم بثورته وبحركته بحسب أسبابها وعللها .ولكن بعض الخطباء يذهبون بمقام الإمام وحركته إلى أعلى ويتجهون به إلى فوقية غيبية لذلك يعتبرون حركته أمراً فوقياً خاصاً من أجل محاربة يزيد وابن زياد وعمله جاء بناءً على هذا الأمر الغيبي الفوقي ككل الأعمال والقضايا التي يقوم بها في النوم أو اليقظة ، ولذلك يعتبرون ثورته غير قابلة للأقتداء من قبل الناس ، لأن هناك فرقاً بين السماء والأرض في ذلك بناءً على مقتضيات الأمر والكينونة والطبيعة ولا مجال للقياس ، وهذا التصور منهم محض خيال يرتبون عليه أثار ونتائج الثورة بل الحركة ، وكأن الأمر لا يتعلق بدنيا الناس بل بعالم الجن والملائكة ، إن الإمام تحرك بإرادته لا بإرادة الملائكة لأنه لو كان ذلك لفقد عقله قدرة التشخيص على تحديد الوظيفة المكلف بها ، ولما كان بطلان ذلك يقتضي كونه بعقله وإدراكه وتشخيصه بما يحتاجه الشرع والعقل ، وهداية الشرع والعقل كافية للإمام بإدائه للتكاليف .. هذه الملاحظات التي ذكرناها تبطل صفة كون فعل الإمام ليس عملاً بشرياً محضاً . وأنه غير قائم على تكاليف وأوامر سرية خاصة . لأن القول بذلك يبعدنا عن الحقيقة كثيراً ويخرج الإمام وفعله وتقريره من ميدان القدوة والأسوة ، ولو تنزلنا وقلنا ؛ إن الإمام صفة ما ورائية هي فوق البشر ، ومن خلالها أخذ الأمر بعمله هذا ، فهنا يكون عمله خارجاً عن مجال الأستفادة من قبل الأخرين ، وحينما يكون عمله ما ورائياً فلا يصبح ملهماً للناس وهادياً لهم ، بل يسقطه من مجال المنافسة والأسوة والقدوة .وهذا القول دقيق في تفنيد الحركة الماورائية والعمل الغيبي . ولكننا نرى التناقض واضحاً يتبنى أصحاب القول الأول ، القول الثاني ، فيقعون بالاختلاف والتناقض ، فهم في مسألة أصطحاب العيال والنساء يوجهونها توجيهاً ما ورائياً بحتاً ويلصقونه بالأوامر الغيبية التي تلقاها الإمام في نومه ، ولا يستطيع أحد من الناس إدراكه ، ولهذا يبطل التساؤل ولا يصح قول لماذا ؟ وكيف ؟ ومتى ؟ لأن ذلك مرتبط بالعالم الغيبي الذي أختص به الإمام . لاحظ التناقض ففي القول الأول ردوا تماماً الحركة الماورائية وفي القول الثاني أثبتوها من دون ذكر الدليل قالوا : أنه بحسب المنطق البياني وطبق ما ورد من نصوص روائية وبأعتقدنا الخاص . إن كل فعل أو عمل قام به الإمام كان بحسب الطبيعة الغيبية الماورائية يعني الأرتباط والأتصال بعالم الغيب ، ولا وجود للصدفة والأشتباه فيه ولا مجال لهذا فقضية حمل العيال والنساء معه تدخل في ظل ذلك الأتصال الماورائي ، مع معارضة أبن الحنفية وابن عباس لذلك ، وحتى بعد سماعه لخبر مقتل مسلم لم يُرجعهم إلى المدينة ، إذن فعمله كان أمراً محسوباً ، وقد جاء في بعض الروايات أنه رأى في المنام رسول الله يقول له : إن الله شاء أن يراهن سبايا ، طبعاً المقصود من الآرادة ـ الآرادة التشريعية وليس الآرادة التكوينية ، والمقصود بالأرادة التكوينية هو القضاء والقدر الألهي الحتمي ، وأما المقصود بالأرادة التشريعية فهو المصلحة والرضا الألهي . وطبق لمنطق الروايات فإن حمل النساء والأطفال كان طبقاً لمصلحة لا يستطيع إدراكها مثل أبن عباس وغيره ... هنا نلاحظ أنهم يُريدون بذلك حلاً لقضية العيال والنساء ، ولماذا أصطحبهم الإمام معه فهي بنظر أبن عباس وابن الحنفية قضية خطرة غير جائزة ، ولما لم يجدوا تفسيراً منطقياً ربطوها برؤيا غيبية تلقاها الإمام في النوم حلاً لهذه المشكلة ، مع العلم أننا ذكرنا فيما سبق أن الذين قالوا نفوا ان تكون ثورة الأمام طبقاً للأوامر الغيبية الخاصة وقعوا بإشكالية إذ ربطوا أصطحاب العيال بما ورائية غيبية ، وسنحاول هنا تتبع هذا المطلب بحسب هذه الفروض :الفرض الأول قالوا : إن أصطحاب الإمام لعياله ونسائه معه إلى الكوفة كان أمراً غيبياً ، وهذا يعني أنه لم يكن طبقاً للأوامر والأحكام الأسلامية الكلية حتى يمكن أن يقتدي بها الأخرون ، ولما كان حدوثه طبقاً لما ورائية وارتباط غيبي وهذا الأمر لا يدركه الناس ولا يستطيعون الأقتداء به وأنهم يعتبرون ذلك تم بمصلحة لايستطيع أحد من الناس أن يدركها ، ولا يمكن توضيح ما هي تلك المصلحة ؟ ولما لم يوضح لنا القائلون بذلك أرجعوها إلى الماورائية والغيبية ، وهذا العالم لايستطيع أحد إدراكه فلا ينبغي السؤال عن ماهية تلك المصلحة وشكلها وطبيعتها .. ولكن لو فكرنا بعمل الإمام هذا فهل نراه مطبقاً على احكام وأوامره الكلية العامة ؟ والقابلة للفهم من الآخرين والتي لا تحتاج إلى أرتباط بعالم الغيب المستند إلى الرؤياوحتى نرجع ونقول أن ذلك يرجع إلى مصلحة غيبية لا يدركها الأخرين .. الإمام حينما تحرك إلى الكوفة تحرك بناءً على وجود قوات كافية وأخبار من مسلم بن عقيل من أجل تشكيل حكومة العدل الألهي في الكوفة ، هذا من جهة ومن جهة أخرى لو لم يصطحب الإمام عياله معه ، فإن الخطر عليهم من حكومة يزيد قائم خاصة وأنه ربما يستخدمهم كأداة ضغط على الإمام فيما لو سجنهم أو عذبهم وربما قتلهم ، وهذا الأحتمال أورده ابن طاووس في اللهوف ص 84 . من هنا أراد أن يجعل أهل بيته تحت رعايته المباشرة ليحميهم من هجمات الأعداء ، وأن أحتمال عدم تحقيق هدف الإمام في رحلته تلك ليس موجباً لتركهم . وهذا العمل من الإمام هو عينه ما فعله رسول الله في معركة أحُد التي اصطحب فيها نساءه معه مع احتمال تحقيق النصر ، ولم يقل رسول الله أن احتمال عدم النصر وارد فلا آخذكم معي ولا يجب أن نصطحب عيالنا ، لأن كثير من اعمال الحرب تقوم بها النساء كمداواة الجرحى والإعاشة ؛ وما فعله الإمام كان قد قام به النبي فقد أصطحب عياله حتى لا يقعوا ضحايا بأيد الأعداء وكذلك يساعدونه في الإمداد والإعاشة ، ومداواة الجرحى وهذا ما جرت عليه سيرة العقلاء في كل الدنيا ولم يمنع الإسلام عن ذلك بل لعله أمر به ، لأن حفظ العيال وحراستهم واجب ومساعدتهم وقت الحاجة والضرورة جائز بل وأحياناً لازم ، والإمام إنما عمل بموجب قوانين الإسلام ومقرراته العامة الشاملة له ولغيره من الناس ، وعليه فأصطحاب العيال كان أمراً محسوباً ضمن قوانين الإسلام الكلية وأحكامه المطلقة لا أنه محسوباً من الجهة الماورائية والغيبية ، وأما لماذا لم يرجعهم إلى المدينة بعد سماع نبأ مقتل مسلم ، فنقول أنه بعد سماع خبر مقتل مسلم لم يتحدد قطعاً مصير الإمام بل أن مرجحات النصر كانت موجودة وقد فصلنا الأمر في ذلك فلا نعيد .الفرض الثاني قالوا : أن النبي في عالم الرؤيا قال للحسين : إن الله قد شاء أن يراهن سبايا ،هذا الحيث جاؤوا به تفسيرا للسر في أصطحابه لنسائه وعياله ، ولكن هذا الحديث فيه ثلاثة عيوب هي أ – فقدانه للحد الأدنى من الأعتبار ، لأنه بدون سند .ب – وجود المعارض لهذا الحديث .ج – أنه لا معنى له معقول وقابل للقبول ـ وقد بينا ذلك مفصلاً في الفصل الخامس .الفرض الثالث قالوا : إن المقصود بالإرادة في حديث ؛ شاء الله أن يراهن سبايا .الإرادة التشريعية وليست الإرادة التكوينية ، والإرادة التشريعية هي المصلحة والرضا الألهي ، أما الإرادة التكوينية فهي متعلقة بالخالق سبحانه ، مثلاً الله أراد وإرادة الله تعلقت بكذا ، فإرادته من قبيل ـ كن فيكون ــ أما الإرادة التشريعية فهي المتعلقة بالتشريع وبالقانون ، مثلاً الله يُريد الناس أن يقيموا الصلاة ، فيضع لهم قانوناً بذلك ويأمرهم بالصلاة وبشكل عام الإرادة التشريعية تتعلق بالأمور التي تكون مطلوبة ومرغوبة من الله سبحانه وتعالى ، ومن هنا فهو يأمر بها ويكون أمره واجباً أو مستحباً ـ وعليه فالإرادة التشريعية لله لا تتعلق بالأمور المبغوض لديه ، فهي لا تتعلق مثلاً بشرب الخمر لأن الله ينهى عنه وهو مبغوض لديه .. إذن فكل فعل مرغوب لله تتعلق به الإرادة التشريعية ، وكل فعل مبغوض عند الله أو ينهى عنه فلا تتعلق إرادته به .. والحديث يقول ؛ إن الله قد شاء أن يراهن سبايا ، فهل يمكن أن يكون أسر أهل البيت ونساء الحسين وعياله مرغوباً عند الله ، أو أنه أمر به كما أمر الناس بالصلاة مثلاً ؟ فإذا كانت هذه الإرادة في الحديث هي الإرادة التشريعية فمعناها يكون ؛ ما دام أسر أهل البيت مرغوباً عند الله لذلك أمر به ليكون عنواناً للحكم وقانوناً واجب التنفيذ ولابد من أجرائه ، وبما أنه تم بيد مرتزقة يزيد فيكون تنفيذهم له تنفيذاً للإرادة التشريعية .. وأما أعتبار الإراداة تشريعية لا تكوينية بمعنى المصلحة والرضا الألهي ، فهل يمكن أن يكون أسر زينب وبنات النبوة وحريم الرسالة فيه مصلحة ورضا ألهياً ، وأنه مأمور به عند الله مرغوب فيه ؟ وإذا كان سبي نساء بيت النبوة يقع مورداً لرضا الله ، فلماذا خاطبت زينب يزيداً قائلة له ومستنكرتاً عمله ؛ وسوقك بنات رسول الله سبايا ؟ لاشك أن أسر بنات رسول الله يعتبر من أكبر الذنوب وأعظمها ، ولاريب فإن الأمر المنهي عنه من قبل الله لن يكون مورداً لرضا الله أو أن يتم بإرادته التشريعية ، فالإرادة التشريعية تتعلق بالرغبة من الله للأمر ، وأن سبي بنات رسول الله لا رغبة ألهية متعلقة بل أن المتعلق هو النهي الألهي عن ذلك ولا يعقل أن تتعلق الإرادة التشريعية بأمر مبغوض عند الله ، إن سبي بنات رسول الله يعتبر تعدياً واضحاً ومفضوحاً لكل قيم ومبادئ الرسالة وأنه ظلم متعمد ، ولا يمكن أن يكون مورداً لرضا الله ، فهذا تناقض في جوهرية الأشياء وحاشى الله أن يتنزل قدسه إلى ساحة المجاهيل ، فسبي بنات رسول الله عمل مبغوض عند الله وعند نبيه والأئمة وعند زينب وعند كافة المسلمين ، وهذا الأمر ما جعل مأساة الأسر تراجيدياً عاطفية صيغت في شأنها الأشعار المختلفة والحكايات التي ظلت تردد في مجالس الذكر والعزاء ... إن المعنى الصحيح لفهم هذا الحديث هو ؛ إن الإرادة التشريعية لله سبحانه لا يمكن أن تتعلق بظلم بني أمية مطلقاً ، فظلمهم مبغوض عنده منهي عنه وقد جاءت الروايات على بما لا يحصى عدده ، وعليه فكما أن الظلم ذنب فإن الذي يعتبر الظلم مورداً لرضا الله ورغبته فهو ذنب أيضاً ، ولا يمكن أن نتصور أن تقبل بنات رسول الله ذلك الظلم ، فالسبي كان ضد إرادتهن كان ظلماً وعدواناً على رسول الله ولا يقع مورداً للرضا والمصلحة الألهية ..الأزمة الثالثة قالو ا : إن الإمام الحسين كان يعلم أنه يستشهد في كربلاء ولن يصل إلى الكوفة .وقالو ا : إن الإمام الحسين كان يأمل بالنصر بنسبة 50% وأن أحتمال تشكيل حكومة في الكوفة كان قائماً عنده .إن الذين قالوا بأن الإمام كان يُريد الكوفة لتشكيل الحكومة فيها وأن أحتمال النصر كان بنسبة 50% عنده ، قالوا بأنه لم يكن قاصداً في رحلته تلك الذهاب إلى كربلاء ، أو انه تحرك لكي يُقتل فيها ، بل أن شواهد التاريخ تقول انه تحرك إلى الكوفة لإقامة حكم الله فيها ومن هذا المعنى يفهم إن الإمام كان قاصداً في سفره الكوفة وليس كربلاء ، وأن الحركة الأصلية عنده هو التحرك من مكة إلى الكوفة ليقيم فيها الحكم ، وأما القائلين بأن الإمام الحسين ذاهب إلى كربلاء وأنه يعلم سُيقتل فيها ؛ وأنه كان يعلم بعاقبته من جهة مقامه المعنوي ومقام الإمامة ، وكما ترى إن هذين الرأيين فيهما تناقض في سر الحركة وهدفها ، وأنه لايمكن الجمع بينهما وسنوضح الأمر : إن إجتماع النقيضين محال ذاتاً في الخارج سواء أكان في عالم المادة أو عالم المجردات ، وسواء في العالم البشري أو عالم النبوة والإمامة وحتى في العالم الربوبي إذ أن الشئ الموجود ذاتاً محال أن يجتمع فيه النقيضين ] خذ مثالاً لو قلنا ؛ أنكم ستسافرون على متن الطائرة الكذائية ، ولكنها ستنفجر حتماً ومئة في المئة ففي الحالة هذه سوف لن يتقدم أحد للسفر على متنها ، لأن موضوع السفر منتفي يقيناً ، وسوف لن يكون هناك طائرة أيضاً . ولكن لو لم يعلم أحد بأن الطائرة الكذائية ستنفجر فإنه حتماً سيحمل حقائبه أستعداداً للسفر على متنها . في هذا المثال حالتان متناقضتان الأولى حالة عدم العلم بالإنفجار والتي يصمم فيها المسافر على السفر ، والثانية حالة العلم بالإنفجار والتي يصمم فيها المسافر على عدم السفر فلو توجهنا إلى هذه الملاحظة : كما لا يصح الجمع بين العلم بالإنفجار وعدم العلم به ، وكما لا يصح الجمع بين الركوب بالطائرة وعدمه ، أي العلم بالإنفجار قبل الركوب في الطائرة . لأنه في حالة العلم بالإنفجار يكون التصميم على الركوب بالطائرة وهذا التصميم يحصل في القلب ، وفي حالة عدم التصميم فإن التصميم ينتفي من رأس لأن ذلك يكون بمقام أجتماع للنقيضين ، فلو قال أحدهم : إني كنت أعلم بالإنفجار قبل ركوبي في الطائرة ، ومع ذلك صممت على الركوب فيها ، مثل هذا القول بإجماع النقيضين نسميه تناقضاً ، ومنه يعلم أن لو قال أحدهم ؛ إن الإمام يعلم بأنه يستشهد في كربلاء قبل أن يصل إلى الكوفة ومع ذلك فهو مصمم على تشكيل الحكومة في الكوفة ، نقول لهذا القائل إن ذلك أجتماع للنقيضين وهو تناقض ؛ لأن الإمام لو يعلم أنه يستشهد في كربلاء قبل وصوله إلى الكوفة فإنه في الحالة هذه لا يصمم على تشكيل الحكومة فيها ، وتشكيل الحكومة وعدمها في نفس الدرجة والقوة لا يجتمعان في قلب الإمام لأن ذلك مصداق لأجتماع النقيضين واجتماع النقيضين ذاتاً محال ، والشئ المحال ذاتاً لا يتبدل إلى ممكن في مقام الإمامة ، ثم أنه ليس للإمام قلبين في أحدهما تشكيل الحكومة وفي الثاني عدمها إذ ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) الأحزاب آية 4 ـ إذن فما قيل ؛ أنه يفهم من التاريخ أن الإمام كان قاصداً الكوفة لتشكيل الحكومة وفي نفس الوقت كان يعلم أنه يستشهد في كربلاء قبل وصوله إلى الكوفة ، بمعنى أن التصميم للذهاب إلى الكوفة ، وعدم التصميم لذلك حصل في قلب الإمام في آنٍ واحد .وهذا أجتماع للنقيضين الذي لا يمكن في أي تكوين ، لا في العالم المادي ولا العالم المجرد ولا البشر العاديين ولا الإمام ولا النبي ولا حتى مقام الربوبية ... إذ هل يصح أن يقال أن الله عادل أو غير عادل ؟ وهل يعلم بالجزئيات ولا يعلم ؟ الجواب ؛ لا لأن ذلك أجتماع للنقيضين وأجتماعهما ذاتاً محال ؛ والمحال الذاتي لا يتبدل للممكن .. . ولو قال أحد : إن أجتماع النقيضين في مقام الربوبية ممكن وأن الله في موضع عادل وفي آخر ليس عادلاً ، فهل هذا صحيح ؟ أليس هذا هذيان واضح ؟ وخلاصة القول ، إن أجتماع النقيضين محال وغير جائز سواء في مقام الإمامة أو غيرها . ولهذا لايصح أن يكون الإمام قد صمم لتشكيل حكومة في الكوفة وصمم ليستشهد في كربلاء ... إن النهج الحسيني ينبغي أن يكون ملهماً للناس وللمصلحين من بعده . فهو القدوة والأسوة ، ولكننا لو قبلنا القول السابق ؛ بأن الإمام تحرك لتشكيل حكومة وصمم على الشهادة في كربلاء ، فإننا لو قبلنا هذا الكلام لما صح أن يكون منهجه قدوة وأسوة لأن الذي يثور دائماً يأمل بالنصر على العدو ولو علموا أنهم لا ينتصرون يقيناً ، فإنهم لن يثوروا أبداً ، ولو فرضنا فرض المحال أنه كان للإمام قلبان ، في الأول انه يعلم بشهادته 100% وفي الثاني يحتمل النصر 50% وهذا الفرض متعلق بالإمام ولا يمكن أن يكون الناس مثله ، فلو كان الأمر كذلك لما ثار منهم أحداًَ ، والثاني فلا يكون لتحرك الإمام أي إلهام وقدوة للأخرين ... وقد أنتقد علماؤنا بشدة القائلين ؛ بأن الإمام الحسين تحرك بأمر خاص ولازمه عدم الأقتداء من قبل الآخرين ، وأعتبر علماؤنا هذا القول خروجاً عن حدود النص وتجنياً على التاريخ ، والمنهج الواقعي لثورة الحسين ، وإذا خرجت ثورة الإمام من عالم القدوة فلا تصح الأستقامة منه وهذا خيانة للثورة ولأهدافها العظيمة . ولو أردنا الجمع بين القولين للزم ذلك ان نخرج الثورة عن بعدها الإصلاحي ، وندخلها في باب المغيبات والعالم الماورائي الميتافيزيقي المثالي البعيد عن منطق العقل يقول البعض ؛ إن عمل الإمام له جهتان ، جهة ظاهرية وجهة باطنية ، فمن جهة الظاهر ، أن الإمام تحرك لكي يُقيم حكومة العدل الألهي في الكوفة ، ولكنه من جهة الباطن ، كان لا يُريد تشكيل الحكومة لأنه يعلم انه سيستشهد في كربلاء ، ولكن هذه الفكرة فيها ضعف من جهات :1 – إن هذه الفكرة لادليل عليها من القرآن والسنة ، ولا من العقل وأنها مجرد خيال وهمي .2 – إن هذه الفكرة تستلزم ان تجعل حركة الإمام حركة أستعراضية غير واقعية وجدية ، وأن أرساله مسلماً إلى الكوفة كان مجرد عمل في الظاهر فقط ، ولكن الباطن كان يريد لهم وله الموت .3 – إن هذه الفكرة تخرج حركة الإمام من أن تكون قدوة وأسوة . لأنها لا تجعل للمصلح أي دور إلهامي يأخذه عنها كقضية حسنة في ذاتها ، بل هي حركة استعراضية لا واقعية ، وبالتالي تصبح لا معنى لهايرى البعض ؛ أن الإمام يعلم بأنه لن ينتصر بسفره هذا إلى الكوفة ــ علماً لدنيا ــ ولكن هذا العلم للدني لا يعطي للإمام وظيفة ما ، بل هو موظف ان يعمل وفقاً للظاهر لذلك بعث مسلم إلى الكوفة ليستقرئ له اوضاعها ، وبعد ان أرسل إليه بأخبارها تحرك من مكة إلى الكوفة لتشكيل الحكومة [ ولكنه يعلم انه لن يصل إليها ، ولا يستطيع تشكيل الحكومة فيها ٍ ] والخلاصة لأن علمه العادي أعطاه تكليفاً بالعمل وفقه ، ولكن علمه اللدني الوهمي لم يعطه هذا التكليف ، ولا يستطيع ان يعمل وفقه ، هذا الرأي فيه نقاط ضعف هي :1 – إن هذا الرأي لا دليل عليه من القرآن والسنة والعقل وأنه مجرد أدعاء .2 – العلم سواء أكان عادياً ام ألهياً فبحقيقته واحد ، وإنه بحكم العقل القطعي ، فأي علم هو حجة ويريد جواباً ، ويجب أن يعمل به ، فلو علمت يقيناً ان في هذا الأكل سماً ، فإنه ينبغي أن تجنبه ، سواء أعلمت به بالعلم العادي ام بالألهام أو بالطرق الأخرى ، ولا يمكنك القول ، ان هذا اليقين جاء عن طريق الألهام ، فلا يجب أن أعمل به ، لأن حجة القطع الذاتي سبب لما أريد .3 – لو أن العلم اللدني لا يعطي وظيفة وتكليفاً وأنه لا نستطيع ان نعمل به ، لوجب على رسول الله أن لا يعمل بالعلوم الحاصلة لديه عن طريق الوحي ، وإذا كان كذلك فلا يجب أن نعمل بكل ما جاء من عند النبي ، وهذا يستلزم نفي النبوة ، نعوذ بالله من ذلك القول !الأزمة الرابعة قالوا : إن جيش ابن سعد كانوا من شيعة علي والحسين ) .وقالوا : إن الذين قتلوا الإمام الحسين كانوا أعداء الإمام علي والناصبين . وقد حاول البعض تحليل أفكار وعقايد أنصار ابن سعد وأعوان ابن زياد فقالوا : إن تحليل أفكار وعقايد أعوان ابن زياد ليس أمراً سهلاً إذ يتبادر إلى الذهن جملة أسئلة منها ؛ هل كانو جميعاً غير مؤمنين بالإسلام وأصوله ؟ وهل كانوا فعلاً مؤمنين ولكنهم يعتقدون بأن الإمام الحسين خارجاً على إمام زمانه . وإنه يجب قتاله بحكم الإسلام ؟ أو أنهم أهل دنيا وطمع وحرص عليها ؟ أو أنهم كانوا جهلاء لايعرفون المصلحة ؟ فالظاهر أنهم لم يكونوا جميعاً منكرين للإسلام وأصوله وللإمام وحقة ! إذ لا يمكن أن نجعل الطمع والحرص والجبن هي الأشياء المحركة لهم ، ولا الحقد الشخصي لأنه لايكون في العمل ، فلو كان لهم عليه شئ لقالوا حينما خاطبهم قائلاً : ويحكم أخبروني أتطلبوني بقتيل منكم قتلته أو مال أستهلكته أو بقصاص من جراحة ،. وقيل في تحليل عقائدهم : أنه من دون شك أن الذين حاربوا الإمام الحسين وقتلوه هم شيعته وشيعة أبيه ولذلك قيل قلوبهم معه وسيوفهم عليه ...هذه ثلاثة أقسام من كلام أصحاب هذه المقالات في تحليلهم لعقائد جيش ابن سعد وأفكارهم ، وأعتبروا أن جيش ابن سعد كانوا مؤمنين إيمان العوام ، ولم يكونوا منكرين للإمام وليس عندهم حقد تجاهه ، وأنهم كانوا من شيعته .. فهؤلاء يعتبرون جيش ابن سعد من شيعة علي والحسين لذلك وقعوا في مقابل مشكلتين الأولى ما دامهم كذلك فكيف يفعلون فعلاً ضد عقيدتهم وإيمانهم بالإمام حتى يقتلونه ؟ والثانية كيف يمكن تفسير وتوجيه مثل هذه الأعمال العدوانية التي فاقت في حدها الوصف كقتل الرضيع ومنعه من شرب الماء والتمثيل بجسده الشريف حتى داست الخيل صدره ؟ ولحل المشكلة الأولى قالوا : إن زعماء وقادة جيش ابن سعد كانوا مرتشين وأهل دنيا وأصحاب سلطان ، وهذا أمر يوجد عند بعض الناس من بني آدم يرجحونه على عقيدتهم ودينهم ، وأما عامة الناس فهم جميعاً يسيرون تبعاً لروح التقليد والمتابعة لزعمائهم ورؤسائهم .وأما حول المشلكة الثانية قالوا : أن الجبن والطمع لايمكن أن تفسر به أحداث وقعة كربلاء من قتل الرضيع والمثلة والجرائم البشعة التي أرتكبت في هذا المجال ، وعليه يجب القول : إن في تركيبة بعض زعماء جيش ابن زياد يوجد نوع من الخبث الذاتي والحقد على الحق وكل عمل شريف وحر ... ونلاحظ أن حلهم للمشكلة الأولى تعلق بكون زعماء الجيش كانوا أهل دنيا وسلطان ورشوة ، وأما العامة فكانوا مقلدة وتابعين لقادتهم وأما حلهم للمشكلة الثانية فعلقوه بالخبث الذاتي والحقد الشخصي على الحق وأهله ، ومن مجموع البيانات السابقة يتضح بأن الذين حاربوا الحسين وقتلوه هم شيعته وشيعة أبيه ... وهذا القول يناقض القول الأخر بأن جيش ابن سعد كان جميعه من أعداء الإمام علي ولذلك أفتخر لإمام الحسين يوم عاشوراء بالأنساب لعلي كيف يمكن أن يوجه هذا التناقض الصريح ؟ لعلهم يقولون : إن هذه الأقوال كتبت في سنوات متفاوتة وأن أي عالم أو مفكر له في كل وقت وزمان اجتهاد وقول ورآي معين جديد وهذا أمر طبيعي فالإنسان المفكر له في الأزمنة المختلفة في الموضوع الواحد أراء وأقوال متعددة وجل ربي وحده عن ذلك ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه أختلافاً كثيراً) الأحزاب آية 82 ـ هذه الآية تقول : أن القرآن لو كان من عند النبي لوجدوا فيه أختلافاً كثيرا ، وعليه فالأختلاف والتناقض في كلام الناس وفي الأزمنة المختلفة أمر طبيعي ..ليس من شك أن جيش ابن سعد في كربلاء ليس كله كان شيعة لعلي وأيضاً فليس كله كان عدواً لعلي فالرجال الذين كانوا على شاكلة الشمر ليس من الممكن أن يكونوا شيعة لعلي ، لأن أفعال الشمر تدل على عدائه المطلق للحسين وهو الذي ألح على أبن زياد برفض فكرة قبول الصلح من الإمام فقد بعث أبن سعد بكتاب إلى أبن زياد جاء فيه : وقد أعطاني الحسين أن يرجع إلى المكان الذي أقبل منه أو أن نسيره إلى أي ثغر من الثغور شئنا أو أن يأتي يزيد فيضع يده في يده ، وفي هذا لكم رضا وللأمة صلاح . فقال ابن زياد كتاب رجل ناصح لأميره مشفق على قومه نعم قد قبلت . فقال له الشمر : أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وإلى جنبك والله لئن رحل من بلادك ولم يضع يده في يدك ليكونن أولى بالقوة والعزة ، ولتكونن أولى بالضعف والعجز [ فلاتعطه هذه المنزلة فإنها من الوهن ] ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه فإن عاقبت كنت ولي العقوبة وإن عفوت كان ذلك لك .. فقال ابن زياد : نعم ما رأيت ( الكامل ج 3 ص 414 أبن الأير ) (1) والشمر هذا هو الذي تقدم نحو عسكر الحسين يوم عاشوراء ولما رأى النار تلتهب في القصب ،،قال يا حسين تعجلت بالنار في الدنيا قبل يوم القيامة ( الكامل ج 3 ص418 أبن الأثير )(2) والشمر هو نفسه الذي أراد قتل الإمام السجاد بعد أستشهاد الإمام الحسين روي أبن كثير في الكامل : ثم أنتهوا إلى علي بن الحسين زين العابدين فأراد الشمر قتله فقال له حميد بن مسلم : سبحان الله أتقتل الصبيان ؟ وكان مريضاً ، وجاء عمر بن سعد فقال : ولا يعرضن لهذا الغلام المريض ( الكامل ج 3 ص 433 ) (1) وبملاحظة جرائم الشمر هذه ، والتي فاقت جرائم ابن زياد ، يتضح أنه شديد العداء لأهل البيت ومثله كمثل أبن ملجم . وعليه فلا يكون الشمر وأشباهه من جيش ابن سعد من شيعة علي ومن هنا يتضح بطلان القول بإطلاق أن جيش ابن سعد كان جميعاً من شيعه علي فهو قول لا ينطبق على الواقع ومن جهة أخرى ، فإن القائلين بأن جيش ابن سعد كله من أعداء علي ليس قولاً صحيحاً منطقياً على الواقع ، لأن كثيراً من اهل الكوفة جاؤوا إلى هناك بالتهديد والإكراه والوعيد ، وهذا يعني انهم جاؤوا عنوة ، ودون رغبة منهم ، روي البلاذري ان كتيبة مؤلفة من ألف مقاتل جاؤوا بها إلى كربلاء عنوة ، ولكن اكثر أفرادها هربوا ، ولم يبق منها إلا ثلاثمئة أو أربعمئة وصلوا إلى كربلاء ( حياة الحسين ج 3 ص 118 )(2) . وأيضاً روي عن البلاذري ؛ أن بين أولئك النفر الذين جاؤوا إلى كربلاء جماعة تركوا المعركة ، وأنحازوا إلى التلال المجاورة يدعون للحسين بالنصر ( حياة الحسين ج 3 278 )(3) ولكنه يحتمل ان يكون من أنصاره الضعفاء والخائفين ، ومن هنا يتضح أنه ليس كل من كان في جيش ابن سعد كان عدواً للحسين وليس كلهم أنصار للحسين وشيعته .يمكن أن نقول أن تركيبة جيش ابن سعد كانت على ثلاث طوائف مختلفه بالروح والفكر والعقيدة الطائفة الأولى ؛ هم الحاقدون وأعداء أهل البيت كالشمر وأشباهه ، وإن كان الشمر من أنصار علي في صفين ، روي ابن أبي الحديد أنه ؛ قد خرج أدهم بن محرز ، من أصحاب معاوية إلى الشمر بن ذي الجوشن ، فاختلفا ضربتين فضربه أدهم على جبينه فأسرع فيه السيف حتى خالط العظم ( شرح النهج لأبن أبي الحديد ج 5 ص 253 )(4) ولما أنحرف الشمر عن الإمام علي صار من أشد أعدائه كالخوارج تماماًالطائفة الثانية ؛ هم النافرون من الحرب مع الحسين فأما كانوا محايدين أو كانت قلوبهم معه ، ولكنهم جاؤوا بالجبر والإكراه والعنف لحربهالطائفة الثالثة ؛ هم المتذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، وكانوا يتعاملون بوجهين ينتظرون الفرص ، فإذا كانت الكفة مع الحسين مالوا معه ، وإذا كانت العكس صاروا إلى ضده أمثال شبث بن ربعي الذي كاتب الإمام الحسين لما رأى مسلماً يمتلك الكوفة ، وهذا يعني أن النصر مع الإمام لو دخل الكوفة لذلك كتب يقول : فقد أخضر الجناب ، وأينعت الثمار ، وطمت الجمام فإذا شئت فإقدم على جندٍ لك مجند . (تارخ الطبري ج 3 ص 262 ) (5)ولكن شبث بن ربعي وأشباهه أنقلبوا على الإمام بعد ما رأوا أن الوضع قد تغير في الكوفة ، وعند ذلك جاؤوا لحرب الحسين وهذه الطائفة شكلت القسم الثالث من الطوائف في جيش ابن سعد ، وهذا دليل على أنه ليس كل من كان مع أبن سعد من شيعة علي والحسين أو من عدوه . وهذا يقتضي التنبيه إلى أن جيش أبن سعد مركب من طوائف ثلاث مختلفة في الرآي والتفكير والعقيدة والنوايا ، فالطائفة الأولى هم الحاقدون أعداء أهل البيت أمثال الشمر وأشباهه ، والطائفة الثانية هم المجبرون والمتنفرون من الحرب سواء أكانوا من محبيه ام من المحايدين ، والطائفة الثالثة هم المذبذبون أمثال شبث بن ربعي وأشباهه. الأزمة الخامسة قالو ا : أن دعوة أهل الكوفة ومبايعتهم للإمام الحسين تشبه مبايعة واجتماع الناس للإمام علي ) .و قالوا : أن الإمام الحسين يعلم بأن أهل الكوفة ليسوا ثقة وأعتماد .فأصحاب القول الأول يعتقدون أن الحجة كانت ملزمة للإمام الحسين لقبول دعوة أهل الكوفة من أجل تشكيل الحكومة ، وأن الإمام مكلف أن يقبل تلك الدعوة ويتحرك على أساسها وهذه عباراتهم 1 – أن الكوفة كانت في الأصل معسكر للجند ، ، وأن أهلها قد دعوا الإمام ، ولم تكن دعوتهم تتمثل بشخص أو أثنين أو ألف أو خمسة آلاف ، ولا حتى عشرة آلاف ، فلو قلنا أن المعدل التقريبي كان مئة ألف رجل ممن كتب للإمام يدعوه ، وفي هذه الحالة ماهي وظيفة الإمام تجاههم ؟ وكيف يمكن أن يجيب على دعواتهم ؟ فالحجة بهذا المقدار قد ألزمته2 – إن الإمام الحسين في هذه الحالة يشبه وضع الإمام علي بعد مقتل عثمان وأجتماع الناس على بيعته ، فلما تمت الحجة عليه ، قال : لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر لألقيت حابلها على غاربها ولسقيت أخرها بكأس أولها ... ومعنى قول الإمام علي هذا ؛ لأنه بعد أن قتل عثمان تراكم الناس على بيعتي ونصرتي ، ولما رأيت الأمر بهذه الصورة فإن الحجة قد ألزمتني لقبول الخلافة كي أصلح ما فسد بمساعدة هؤلاء الناس ، وأن وضع الإمام الحسين كان يشبه وضع أبيه من هذه الناحية ، فأهل الكوفة دعوه للبيعة ولتشكيل الحكومة ، وأظهروا الأستعداد على نصره ، وهذا كاف في أن الحجة قد ألزمت الإمام بقبول دعوتهم والتحرك إليهم .ملاحظة ؛ إن الحجة قد ألزمت الإمام علي في الحالة التي كان الإمام يأمل أنه بمقدوره وبواسطة هذه الجموع للبدء في الإصلاحات وأنه لو لم يقبل ذلك لأصبح مسؤولاً أمام الله سبحانه وتعالى ، وتحت ظل مسئلته القائلة ، لماذا لم تقبل الخلافة في حين يمكنك أن تقوم بالإصلاح لما فسد من امور الخلافة ؟ وقطعاً لا يمتلك الإمام جواباً شافياً ، وهذا يعني ان الحجة قد تمت على الإمام . ولكن لو لم يعتمد الإمام على هذه الجموع من الناس ، وليس لديه أمل بأن لهذه الجموع قدرة على مساعدته في الإصلاح ، فإنه في الحالة تلك لاتكون الحجة قد تمت على الإمام ، وأنه لن يكون مسؤولاً امام الله ومسائلته لعدم قبول الخلافة .وفي الحالة هذه يمكنه القول ، إني لم أقبل الخلافة لأني كنت على ثقة بأن هذه الجموع لا تستطيع مساعدتي في الإصلاحات التي أنوي القيام بها ، وبالتالي فإني لست مسؤولاً امام الله ولا حجة له عليَّ . إذا تم هذا فنقول ؛ أن تشبيه وضع الإمام الحسين في تلبية دعوة أهل الكوفة بوضع الإمام علي تشبيه صحيح ، لأنه من اللازم أن يقبل دعوتهم لأنه كان يأمل بنصرتهم ومساعدتهم لتشكيل الحكومة ، وهذا يعني قولهم ؛ بأن مسلم بن عقيل ذهب إلى الكوفة ليأخذ البيعة من أهلها ، وفي هذا الصدد قالوا : أن أهل الكوفة دعوا الإمام عندما أمتنع عن بيعة يزيد وأظهروا الجد في نصرته وتوالت عليه كتبهم في ذلك ، وقد اخبره مسلم أيضاً بأستعدادهم لتشكيل الحكومة والوقوف معه ، وهذا القول صحيح وغاية في المتانة ، ولكنهم يقولون ما يناقض ذلك كقولهم :أن الإمام الحسين كان منذ البداية يعلم بعدم أستعداد أهل الكوفة لنصرته ، وأنهم اناس تمردوا على النفاق ، وأنه لم يكن مطمئناً لهم مطلقاً هذا القول يناقض القول السابق ويدحضه فحينما يقال ؛ أن الحجة ألزمت الإمام علي في الوقت الذي كان يأمل بنصرة الناس له بالإصلاح ، وأن وضع الإمام الحسين يشبه وضع أبيه ، لأن الحسين أعتمد على أهل الكوفة بنصرته في تشكيل الحكومة . فلو قيل أن الإمام الحسين لم يكن يعتمد على أهل الكوفة في نصرته على تشكيل الحكومة فإن هذا القول لا يشبه في معناه وضع الإمام علي ، وهذا معناه أن يقبل القائلون بذلك التشبيه أو يقبلوا ان الإمام الحسين كان يأمل بنصرة اهل الكوفة له ، كما كان يأمل الإمام علي نسبة بالناس الذين بايعوه ، إذن فالتناقض حاصل بين القولين ، ولابد من رفع ذلك التناقض ، فمن جهة نحن نرجح التشبيه في الحالة بين الإمام على والإمام الحسين ونراه تشبيهاً صحيحاً ، وأن الإمام الحسين كان يأمل بنصرة أهل الكوفة ، كما كان الإمام علي يأمل بنصرة الناس له في إصلاحاته ، والشواهد من التاريخ على ما نقول كثيرة منها :1 – إن الإمام الحسين بعث مسلم بن عقيل إلى الكوفة ليستقرئ وليتحقق بنفسه عن المعلومات ، والوضع في الكوفة عن الكمية والكيفية التي دعا بها اهلها الإمام حتى يمكن للإمام أن يقرر على ضوء تلك التحقيقات ما إذا كان يعتمد عليهم أم لا . ومسلم بن عقيل بدوره قام بتحقيقات واسعة ومفيدة ، وعلى كافة الصعد ، ثم كتب للإمام يقول : إن الرائد لا يكذب أهله إن جمع أهل الكوفة معك ، فأقبل حين تقرأ كتابي ( تاريخ الطبري ج 3 ص 297 )(1)ومما لا شك فيه أن هذه الأخبار عن الإمام تعتبر مورد أهمية ، لأنه لم يبعث مسلم إلى الكوفة إلا وهو يعتمد على قوله وتشخيصه ، فمسلم ليس متهماً بعدم الدقة أو الفظنة أو الكياسة والحلم ، وإن الإمام إنما تحرك بعد هذا الكتاب إلى الكوفة ، وهذا دليل على أنه كان يعتمد على أهل الكوفة .2 – وإن الإمام كان قد بعث برسالة إلى اهل الكوفة وهو في وسط الطريق بين فيها ثقته بهم ، وإعتماده عليهم حيث قال : فإن كتاب مسلم بن عقيل جائني يخبر فيه بحسن رأيكم وأجتماع ملئكم على نصرنا ، والطلب بحقنا ، فسألت الله أن يحسن لنا الصنيع ، وأن يثيبكم على ذلك . فإذا قدم عليكم رسولي ، فأنكمشوا في أمركم ، وجدوا فإني قادم عليكم في أيامي هذه (الأرشاد ص 220 )(1) وواضح أن الإمام كان مسروراً بنصرة أهل الكوفة له ، واستعدادهم لذلك ، وأنه بناء على ذلك قادم إليهم ، ولولم يكن الإمام يعتمد عليهم فإنه لن يكون لهذا الكلام أي معنى3 – وإن الإمام كان قد خاطب الحر وأصحابه مرتين قائلاً لهم : أيها الناس أني لم آتكم حتى آتتني كتبكم ، وقدمت عليَّ رسلكم ان أقدم علينا فإنه ليس لنا إمام لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق ، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم ، فأعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم ، وإن لم تفعلوا وكنتم لقدومي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم (الأرشاد ص 224 ) .وهذا الكلام يوضح بجلاء ان الإمام تحرك من مكة إلى الكوفة بناء على دعوة اهلها ، وإذا لم يكن الأمر كذلك ولم يلتزموا بعهودهم ومواثيقهم فإنه سينصرف إلى المكان الذي جاء به ، وهذا القول ليس على سبيل الحكاية بل كان أمراً واقعياً .4 – ولما أسر مسلم بن عقيل وعلم أنه سيُقتل قال لعمر بن سعد : أبعث إلى الحسين من يرده فإني قد كتبت إليه أعلمه أن الناس معه ولا أراه إلا مقبلاً ( الأرشاد ص 215 )(3). وهذا يعني أن مسلم بن عقيل كان يؤمن بأن الإمام الحسين سوف يتحرك إلى الكوفة لأنه كان قد أخبره عن حال أهلها ، ومسلم بن عقيل هو الأكثر إلتصاقاً وعلماً بأهداف الثورة الحسينية من أي واحد يعيش في القرن الرابع عشر الهجري .... مما مضى من شواهد يتبين ان وضع الإمام الحسين شبيه بوضع الإمام علي وهذا التشبيه لازمه أن يكون الإمام الحسين يعتمد على اهل الكوفة ، كما أعتمد الإمام علي على الناس في بيعته .وعليه فلا مكان يبقى لقولهم ؛ إن الإمام الحسين لا يامل بنصرة أهل الكوفة ، ولا يعتمد عليهم ، لأنه لو لم يكن يعتمد عليهم فإن الحجة لا تلزمه ولا دليل شرعي وعقلي يدفعه للتحرك سواء أكانت لديه قوات ام لا ، لأن الحكم في الأثنين واحد ، وإن الإمام غير مكلف بالتحريك نحو الكوفة لتشكيل الحكومة فيها ، يقول أمير المؤمنين حول قضية السقيفة ومانتج عنها فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى فصبرت ، وفي العين قذى وفي الحلق شجا أرى تراثي نهبا. ( نهج البلاغة الخطبة الشقشقية رقم 3 )(4) فالإمام لم يقم بالأمر بعد أن رأى إنه لا أمل له بالنصر . ومن أجل ذلك حل له القعود عن المطالبة بالحكم ، ومن هذا يظهر أن الإمام الحسين في تحركه كان يأمل بنصرة اهل الكوفة له ، ولولم يكن لديه ذلك الأمل لما تحرك من رأس ، لأنه لايمكن ان يتحرك إلى قوم لا يعتمد عليهم ، وأنه لو تحرك وهم كذلك وخسر ، فإنه يصبح مسؤولاً أمام الله سبحانه وتعالى ويكون مورد مسائلته عن الكيفية والماهية التي تحرك من أجلها ما دام لم يعتمد عليهم ، ولكنه إذا كان يعتمد عليهم ، فحتى لو خسر المعركة لن يكون مسؤولاً أمام الله ، لأنه في الحالة هذه سيكون جوابه ؛ أني تحركت أعتماداً للحد المعقول والمتوفر من الأمل بالنصر ، وهذا الجواب في حد ذاته حجة معقولة ومقبولة شرعاً وعقلاً .الإمام علي عندما تحرك إلى صفين لمعاقبة معاوية ، كان يعتمد على قواته بتحقيق النصر ويأمل بذلك ، وأنه وأن لم يحقق أهدافه ، فإنه لن يكون مسؤولاً امام الله ، لأن حجته قائمة بأن الأمل في النصر كان متوفراً بالحدود الممكنة والمعقولة ، ولكن لو كان العكس وتحرك ولم يكن يأمل بالنصر ، فإنه سيكون مورد تساؤل ومسؤولية أمام الله ، لأنه يكون قد تحرك وهو لا يثق بقواته وإذا كان كذلك فلا حجة له أمام الله لكي يعرضها تبريراً لموقفه وتحركه ، ومن هنا يظهر عقم قول القائل ، إن الإمام الحسين تحرك إلى الكوفة وهو لا يثق بنصرة أهلها له ، لأن هذا القول يجعله تحت طائلة التساؤل أمام الله إذاً لماذا يتحرك إليهم وهو لا يثق بهم ؟ وفي هذه الحالة لا حجة للإمام أو دليل يعرضه تبريراً لذلك . وهذا يخالف مقام شخصيته الكبيرة كما هو معلوم عند البيانيين لاريب أن الأطمئنان والوثوق حجة مقبولة ومقررة ، وإن صحة الألتزام من خلالها يمثل عصب العملية الحياتية ، فهذا أمير المؤمنين علي أعتماداً على الثقة والأطمئنان النفسي الحاصل عنده ، نصب رجالاً في الدولة حكاماً وولاة ، ولدينا من الشواهد التاريخية كما يؤكد على ذلك منها :1 – إن الإمام جعل المنذر بن الجارود العبدي حاكماً على أستخر ، وبعد مضي فترة من الزمن وصلت للإمام أخبار مفادها أن واليه يخونه في بيت المال فكتب إليه يقول : أما بعد فإن صلاح أبيك غرني منك وظننت إنك تتبع هديه وتسلك سبيله (نهج البلاغة الرسالة رقم 71 )2 – وإن الإمام علي جعل عبد الله بن عباس حاكماً على البصرة ، وما يليها من المناطق ، ولكنه بعد فترة من الزمن وصلته أخبار بأن واليه على البصرة قد أختلس اموالاً من بيت مال المسلمين ، وأن أبن عباس أرسل تلك الأموال إلى الحجاز ، فكتب إليه أمير المؤمنين كتاباً شديداً قال فيه : فإني كنت أشركتك في أمانتي وجعلتك شعاري وبطانتي ، ولم يكن في أهلي رجلٌ أوثق منك في نفسي لمواساتي ومؤازرتي وأداء الإمانة إليَّ ... فعاجلت الوثبة ؛ وختطفت ما قدرت عليه من اموالهم المصونة أختطاف الذئب ، فحملته إلى الحجاز رحيب الصدر بحمله غير متأثم من أخذه .. فأتق الله وأرده إلى هؤلاء القوم اموالهم ، فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك لأعذرن إلى الله فيك ، ولأضربنك بسيفي . ووالله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة ...الخ (نهج البلاغة الرسالة رقم 41 )(1)يشدد هنا أمير المؤمنين على أهل المسؤولية لأنه كان يثق بهم ويطمئن لعملهم ، وهذا الأطمئنان هو الذي يجعله مطمئناً في محاسبته للمسؤولين ، إذن فالأطمئنان حجة عقلية مقبولة ومقررة ومعتمدة في كثير من الأعمال والموارد ، والتاريخ على ما نقوله شهيد ، فهذا نهج البلاغة يضج بصور من ذلك كثيرة أعرضنا عنها خوف الأملال والإطالة ولمن أراد مزيد البيان فعليه بمراجعة بسيطة إلى أدب الحكم والسلطان في رسائل أمير المؤمنين .أمر رسول الله في معركة أحد أن يستقر خمسون من الرماة على تلال عينين بقيادة عبد الله بن جبير ، وأمرهم النبي قائلاً أن : أحموا لنا ظهورنا ، فإنا نخاف ان نؤتى من ورائنا ، وألزموا مكانكم ولا تبرحوا منه ، وإن رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم ، فلا تفارقوا مكانكم ، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدافعوا عنا ... وأرشفوا خيلهم بالنبل فإن الخيل لا تقدم على النبل ، فلما أنهزم المشركون وتبعهم المسلمون يضعون السلاح فيهم حيث شاؤوا حتى أجهضوهم عن العسكر ، ووقعوا ينتهبون العسكر ، قال بعض الرماة لبعض : لم تقيمون هاهنا في غير شئ ؟ قد هزم الله العدو ، وهؤلاء أخوانكم ينتهبون عسكرهم ، فأدخلوا عسكر المشركين فأغتنموا مع أخوانكم ، فقال بعض الرماة لبعض : ألم تعلموا أن رسول الله قال لكم : أحموا ظهورنا فلا تبرحوا مكانكم ، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا غنمنا فلا تشركونا ، أحموا ظهورنا .فقال الأخرون : لم يُرد رسول الله هذا ، وقد أذل الله المشركين وهزمهم ، فأدخلوا العسكر فأنتهبوا مع أخوانكم ، فلما أختلفوا خطبهم اميرهم عبد الله بن جبير .. ثم أمرهم بطاعة الله وطاعو الرسول فعصوا وأنطلقوا ، فلم يبق من الرماة مع أميرهم عبد الله بن جبير إلا نفر يبلغون العشرة ، فلما أنصرف الرماة وبقي من بقي نظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل وقلة اهله ، فكر بالخيل وتبعه عكرمة في الخيل فأنطلقا إلى بعض الرماة فحملوا عليهم ، فراموا القوم حتى أصيبوا ...فقاتلهم عبد الله بن جبير حتى قتل ( المغازي ج 1 ص 224 ما بعدها للواقدي طبع بيروت )(2 )وأستطاع خالد أن يلحق بالمسلمين هزيمة كبيرة قتل فيها أكثر من سبعين رجلاً من المسلمين ، وقد جرح فيها رسول الله من هذه القصة يتضح إن رسول الله كان مطمئناً لوضع المعركة من خلال الرماة الموجودين على تلال عينين ، فلو ألتزم الرماة بأوامر رسول الله لما تمكن العدو من مهاجمتهم من الخلف ، ولكن الرماة خالفوا أوامر النبي وتركوا المكان المأمورين بحمايته ، وجاؤوا مع غيرهم يجمعون الغنائم ، مما ألحق بالإسلام ما كان ينبغي أن يكون ؛ فلو سُئل رسول الله لماذا فعلت ذلك ولم تفعل شيئاً يحد من هذه الخسارة ؟ لكانت حجة رسول الله هي ؛ أني فعلت كل أمر لازم ، وأمرت الرماة بعدم ، ترك مكانهم ، وأني كنت مطمئناً لذلك . وهذا الأطمئنان والثقة كان أملي بأن لا يقع شئ مما كان ، وصحة العمل بالأطمئنان هي ألتزام الرماة بأوامر رسول الله ، وعدم ترك مكانهم وهذا دليل كاف فيما نحن فيه ، ولكن لو أفترضنا ان رسول الله لم يكن يرى في الرماة القدرة على تأدية واجبهم ، وأنه لم يكن مطمئناً لهم ، فهل يستطيع أن يجيب رسول الله على التسائل السابق ؟ كلا ، لأنه من البداية يعلم أنهم لا يستطيعون تنفيذ اوامره وبالتالي فلا يطمئن لعملهم وهذه الممارسة الطبيعية من قبل النبي هي عمل مشروط بالأطمئنان بحيث يطمئن عليه بالصحة والبطلان ، هو نفس ما قام به الإمام الحسين تجاه دعوة أهل الكوفة ، فتحركه كان قائماً على الوثوق والأطمئنان بصحة الدعوة واستعداد القوم وهذه قرائن أكيدة تلزم الإمام بوجوب التحرك ، بل هي حجة عقلية مقررة ومقبولة ...هناك سؤال يطرح بإلحاح يقول : ما هي العلة في دعوى من يقول ان الإمام الحسين لم يعتمد على اهل الكوفة ؟ إن الأصل الذي يمكن تأسيسه كأجابة على السؤال هو : أن أهل الكوفة لم يختبروا بعد جيداً ، ولو ألتزمنا بهذا السؤال لوجب أن نعترف بصحة آراء أبن عباس في أهل الكوفة ، وأن رأيه فيهم كان أدق من رآي الإمام وهذا كما ترى تعدٍ واضح على شخصية الإمام . نعم إن الأستعراض المقبول لم يحصل لأهل الكوفة حتى يمكن أن نقول ما إذا كان رآي الإمام أصوب من رآيي ابن عباس ، فالإمام قبل أن يصل إلى الكوفة وقع في الحصار العسكري الذي قطع عنه كل الأتصالات المرجوة مع الكوفة ، والأمر الذي لا يشك فيه أن بعض أصحابه قالوا له بعد سماع خبر مقتل مسلم ؛ والله ما انت مثل مسلم ، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع . فقتل مسلم ليس ملاكاً للأخبار ، فلو أفترضنا ان الإمام تمكن من الوصول إلى الكوفة ودخولها ، وأن أهل الكوفة عملوا على خلاف رغبته ، فلا يكون مثلهم إلا كمثل الرماة الذين أمرهم رسول الله على تلال عينين الذين خالفوا أمر رسول الله ، وهكذا الأمر في قضية التحكيم في صفين ، وعليه فلا وجود لسبب يمنع الإمام من الإعتماد على أهل الكوفة ، بل الأسباب والعلل كلها قرائن تدفعه للإعتماد عليهم ، وما في مقولات أهل الميزان ما يدل على ما ذكرناه وقررناه
الأزمة السادسة
قالوا : أن أكثر من مئة ألف شخص من أهل الكوفة دعوا الإمام للتحرك .وقالوا : لايعلم ما أذا كان كل عدد سكان الكوفة يصل إلى المئة ألف أم لا .يقول صاحب كتاب أسرار الشهادة ؛ إن الفرسان بجيش عمر بن سعد كانوا ستمئة ألف والرجالة ضعفهم ، وكان مجموع الجيش مليون وستمئة ألف وكلهم من أهل الكوفة . ونتسائل إذن كم كانت الكوفة كبيرة آنذاك ؟الكوفة بلدة صغيرة بُنيت في عهد الخليفة عمر بن الخطاب ، وقد جعلها مركز للجند والمقاتلين ، ولايعلم في ذلك الوقت هل كان عدد سكانها يصل إلى المئة ألف ام لا ؟ إن القول الثاني لا يصل بعدد سكانها إلى المئة ألف بل إن صاحبه متردد في ذلك ، ولكي نوضح المطلب نقول : إن كلمة [ كل عدد السكان ] والواردة في كلامه تعني الرجل والمرأة والصغير والكبير ، المريض والسليم ، الشاب والشيخ والكل سواء ، ولو صرفنا النظر عن التردد في كلامه ، وأفترضنا أن الحد الأكثر لعدد السكان كان مئة الف ، فالسؤال الذي يطرح هو كم كان عدد المستطيعين على القتال ؟ هنا ينبغي التنبيه إلى ان هناك مجموعة لا يمكن أعتبارها من جيش ابن سعد وهم عبارة عن 1 – النساء التي يشكل عددها تقريباً نصف عدد السكان ، ولم تكن المرأة في ذلك الزمان تحسب من المقاتلين .ب – الصبيان الذين لم يبلغوا دور وسن المقاتلين وربما يشكل هؤلاء نصف عدد السكان .ج – الرجال الكبار في السن والمرضى والعاجزين عن العمل وكل شخص لا يستطيع القتال لعلة ما .د – الرجال الذين يوالون الإمام الحسين فهؤلاء ليسوا مستعدين للوقوف مع ابن سعد ضد الحسين .فلو أستثنينا المجموعة (أ) فإنه سيبقى عدد السكان الذي هو 50 ألفاً ولو استثنينا المجموعة (ب) فإنه سيبقى نصف هذا العدد الأخير أي 25 ألفاً ، ولو أفترضنا ان المجموعة (ج) كانت نسبتها واحد في العشرة فإنه سيبقى 22ألفاً وخمسمائة . ولو كانت المجموعة (د) مع الإمام الحسين وأفترضنا أن نسبتهم كانت 1500 شخص لبقي من المجموع 20 ألفاً مستعدون للقتال . من هذه النسبة الأحصائية التقريبية يتبين ؛ أنه من المئة ألف شخص كل عدد السكان ؛ فإن خمس النسبة تلك أو أقل مستعدين للحرب مع ابن سعد ولو أفترضنا أن كل الناس مستعدة مع ابن سعد ، فإنه يلزم ذلك أن تتعطل جميع الأعمال في الكوفة ، بشكل تقف الحياة معه لأن الكل يذهبون للحرب ، وعلى هذا التقريب الأحصائي ،، فأين [ ال20 ألفاً ] من المليون والستمئة ألف الذين ذكرها صاحب أسرار الشهادة ؟ ومع هذا البيان في النسب التقريبية يتضح إلى أي مدى هو بعيد عن الحقيقة كلام صاحب أسرار الشهادة وأنه من غير الجائز ان يقبله عاقل مهما كان ... هذا القول يناقض قولهم الآخر ؛ بأن الذين دعوا الإمام من اهل الكوفة لم يكن رجلاً او رجلين او ألف أو خمسة او عشرة بل كان بحدود [ ال18 ألفاً ٍ رسالة وبعضها أمضت من مجموعة أشخاص وربما وصل عدد بعضهم إلى المئة شخص ، ولو أخذنا لذلك معدلا فإنه يكون ما نسبته مئة ألف رجل كتبوا للإمام يدعونه ، وهنا ماذا يكون عمل الإمام تجاههم ؟ هل يجيبهم أم لا ؟ وهل أن الحجة قد ألزمته بذلك أم لا ؟ وللجواب على ذلك لابد من القول ، أن الإمام يجب عليه ان يلبّي دعوتهم ، طبعاً ينبغي التوجه إلى أن الذين دعوا الإمام كانت لديهم القدرة القتالية ، وأيضاً عندهم علم بأهداف الثورة ومستقبلها ، وعلى هذا الأساس فكم يكون عدد سكان اهل الكوفة ما دام الذين دعوه قارب عددهم المئة ألف ؟ ولو أستخدمنا الحساب التقريبي السابق لقلنا : أن الرجال الذين دعوا الإمام يشكلون ما نسبته خمس عدد السكان ، وفي الحالة هذه يكون عدد السكان ما يقارب الخمسمئة ألف ، ومن بينهم النساء والشيوخ والأطفال وأنصار حكومة يزيد ، ولو أستثنينا المجاميع الأربعة السابقة لبقي لدينا مئة ألف رجل هم الذين دعوا الإمام لتشكيل الحكومة في الكوفة ، وعلية يكون قولهم ؛ بأن الذين دعوا الإمام من الكوفة كانوا مئة الف رجل ، ملازم وبحكم القانون والطبيعة للقول ؛ بان عدد سكان الكوفة كان يقارب الخمسمئة ألف ، وهذا الكلام يناقض ، القول السابق الذي يزعم بأن كل عدد سكان اهل الكوفة لا يصل إلى المئة ألف ، والأمر فيه تردد بمعنى انه ربما وصل عددهم إلى المئة ألف أولاً . فنحن نعلم أن القائلين بان كل عدد السكان لا يزيد عن المئة ألف . وقلنا إن ذلك يشكل ما نسبته 20 ألفاً مع ابن سعد أي بنسبة 1/5 وفي كل الأحوال فإن ذلك تناقض لا يمكن قبوله والآن بعد هذا البيان فأي الأقوال هو أقرب إلى الواقع ؟ وأي الأقوال يجب قبوله ؟ وأي الأقوال يجب رده ؟ هذا المطلب يحتاج إلى تحقيق دقيق ، ونحن نتصور أن القول الثاني أقرب إلى الواقع ، لأن الذين دعوا الإمام كانوا بحدود المئة ألف ، ولأن أهل الكوفة كتبوا للإمام قائلين : أقبل فإن لك مئة ألف سيف ( الأرشاد ص 201 )(1) . وأيضاً فإن مسلم قد أكد على هذه الحقيقة عندما كان يقوم بتحقيقاته في المجتمع الكوفي قال في كتابه ( إن الرائد لا يكذب أهله إن جمع أهل الكوفة معك فأقبل حين تقرأ كتابي ) ( تاريخ الطبري ج 3 ص 297 )(2) . ومن هنا يكون القول الثاني أقرب للقبول بملاحظة الشواهد التاريخية وما أكدته ، وأما القول الأول فليس له ما يؤيده من الناحية التاريخية ، بل إن الشواهد على خلافه ، وبقبول الكلام الثاني ورد الكلام الأول يحل التناقض الموجود ...ملاحظة : إن الكلام الأول كلام عاطفي وغير متزن وجزافي ، ولهذا فردّه يعني الرد على صاحب أسرار الشهادة والذي قال ، بأن جيش أبن سعد كان يقدر بمليون وستمئة ألف وأنهم جميعاً كانو من أهل الكوفة ، ومن أجل ردّ هذه الخرافة ينبغي ملاحظة عدد سكان أهل الكوفة ، والحساب الدقيق يقتضي الألتزام بالمنهج التجريبي لا التخميني الجزافي الذي يتم حال القاء الخطب والمواعظ ، لكي يوجه الخطيب أنظار المستمعين إليه وينقلهم بلا وعي إلى دراما وصفية خيالية ؛ تستهوي السامع بالكمية العددية لأهل الكوفة ، دون النظر إلى زمن التأسيس الذي تمت الكوفة فيه ... وهذه الأقوال الجزافية فيها اختلاف حتى في الزمن الذي أسست به ، فهم يقولون : إن الكوفة في سنة 61 هجرية كان عمرها 35 عاماً . في حين يذكر أبن الأثير ؛ أن الكوفة تأسست سنة 17 هجرية ( الكامل ج 3 ص 527)(3) .فالتحريف الجزافي وقع هنا كرد فعل للوصف الخيالي السجالي ، وأصحاب التاريخ يقولون أن عمر الكوفة في سنة 61 هجرية كان 44 عاماً وهذا هو الشئ الصحيح إن التحريف في قضايا وأحداث وقعة كربلاء مؤثر جداً لأنه يؤدي إلى زعزعة المفاهيم الواقعية وإبعاد الذهن عن الحقيقة وعما يجري فعلاً ، ولعل من الطرافة ما نجده في كتب الذين يحاربون التحريف فنجد كتبهم مليئة بذلك ، فأحدهم وقع في تحريف للحقائق ضمن خمسة أسطر في بحثه عن الكوفة ، فعلى سبيل المثال لا الحصر ، قال : أن عمر الكوفة سنة 61 هجرية كان 35 عاماً والصحيح انه كان 44 عاماً . وقال : إن سكان الكوفة أقل من مئة ألف في حين أن عددهم كان يقارب الخمسمئة . وبأعتقادي أن ذلك ناشئ عن أقوال جزافية لا تقوم على واقع ، بل هي ردود أفعال محدودة وعاطفية ، وهي ناتجة عن الروح السائدة والحاكمة في الوسط الشعبي الذي لا يقوم على موازين الدقة بقدر ما يقوم على التذكر والحفظ السماعي ، والحظور الذهني في نقل المطالب التاريخية ـ وخصوصاً في ردود الفعل التي يقع فيها التحريف غير المتعمد
بحث في شخصية أبن زياد قالوا : أن أبن زياد كان رجلاً دموياً سفاكاً ، وقد كان أبوه *(ذكر أبن الأثير في الكامل ج 3 ص 461 ــ إن زياد بن أبيه تولى الحكم في الكوفة سنة 50للهجرة ) حاكماً للكوفة ، وكان جباراً دموياً ظالماً ، روي أنه لما تولى أبن زياد الحكم وسمع أهل الكوفة بقدومه أغلق كل منهم بيته على نفسه ، لأنهم يعرفونه ويعرفون دمويته وأجرامه ، ودموية أبوه وإجرامه .وهذا الوصف ما يؤكده اهل التاريخ وأصحاب السير ، فأبن زياد كان رجلاً فاسداً دموياً ظالماً وقد عبر عن نفسه بكلمات قال فيها : أنا أبن زياد أشبهته من بين وطئ الحصى . وعندما أراد الخروج من البصرة قاصداً الكوفة قال في أجتماع لأهل البصرة : أياكم والخلاف والأرجاف فو الذي لا أله غيره لئن بلغني عن رجل منكم لأقتلنه وعريفه ووليه ولأخذن الأدنى بالأقصى حتى تستمعوا ليَّ ولا يكون فيكم مخالف ( تاريخ الطبري ج 4 ص 266 ) (1) وقد خطب مرةً في المسجد الجامع بالكوفة فقال : سيفي على من ترك أمري ، وخالف عهدي فليبق أمرؤ على نفسه ... ومن لم يكتب لنا أحداً فيضمن لنا ما في عرافته إلا يخالفنا منهم مخالف ولا ينبغي علينا منهم باغ ، فمن لم يفعل برئت منه الذمة وحلال لنا ماله وسفك دمه ، وإيما عريف وجد في عرافته من بغيه يزد أحد لم يرفعه إلينا صلب على باب داره ، وألغيت تلك العرافة من العطاء ( تاريخ الطبري ج 4 ص 267 )(2) والتاريخ يثبت ان أبن زياد قام بكل هذه التهديدات بالفعل وإليك هذه الأمثلة 1- كتب الإمام الحسين كتاباً إلى أهل البصرة وزعمائها وهو في مكة يطلب منهم العون والنصر ، وأرسل الكتاب مع مولى له يقال له سليمان ، دعاهم فيه إلى أحياء السنة وأماتة البدعة ..ومن بين الزعماء الذين كاتبهم الإمام المنذر بن الجارود الذي أعتقد أن هذا المولى دسيس من عملاء أبن زياد ، فذهب ليخبر أبن زياد في الأمر قبل مغادرته الكوفة ؛ فجاء بالرسول من العشية التي يريد صبيحتها أن يسبق إلى الكوفة فقدم الرسول فضرب عنقه (تاريخ الطبري ج 4 ص 266 ) .2 – ما فعله بهاني بن عروة وهو رجل قد ناهز التسعين من عمره الشريف ، روي أن أبن زياد أخذ المعكزه وضرب بها وجه هاني ، ثم ضرب وجهه حتى كسر أنفه وجبينه وقتله وصلبه في الكناسة ( تاريخ الطبري ج4 269 )(1) .وهي لبيع المواشي من الأبقار والأغنام .3 – أصدر أبن زياد تعليماته لجنوده أن يعتقلوا كل من حاصر القصر عند أعتقال هاني ومسلم . وأمر ان يبعث بهم كلٌ إلى قبيلته فيقتلونه بينهم ، وأرسل رؤوسهم بالبريد إلى يزيد في الشام ) (تجارب الأمم ج2 ص 255 مسكويه )(2) ؟4 – لما عسكر أبن زياد في النخيلة قيل له أن جماعة من أهل الكوفة يكرهون قتال الحسين فيرتدعون ويتخلفون ، فبعث أبن زياد ، سويد بن عبد الرحمن المنقري في خيل إلى الكوفة ، وأمره ان يطوف بها ، فمن وجده قد تخلف أتاه به فبينما هو يطوف في أحياء الكوفة إذ وجد رجلاً من أهل الشام قد كان قدم للكوفة في طلب ميراث له فأرسل به إلى أبن زياد فأمر به فضربت عنقه ، فلما رأى الناس ذلك خرجوا (الأخبار الطوال ص 255 الدينوري ) (3)... هذه أربعة أمثلة تبين مدى أجرام ابن زياد ودمويته والأمثلة على ذلك كثيرة منها :أ – قتله لرسول الحسين قيس بن مسهر الصيداوي .ب – أمره بوضع الإمام الحسين في مكان لا ماء فيه ولا ظلال .ج – أمره بأن تطأ الخيل صدر الحسين بعد أن يُقتل .د – أمره بقتل الإمام السجاد بحجة أنه جرئ في رد كلامه ، ولما تعلقت به عمته زينب قائلة : لإن أردت قتله فأقتلني قبله مما منعه من أرتكاب جريمته ..وهذه أربعة أخرى تبين فساده الذي ظل مع الزمن يحكي قصة جبروت وفساد وطغيان الحزب الأموي وأعوانه ، إن أبن زياد شخصية مركبة من ظلم وأستبداد ودموية ، وتسلط بالقهر والغلبة والعدوان ، وهذا الوصف مصداق لقول الفرزدق : قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية ( تاريخ الطبري ج 4 ص 290 ) (4) . ومعنى هذا القول ؛ أن الحكومة الأموية أجبرت الناس على قتالك بالأكراه ، والفرزدق هنا يبين الحالة النفسية التي كانت تمر بها الكوفة آبان تسلط أبن زياد ، وأظهر الوجه الكريه والمنبوذ لحكومة يزيد وعدوانيتها وأخذها الناس على الظنة والتهمة ..إن الإمام الحسين كان قد بعث مسلم بن عقيل إلى الكوفة ليستقرئ الوضع العام ، ويكتب إليه عنها وعن رأي ملئها وذوي الحجى والفضل منهم ، وأن الأمر يجري تماماً على نفس ما جاءت به الكتب . وقد عمل مسلم ما بوسعه لما يقارب الأربعين يوماً قضاها في البحث والتحقيق وبعد ذلك قال أن الملأ وأهل الفضل متفقون الرآي حول قدومكم إليهم ، وان مجيئكم يعتبر ضرورة لازمه وكان كتاب مسلم يقول : إن أهل المصر قد أجتمعوا على بيعتك ونصرتك (مروج الذهب ج3 ص55 المسعودي ) (1) . قد يظن بعضهم إن مسلماً عمل على خلاف الأصل الذي يعتقدونه بأهل الكوفة وأنهم ليسوا أهل نصر وبيعة وأقاموا حول مسلم مجموعة اعتراضات أدناها السؤال القائل ؛ لماذا فعل مسلم هكذا ؟ وهم بذلك يريدون بأنه لم يكن رأي مسلم بأهل الكوفة صحيحاً ، وهذا الرآي هو الذي جر كل تلك الويلات ، وهذا بطبيعته يعود إلى قضية المصدر الذي يعتمد عليه في مثل هذه الأحكام ، والآن هل كان رأيهم هو الصحيح أم رأي مسلم ؟ هذا الأمر يحتاج إلى تحقيق دقيق ، فالواقع أن بيننا وبين زمن مسلم ما يقارب الأربعة عشر قرناً ، ولذلك يكون الأختلاف بوجهات النظر ، وأنه لما كان الأمر كذلك ينبغي ملاحظة الحق وأنصافه ، ويجب التنبيه إلى مرحلتين من مراحل الوضع العام في الكوفة الأولى كان النعمان بن بشير حاكماً لها ، والثانية لما صار أبن زياد حاكماً عليها ، ففي الأولى نرى النعمان لم يتخذ موقفاً عدائياً من حركة مسلم ، بل أنه قال في المسجد الجامع بالكوفة : إني لا أقاتل من لا يقاتلني ولا آتي على من لم يأت عليّ ، ولا أنبه نائمكم ولا أتحرش بكم ... فكتب إلى يزيد بعض أنصاره يخبرونه برأي النعمان فإنه رجل ضعيف أو هو يتضعف (الأرشاد ص 205 ) ولا ريب أن الجمهور من الناس التي أيدت مسلم في توجهاته جعلت كثيراً من الساسة في ذلك يكتبون للإمام يستعجلونه القدوم أمثال شبث بن ربعي وعمرو بن الحجاج لكي يواكبوا الركب التغيري الذي يقوده مسلم . وهناك تبادل وتناسب في الرأي ووجهات النظر بين مسلم وأهل الكوفة ، وهذا التناسب هو الأمر الوحيد الذي جعلهم يتفقون على قدومه إليهم ؛ وهذا التناسب كان داخلاً ضمن أعمال التحقيق الأول لمسلم في الكوفة ، وأما التحقيق الثاني لمسلم فكان بعد مجئ أبن زياد إلى الكوفة الذي قام بحملة أعتقالات واسعة وأعدامات كيفية للناس وقد أغراهم بالمادة والطمع لأصحاب الهوى والسلطان وقام بتنظيم حملة عسكرية للقبض على مسلم ، وبعد معركة فاصلة أنتهت بأعتقال مسلم وقتله ، ومسلم كان قد أوصى عمر بن سعد ومحمد بن الأشعث ان يكتبا إلى الحسين أو يبعثا إليه من يرده ، وقال لهم مسلم : أني كتبت للحسين أعلمه ان الناس معه ولا أراه إلا مقبلاً (الأرشاد ص 215 )(3) . هذه هي تحقيقات مسلم بن عقيل في الكوفة ، وواضح أن أعتراض بعضهم على التحقيق الأول لمسلم لأنهم يقولون : أن أهل الكوفة ليسوا مستعدين لحماية الإمام الحسين ، ونحن نعتبر هذا الأعتراض صحيحاً فيما لو كان ابن زياد هو الحاكم لا النعمان بن بشير وأن الجو السياسي للكوفة باق على حالته الأولى .. أو أنهم سمحوا للإمام الدخول إليها بحرية وأن الناس عند ذلك أمتنعوا عن مساعدته في هذه الحالة يكون أعتراضهم صحيحاً ـ بمعنى أن يدخل الكوفة ويتخلى أهلها عن نصرته ، ولم تكن صحة التحقيقات أم لا . فأبن زياد أستطاع أن يغير الجو العام عبر عمليات وأجراءات اتخذها ومارسها كالتعذيب والقتل والسجن والمطاردات وشراء الذمم بالرشوة وغيرها ، حتى يمكن القول ان 80% من المتغيرات التي حدثت بالكوفة كانت ترجع إلى الأرهاب الذي مارسه ابن زياد وبناء على ذلك فلا ينبغي ان نقول ان تحقيقات مسلم لم تكن دقيقة حول ماهية أهل الكوفة وأستعدادهم لأن هذا القول يتناسى ما قام وما فعله أبن زياد في الكوفة من أجراءات ، ونحن نعتبر أعتراضهم يصح فيما لو كتب مسلم تحقيقاته وبعثها إلى الإمام بعد تولي أبن زياد الحكم ، لكن مسلماً بعث تحقياقته أعتماداً على الجو السياسي الذي كان يحسه ويلمسه وأستعداد أهل الكوفة التام لنصرة الإمام وحمايته ، لذلك كتب إليه يخبره عن رأي ذوي الحجى والعقل والفضل منهم جميعاً متفقون على حماية الإمام ضمن تلك الشرئط والظروف ، وأنه لابد ان يقدم الإمام إلى الكوفة ، إذن فتحقيق مسلم المكتوب كان يمثل رأي العقلاء وأصحاب الخبرة السياسية بشؤون الكوفة امثال مسلم بن عوسجة وحبيب بن مظاهر وسليمان بن صرد والعشرات من أمثالهم من أهل السياسه والتجربة وبالتالي فهو لا يمثل رأي مسلم وحده ، والأعتراض على مسلم هو بمثابة الأعتراض على جميع هؤلاء الساسة والمفكرون ، ومن هنا تكون رسالة مسلم القائلة بأجتماع أهل الكوفة معه كانت تمثل وتعكس رأي هؤلاء العقلاء وأهل الفضل ، ولو أفترضنا ان مسلماً كتب على خلاف ذلك ضمن تلك الشروط لقلنا ان كتاباته لم تكن حقيقية لأن وضع الكوفة العام كان يشير إلى أستعداد اهلها لاستقباله ، ولكن كل هذه الوقائع تغيرت بعد مجئ أبن زياد إلى الكوفة وما قام به من أجراءات ، وهذا الأمر تم خارج حدود تحقيقات مسلم ، ولو توقعنا من مسلم ذلك لوجب القول بأنه كان عالماً للغيب ...بمعنى أنه لو كتب إن الوضع الآن مساعد لقدومكم ولكنه سيتغير لو جاء أبن زياد إلى الكوفة ، فهذه الأحتمالات والآراء غير مقصودة ولا يبغيها الإمام من مسلم لأنها تقع خارج أختصاصه ، والخلاصة ان ما كتبه مسلم حول وضع أهل الكوفة وأستعدادهم لحماية الإمام كان قبل مجئ أبن زياد ، وأنه صحيح ومنطبق على الواقع والشرائط المتوفرة لدية ، ولا مجال للرد عليها ونحن نرجح ما ذهب إليه مسلم ونؤكد عليه ضمن ألتزامنا بالمنهج العقلي الواقعي .لا ينبغي لأحد أن يتصور ان رأي أبن عباس الذي قاله للإمام بعدم الذهاب إلى الكوفة أدق من رأي مسلم الذي قال له ؛ إلا فالعجل العجل ، لأن رأي مسلم يكون صحيحاً فيما لو بقي وضع الكوفة على حاله يوم بعث مسلم بتحقيقاته يعني بقاء النعمان أبن بشير الأنصاري حاكماً على الكوفة ، ولم يأت أبن زياد إلى الكوفة ، وتمكن الإمام من الدخول إلى الكوفة بحرية ، في هذه الشروط يكون رأي مسلم أدق وأصوب من رأي ابن عباس ، ولكن وضع الكوفة قد تغير بعد تولي أبن زياد الحكم فيها ولما تولى أبن زياد الحكم كان رأي مسلم يؤكد على عدم مجئ الإمام إلى الكوفة جاء ذلك الرآي بوصية أوصى بها عمر بن سعد ومحمد بن الأشعث ، وبناء عليه فلا فرق في رأي مسلم من خلال نظرته للوضع السياسي في العهدين ، ومن هنا فلا يكون رأي ابن عباس أدق من رأي مسلم بعدما تبين لنا ملابسات الأمر وحقيقته ، وعليه فلا يصح القياس بين الرآيين حتى يقال أن رأي ابن عباس ثبت فعلاً هو الأصح وأن رآي مسلم ثبت فعلاً عدم صحته ..هذا القياس غير مقبول لأنه قياس قام على مرحلة العهد الثاني وهو عهد تولي ابن زياد الحكم في الكوفة ، والقياس صحيح أن يقال ؛ أن رآي مسلم ورآي ابن عباس قبل تولي ابن زياد للحكم غير متفقان وكذلك رأيهم بعد تولي أبن زياد الحكم ، وذلك لأن ابن عباس قال رأياً كلياً . وهو شامل لما قبل وما بعد تولي ابن زياد الحكم ، ولكن مسلماً له رأيان تجاه مجئ الإمام إلى الكوفة ، الأول كان قبل تولي ابن زياد الحكم والثاني بعد تولي ابن زياد الحكم ، ففي الأول كان رأيه متفقاً مع رأي جميع العقلاء بلزوم قدوم الإمام إلى الكوفة ، وفي الثاني يكون رأيه متفقاً مع رأي أبن عباس بضرورة عدم مجيئه إلى الكوفة ... ونحن في أعصارنا لا يستطيع أحد منا ان يأتي بدليل يرجح فيه رأي أبن عباس على رأي مسلم ، لأن الشواهد التاريخية تؤيد رأي مسلم ، والظن القوي عندي أنه لولم يأت أبن زياد إلى الكوفة لكان أحتمال النصر كبيراً ..
.
|
|
|
|