نزول الإمام في كربلاء هل هو : أزدواجية مفروضة أم أختيار ؟

 

نعم لقد واصل الركب الحسيني زحفه في آخر الليل أمر الإمام الحسين أصحابه بالتزود بالماء ، وتحركوا ليلاً من ( قصر بني مقاتل ) وهم يسيرون حتى الصباح ، ولما فرغوا من صلاة الصبح . فأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرقهم قيأتيه الحر بن يزيد فيردهم (1) تاريخ الطبري ج 4 ص 308 والأرشاد ص 226 . فجعل الحر يردهم إلى الكوفة رداً شديداً وهم يمتنعون عليه ، فلم يزالوا يتسايرون حتى أنتهوا إلى كربلاء . فأذا راكب على نجيب له عليه السلاح متنكب قوساً مقبل من الكوفة ، فوقفوا جمياً ينتظرون ، فلما أنتهى سلم على الحر وأصحابه ولم يسلم على الحسين وأصحابه ، ودفع إلى الحر كتاباً من عبيد الله بن زياد فأذا فيه :

( أما بعد ، فجعجع بالحسين حتى يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي ، ولا تنزله إلا بالعراء في غير خضر وعلى غير ماء ، فقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بأنفاذك أمري ) (2) تاريخ الطبري ج4 ص 308 والأرشاد ص 226 . فلما قرأ الحر بن يزيد كتاب ابن زياد ، قال للإمام : قد أمرني أن أجعجع بكم في المكان الذي أتاني فيه كتابه ، فقال له الحسين : دعنا ننزل في هذه القرية يعنون نينوى أو الغاضرية أو شفيه (3) تاريخ الطبري ج 4 ص 398

وكان رأي الإمام الحسين أن ينزل في تلك القرى لأنها أفضل محل لسكن النساء والأطفال ولكن الحر لم يقبل ذلك وقال : لا والله ما أستطيع ذلك هذا رجل قد بعث إليَّ عيناً (4) تاريخ الطبري ج4 ص 309 والأرشاد ص 227

وهذا يعني أنهم قد رفضوا أقتراح الإمام هذا أيضاً . وأنزلوه دون أرادته ورغبته في اليوم الثاني من المحرم سنة أحدى وستين للهجرة في كربلاء (5) الأرشاد ص 227 والطبري ج 4 ص 309 .

لما سار الإمام علي من الكوفة إلى معركة صفين مر على أرض كربلاء ، فتوقف فيها ونظر إليها وحزن وبكى وقال :

( ههنا مُناخ ركابهم وموضع رحالهم ، وههنا مهراق دمائهم ، فتية من آل محمد يقتلون بهذه العرصة تبكي عليهم السماء والأرض ) هذه العبارة نقلت عن الإمام علي في الكتب التالية :

1 – قرب الأسناد ص 14 .

2 – كامل الزيارات ص 269 .

3 – الأرشاد ص 156 .

4 – تذكرة السبط ص 250 .

5 – ذخائر العقبى ص 97 .

6 – كشف الغمة ج 2 ص 244 .

7 – الصواعق المحرقة ص 191 .

مع أختلاف بسيط في النقل عنه .

ولم يكن الناس في ذلك الزمان يعرفون حقيقة ما قاله أمير المؤمنين ، ولكنهم قد فهموا معنى ذلك الكلام بعد وقعة كربلاء وأستشهاد الحسين وأهل بيته فيها (1) الأرشاد ص 156 . عندما أنزل الإمام الحسين في هذه الأرض سئل عن أسمها فقال : وما أسم هذا المكان ؟ قالوا له : كربلاء ، قال : ذات كرب وبلاء ، ولقد مرّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفين وأنا معه ، فتوقف فيها فسأل عنها ، فأخبر بأسمها فقال : ههنا محط ركابهم ، وههنا مهراق دمائهم (2) الأخبار الطوال ص 253

وقد تذكر الإمام الحسين ما قاله الإمام علي قبل أربع وعشرين سنة عندما مرّ بهذه الأرض ( معركة صفين حدثت أواخر سنة 36 هجرية ، ونزول الحسين في كربلاء أوائل سنة 61 هجرية ، أذن فا لمدة بينهما تقدر ب24سنة ) الإمام علي قال في ( سنة 36 هجرية ) : فتية من آل محمد يُقتلوون بهذه العرصة تبكي عليهم السماء والآرض . والآن قد حلّ بهذه الأرض هؤلاء الفتية من آل محمد . فهل يجوز أن يكون لفظة ( الفتية ) في كلام الإمام علي هم غير الحسين وأهل بينه ؟ وهل أن كلام الإمام علي قبل 24 سنة لا ينطبق على الحسين وأهل بيته ؟

وقد نقل الإمام الحسين هذا الكلام الذي جرى قبل 24 سنة لأصحابه ، وربما أعتبر الأصحاب هذا الكلام من الإمام علي يرتبط بالإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه .

ملاحظة : ورد في بعض الأخبار ان رسول الله قال : [ يُقتل ولدي الحسين في أرض يقال لها كربلاء ] (3) تذكرة السبط ص 250 . طبيعي ان يكون هذا المعنى باقي بأذهان من سمعه عن رسول الله ، ولكن أهل الحجاز لايعرفون بالضبط أرض كربلاء ، ولهذا سأل الإمام الحسين لما أنُزل فيها عن أسمها قيل له ؛ أنها كربلاء . ( وقد ورد في بعض المرويات ان مكان إستشهاد الإمام الحسين في بابل كما عن تاريخ أبن كثير ج8 ص 163 ـ وفي بعضها العراق ، وفي البعض الآخر شط الفرات ــ ذخائر العقبى ص 148 ــ وفي بعضها الطف ــ الصواعق المحرقة ص 191 ـ وفي بعضها بين النواويس وكربلاء ــ اللهوف ص 53 ـ والمقصود من الكل واحد

وواضح ان زمن أستشهاد الإمام الحسين لم يكن معلوماً بالضبط ، ويمكن ان تكون تلك مما يختص به الله من العلم كما ورد في القرآن قوله تعالى : ( وما تدري نفس بأي أرض تموت ـ لقمان آية 34 )

وربما يكون قد تذكر الذين معه قول رسول الله يُقتل ولدي الحسين في كربلاء .

فأ لأرض هي هذه ! ، ولكن السؤال الذي يطرح بالحاح ؛ هل أن إستشهاد الإمام الحسين في كربلاء في هذه السفرة ، وأنه عليه أن يستعد للتضحية والفداء ؟

الأحتمال كما أنه صورة إشكال تسأؤلي ولكنه وارد جداً .

فلو أفترضنا أن الإمام علي قال في ذلك الوقت ( يُقتل ولدي الحسين في هذه الأرض ) فأن هذا المعنى مطلق ويعني ؛ أن الإمام الحسين يستشهد في هذه الأرض ولكن متى وكيف ؟ لا يعلم ، ولكن لو أفترضنا ان الإمام الحسين قال لما مرّ مع أبيه الإمام علي بكربلاء : ( أني أقتل في هذه الأرض ) فهل يعني هذا أنه سيُقتل بكربلاء في هذه السفرة ؟ طبعاً لا . لأن الإمام الحسين أنما تحرك نحو الكوفة وجاء إلى كربلاء عنوة [ كما ورد في بعض الأخبار ــ اللهوف ص 71 وتذكرة السبط ص 250 ] أستناداً إلى قول رسول الله ومع ذلك لم يحُدد زمن أستشهاده ، وبناء عليه وتأسيساً على رواية النبي : يُقتل ولدي الحسين . الخبر . في هذه الأرض ولكن زمن القتل فيها غير معلوم ، واذا نظرنا إلى مادار من مباحثات حول الصلح بين الإمام الحسين وعمر بن سعد (1) الأرشاد ص 232 . وكان فحوى خطاب المباحثات يدور حول ترك الخصومة والحرب ، فلو وافق ابن زياد على مقترحات الإمام لكان للمباحثات نتائجاً إيجابية ، ولكن رفض ابن زياد للأقتراح الداعي إلى السلم وعدم وصول أمدادات عسكرية للإمام فأن أستشهاد الإمام سيكون قطعياً في هذه السفرة تقريباً .

لقد نزل الإمام الحسين في كربلاء مجبراً مضطراً في اليوم الثاني من المحرم سنة 61 هجرية ، وفي اليوم الثالث من المحرم أقبل عمر بن سعد في أربعة الأف حتى نزل في نينوى ، وأنضم إليه ما كان تحت أمرة الحر بن يزيد الرياحي من الجند ، وكان أول أرتباط بين الإمام وعمر بن سعد هو ؛ لما بعث عمر بن سعد رسولاً عنه ، فقال له :

أئتِ الحسين فسله ، ما لذي جاء به وماذا يريد ؟

فقال له الحسين : كتب إليَّ أهل مصركم هذا ان أقدم فأما اذ كرهوني فأنا أنصرف عنهم إلى حيث منه أقبلت ، فمنعني الحر بن يزيد ، وسار حتى جعجع بي في هذا المكان ، وليَّ بك قربة قريبة ، ورحم ماسة ، فأطلقني حتى أنصرف ، (2) الأخبار الطوال ص 254 .

و كان لجواب الإمام هذا وقع في نفس عمر بن سعد ، فحمد الله على ذلك ، لأنه كان يرجو ان يعفى من محاربة الحسين وقد كتب عمر بن سعد إلى ابن زياد يخبره بذلك وينتظر جوابه .

بعث عمر بن سعد رسولاً منه إلى ابن زياد يخبره بموقف الإمام الحسين هذا وينتظر الرد على ذلك . وينبغي أن يعلم أن المسافة بين الكوفة وكربلاء .

تقدر بأربعة فراسخ وبالضرورة فأن حامل الرسالة يستغرق يوماً ذهاباً وأخر إياباً حسب الوسائل القديمة في النقل ــ وبناء عليه يكون قد وصل جواب ابن زياد إلى عمر بن سعد في اليوم الخامس من المحرم ، وأبن زياد رجل فاسد عديم الشعور والأحساس ، وقد كان جوابه لعمر بن سعد ضد مصلحة يزيد ومصلحة الناس والإسلام . فالدولة لازالت حديثة البنيان وتحتاج في أدراتها إلى تدبير وحكمة وتعقل ، وقد كان رأي الإمام بالرجوع يصب في مصلحة الإسلام والمسلمين وأيضاً خروج عن دائرة حكم بن زياد ولو قبل ابن زياد ذلك لكان من مصلحة يزيد ومصلحة ابن زياد . مع أن صلاحيات ابن زياد في الحكم واسعة لكنه شاب مغرور متعالي ، فقد أدى جوابه اللاأخلاقي إلى أدخال البلاد في دوامة الصراع والحروب والثورات ، فقد كان قرار ابن زياد مخالفاً لطبيعة التوجهات الصحيحة قائلاً لأبن سعد : [ أما بعد ، فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت فأعرض على الحسين أن يبايع ليزيد هو وجميع أصحابه فأذا هو فعل ذلك رأينا رأينا ..] (1) الأرشاد ص 228 والأخبار الطوال ص 254 . لقد أغلق هذا الحاكم الديكاتوري جميع الطرق خلا طريق الأستسلام والخنوع والذلة

قيل في الفلسفة ؛ ان النزاع بين قوتين هو نزاع ناتج عن صراع بين فكرتين ، لكل منهما طريقة في التفكير ومحتوى التفكير ، ولكل منهما أنصار ومؤيدون ، وقد لايتفق في كثير من الأحيان أنصار الفكرتين .

ولعل بعض أسباب التحرك في الساحة الفكرية ، أنما هو نتاج للأراء التي يثيرها كلا الأتجاهين ، مما يثير الحروب والكوارث والنزعات المدمرة ، والحسين بن علي له أسلوبه الفكري الخاص المأخوذ من بيت النبوة ، ويسعى في تحركه لرفع الظلم والتكبيت والمعاناة وحالات البؤس والضياع من على الأرض والمجتمع حفاظاً على وحدة النوع وحقوقه الأنسانية والأخلاقية وطريقة التفكير لعالم ما بعد الموت .

أذن فهو أطروحة عملية عقلية للأسلام وأيديولوجيته .

وفي المقابل هناك يزيد بن معاوية بما يعنيه من جهل وأسلوب رجعي متخلف ، وفهم خاطئ للحياة ونظرة متخلفة تجزئية للكون ، فهو لايرى في دنياه إلا الكسب والجاه والسلطان ، وهذه الطريقة المتخلفة من التفكير لايمكن ان تلتقي بحال من الأحوال بطريقة التفكير العام والنظرة الشمولية الأيجابية للحياة والكون ، واذا كان اللقاء غير ممكن ولكن الركون إلى الصلح والسلام ممكن . وأول شرط لتحقيق ذلك ان يكون لديهما قوة وتدبيراً واعتدالاً ، وفهم واقعي منطقي واعي لما يمكن ان تؤدي إليه النتائج ، فخطاب الإمام الحسين السياسي يقوم على ممارسة أقصى درجات الحيطة في التعامل مع القضايا والمشاكل التي تواجه الأمة ، لذلك فقد أمضى قرار الصلح مع معاوية بعد وفاة الإمام الحسن ، مع انه في تلك الفترة ــ أي العشر سنوات الأخيرة من حكم معاوية ــ قد مارس حقه في النقد الموضوعي لسياسة معاوية وأنحرافاته ، ولعل رسالته الشهيره إليه أقوى دليل على ذلك (1) رجال الكشي ص 59 . فالحسين في زمن يزيد هو نفسه في زمن معاوية وطريقة تفكيره هي نفسها ، وهنا لما أيقن ان لا إمكانية لتحقيق النصر فتح باب الحوار من أجل عقد أتفاق للصلح والسلام ، لذلك طلب من رسول ابن سعد ان يتركوه ينصرف من حيث أتى ، وقد حمل رسول ابن سعد تمنياته الخالصة تلك على ان يكونوا على قدر لائق من ضبط النفس والتعقل والتفكير الجدي لعواقب الأمر .

وقد كان همه في ذلك الوقت رفع حالة الخطر والصراع وشبح الحرب عن طريق الدولة الإسلامية الحديثة العهد والتأسيس ، طبعاً الإمام الحسين كما قال مراراً وقد أثبته بالفعل ان لا مفر من الموت وان لا أقدس من الشهادة ، ولكن كان يسعى للابتعاد عن دائرة الحرب مادامت الظروف غير مناسبة ، ماذا يمكن ان نتوقع من يزيد وأبن زياد الفاسدين ؟

فهؤلاء لا يفكرون إلا بالسلطان والحكم ، ولا يمكن ان نتوقع منهم أكثر من ذلك ، ولما أصبحوا هم على قمة الزعامة الإسلامية وبيدهم مقدرات البلاد وثرواتها ، وهذا ما يجعلهم يردون سلبياً على دعوة الإمام بالصلح ، إبن زياد سدّ الأبواب بوجه الإمام عدا باب التسليم أو الحرب ، والإمام يسعى جاهداً من أجل ان لاتقع الحرب ، ولكن ابن زياد وحكومته يسعون لأشعال نار الفتنة والحرب بما يمتلكون من قوة وعليه فماذا يجب عمله ؟

لو عُرضت وقعة كربلاء بكل مفرداتها وحيثياتها على هيئة قضائية محايدة ومتخصصة لتحديد المسؤول عن هذه المأسي فأنها ستحدد حتماً وطبق القرائن الموجودة على أن ابن زياد وحكومة يزيد هي العامل الرئيسي في هذه الحرب الا إنسانية وفي اشعالها .

نعم لقد وصل جواب ابن زياد إلى عمر بن سعد في اليوم الخامس من المحرم وفيه الطلب من الحسين ( ان يبايع ليزيد بن معاوية هو وجميع أصحابه فأذا فعل ذلك رأينا رأينا ) (2) تاريخ الطبري ج 4 ص 311 . ومنه يتضح ان النزوع نحو الحرب كان هو الأكثر وجوداً وأما إلى السلام فقد بدأ وكأنه شئ وهمي خيالي . فأبن زياد حددّ لعمر بن سعد المعالم التي يتفاوض من خلالها مع الحسين لذلك قال ابن سعد : ما أحسب ابن زياد يريد العافية ، فلما وصل ذلك الجواب إلى الإمام الحسين قال

( .. فهل هو إلا الموت فمرحباً به ) (3) الأخبار الطوال ص 254 . ومن هنا ينبغي القول : أنه وبناء على التضاد الفكري والعقلي في المنهج والرؤية بين الحسين ويزيد وحكومته ، فأن حكومة يزيد كانت المصدر الأساسي لأشعال نار الحرب والفتنة لأنها سدت في وجه الإمام كل الأبواب إلا باب الحرب .

وكان ابن سعد قد بعث بجواب الإمام إلى ابن زياد في الكوفة ، فوقع على قلبه كوقع السيف ، مما أثار في حفيظته كل مكامن الحقد والكراهية والبغضاء . فأبن زياد كان يعتقد أن الخمسة الآف جندي ستكون عامل حسم قوي على الإمام لكي يعلن قبوله واستسلامه لمنطق الأرهاب الأموي ويستسلم دون قيد أو شرط ، [ وقد كانت أم زياد سمية مشهورة بالزنا ، وأم عبيد الله أمرآة مجوسية أسمها مرجانه ] (1) ابو الشهداء ص 91 العقاد . فهو من الناحية البيئوية الأجتماعية ينتمي إلى أحط البيوتات وأنجسها ، فهو رجل ممسوخ الهوية والأنتماء والتربية والسلوك والدين ، وكان يرى لذته ان يستسلم الإمام الحسين ابن رسول الله وأبن فاطمة دون قيد أو شرط حتى يستطيع ان ينتقم من الحسين لنسبه .

ولذلك لما رأى أن الخمسة الآف جندي لم تستطع ان تخضع الإمام لمنطقها العدواني ، قرر ان يعسكر في ( النخيلة ) * موضع قرب الكوفة على سمت الشام *] وبعض قادته ، ثم وجه الحصين بن نمير (او تميم) وحجار بن أبجر وشبث بن ربعي وشمر بن ذي الجوشن ليعاونوا عمر بن سعد على أمره (2) الأخبار الطوال ص 254 .

فأبن مرجانة قرر ان يبعث كل هذه القوى لمقاتلة الحسين بن علي ، وكان أهل الكوفة يكرهون قتال الحسين فيترددون ويتخلفون وكلما وجه منهم جماعة إلى قتال الحسين يصلون إلى كربلاء ولم يبق منهم إلا القليل (3) الأخبار الطوال ص 254 . فبعث ابن زياد سويد بن عبد الرحمن المنقري في خيل إلى الكوفة ، وأمره ان يطوف بها ، فمن وجده قد تخلف أتاه به إلى ( النخيلة ) فبينا هو يطوف في أحياء الكوفة أذ وجد رجلاً من أهل الشام قد كان قدم الكوفة في طلب ميراث له ، فأرسل به إلى ابن زياد ، فأمر به فضربت عنقه ، فلما رأى الناس ذلك خرجوا (4) الأخبار الطوال ص 255 .

وهكذا استطاع ابن زياد أن يعمل جواً من الرعب والأرهاب مما أدى إلى خروج الناس على خلاف رغبتهم إلى حرب ابن بنت نبيهم مما زاد في عدد الجنود الذين بعثهم ابن زياد إلى كربلاء حتى قيل أنهم ؛ كانوا ثلاثين ألفاً (5) البحار ج 10 ص 190 الطبع القديم .

ابن زياد كان على علم كلي بأوضاع العراق العقيدية والسياسية لأنه كان حاكماً على البصرة والكوفة ويعلم تماماً ان العراق والكوفة خاصة هي مركز التشيع في العالم ، ويعلم أن فيها حركة ثورية مناهضة للحكومة ويعلم ان الإمام الحسين كان قد بعث برسالة إلى زعماء أهل البصرة يطلب منهم المساعدة والنصر (6) الطامل ج 4 ص 32 ابن الأثير .

وأبن زياد كان يحتمل ان تأتي إلى الإمام مساعدة من أهل البصرة ، ويحتمل أيضاً ان يقوم أهل الكوفة بثورة من أجل الإمام الحسين ) .

صحيح ان ابن زياد كان قد قتل مسلم وهاني ولكنه يعلم ان الناس أبدوا عدم رضاهم من ذلك وأنزعاجهم وان عمله هذا قد باعد بينه وبين الناس ، وكان يخشى أن تنقلب الأمور على حين غفلة عليه ، وينتهي الأمر إلى نهاية ابن زياد . ومع انه استطاع ان يقضي بمدة قصيرة على الحركة الثورية في الكوفة ،ولكنه مازال في شك من موقف الشيعة . أنه سبق وأن رأى مشاعر الناس تجاه الحسين حينما قدم إلى الكوفة ، وفرح الناس وأبتهاجهم به ظناً منهم أنه الحسين بن علي هذه المشاعر التي سمعها ورآها شكلت مصدر أزعاج وقلق له عن الوضع في الكوفة (1) الكامل ج 4 ص 24 ,

فقد ضاقت به الأرض حينما حاصرته قوات مسلم في القصر (2) تاريخ الطبري ج 4 ص 276 والأرشاد ص 211 .

ولاريب كان لهاتين الحادثتين أثر عميق في نفسه ، لأنه يعني قدرة الناس على أنتخاب القائد لها في أوقات الخطر ، مع ملاحظة كون بيع وشراء السلاح في ذلك الوقت حراً ، وبمقدور أي فرد أمتلاك السلاح الذي يرغب ، وهذا ما يجعل من الأمور أكثر تحدياً ومواجهة لأبن زياد . والشاهد على ذلك وجود كميات كبيرة من الأسلحة كانت معدة لخدمة حركة الثورة التي يقودها مسلم بن عقيل ، وهذا عامل خطر قد يؤدي إلى قيام ثورة شعبية مسلحة في الكوفة .

من هنا كانت مهمة ابن زياد منصبة على أتخاذ تدابير واجراءات وقائية حتى لو أدت إلى أعدام وقتل جماعي للآبرياء ، مع أستخدام العامل المادي والحرب الأقتصادية لكسب الناس وأضعاف عزيمتهم وسلب أمكانية للتحرك الداخلي . وقد يضاف إلى ما سبق أحتمال أخر هو ؛ أن أبن زياد أراد من تلك القوات وذلك العدد الهائل للضغط على الحسين ليستسلم بسرعة ، وأن تعذر الأستسلام ، فحتى تحسم المعركة بأسرع وقت ممكن تأهباً لأي طارئ قد يحدث .

نعم هكذا أرادها ابن زياد .

1 – سلب أي أمكانية لأنصار الإمام في الكوفة حتى لايفكرون بالثورة .

2 – حسم الموقف بسرعة لصالح يزيد وابن زياد .

كان كتاب ابن زياد قد وصل يوم الخامس من المحرم إلى عمر بن سعد :

( أن أعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية هو وجيمع أصحابه فأذا فعل ذلك رأينا رأينا ) (3) تاريخ الطبري ج 4 ص 311 .

وقد وصل جواب الإمام إلى ابن زياد يوم السادس من المحرم : ( لا أجُيب أبن زياد إلى ذلك أبداً ، فهل هو إلا الموت فمرحباً به ) (4) الأخبار الطوال ص 254 ,

وقد أصدر ابن زياد قراره الظالم بحق الإمام الحسين والقاضي :

( بأن يُمنع الحسين وأصحابه الماء فلا يذاقوا منه حسُوة ـ حسُوة بالضم الجرعة بقدر ما يحس مرة واحدة ــ كما فعلوا بالتقي عثمان بن عفان ) (5) الأخبار الطوال ص 255 . ويكون وصول هذا القرار الظالم عند ابن سعد يوم السابع من المحرم ، وهذا الرأي يوافق ما جاء في التواريخ ذكراً أذ قالوا ان : ( ذلك قبل قتل الحسين بثلاث أيام ) (1) الأرشاد ص 230 والأرخبار الطوال ص 255 . والقرار بحد ذاته يُمثل النزعة الواقعية لسياسة الحزب الأموي وطموحاته المعلنة مع تأكيد خاص من ابن زياد وذلك يعود إلى ما يلي

1 – أرُيد به كعامل حسم تعجيلي لأستسلام الأمام ) .

2 – أراد منه ابن زياد إشباع رغباته المتدنية وحُقده وكراهتة للحق وحبه للانتقام .

3 – وأرد ابن زياد من ذلك تأكيد ولاته المطلق لآل معاوية من خلال ممارسته الفن الأكراهي المثير للفتنة والمطابة السوقية بدم عثمان على حد زعمه .

لأن معاوية كان رأساً مدبراً لهذه الفتنة التي أشعلها ضد أمير المؤمنين علي (2) الكامل في التارخ ج 3 ص 173 . وبالتالي فهو يريد ان يبرهن لآل معاوية انه جاد في المطالبة بأهداف الحزب الأموي المعلنة والمطالبة بدم عثمان ؛ وانه سيفعل بالحسين كما فعل بعثمان ، ومع صدور هذا القرار تكون الحكومة قد اعلنت بصراحة عن رفضها لمحاولات السلام ، بل أنها تسعى لأشعال نار الحرب . وعليه أصبح الأقتراب من الحرب هو العمل الذي تتبناه السلطة وأجهزتها العسكرية ، تلك الحرب التي تكلف المسلمين الشئ الكثير والتي تؤدي إلى ردود فعل عكسية ، وقد انصاع عمر بن سعد أمتثالاً لأمر عبيد الله بن زياد ، وأمر عمرو بن الحجاج الزبيدي ، ان يسير في خمسمائة فارس ، فنزلو على الشريعة ، وحالوا دون الحسين واصحابه وبين الماء . (3) تاريخ الطبري ج 4 ص ص 312 والأرشاد ص 221 والأخبار ص 255 .

اشارة

قام الأمام الحسين في المرحلة الثالثة من ثورته للابتعاد عن دائرة الحرب والصراع ، وكلما أشعل مرتزقة يزيد وابن زياد نار الحرب أطفأها الإمام الحسين وكان الإمام الحسين قد ألتقى بأبن سعد ليلاً بين المعسكرين وطلب منه السماح له بالرجوع من حيث أقبل (4) تاريخ الطبري ج 4 ص 313 والأرشاد ص 221 . وهذا المطلب يحتاج إلى مزيد عناية وتدقيق وبحث من أصحابنا أهل التحقيق ، فالحسين بكل معاني الشموخ والقوة يتواضع ويطلب الرجوع من حيث أتى ، وهو يفعل ذلك تجنباً للدخول بالحرب التي لاطائل من ورائها سوى إشباع رغبات ابن زياد الحيوانية ، ومع كل هذا الجهد في هذا المجال يتهمه مرتزقة يزيد بأنه المثير للحرب والفتنة ، الخزي والعار لأولئك الدجالون أعوات الشيطان الخزي والعار للذين لم يسمحوا للحسين بالرجوع والخزي والعار للذين يتهموه بالفتنة والموت أتباعهم في الأزمان اللاحقة والنصر الدائم للحسين وأهداف الحسين .

بعث عمر بن سعد كتاباً إلى ابن زياد يخبره فيه للمرة الثانية رغبة الإمام الحسين بالرجوع إلى المكان الذي أقبل منه ، فلما قرأ عبيد الله بن زياد الكتاب قال : هذا كتاب رجل ناصح لأميره مشفق على قومه نعم قد قبلت (1) تاريخ الطبري ج 4 ص 313 . أو ( ما أراني إلا فخل سبيله يذهب حيث يشاء ) (2) سير النبلاء ج 3 ص 202 .

هذا الكلام الذي ينقله المؤرخون أنما هو جزء من الميل والرغبة التي خالجت نفس ابن زياد ، وعلى أي أعتبار فليس بالميسور البت في قضية الرغبة على أنها طبع مترسخ ، وأنما هي حاجة زمانية مؤقتة تخضع لعوامل التحريك الخارجي والداخلي ــ وهذا التأكيد منا تدعمه التجربة ويشهد عليه المنطق والعقل ــ وإليك ما نقله جمع من المؤرخين ؛ أن ابن زياد ليس له أعتبار متقدم بقدر ماهو تابع ومحكوم بالضرورة لأرادة الحزب الأموي على الصعيد العملي والأجرائي والنظري ، فهو بمجرد ان أعترض الشمر بن ذي الجوشن على رأي ابن زياد وقبوله ،

كان لأعتراض الشمر هذا أثر في نفسه حيث قال له ( أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك إلى جنبك والله لئن رحل من بلدك ولم يضع يده في يدك ليكونن أولى بالقوة والعز ولتكون أولى بالضعف والعجز فلا تعطه هذه المنزلة فأنها من الوهن ، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه فإن عاقبت فأنت ولي العقوبة وان غفرت كان ذلك لك ) (3) تاريخ الطبري ج 4 ص 314 .

فالذي قرره ابن زياد والشمر لا مصلحة للأمة وإنما ناتج عن منطقي القوة والضعف في الذاتية والذاتانية

ومن هنا تلاحظ ما بين الرآيين من تفاوت ، ولهذا عندما سمع ذلك من الشمر كتب ابن زياد إلى عمر بن سعد :

( أني لم أبعثك إلى الحسين لتكف عنه ولا لتطاوله ولا لتمنيه السلامة ولا لتعتذر عنه ، ولا لتكون له عندي شفيعاً ، أنظر فأن نزل هو واصحابه على حكمي واستسلموا فأبعث بهم إليَّ سلماً وان أبوا فأزحف حتى تقتلهم ، وتمثل بهم لذلك مستحقون فأن قتلت حسيناً فأوطئ الخيل صدره وظهره فأنه عاق ظلوم ، ولست أرى ان هذا يضر بعد الموت شيئاً ، لكن عليَّ قول قلته ، لو قتلته لفعلت هذا به ، فأن انت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع ، وأن أبيت فأعتزل عملنا وجندنا وخّل بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر ، فأنا قد أمرناه بأمرنا ) (4) تاريخ الطبري ج 4 ص 314 والأرشاد ص 232 .

وهذا القرار مع أنه رفضاً مطلقاً لكل فكرة وحوار ومصالحة ومع ذلك فهو يعبر عن مدى ضعف حاكم العراق وفقدانه للأتزان فهو أضافة إلى انه أصدر بقتل الإمام أمره ان ينفذ وصيته في التمثيل بجسد الحسين الشريف وهي المرة الأولى التي تحدث في التاريخ الإنساني ، وهو تذليل تقريري على ان الجريمة ميراث ناله هؤلاء الطغاة من أسلافهم جناة التاريخ ..

كان ذلك الكتاب قد وصل إلى عمر بن سعد في اليوم التاسع من المحرم بواسطة الشمر بن ذي الجوشن وكان الكتاب يتضمن الأمر بالحرب وتنفيذها ، وقد وجدتُ من خلال القرائن ان للشمر دوراً في صياغة هذا الكتاب وإقراره ، ولهذا قال له عمر بن سعد : ويلك لا قرب الله دارك وقبح الله ما قدمت به علىَّ والله أني لآضنك أنت ثنيته ان يقبل ما كتبت به إليه أفسدت علينا أمرنا كنا رجونا أن يُصلح ، لا يستسلم والله حسين ( إنَ نفساً آبَّية لبَينَ جنبَيه ) (1) تاريخ الطبري ج 4 ص 315 .

وقد ورد في بعض الكتب ( نَفسَ أبيهِ ) .. من الواضح أن الشمر كان راغباً شديد الرغبة في الحصول على قيادة الجيش ولهذا أكد على ابن زياد ان يأمر في كتابه ابن سعد ان لايحول بين الشمر والجيش في حالة عدم محاربته للحسين بن علي ، ولذلك قال لأبن سعد : ما انت صانع ؟ أتمضي لأمر أميرك وتقتل عدوه ؟ وإلا فخل بيني وبين الجند والعسكر ، فقال ابن سعد : لا ولا كرامة لك وأنا أتولى ذلك ، قال : فدونك وكن أنت على الرجال . قال : فنهض إليه عشية الخميس لتسع مضين من محرم ، ونادى ياخيل أركبي وأبشري ثم زحف نحو الحسين (ع) (2) تاريخ الطبري ج 4 ص 315

ومن جهة آخرى فأن الإمام الحسين كان محاصراً من قبل جيش الأعداء وأن أتصاله بالخارج كان مقطوعاً ولا أمل له مطلقاً أن تصل له مساعدة من البصرة أو الكوفة : ( وأيقنوا أنه لا يأتي الحسين ناصرٌ ولا يمده أهل العراق ) (3) تاريخ الطبري ج 4 ص 315 .

مع هذه المقدمات هل أصبح قتل الإمام قطعياً 100% ؟

لأن أصحاب الإمام مهما كانوا مضحين ومخلصين فأنهم لن يستطيعوا بعددهم ان يكسبوا النصر على جيش الأعداء الكبير جداً والذي تقف معه حكومة يزيد في الشام ، بقي أن نذكر ؛ أن محادثات جرت بين الفريقين مساء يوم التاسع من المحرم أسفرت عنها هدنة مؤقتة حتى صباح العاشر من المحرم (4) وقعة كربلاء ص 254 للمؤلف