الفصل الثالث

المشروع الثوري ومسألة التقسيم المرحلي والزمني

كنا قد بحثنا في الفصلين السابقين علل الثورة وبنيتها ، وإليك في هذا الفصل بحث في زمنية الثورة ومرحليتها ..

لاشك ان القتال حق قانوني وعقلاني مشروع ، يتم ضمن شروط وقضايا ومصالح زمنية خاصة ، والقتال يكون مشروعاً حينما يحقق هدفاً عظيماً ، أو من اجل انجاز مراحل اصلاحية وتغيرية هامة ــ والأمة المقاتلة لابد ان تنظر بدقة للربح والخسارة وللنفع والضرر ، فالقتال بالدرجة الأولى يجب ان لايسبب اي ضرر مادي ومعنوي ، وفي الدرجة الثانية يقدم الضرر المادي والإقتصادي على الضرر الجسماني ، وفي الدرجة الثالثة اذا كان الهدف أسمى وأغلى من النفس فلابد بالتضحية بالنفس من اجل الهدف .

وهذه قاعدة عقلانية عامة تعتبر مراعاتها أمراً ضرورياً واجباً في كل زمان ومكان . الرسول في كل غزواته وحروبه يعمل طبقاً لهده القاعدة فهو لما أحس بتجاوزات مشركي مكة خرج منها ليلاً سراً مهاجراً ، ولجأ إلى غار حراء في جبل ثور . وبقي مدة ثلاثة ايام ، ثم هاجر بعدها إلى المدينة لأن بقاءه في مكة اصبح فاقداً الشروط الموضوعية . وفي معركة أحُدّ عندما جُرحَ النبي ونادى ابو سفيان عليه ،

قال لأصحابه : لاتجيبوه حتى لايعلم أني لازلت حياً ، هكذا كان يفعل النبي حفاظاً على نفسه ، وعلى المؤمنين لتبقى ثورته دائمة تغذي البشرية بعطاء الروح .

وكما أسلفنا سابقاً ان ثورة الإمام الحسين والتي دامت خمسة أشهر وأثني عشر يوماً على أربعة مراحل مختلفة وقد فصلنا البحث فيها أوائل الفصل الثاني وكان له في كل مرحلة عمل جديد واسلوب جديد .

المرحلة الأولى

من الثورة دامت اربعة اشهر وعشرة ايام من 28 رجب وحتى 8 ذي الحجة . لأن الإمام الحسين قد خرج من المدينة وطبقاً لأشهر الروايات ، ليومين بقيا من شهر رجب سنة 60 هجرية وبعد خمسة ايام قضاها في الطريق وصل إلى مكة ، وانه قد تحرك منها إلى الكوفة يوم 8 ذي الحجة ..

الإمام الحسين بقي في مكة اربعة اشهر وخمسة ايام في المرحلة الأولى مدافعاً ومراقباً خوفاً من تجاوزات الحكومة وأعتداءاتها .. فالإمام في هذه المرحلة رفض بيعة يزيد وقد بين للناس سبب ذلك . اضافة إلى أنه قام بأستقراء الوضع السياسي في العراق وقدراته العسكرية ، وامكانية تشكيل الحكومة واعادة الخلافة إلى أهل البيت بديهي انه منذ خروجه من المدينة إلى مكة وهو مُراقب من قبل اجهزة الحكومة ولذا كانت هذه الأجهزة تنقل اخباره إلى يزيد أولاً بأول .

ان خروج الإمام الحسين من المدينة إلى مكة كان له صداً إعلامياً واسعاً في الممالك الإسلامية ، مما جعل الأمة الإسلامية تشعر بأن الحكومة الجديدة قد سلبت من الإمام أمنه وأستقراره ،

وهو قد خرج مضطراً مجبراً منها ، وقد سببت له تلك الهجرة حالة من الأنزعاج والشعور بعدم الرضى لدى كافة المسلمين وعند شيعتة خاصة ، ولذلك جاء بعض منهم إلى مكة يسألون الإمام ويعرفون ماذا يريد عمله ؟

وقد كان لهذه التحركات صداً اجتماعياً متزايداً وصار حديثاً للمجالس والمحافل السياسية ، وقد ظهر للناس ان الحكومة الأموية كانت قد اعتدت على الإمام وانها قطعت أرتباطها بالإمام ، وقد انتشرت هذه الأخبار في المدن الإسلامية الأخرى عبر قوافل الحجاج ..

ان خبر موت معاوية كان قد انتشر في المناطق الإسلامية هو الأخر . وقد فرح الناس لسماع ذلك الخبر لأنه يعني نهاية تاريخية مظلمة سوداء واستبشر الناس بذلك أيذاناً ببدء حقبة تاريخية جديدة ، وكانت الطبقات المحرومة أشد الناس فرحاً بذلك لأنهم يرجون ان تتبدل الأوضاع السياسية نحو التقدم ورفاهية المجتمع .

فلقد سئم الناس لغة البطش والأرهاب والتجاوزات الأخلاقية التي جعلها معاوية في عهده ضد الإمام علي وبأمر خاص منه اذ

( كتب معاوية نسخة بعد عام الصلح المفروض ان برئت الذمة ممن روي شيئاً في فضل أبي تراب وأهل بيته ، فقام الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر ، يلعنون علياً ويبرؤون منه ، ويقعون فيه وفي أهل بيته ، وكان أشد الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة ، لكثرة مافيها من شيعة علي .. ) ولما أصبح المغيرة بن شعبة والياً على الكوفة بعد الصلح قال له معاوية : ( وقد أردت ايصاءك بأشياء كثيرة ، انا تاركها اعتماداً على بصرك ، ولست تاركاً أيصاءك بخصلة واحدة ، لاتترك شتم علي بن أبي طالب وذمه ) (1) وقعة كربلاء ص 30 ــ 31 . للمؤلف .

لقد كان موت معاوية أيذاناً بزوال نظام الطبقية والعنصرية المقيت والذي أرسى قواعده معاوية والذي كان يتلاعب بالمشاعر الدينية حسب أهوائه الخاصة ونزعاته وشهواته السلطوية ، من فرضه أرادة مخالفة لطبيعة الذوق والمشاعر الدينية ، وهذا ماجعل الناس تواقون إلى سيادة العدل والقانون ونظام الحرية ، ولما شاع بينهم نبأ رفض الإمام مبايعة يزيد وجدوا في ذلك الرفض حركة أصلاحية في الوعي الأجتماعي هادفة ، وأنها حتماً ستؤدي إلى تغيير بنية النظام السياسي وتقيم مكانها حكومة العدل والأستقلال والحرية وهذه هي طموحات الناس وامانيهم وآمالهم ..

هذه الطبقة الأجتماعية كانت ترغب جدياً بتغيير جذري للنظام الحكومي القائم .

وشكلت في الكوفة تياراً جماهيرياً عارماً لأن أهل الكوفة هم شيعة للإمام علي أذ بعهده أصبحت الكوفة عاصمة للخلافة الإسلامية ، ولأنها كذلك فقد قطنها عدة من أصحاب النبي وشخصيات سياسية وعلمية ودينية بارزة ، وكان هؤلاء اكثر الناس أنزعاجاً من الأحكام الطغيانية للحكومة الأموية ، لأنهم تحملوا منها شتى صنوف العذاب المادي والمعنوي وقد مارس معاوية بحقهم سلسلة من عمليات الأجرام المنظم مخالفاً بذلك أبسط الحقوق الإنسانية والأخلاقية .

ولما تولى يزيد الحكم من بعد معاوية سارعت هذه الشخصيات إلى تشكيل جلسة عمل لبحث التطورات السياسية والحكومية ومستقبل الدولة والنظام السياسي ، وهل يمكن البقاء على النظام الملكي الذي سنه معاوية مخالفاً فيه طريقة الإسلام وحاجات الناس ومشاعرهم ؟ وهل يمكن ان يقبلوا بحكومة يرأسها يزيد بما له من فساد أخلاقي وفسق معلن ؟ وهل يمكن الرضا بالواقع الأجتماعي الذي تقوده النزعة الحزبية الضيقة والإعتبارات الطبقية ؟

والإعتماد على وسائل البطش والأرهاب الحكومي المنظم وارهاب الدولة .

وهل يمكن الرضا بالوضع الجديد ، أو بالأستمرار بحالة اللعن والسب والشتم لأمير المؤمنين علي وعلى منابر المسلمين وفي حضور شيعته ومحبيه ؟ وهل يبقى بيت المال لعبة وورثة وملكاً خاصاً لبني أمية وولاتهم يتصرفون به كيفما شاؤوا ومتى شاؤوا اشباعاً لرغباتهم وشهواتهم الحيوانية والشيطانية ، أذن فالبحث الذي يدور في المحافل السياسية حول هذه الأسس فنياً وسياسياً وصناعياً ، مما شكل لديهم قناعة مزدوجة بلزوم ايجاد تنظيم واع يرتب نظم العلاقات الدستورية وشكل الحركة المستقبيلة في المجتمع

قلنا سابقاً ان الجلسات التي كانت تعُقد في دار سليمان بن صرّد الخزاعي وهو من اصحاب الرسول ومن زعماء الكوفة البارزين ، وقد نتج عن هذه الجلسات كتاب أمضاه زعماء الكوفة دعوا فيه الإمام الحسين إلى العراق ليقودهم في مواجهة التحدي الحكومي الذي يتزعمه يزيد وحزبه ، وقد رأوا ان الوقوف مع الإمام الحسين بعدما سلب منه الأمن والوطن والدار مطلباً ضرورياً لازماً لأعانته في تأسيس الحكومة . وذلك من اجل حماية الإسلام وقائده الإمام الحسين

ورأوا ان افضل الطرق المؤدية إلى هذا الأمر هو ؛ ( أن يأتي الإمام الحسين إلى الكوفة لكي يقيم الحكم الألهي العادل فيها من اجل أنهاء ظلم حكومة بني أمية والقضاء عليها .. وقد أمضى على هذا الكتاب شخصيات اسلامية كبيرة كسليمان بن صرد وحبيب بن مظاهر وقد ورد فيه : ( اما بعد ، فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انترى على هذه الأمة فأبتزها أمرها وغصبها فيئها وتأمر عليها بغير رضى منها ثم قتل خيارها ، واستبقى شرارها وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها فبُعداً له كما بعدت ثموت . أنه ليس علينا أمام فاقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق ) (1) مقتل الخوازمي ج 1 ص 194 وتاريخ الطبري ج 4 ص 261 والأمامة والسياسة ج 2 ص 4 والأرشاد ص 203 . وقد جاء في الكتاب ذكر للاسباب التي تدعوهم للغضب والأنزعاج من حكومة بني امية وهي عبارة عن مايلي

1 – ان معاوية تسلط على رقاب الناس واخذ الحكم بالقهر والغلبة وعلى خلاف رغبة الناس وأرادتهم .

2 – تحويل الأموال العامة واموال الخزينة إلى ملك خاص منحصر بأعوان الحكومة والطغاة والمتجبرين .

3 – وان معاوية قتل الأخيار من هذه الأمة المخالفين للجور والظلم والعدوان .

4 – وأن معاوية سعى لتقوية العناصر الفاسدة ودعم تأييد الأشرار حتى ملكوا البلاد والعباد .

كانت هذه عبارة عن المضمون الفعلي للكتاب الذي بعث به أهل الكوفة إلى الإمام الحسين وقد كان ذلك تعبيراً ليس فقط عن زعماء الكوفة بل تعبيراً طبيعياًً عن ارادة اكثرية الشعب في العراق والحجاز واليمن ومصر وخراسان ، ان اصل الفساد هو هذه العناصر الأربع التي وردت بخطاب أهل الكوفة :

1 – التضاد بين الحكم والمجتمع .

2 – تصريف الثروة وتوزيعها على المنافع الشخصية واللذات الخاصة .

3 – ممارسة ارهاب الدولة ضد الأخيار والصالحين .

4 – دعم وتأييد دور الفساد ومراكز الخلاعة .

وقد كانت رسالة أهل الكوفة نتاج لجهد وعمل سياسي مشترك حول الوضع في جهاز الحكومة والدولة ، وهي تبني لمشروع اعادة البناء في مؤسسات النظام السياسي والأداري ورد معلن لحكومة يزيد ، وهي تأكيد على ادامة روح المقاومة حتى الوصول إلى هدف الحسين في تأسيس الحكومة المستقلة الحرة العادلة ، كان ذلك باختصار يمثل فكر ورأي الجماعة الإسلامية في الكوفة وخطابها السياسي النهضوي .

لقد وصل كتاب اهل الكوفة لعشر مضين من شهر رمضان (1) الأرشاد ص 203 والأخبار الطوال ص 210 . أي بعد شهر وسبعة ايام من توقف الإمام الحسين في مكة ، ومن ثم توالت عليه الكتب والرسائل ولم تمض مدة حتى تجمع لديه مجموعة كبيرة من كتب اهل الكوفة . وطبعاً كانت كتبهم تدعوه للقدوم عليهم . هذا وقد سبق ان ارسلوا إليه كتاباً بعد وفاة الإمام الحسن للقيام على معاوية ولكنه رفض ذلك قائلاً : فلننظر وتنظرون . وبعد هلاك معاوية دعوه مرة اخرى ولكنه لم يعجل بالذهاب عليهم بمجرد وصول هذه الكتب ، ومع ذلك فقد توالت عليه الكتب مراراً وتكراراً تدعوه لتشكيل الحكومة واعادة الخلافة إلى اهل البيت في ظل الشروط الموضوعية المناسبة لذلك . ومن هنا كان قراره بأرسال مبعوث خاص عنه ليتحقق عن اوضاع الكوفة واحوالها واخبارها فأن كانت كما زعموا فليكتب إليه بالقدوم وان كان غير ذلك فليرجع (2) الأخبار الطوال ص 210

وقد بعث الإمام الحسين ابن عمه مسلم بن عقيل كرسول خاص له إلى أهل الكوفة وقد أوصاه ان يدخلها سراً ، ويطلع على أوضاعها بدقة .

وقد خرج مسلم بن عقيل من مكة في النصف من شهر رمضان حتى قدم الكوفة لخمس خلون من شوال (3) مروج الذهب ج 3 ص 54 .

وكتب الإمام الحسين كتاباً واحداً إلى شيعته في العراق ولم يذكر فيه أسماً معيناً من أسماء زعماء الكوفة حتى أذا ماوقعت بيد مرتزقة النظام لا تؤدي إلى مضايقات واعتداءات على من كتب بأسمه الكتاب وحتى لايفتخر من جاء الكتاب بأسمه على الآخرين .

وقال الإمام في كتابه هذا : ( ... وأني باعث إليكم أخي وأبن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل فأن كتب إلىَّ انه قد أجتمع رأي ملائكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ماقدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم فأني أقدم إليكم وشيكاً إنشاء الله ..) (1) الأرشاد ص 203 . وهذا الأجراء العملي من الإمام كان بمثابة التخطيط والتدبير المركز البعيد عن المشاعر العاطفية والهواجس المزاجية والرغبات الذاتية ، وحتى لايتخذ موقفاً تكون عاقبته غير موفقة ، لأن التقدم والتحرك لايتم في ظل الأجواء المشحونة ، بل لابد من تعقل وكياسة وصبر ودراسة معمقين ، لأن الأصل في الحركات الأصلاحية ان تكون متبناة من قبل المفكرين وأصحاب الرأي والعقل حتى يكون العمل على قاعدة صلبة من دواعي التكليف وشرطيته . فالتكليف مشروط بالقدرة فأذا أنتفت القدرة أنتفى التكليف والعكس صحيح .

وقد نظم الإمام الحسين برنامج مسلم بن عقيل على أساس ثلاث مطالب رئيسية هي

1 – التقوى ؛ وهي شرط ضروري في تحرك الفرد سيما وأنه يمثل مصدر الفضائل والتقوى ــ الإمام الحسين وهو بذلك يوفر شرط الأعتبار الضمني لدى العامة في مفهوم العمل داخل حدود الله .

2 – كتمان الأمر ؛ وهو يمثل عنصر العمل المنسق والمربوط والذي لايجوز كشفه بسهولة ، لأنه يعبر عن الإدراك الواقعي للأمة في تفسير الأحداث والتغلب على الصعوبات وحتى لايضع نفسه بموقع الهجوم من قبل قوى الثورة المضادة ، ولكي لايمنع من أداء الوظيفة بالشكل المطلوب .

3 – اللطف ؛ وهو من الأمور اللازمة لكل من ينيب عن ـ الإمام الحسين اذ لابد له ان يتحلى كحد أدنى بأسمى آيات الكمال والتواضع واللطف ولا يجوز لمن يكون بمنصب كهذا ان يستغل وظيفته العملية النيابية في التسلط الأكراهي على الناس (2) وقعة كربلاء ص 129 للمؤلف .

اذن فوظيفة مسلم العملية قائمة على العناصر الثلاث وهي كما ترى أسس أنسانية وعقلانية اذ : ( أمره بالتقوى وكتمان أمره واللطف ) (3) الأرشاد ص 204 . وهذه الوصية تعتبرتمثيل واقعي لمهمة مسلم الأكتشافية البيانية للتحقيق والأطلاع على الأوضاع السياسية والعسكرية في الكوفة وأمكانية تشكيل حكومة العدل الألهي فيها ، وهي كما ترى ليست مهمة أزدواجية بل هي واحدة في فحوى الخطاب ودليليته .

لقد تحمل مسلم بن عقيل في مهمته تلك زحمات كبيرة منها انه قطع مسافة قاربت الألفين كيلومتر بين مكة والكوفة ، ودخوله سراً إلى الكوفة بعد أن أمضى عشرين يوماً بالسير ، أن مهمة مسلم بن عقيل مهمة ثقيلة وكبيرة وإنها تستدعي مزيداً من الدقة والتريث والصبر في التحقيق ، وقد سارت على هذا النحو :

1 – أنتخب مسلم بن عقيل لتحركه بيتاً أطمان له ، ومن خلاله أستطاع أجراء وظائفه الموكلة إليه وبحذر .

2 – أوجد حلقة أرتباط عاملة بينه وبين الناس ، وكانت هذه الحلقة من خيرة الرجال المخلصين والمؤمنين ومصدر أطمئنان وثقة الإمام مباشرة ، وعن طريقها أستطاع توسيع دائرة اتصاله بالناس ومن خلالها تم له أستقراء الوضع الداخلي لأهل الكوفة .

3 – قام بدراسة عملية منهجية لمختلف الأراء والتيارات والأفكار المطروحة في الساحة الكوفية ، وعمل على ضبطها وتسجيلها كتقارير عمل بعثها إلى الإمام ) .

4 – دوّن جميع الذين أرتبطوا بالحلقة العاملة مع دراسة مفصلة لهويتهم الأجتماعية والذاتية والروحية .

5 – تشخيص قدرة حاكم الكوفة من الناحية النفسية والأجتماعية ، وأسلوب العمل الذي يقوم به وأرتباطاته وعلاقاته ومدى نفوذه الشعبي بين الناس .

6 – الأستفادة اللازمة من أراء ومشورة أعيان الكوفة في جمع المال والسلاح والرجال وشراء وتموين الذخائر .

طبيعي ان المال المتجمع عند مسلم بن عقيل لم يستخدمه لقضايا ه وشؤونه الخاصة ، ولم يتحمل أحد مصاريفه عنه ، وحتى أنه كان يرد المال الذي يقدم إليه (1) مقتل الخوارزمي ج 1 ص 197 . ولذلك كان مديوناً بسبعمئة درهم (2) الأرشاد ص 217 . للمدة التي قضاها في الكوفة وهي شهران وثلاثة أيام . ولقد قام مسلم بمهمته كاحسن مايقوم بها أحد فهو لم يتعرض لقوات الحكومة قبل مجئ عبيد الله بن زياد . وبعد أربعين يوماً من عمله الشاق الدؤوب كتب إلى الإمام الحسين يخبره برأي الناس ويقول :

( .. أن الرائد لا يكذب أهله ، وقد بايعني من اهل الكوفة ثمانية عشر آلف رجل فان الناس معك فأقدم إلينا ) (4) الآخبار الطوال ص 243 .

وطبعاً هذا التقدم العملي الذي حصل عليه مسلم كان بولاية النعمان بن بشير والي الكوفة آنذاك ، فقد كان النعمان رجل ضعيف أو هكذا يتظاهر وربما لايريد ان يمارس ضغوطات على مبعوث الإمام . في الكوفة .

ولهذا أعفي من منصبه كحاكم وتم تعيين عبيد الله بم زياد البالغ من العمر كما يقول عباس محمود العقاد )( 28سنة) (5) أو (32سنة) ابو الشهداء ص 92

( قال الطبري : سار عبيد الله بن زياد في آخر سنة 53 هجرية وهو ابن 25 سنة من الشام وقدم إلى خراسان ، وعليه فيكون ، عمره عند توليه الكوفة سنة 60 هجرية 32 سنة ) (1) تاريخ الطبري ج 4 ص 220 . خرج مسلم بن عقيل من مكة في النصف من شهر رمضان حتى قدم الكوفة لخمس خلون من شوال (2) مروج الذهب ًج 3 ص 54 .

من أجل استقراء اوضاع الكوفة واحوالها واستغرق ذلك العمل شهراً وسبعة ايام ، وقبل استشهادة ( ب 27 يوماً أي يوم 12 ذي القعدة ) بعث بنتيجة تحقيقاته إلى الإمام (ع) طالباً منه التعجيل بالقدوم (3) الأرشاد ص 222 .

ومن المعلوم ان المدة التي يقطعها الساعي بين مكة والكوفة تقدر عادة (ب12 يوماً) ، أذ ان مسلم بن عقيل حينما دخل الكوفة قطع المسافة تلك بهذه المدة ، مع انه قد توقف في الطريق نتيجة لهلاك احد دليليه عطشاً وظل منتظراً بوسط الطريق حتى جاءه جواب الإمام الحسين ، وربما قد توقف في الطريق ثمانية أيام حتى وصل إليه الجواب لأن البريد بينهما لابد ان يقطع مسافة ثمان فراسخ ذهاباً وإياباً ، ولذلك دخل الكوفة بعد عشرين يوماً ، وبناءً على هذا الحساب يكون مسلم بن عقيل قد قطع المسافة بين مكة والكوفة (ب 12 يوماً ) ، ومن هنا نفهم ان كتاب مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين الذي بعثه ( يوم 12 ذي القعدة ) وصل عند الإمام (يوم 24 ذي القعدة ) والإمام لم يتحرك حال وصول هذا الكتاب بل بقي مايقارب (ال14 يوماً ) في مكة ، لأنه قد تحرك من مكة إلى الكوفة (يوم 8 ذي الحجة ) ( 4) الأرشاد ص 219 . أي بعد أربعة عشر يوماً من وصول كتاب مسلم إليه ،

ولأن هذا الحساب قائم على الحدس والتخمين لذلك كتبناه بتردد، وهنا ربما يطرح سؤال يقول : لماذا لم يتحرك الإمام الحسين فوراً إلى الكوفة بعد كتاب مسلم بن عقيل واخباره المشجعة ؟

الجواب

هنا لابد من القول : ان الإمام لم يتحرك إلى الكوفة فوراً بعد وصول كتاب مسلم إليه لسببين هما

1 – ان الإمام أراد البقاء إلى موسم الحج ليستطيع من خلاله ان يلتقي بالحجاج ليعرض عليهم مبادئه واهدافه لكي يساعدوه في هذا الأتجاه ، وحتى يجعلهم بالصورة وانه عازم على تشكيل الحكومة واعادة الخلافة إلى اهل البيت ويطلب منهم الجد والمساعدة في ذلك ، وهذا ما يجعله بأطمئنان نحو الكوفة .

2 – وربما كان لايريد ان يدخل الكوفة قبل اتمام مناسك الحج حتى لاتستخدم ذلك الحكومة كوسيلة اعلامية ضد الإمام ، وحتى لايشيع اعوان الحكومة أن الحسين بن علي ، ترك بيت الله واعرض عنه طلباً للدنيا والسلطان ( وسواء تعرض الإمام للخطر او لسبب أخر لم يجعله يتم مناسك الحج فأنه قام بعمرة مفردة وتحرك نحو الكوفة ) ..

ونحن نعلم تماماً ان الإمام الحسين يعرف جيداً طبيعة يزيد وأعوانه ونزعتهم العدوانية ، ولهذا فهو يقوم بكل عمل او فعل مراعياً بذلك الأحتياط ومدركاً لأساليب الحكومة ووسائلها الأعلامية ، ولذلك يسعى لغلق الأبواب امامهم .

ومن هنا فكل عمل يقوم به يوضح الدليل عليه ، وحتى كتابه إلى أهل الكوفة وضح به الدليل على خروجه إليهم (1) الأرشاد ص 220 .

ونعلم جيداً ان الحكومة تسعى للوصول إلى أي عمل يؤدي إلى تشويه صورة الإمام مستفيدة بذلك من اجهزتها الأعلامية أكثر من قوتها العسكرية ، ولهذا اعتبرت كتاب الإمام هذا إلى أهل الكوفة مادة اعلامية مهمة وراحت توجهها لأغراضها الخبيثة .

سننقل هنا بعض عبارات الرسالة التي وجهها يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن عباس موضحاً فيها ماتم بين الإمام الحسين واهل الكوفة من مراسلات قائلاً :

( واما الحسين فقد أحببت الأعذار إليكم أهل البيت مما كان منه وقد بلغني ان رجالاً من شيعته من أهل العراق يكاتبونه ويمنونه الخلافة ويمنيهم الأمرة ، وقد تعلمون مابيني وبينكم من الوصلة وعظيم الحرمة ونتائج الأرحام ، وقد قطع ذلك الحسين وبته ، وأنت سيد أهل بلادك فألقه فأرده عن السعي في الفرقة ، ورد هذه الأمة عن الفتنة ) (2) تهذيب ابن عساكر ج 4 ص 330 وتذكرة السبط ص 238 .

فالحكومة التي أضطرت الإمام واخرجته من وطنه مكرهاً إلى مكة لم تكتف بكل تلك الأنتهاكات بل راحت توجه دعوة اهل الكوفة للإمام على انها دعوة فتنة وأختلاف وفرقة ...

ولو سلم الإمام دون قيد أو شرط ورضي بحكومة يزيد ، فأن الحملة الأعلامية ضده ستنتهي ، ولكنه رفض حكم يزيد اللاشرعي وحاول انهاض الأمة وتذكيرها بماضيها وبأمجادها ، فأعتبر ذلك التذكير فتنة وخروجاً على معالم النظام المؤسساتي الأموي الأرهابي القمعي ..

المرحلة الثانية

كان اهل الكوفة يترقبون قدوم الإمام الحسين وكان التعاطف الشعبي يزداد يوماً بعد يوم وأخذ اهل الكوفة بالتوافد على مسلم بن عقيل يسألونه عن المدة التي يجب ان يصل فيها الإمام إلى الكوفة .

والكوفة تقع على بعُد ألفين كيلوا متر شمال شرق مكة ، ولبعد المسافة وعدم وجود وسائل أرتباط سريعة ، فأن أخبار الكوفة لاتصل إلى الإمام بسرعة ولا يمكن لمسلم الحصول على أخبار مكة بسرعة كذلك ، ولو ذهب البريد بين مكة والكوفة على الترتيب ذهاباً وإياباً فانه سيصل إلى مكة من الكوفة ( ب 12يوماً) ومثلها إلى الكوفة ، ومعنى ذلك أنه يستغرق نقل الخبر وجوابه مدة تزيد على ( ال24 يوماً ) .

ولا ريب ان هذه المدة الزمنية في الحساب العملي مربكة للوضع القائم أذا ما عرفنا ان هناك مستجدات على الساحة السياسية برزت بشكل سلبي وأثرت نوعياً في مواصلة روح الثورة إلى مرحلة النصر ضمن الأعتبارات المعمول بها تقليداً وهذه الحالة تعتبر من المشاكل العويصة التي رافقت حركة الثورة . فاهل مكة كانوا يجهلون الوضع الجديد القائم في الكوفة ويجهلون خبرتولية عبيد الله حاكماً على الكوفة الذي سبب متاعب جذرية لحركة مسلم في الكوفة .

واهل الكوفة يجهلون المستجدات السياسية التي اتخذتها حكومة يزيد ازاء تحرك الإمام ولما لهذه المستجدات من تأثير مباشر في دوران مسيرة الثورة ، وأهل مكة كانوا يجهلون الخطاب الذي ألقاه عبيد بن زياد في المسجد الجامع في الكوفة (1) الكامل في التاريخ ج 4 ص 24 . وعلاقة ذلك من موقف مسلم بن عقيل من التحولات السياسية والعسكرية ، ومدى تأثيره على نفوس الناس . واهل الكوفة كانوا يجهلون مافعله حاكم الحجاز وامير الحج عمرو بن سعيد بن العاص والذي عينه يزيد في منصبه الجديد ومافعله ضد الإمام وحركته ووجوده وماهية العمل الذي خوّل بفعله من قبل يزيد في أيام الحج .

واهل مكة كانوا يجهلون ماقام به ابن زياد من خلال جاسوسه الخاص للأطلاع على مكان مسلم بن عقيل السري وتحركه وارتباطاته وخططه (2) الكامل في التاريخ ج 4 ص 27 .

وعلاقة ذلك بالخطر الذي سيخيم على تحرك مسلم وأجهاضه

وأهل الكوفة يجهلون ما قام به مرتزقة يزيد في مكة وبأمر منه تجاه الإمام وتحركه ونهضته . وأهل مكة كانوا يجهلون ما قام به ابن زياد بأعتقال هاني بن عروة المرادي بحجة استقباله لمبعوث الإمام مسلم بن عقيل ومساعدته في تحركه ، وقد عُذب هاني في الأعتقال وضُرب على وجهه وشق حاجبه (3) الكامل في التاريخ ج 4 ص 29 . وما قام به مسلم تجاه هذا الموقف الخطير والذي يُنبئ بعوقب وخيمة على الساحة الإسلامية . واهل الكوفة كانوا يجهلون ما قام به عمروبن سعيد الأشدق حاكم الحجاز وبأمر من يزيد بتدبير خطة لأغتيال الإمام وقتله وأعتقاله ، لذا فقد أضطر الإمام كما يقول المؤرخون للخروج من مكة في نفس اليوم الذي فيه شرع الناس لتأدية مناسك الحج (4) تاريخ اليعقوبي ج2 ص 235 واهل مكة كانوا يجهلون ما قام به مسلم بن عقيل بعد اعتقال هاني بن عروة ومحاصرته لقصر الأمارة وبعد المحاصرة بيومين قتل مسلم وهاني (5) الكامل في التاريخ ج 4 ص 35 . وفي نفس هذا اليوم خرج الإمام الحسين من مكة إلى الكوفة . واهل الكوفة كانوا يجهلون ما قام به حاكم الحجاز بمطاردة قافلة الإمام لمنعه من الخروج من مكة وهو اليوم الذي حاصر فيه مسلم بن عقيل قصر ابن زياد (6) الأخبار الطوال ص 221 . ويظهر ومن نتيجة هذه الحوادث ان هناك وبالتحديد من أوائل ذي الحجة جرت في الكوفة احداث ، ومثلها في مكة بحيث لم يتسن لأهل الكوفة معرفة ما يجري على الساحة المكية والعكس صحيح (7) الأرشاد ص 230 واللهوف ص 52 . ( وقد جاء في اللهوف تأكيداً لهذا المعنى قوله : وكان قد توجه الحسين من مكة .. قبل ان يعلم بقتل مسلم

ولاشك انه لو كان هناك علم بما يجري على الساحتين من احداث لكان للنهضة شكل أخر . نعم الحادث الذي هز اركان مكة واصلها هو خروج الإمام الحسين من مكة المعظمة (1) الأرشاد ص 210 .

كما ان الإمام الحسين ترك أخاه محمد بن الحنفية ليخبره عما يجري من تحولات وأحداث سياسية (2) مقتل الخوارزمي ج 1 ص 188 . وايضاً ليكون في مكة مراقباً لنوايا الحكومة وتوجهاتها .. وبعد مضي ايام من شهر ذي الحجة احس الإمام بخطر جديد وجدي يواجهه من قبل الحكومة ، وقد اصبح جدياً اكثر من ذي قبل(يوم 8 ذي الحجة ) ، لأن حاكم الحجاز قد دخل مكة في ( 8 ذي الحجة) بقواته (3) الأمامة والسياسة ج 2 ص 3 . وكان ذلك وضعاً خطيراً ربما يؤدي إلى أغتياله (4) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 335 . أو أعتقاله (5) الأرشاد ص 210 أو الحرب معه (6) اللهوف ص 55 .

وهذا الخطر بالنسبة للإمام جدياً ومحسوساً ، فحكومة يزيد ما عادت تطيق الإمام وتتقبل وجوده في مكة ، لذلك فقد قرروا القضاء عليه ، ولهذا كان يجب على الإمام ان يخرج منها مهاجراً إلى الكوفة

لقد تحرك الإمام الحسين بمن معه من مكة بعد توقف فيها دام أربعة أشهر وخمسة أيام وقد خرج منها بجهة الشمال الشرقي لطريق الكوفة . وأنضم إليه بمكة نفر من أهل الحجاز ونفر من أهل البصرة (7) الأرشاد ص 218 .

وهذا ما جعل ركبه كبيراً وقد سار مسرع الخطى نحو العراق . لأنه يريد الوصول إلى الكوفة عاجلاً ، اذ ان بقاءه بمكة سيكون له اخطار جسيمة محتملة ، ولهذا فيجب ان يبتعد عن منطقة الخطر وان يصل إلى الكوفة ليشكل فيها الحكومة الإسلامية العادلة المستقلة ، والتي هي محط أنظار وآمال الجماهير المتطلعة إلى العدل والحرية .

ربما يتبادر إلى ذهن المؤرخ سؤال يقول ؛ لماذا اختار الإمام الحسين الكوفة مكاناً لتشكيل الحكومة في حين اراد له اخرين من امثال ابن عباس ان يهاجر إلى اليمن أو إلى مناطق جنوب مكة فأنها اكثر تناسباً ؟

اذ ان ابن عباس لما علم بأن الإمام الحسين عازم على الرحيل إلى الكوفة جاء إليه وقال : ( يابن عم لاتقرب اهل الكوفة .. فأن ابيت فسر إلى ارض اليمن ، فأن بها حصوناً وشعاباً ، وهي ارض طويلة عريضة ، ولأبيك فيها شيعة ، فتكون من الناس في عزلة ، وتبث دعاتك في الأفاق .. (8) الأخبار الطوال ص 244 .

ولابد من التأكيد هنا بالقول ، أن الكوفة أفضل من اليمن بوجوه منها

1 – ان اهل الكوفة كانوا قد دعوا الإمام رسمياً وأبدوا استعدادهم لنصرته ، ولاشك ان المدينة التي يدعوا اهلها احداً للوقوف معه أفضل من مدينة غير مستعدة لذلك من الناحية الأبتدائية .

2 – قلنا فيما سبق ان مسلم بن عقيل كان قد ارسل كتاباً للإمام الحسين يتضمن اقراراً صريحاً وصحيحاً عن الوضع العام في الكوفة ، ورأي المجتمع فيها منصب لحماية الإمام والدفاع عنه ، وهذا الأمر لم يتوفر كحاجة أولى عند اهل اليمن اذ لامكاتبة ولا رسول ولامرسل ,,, ووضع بهذه الصورة المجهولة الغائمة لايمكن الأطمئنان إليه في العمل السياسي .

3 – ان اهل الكوفة وعبر كتاباتهم العديدة اثبتوا ولاءهم المطلق للإمام الحسين حيث راسله منهم اكثر من ثمانية عشر ألفاً ، وهذا المعنى في عدديته له ترتيب أخر يُضيف نتيجة وهي ؛ ان اهل الكوفة هم اصحاب دعوة للولاء والبيعة ، وهذا لم يتوفر من الناحية المبدئية من اهل اليمن .

اضافة إلى أن التجمع المركزي لأنصار الإمام في الكوفة لا في اليمن ، لهذه الأعتبارات نعرف بالضبط لماذا اختار الإمام الكوفة لتشكيل حكومتة ؟ وهذا ما يثبت اهميتها وافضليتها في تحقيق الأهداف التي يطمح في الوصول إليها

سارت قافلة الركب الحسيني نحو الكوفة تحث الخطى قاطعة تلك الصحاري الشاسعة والأراضي الواسعة بكل أعبائها واثقالها ، وبما تضم من ضعاف وأطفال ونساء . وكان وضع الكوفة وأحوالها وأشراطها الشئ الذي يفكر به الإمام ، فالإمام كان قد بعث قيس بن مسهر الصيداوي رسولاً عنه لأهل الكوفة وكتب إليهم معه يقول : ( .. فأذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في امركم وجدوا فأني قادم عليكم في أيامي هذه والسلام ) (1) الأرشاد ص 220 . وكان هذا الرسول جزءأ من مهام يقوم فيها الإمام رداً لأسئلة كانت تشغل ذهنه المبارك عن الكوفة وأوضاعها واخبارها ، وكان الإمام الحسين شديد الشوق لسماع أخبار الكوفة حتى لو كان عبر رجال المارة وحاملي الأمتعة

ولما قاربت قافلته منزل (زرود) رأى رجلاً قادماً من جهة الكوفة ، فتوقف لكي يسأله عن اخبار الكوفة ، ولكن ذلك القادم أتجه بعيداً عن الإمام فتركه ولم يسأله . وكان يجري خلف قافلة الإمام ، وقد سأل الرجل فأخبرهم أنه من بني أسد ، وأنه قادم من الكوفة وان لديه خبر عن الكوفة ـ قال له : وماهو ذلك الخبر ؟ قال : نعم ، لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة ، ورأيتهما يجران بأرجلهما في السوق ...

فأقبلنا حتى لحقنا الحسين فسايرناه حتى نزل ( الثعلبية ) ممسياً فجئناه حين نزل فسلمنا عليه فرد علينا السلام ، فقلنا له : رحمك الله ان عندنا خبراً إن شئت حدثناك علانية ، وأن شئت سراً ، فنظر إلينا وإلى أصحابه ، ثم قال : مادون هؤلاء ستر ، فقلنا : له أرأيت الراكب الذي أستقبلته عشي أمس ؛ قال نعم ، وقد أردت مساءلته ، فقلنا : قد والله أستبرأنا لك خبره وكفيناك سؤاله ، وهو امرؤ منا ذو رأي وصدق وعقل ؛ وأنه حدثنا انه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم وهاني ، ورآهما يجران في السوق بأرجلهما (1) الأرشاد ص 222 . وكان لهذا الخبر وقعه الشديد عند الإمام الحسين وعند أبناء واخوة مسلم وأخذ الإمام يردد : ( أنا لله وأنا إليه راجعون ) يكررها مرات عديدة

ولاندري مادار بين الإمام واهل بيته لكن الخبر كان شديداً عليهم وظل يؤرقهم طوال سفرتهم تلك . ولايدري الإمام ماذا حل برسوله الذي بعثه من وسط الطريق إلى الكوفة ؟

ان خبر استشهاد مسلم وهاني أدى إلى أنقلاب عجيب في فكر الإمام الحسين وأصحابه ، لأنه أنما تحرك إلى الكوفة بناء على الكتاب الذي بعثه مسلم إليه ، وقد قتل مسلم بن عقيل ، فهل يمكن ان يكون له أملاً بالكوفة بعد ؟ وهل انه في الحالة هذه لو ذهب إلى الكوفة سيلاقي كما لاقى مسلم ام أن شخصيته العظيمة سيكون لها تأثيراً مباشراً على الناس مما يجعلهم يقفون إلى جانبه ويساعدونه ؟ وهل ان أوضاع الكوفة تغيرت وتبدلت بالكامل بعد تسلط ابن زياد على الحكم فيها ؟ وأذا كان ليس من الصالح الذهاب نحو الكوفة فهل الرجوع إلى مكة أو المدينة سيكون أسهل ؟

ولو رجع الإمام إلى الحجاز فهل سيكون في مأمن من تجاوزات الحكومة ؟ وهل سيكون مصوناً من أعتداءات حاكم المدينة ؟ ومن الواضح ان حكومة يزيد كانت قد سلبت من الإمام الأمن في مكة والمدينة ولهذا قد خرج من المدينة ليلاً سراً مكرها ً مضطراً مجبراً ، وكذلك الحال حينما عجل بالخروج من مكة اذ خرج منها خائفاً من ملاحقة حاكم الحجاز وجنوده . ومع هذا فقد لحقته سرايا من جند الحاكم المكي . أنه وضع غير طبيعي ، وانها مسألة تحتاج إلى أعادة نظر وتأمل ! ان الموازين قد تغيرت تماماً ! ماذا يجب عليه ان يفعل ؟ وماهو الحل الصحيح للمشكلة ؟ ولابد للإمام ان يفعل شيئاً ازاء هذا التطور الخطير ، وهو بحكم الضرورة بحاجة إلى تشاور حول مسألة الذهاب إلى الكوفة أو الرجوع إلى مكة أو المدينة (2) الأرشاد ص 224 ومقتل الخوارزمي ج 1 ص 229 . ولهذا شكل الإمام مع أصحابه جلسة مشاورة حول ما يمكن أتخاذه حول الوضع السياسي الراهن ، ولابد من موقف حاسم في أهم وأعقد مسألة سياسية وعسكرية ، ولابد من رأي قاطع حولها . وكان الحال واقع بين اتجاهين ، أما التقدم والذهاب نحو الكوفة أو العودة من حيث جاؤوا ، ولقد كان لأخوة مسلم بن عقيل الخمسة دور فاعل ومؤثر في تلك الجلسة وقالوا للإمام ( قد جاءك من الكتب ما نثق به ) (3) الأمامة والسياسة ج 2 ص 6 . وكان رأي أخوة مسلم بالذهاب إلى الكوفة وذلك لوجود قوى مؤيدة فيها ، ولهذا قالوا : والله لانرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ماذاقو (4) الأرشاد ص 222 . وربما كان اخوة مسلم يرون الرجوع إلى المدينة أو مكة خطراً حتمياً من الحكومة عليهم ، وأما الذهاب إلى الكوفة ففيه دوافع وشرائط توحي بالنصر ، وفي هذه الحالة فالعمل العقلاني الواجب ترجيحه هو الذهاب نحو الكوفة

وقد أيد هذا الأتجاه بعض أصحابه الذين قالوا له : ما أنت مثل مسلم بن عقيل ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع (1) الأرشاد ص 222 ومقتل ج 1 ص 229 . هذا كان رأى أخوة مسلم بن عقيل ورأي بعض اصحابه ، ومن الواضح انه كان رأياً مقبولاً من الإمام لأن القوى التي دعت الإمام لازالت في الكوفة وأنها بمقتل مسلم أصبحت بلا قائد ، ولو دخل الإمام إلى الكوفة حراً فأن هذه القوى ستلتحق به وسيقف معه أهل البصرة الذين دعاهم الإمام من قبل (2) اللهوف ص 32 ــ 37 . مع اهل الكوفة ، وعندما سيكون الأمل بالنصر كبيراً ، لأنه بقتل أحد قادة جيش الإمام لا يعني نهاية ذلك الجيش .

لأن القائد الحقيقي لكل أهل العراق هو الإمام الحسين ومع دخوله الكوفة فأنه سيجد جيشاً مستعداً وجاهزاً ، وعندها لايستطيع ابن زياد ان يقضي على جيش الإمام . لقد كان رأي اخوة مسلم وبعض اصحاب الإمام مورداً لقبوله بل ربما كان أفضل رأي

اذا مالاحظنا المقدمات الأولى التي ذكرناها من أنه قد سلبت أمنيته في مكة والمدينة ، ولايوجد لديه مأوى فيها ، والرجوع إليها يعني الحركة في ظل مستقبل مبهم ، واما الذهاب إلى الكوفة فالأمل بالنصر فيه موجود ، اذن فأن اصح الأراء كان رأي أخوة مسلم وبعض اصحابه ولذلك امضاه الإمام وقرره ، وبذلك تكون الشورى قد اتخذت رأياً قاطعاً حول مسألة الذهاب إلى الكوفة وأنها لابد منها ، عند ذلك أمر الحسين قافلته بأدامة المسير نحو الكوفة

ملاحظة

قد يسأل البعض انه ؛ كيف يمكن للإمام الحسين ان يأمل بالنصر بعد استشهاد مسلم بن عقيل ؟ ولابد من التنبيه ان رجال ذلك الزمان اكثر منا دقة في تشخيص امكان أو عدم أمكانية النصر وأدراكها حسب ظروفها وأحوالها . فأخوة مسلم كانوا على علم بالمجريات والأحداث السياسية ولذلك قالوا بشكل صريح : والله لانرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ماذاقو (3) الأرشاد ص 222 . وبناء عليه فلايمكن لرجال يعيشون في هذا الزمن ان يقولوا : انه بعد استشهاد مسلم بن عقيل فقدت امكانية النصر للإمام الحسين . ولايمكنهم القول : نحن ندرك وضع الكوفة وأحوالها وظروفها في ذلك الزمن أفضل من معرفة وأدراك أخوة مسلم لها . وماقاله الأصحاب : ما أنت مثل مسلم بن عقيل ولو قدمت الكوفة الناس إليك أسرع ، وهذا تأكيد منهم على ان امكانية النصر كانت قائمة ولهذا قالوا ذلك ، اذن فبناء على قول اخوة مسلم واصحاب الإمام بأمكانية النصر وأحتمالاته فلا يبقى لقول القائل أي دليل على عدم امكانية النصر .

لقد سارت القافلة نحو الكوفة بعد قرار الشورى بذلك وتحركت صبيحة اليوم التالي لقرار الشورى من منطقة ( الثعلبية ) وهي تسيربخطى ثابتة قاطعة المسافة الصحراوية بينها وبين منطقة ( الزبالة ) وفي منطقة الزبالة جاء من الكوفة مبعوث يحمل رسالة إلى الإمام الحسين من مسلم بن عقيل والمبعوث هذا هو رسول محمد بن الأشعث وعمر بن سعد ، لأن مسلم لما وقع أسيراً بيد مرتزقة الحكومة طلب من عمر بن سعد ومحمد بن الأشعث الذي شارك في الهجوم عليه ، والذي أعطاه الوعود والعهود من اجل تسليم نفسه ، على ان يذهب إلى الإمام الحسين ويطلعه على مجريات الأمور في الكوفة وحقيقتها وقد تم ذلك الطلب بمجلس عبيد الله بن زياد اذ قال مسلم بن عقيل لعمر بن سعد :

( ... وابعث إلى الحسين من يرده فأني قد كتبت إليه أعلمه ان الناس معه ولا اراه إلا مقبلاً ... ) (1) الأرشاد ص 215 والأخبار الطوال ص 223

وقد ابلغ هذا المبعوث الإمام الحسين بما جرى لمسلم بن عقيل وسلمه رسالة فيها خبر استشهاد قيس بن مسهر الصيداوي (2) الأخبار الطوال ص 248 . أدرك الإمام صحة ما جاء لديه من أخبار في منطقة ( الثعلبية) عن قتل مسلم وهاني والأن قد سمع خبر مقتل رسوله الخاص قيس بن مسهر الصيداوي ثم كتب الإمام كتاباً جاء فيه

( بسم الله الرحمن الرحيم ؛ أما بعد ، فأنه قد أتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر ...فمن أحب منكم الأنصراف فلينصرف ليس عليه منا ذمام ) (3) تاريخ الطبري ج 4 ص 300 والأرشاد ص 224 .

وقد فعل الإمام ذلك لأنه ظن انما اتبعه الأعراب طمعاً في المال والراحة ، والإمام انما يسير إلى بلد لم تستقم فيه الطاعة إليه ، ولذلك تفرق عنه الأعراب يميناً وشمالاً حتى بقي في اصحابه الذين جاؤوا معه (4) تاريخ الطبري ج 4 ص 301 والأرشاد 224 والأخبار الطوال ص 224 .

للمرة الثالثة يسمع الإمام الحسين بخبر استشهاد مسلم بن عقيل ، وفي هذه المرة اضيف إليه خبر استشهاد مبعوثه الخاص ، مما ولدّ لديه انفعالات كبيرة أثرت أثرها على مجرى تحرك الإمام الحسين إلى الكوفة وأعادت في نفسه تلك الأسئلة المبهمة والباحثة عن جواب ، تلك القافلة التي أصبحت أخف مما كانت عليه بعد ان تفرق عنها الأعراب ،

وقد طلب الأمام الحسين من أصحابه التزود بالماء من منزل ( زبالة ) وسار حتى وصل إلى منطقة (بطن العقبة ) وقد أخذ هو ومن معه وقتاً من الراحة فيها طبقاً للمعمول .

ثم سارت القافلة متجهة نحو الكوفة حتماً وصلت ليلاً إلى منزل ( شراف) للإستراحة فيه ... ثم في السحر أمر الإمام ان تتزود القافلة بالماء ، وفي الصباح تحركت القافلة مخلفةً وراءها منزل (شراف) ومتخذة الشمال الشرقي نحو الكوفة ، وساروا حتى قريب الظهر . وفي هذه الأثناء رأى اصحاب الإمام من بعيد مواقع كأنها الشجر ، فظن ان ذلك نخيل العراق ، وانهم قد وصلوا إلى مقصدهم ثم كبر

( الله أكبر ) ، ولكن في الحقيقة لم يكن الذي رأه نخل العراق بل كانت رايات وأعلام الجيش بقيادة الحر بن يزيد الرياحي

وقد وصلت قافلة الإمام الحسين إلى منطقة ( ذو حسم ) التي أتخذها الإمام كموضع لحط الرحال عن النساء والأطفال . وكانت تلك المنطقة في الجهة اليسرى من الطريق .

وكان جيش الحر يقدر بألف فارس ، واتخذ هذا الجيش محلاً مقابلاً لقافلة الإمام الحسين ، وقد أمر الإمام أصحابه ان تورد خيول ورجال هذا العسكر جميعاً بالماء ، والماء يعتبر أثمن وأغلى شئ يقدم في تلك الصحراء القاحلة . ثم بعد ان حل وقت الظهر اذن مؤذن الإمام اشعاراً لصلاة الظهر ، وبعد ان انتهى المؤذن من أدائه توجه الإمام بنفسه إلى العسكر وخطبهم بكلام قال فيه :

( .. أيها الناس أني لم أتكم حتى أتتني كتبكم وقدمت علىَّ رسلكم ان اقدم علينا فأنه ، ليس لنا إمام لعل الله أن يجمعنا ، واياكم على الهدى والحق ، فأن كنتم على ذلك فقد جئتكم فأعطوني ماأطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم ، وان لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين أنصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم ) (1) الأرشاد ص 224 .

فسكت الحر بن يزيد ولم يتكلم بكلمة واحدة ، فقال الإمام الحسين للمؤذن أقم الصلاة فلما أقامها أقتدى الحر وجماعته بالإمام .

ثم ان الإمام الحسين رجع إلى مكانه بعد تمام الصلاة وهكذا فعل الحر واصحابه الذين عادوا إلى مراكزهم واستعدوا وتهيأ كلٌ بجانبه ، ولما حل وقت صلاة العصر أمر الإمام مؤذنه ليؤذن بالناس لصلاة العصر وأقامها وتقدم الإمام فصلى بهم صلاة العصر ، ثم أنصرف إليهم بوجهه الكريم فحمد الله وأثنى عليه وقال :

( ايها الناس فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى الله عنكم ونحن أهل بيت محمد أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم والسايرين فيكم بالجور والعدوان ، فأن أبيتم إلا الكراهة لنا والجهل بحقنا وكان رأيكم الان غير ما اتتني به كتبكم ، وقدمت عليَّ رسلكم أنصرفت عنكم ) (2) الأرشاد ص 224 ـ 225 .

فقال له الحر

( أنا والله ما أدري ماهذه الكتب والرسل التي تذكر ) فقال الحسين لبعض أصحابه يا عقبة بن سمعان أخرج الخرجين الذين فيهما كتبهم إليَّ فأخرج خرجين مملؤين صحفاً فنشرت بين يديه ، فقال له الحر :

( أنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك وقد أمرنا أذا نحن لقيناك إلا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد ) (3) الأرشاد 225 والأخبار الطوال ص 224 .

وهذا الكلام يبين مدى ألم الإمام وأصحابه من ملاقاتهم بالحر بن يزيد الرياحي ، وكم هي صعبة ومُرة تلك الحادثة على أهل البيت ! فالحر قدم بألف فارس مستقبل الإمام ويقول له :

أمُرنا أذا نحن لقيناك ألا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد فكم كان هذا القول ثقيلاً على الإمام الحسين ؟ !

لقد أصبح العراق بإمكاناته الكبير تحت سلطة هذا الحاكم المغرور أعني إبن زياد ، وقد فوضت له صلاحيات واسعة في حكمه وعلى مساحة كبيرة شملت سواحل الخليج العربي حتى الري وجرجان وهمدان ، وقد اتبع في سياستة السلطوية نظام الحكم الفردي الديكتاتوري والذي هو نسخة طبق الأصل من حكومة الشام ، والتي تقوم أساساً على مصادرة الحريات وإلغاء جميع الحقوق الإنسانية والدستورية ، ومنطقه في القضاء يقوم على أساس تنفيذ إرادة ابن زياد وإبن معاوية .

ودليلنا على هذا المنطق الرجعي المتخلف ، هو كثرة السجون التي تمتلئ بالأحرار والثائرين وذوي العقول الكبيرة ، وقد قتل ابن زياد رسول الحسين إلى البصرة (1) تاريخ الطبري ج 4 ص 266 . وقتله لرسول الحسين إلى أهل الكوفة [ قيس بن مسهر الصيداوي ] (2) الأرشاد ص 220 . وقتله لمسلم بن عقيل في الكوفة ، وقتله لهاني بن عروة المرادي زعيم مراد (3) الأرشاد ص 218 . ومصادرته لحريات أهل الكوفة (4) الأرشاد ص 193 . ومصادرته للأمن السكاني والقضائي . وقتله لكثير من زعماء الكوفة بسبب رفضهم لحكومة يزيد (5) نفس المهموم ص 49 . وتوزيع بيت مال المسلمين على زعماء الكوفة وأشرافها كهدايا وأعطيات (6) تاريخ الطبري ج 4 ص 306 . وقد استطاع ابن زياد من خلال هذا الأسلوب الأرهابي السيطرة على الوضع في الكوفة ، وان الناس الذين كانوا ينتظرون قدوم الإمام وعاشوا ينتظرون أياما لتحقيق أمانيهم في الحكم العادل القانوني ، وإذا بهم يفاجؤون على غير رغبتهم (7) أبو الشهداء ص 93 . بزيادة الأرهاب كماً ونوعاً والظلم وحالات الأعتقال الكيفي ، وأنه قد أغلق بوجههم جميع الطرق ، وإن الحصين بن نمير ( أو تميم ) رئيس الشرطة في الكوفة قام بمراقبة الحدود من القادسية وحتى الكوفة لمسافة خمسة عشر فرسخ (8) الحسين في طريقه إلى الشهادة ص 49 . والحر بن يزيد الرياحي يراقب الحدود من القادسية إلى الحجاز ليقوم بتنفيذ أمر أبن زياد في الإمام الحسين . وهذا ما أكده الحر في كلامه مع الإمام حيث قال : أمرنا أن لانفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد .

وهنا يكون برنامج الإمام قد تغير مرحلياً اذ دخل في المرحلة الثالثة ..

المرحلة الثالثة

لقد نظم الإمام الحسين برنامجه بمقتضى مصلحة العصر والزمان وكان يعمل جاهداً في هذه المرحلة ، على ان لا يدخل الكوفة ، ولهذا أتخذت خطوات الإمام شكلاً دفاعياً خالصاً وقد زالت من ذهنه تماماً فكرة تأسيس الحكومة .

نعم برنامج المرحلة الثالثة على عكس برنامج المرحلة الثانية ، لأن الإمام في المرحلة الثانية كان يعمل للدخول إلى الكوفة بسرعة ، ولكنه يعمل الأن في هذه المرحلة بكل ما لديه بحيث لا يدخل إلى الكوفة ، وهذا القرار أتخذه الإمام بعد أن ألقى خطبته على مسامع العدو وبعد جولة من المحادثات مع قائد الجيش .

وهذا البرنامج طرحه الإمام للعمل بعد صلاة العصر فلما يئس من إستجابة الحر وجنوده لمطالب الإمام العادلة . وهنا تكون ثورة الإمام زمنياً قد دخلت بالمرحلة الثالثة ... بعد المحادثات التي جرت بعد صلاة العصر بين الإمام الحسين والحر بن يزيد الرياحي ؛ وإصرار الحر على مقالته : أمُرنا اذا نحن لقيناك آلا نفارقك حتى نقدمك على عبيد الله بم زياد ، فقال له الإمام : الموت أدنى إليك من ذلك ، ثم قال لإصحابه : قوموا فاركبوا ، فركبوا وانتظروا حتى ركبت النساء ، ثم قال الحسين لأصحابه : أنصرفوا فلما ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الأنصراف ... ثم قال الحر فإذا أبيت فخذ طريقاً لا تدخلك الكوفة ولا تردك إلى المدينة لتكون بيني وبينك نصفاً (1) تاريخ الطبري ج 4 ص 303 ــ 304 والأرشاد ص 225 .

فكان فحوى تفكير الإمام في ذلك الوقت العمل على عدم الدخول إلى الكوفة ، ثم يرى فيما إذا كان يستطيع في المستقبل العودة إلى مكة او إلى المدينة أو أي مكان آخر .

وهذا الأمر من الإمام كان جدياً ليدرك الحر مغزاه وإنه بكامل قواه العسكرية لا يريد الحرب ولا يحب خوضها . ولا بد له ان يترك الإمام يعود من حيث أتى وأراد ، وحتى ذلك الوقت لم تصل بعد قافلة الإمام إلى القادسية في حدود العراق (2) تاريخ الطبري ج4 ص 292 و 302 . يعني لازال إلى الأن لم يدخل في حوزة أبن زياد ، ومادامه لم يدخل في حوزة أبن زياد فليس لأبن زياد الحق بمتابعة الإمام ومتابعة قافلته ، وفي الحالة تلك لا يستطيع حتى يزيد أبن معاوية مطالبته بذلك أو إنكاره عليه أو يقول له : لماذا لم تتابع الإمام الحسين ؟

وحتى أبن زياد قال : لما جئ بمسلم بن عقيل عنده

( وأما الحسين فإن هو لم يردنا لم نرده ) (3) الأرشاد ص 217 . ولكننا لا ندري سبب إصرار الحر وعدم سماحه إلى الإمام بالعودة ؛ وهل كان الحر مأموراً بجلب الإمام حتى لو كان خارج حدود العراق من الكوفة ؟ وهل كان لدى الحر أمر بمنع الإمام من الرجوع حتى لو لم يرد الكوفة ؟ كل هذا لانعلمه ، ولكننا نعلم فقط إن الحر بن يزيد الرياحي لو ترك الإمام حراً في عودته فإن أبن زياد لايبعث بمن يتابعه .

ولو أصغى الحر إلى هذا المعنى وترك الإمام يرجع حيث يشاء ، لما كان ما كان ، وهل ان الحر بن يزيد الرياحي لم يكن لديه علم بمقولة ابن زياد : ( واما الحسين فإن لم يردنا لم نرده ) ؟ (4) الأرشاد ص 217

لاشك إن كثيراً من القضايا والمشاكل التي تحدث تأتي من عدم تفكير المأمورين وعدم تدبيرهم ، ولو تأملوا عواقب لعالجوا كل مشكلة بوعي وبدقة وبصبر وبرودة أعصاب ومتانة وكياسة ، إنهم دائماً يفضلون الحلول العسكرية على الحل العقلي والتأملي الفكري ، ومن هنا تأتي الخسائر الفادحة ، ولعل هذا الأمر يتكرر في التعامل بين الأمم والدول مما يعرض العالم إلى اخطار كبيرة ، فالحر في تعامله مع هذه القضية لم يستخدم العقل ولم يستفد من الفكر ، بل استفاد من القوة العسكرية وهذا الخطأ الكبير الذي أرتكبه هذا القائد العسكري ، جاء وأعترف به يوم عاشوراء حين قال : ( انا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق ، وأنا تائب إلى الله فهل ترى لىَّ من ذلك توبة ) (1) الأرشاد ص 135 .

لأن الحر كان قد أمر جنوده بمنع الحسين من الرجوع إلى الحجاز ، وقد ضاقت الأرض بما رحبت بأبن رسول الله فماذا يجب أن يفعل ؟ فالإمام ليس بالرجل الذي يستسلم للعدو ، ولا الحر يسعى لحل المشكلة التي دفع الإمام إليها ولم يسمح له بالرجوع بحرية ، فقافلة الإمام بما تضم من أطفال ونساء بقيت في ظل رحمة الشمس الحارقة هذا من جهة ومن جهة آخرى أصرار وعناد الجيش بعدم السماح للإمام الحسين بالرجوع ، ولم يرض عن عمل الحر بن يزيد الرياحي أذ قال له : ثكلتك امك ماذا تريد ؟ قال له الحر : أريد أن أنطلق بك إلى الأمير عبيد الله قال له الحسين : إذاً والله لا أتبعك . قال الحر : أذاً والله لا أدعك

فتكرر القول ثلاث مرات ، فلما كثر الكلام بينهما قال له الحر : أني أمرت أن لا أفارقك ..فأذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا تردك إلى المدينة تكون بيني وبينك نصفاً (2) الأرشاد ص 225 .

فالحر بن يزيد لم يعرف تكليفه بالضبط فهو لم يكن مأمور بالقتال ، وهو أيضاً لم يكن من طلاب الحرب ، ومن جهة أخرى فالإمام لايستسلم ولم يكن للحر فكر تدبيري متعقل يكون فيه الإمام حر في العودة إلى الحجاز . وهذا مالم يكن بذهن القائد العسكري ربما لأن الظروف لم تكن طبيعية ، ولم تساعده في إتخاذ الموقف الصحيح ، وربما خاف من أبن زياد من مصادرة حقوقه وسلطته . وقد أقترح الحر على الإمام قائلاً :

( خذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يردك إلى المدينة لتكون بيني وبينك نصفاً حتى أكتب إلى ابن زياد ، وتكتب أنت إلى يزيد ابن معاوية أن أردت أن تكتب إليه أو إلى عبيد الله بن زياد أن شئت فلعل الله إلى ذاك أن يأتي بأمر ويرزقني فيه العافية من أن أبتلي بشئ من أمرك ) (3) تاريخ الطبري ص 304 .

وإننا لايمكن أن نعتبر أن الحر في أقتراحه هذا كان يراعي مصلحة الإمام فيه ولكنه في الأغلب الأعم كان يراعي مصلحته الخاصة وحتى لاتقع عليه آية مسؤولية ، وهذا الأجراء من الحر يمكن حسابه كتدبير مقيد بالوقت حتى يتسنى له إيصال رسالته إلى ابن زياد ومعرفة جوابه وما يمكن ان يصدره من أجراء في هذا المقام . ولاشك ان هذا الأجراء الذي فعله الحر كان تدبيراً صعباً ومشكلاً على الإمام . وأن كان هذا الأجراء لايدخل الإمام إلى الكوفة ، ولكنه يدخل الإمام في حوزة عبيد الله بن زياد ويجعله قريباً من منطقة الخطر ، ولكن هل يستطيع الإمام رفض هذا الأقتراح ؛ فإن لم يقبل هذا المقترح فإنه حتما سيدخل بالحرب مع الحر ، لأن الحر سوف لن يسمح للإمام بالعودة إلى الحجاز ولأن الإمام لا يسلم للحر بذلك وفي هذه الحالة تقع الحرب .

ولو وقعت الحرب فلن يكون لها دور إيجابي على الإسلام ولذلك أصبح الإمام أمام طريقين ، أما القبول بالأقتراح أو رفضه والرفض يعني الدخول بالحرب وهذا مالا يريده الإمام .

وأذا ما أعتبرنا قبول هذا الأقتراح صعباً ومشكلاً من قبل الإمام فأنه دون شك أخف وطأة من الدخول في الحرب ولأنه مع ذلك أقرب إلى هدفه . فهدف الإمام في الوقت الحاظر هو الدفاع أمام أعتداءات وتجاوزات الحكومة والحرص على عدم الدخول بالحرب ، وبرنامجه يقوم على العمل من أجل عدم الدخول إلى الكوفة وأقتراح الحر في الشروط الآنية المستقبلية له نقطتين

1- عدم دخول الإمام إلى الكوفة .

2 – عدم الدخول بالحرب .

ومع ملاحظة الظروف والأحوال القائمة ، فأن قبول أقتراح الحر من الإمام أفضل من عدم قبوله . لأن رفض الأقتراح سيؤدي حتماً إلى الحرب . ومن هنا فقد قبل الإمام ما قاله الحر مضطراً مجبراً . وهو أن : ( يأخذ طريقاً لا يدخله الكوفة ولا يرده إلى المدينة ) (1) تاريخ الطبري ج 4 ص 304 والأرشاد ص 225 . وقبول الإمام ذلك المقترح يمكن أعتباره هدنة مؤقتة بين الطرفين . بناء على الأتفاق الذي تم بين الطرفين ، فأنه تم تغيير مسير حركة الإمام وصار هدفه هو المقاومة ضد التجاوزات والأعتداءات والأبتعاد عن دائرة الحرب مع رعاية شروط الزمان وظروفه ، فقال الحر بن يزيد الرياحي

( ... فخذ هاهنا فتياسر عن طريق العذيب والقادسية ..) (2) الأرشاد ص 225 .

وهذا الطريق لا يعلم بالضبط إلى أين ينتهي ! أو بتعبير أصح إلى أين يتجه ؟ لقد كان سيراً فاقداً لهدفه وكان يوحي لأثبات بعض الطلاسم المبهمة والتي تمتد مع كل شبر من هذا الطريق الذي لا يُعلم نهايته ، لأنهم لا يدرون إلى أين يساقون ؟ فكل الأطراف المحيطة وجوانب العمل جميعاً وعلى أفق شعاع النظر العادي توحي بالحيرة والأبهام والغموض ، بل لعل لسان حال اكثر الأنصار يطرح هذه الأسئلة ؛ إلى اين نذهب ؟ وماهذه المرحلة وما سرها ؟ وفي أي أرض سنحط ؟ وماهو برنامج عملنا المستقبلي ؟

وماذا سيكون نوع عملنا المستقبلي ؟ متى سنظل نسير ؟ ومن أجل الأجابة على هذه الأسئلة لا نستطيع أن نقول أكثر مما قاله الإمام ( لا ندري على ما تتصرف بنا وبهم الأمور ) (3) تاريخ الطبري ج 4 ص 307

النقطة الوحيدة الواضحة هنا هي ؛ أنه في الوقت الراهن فأن الإمام يقوم بتنفيذ برنامج المرحلة الثالثة من ثورته يعني المقاومة والدفاع ضد تجاوزات واعتداءات العدو . ولو قبل الحر بأقتراح الإمام الداعي إلى العودة إلى الحجاز لكانت المرحلة الثالثة تتم في طريقه إلى الحجاز . أي خارج نفوذ عبيد الله بن زياد وحدوده . ولكن الآن وقد حال الحر بن يزيد من عودة الإمام وأضطره أن يختار طريقاً أخر . فأنه ليس للإمام عمل سوى المقاومة . والإمام في مباحثاته مع الحر طلب منه ان يحتفظ بذلك الحق وهو ؛ عدم الذهاب إلى الكوفة . وظل الركب سائراً ينتظر قدوم خبر من حاكم الكوفة وهذا ما يجعل الأمور أكثر تعقيداً وخطورة .. نعم لقد استمرت القافلة بالسير يحيطها الجيش ، حتى وصلت إلى منطقة

( عذيب الهجانات ) وفيها جاء أربعة من شيعة الإمام الحسين وأنصاره قادمين من الكوفة ، وألتحقوا بركب الإمام . طبيعي أن وضع هؤلاء النفر كان مضطرباً من الخوف والرعب ، لأنهم خرجوا من الكوفة بصورة سرية خاصة . لأنهم أستطاعوا أن يتخلصوا بأعجوبة من مراقبة ومتابعة شرطة ابن زياد الممتدة على طول الشريط الحدودي .

ونحن لا ندري ماهية الوسيلة التي أستخدموها للخلاص من الأعتقال أو القتل ّ فعند مجئ هؤلاء النفر ، قال الحر : ان هؤلاء النفر الذين جاؤوا من الكوفة ليسوا ممن أقبل معك وأنا حابسهم أو رادهم . فقال الإمام الحسين : أنما هؤلاء أنصاري وأعواني لآمنعهم مما أمنع به نفسي ، وقد كنت أعطيتني إلا تعرض ليَّ بشئَ ...وهم أصحابي وبمنزلة من جاء معي ، فأن تممت على ما كان بيني وبينك وإلا ناجزتك (1) تاريخ الطبري ج 4 ص 203 .

فكف الحر عنهم ، قال لهم الحسين : أخبروني خبر الناس وراءكم ، فقال له مجمع بن عبد الله العائذي وهو أحد النفر الأربعة الذين جاؤوه ، أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم يستمال ودّهم ، ويستخلص به نصيحتهم ، فهم أ لب واحد عليك ، واما سائر الناس بعد فأن أفئدتهم تهوى إليك وسيوفهم غداً مشهورة عليك ، ثم قال الحسين .

فهل لكم خبر عن رسولي ( قيس بن مسهر الصيداوي ) فقالوا : نعم ، أخذه الحصين بن نمير (أو تميم ) ــ رئيس الشرطة ــ وبعث به إلى أبن زياد فأمره ابن زياد أن يلعنك ويلعن أباك ، فصلى عليك وعلى أبيك ولعن ابن زياد وأباه ، ودعا إلى نصرتك ، وأخبرهم بقدومك فأمر به ابن زياد فألقي من طمار القصر ، فترقرقت عينا الحسين ولم يمتلك دمعه ثم قال : منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا .

اللهم أجعل لنا ولهم الجنة نزلاً واجمع بيننا وبينهم في مسقر من رحمتك ورغائب مذخور ثوابك )(2) تاريخ الطبري ج 4 ص 306 .

تُركت قافلة الإمام الحسين منطقة ( عذيب الهجانات ) وسارت حتى وصلت إلى ( قصر بني مقاتل ) فنزل به الحسين فأذا هو بفسطاط مضروب ، فقال الحسين : لمن هذا الفسطاط ؟

فقيل : لعبيد الله ابن الحر الجحفي ، وهو من زعماء الكوفة وأشرافها ، فقال الإمام : أدعوه ليَّ ، وبعث إليه فلما أتاه الرسول قال : هذا الحسين بن علي يدعوك ، فقال عبيد الله بن الحر ؛ والله ما خرجت من الكوفة إلا كراهة أن يدخلها الحسين وأنا بها ، والله ما أريد أن أراه ولا يراني .

فأتاه الرسول فأخبره ، فأخذ الحسين نعليه فأنتعل ثم قام فجاءه حتى دخل عليه فسلم وجلس ثم دعاه إلى الخروج ، ودعاه إلى نصرته ، فقال عبيد الله :

( والله أني لأعلم أن من شايعك كان السعيد في الآخرة ، ولكن ما عسى أن أغني عنك ، ولم أخلف لك بالكوفة ناصراً ، فأنشدك الله أن تحملني على هذه الخطة ، فإن نفسي لم تسمح بعد بالموت ، ولكن فرسي هذه الملحقة ، والله ما طلبت عليها شيئاً قط إلا لحقته ُ ، ولا طلبني وأنا عليها أحد قط إلا سبقته ، فخذها فهي لك ــ قال الحسين :

أما أذا رغبت بنفسك عنا فلا حاجة لنا إلى فرسك (1) الأخبار الطوال ص 215 وتاريخ الطبري ج 4 ص 307 والأرشاد ص 226 .

وفي الأرشاد قال الحسين : فأن لم تكن تنصرنا فأتق الله ان تكون ممن يقاتلنا ، فقال عبيد الله بن الحر : اما هذا فلا يكون أبداً أن شاء الله تعالى (2) الأرشاد ص 226 .

السؤال : يطرح هنا سؤال هو ؛ ماقيمة مساعدة رجل واحد للإمام وماذا تعني أو تغير من الوضع وماذا تعطي من ثمرة ؟

الجواب : ان الجواب على هذا السؤال هو ؛ إن الشخص المدافع يجب أن يعمل إلى حد الإمكان على تهيئة القوى ولو كان أحتمال النصر عبر المجاري العادية 1% ، أضافة إلى ذلك فان عبيد الله بن الحر من زعماء الكوفة وأشرافها ، فأنه لو قبل دعوة الإمام فانه سيؤثر على أفراد من قبيلته أو من القبائل الأخرى التي تطيعه وتسمع كلامه ، أذ كان هو صاحب شخصية إجتماعية مؤثرة ، ومن هنا فأن عبيد الله بن زياد لما تفقد أشراف أهل الكوفة بعد مقتل الحسين فلم يرى عبيد الله بن الحر ، ثم جاءه بعد أيام حتى دخل عليه ، فقال له : أين كنت يا أبن الحر ؟

فقال : كنت مريضاً ، قال ابن زياد : كنت مع الحسين قال : لو كنت معه لرئ مكاني وما كان مثل مكاني ان يخفى (3) تاريخ الطبري ج 4 ص 359 ـ 360 .

ومن هنا يتضح ان نصرة عبيد الله بن الحر الجحفي قيمتها أكثر من مساعدة رجل واحد ، وحتى لو كان بمفرده فأن على الشخص المدافع أن يستفيد من كل واحد ، وعليه نفهم معنى مقالة الإمام له : فأن لم تكن تنصرنا فأتق الله أن تكون ممن تقاتلنا (4) الأرشاد ص 226 وتاريخ الطبري ج4 ص 307 ـ 308 . اذ ان عدم مساعدة العدو هو تقليل وأضعاف لقدراته وقواته . ومنه يتبين إن طلب النصرة من عبيد الله بن الحر عملاً عقلانياً لازماً وضرورياً وهو يشبه طلب النصرة من أهل البصرة (5)تاريخ الطبري ج 4 ص 266 , ومن زهير من القين (6) الأرشاد ص 223

ومن بني اسد بواسطة حبيب بن مظاهر (1) البحار ج 10 ص 190 الطبع القديم وج 44 ص 286 الطبع الجديد .

ومن الضحاك بن عبدالله المشرقي (2) تاريخ الطبري ج 4 ص 317 . فكل ذلك ضروري ولازم ومفيد ويساعد في تقوية الإمام وهدفه .

بعض الباحثين يطرحون هذين السؤالين ؛ اذا كان الإمام يطلب النصر والمساعدة بهذه الكيفية وأنها ضرورية ولازمة أذن ، فلماذا طلب الإمام من الناس عندما سمع بخبر إستشهاد مسلم بن عقيل في المرة الثانية بواسطة الرسول الذي بعثه محمد بن الأشعث ، وطلب منهم الأنصراف عنه ؟ ــ الأرشاد ص 223 ــ ولماذ طلب الإمام الحسين من أصحابه وأهل بيته ليلة العاشر من المحرم قائلاً ؛ إلا وإني قد أذنت لكم فأنطلقوا جميعاً في حل ليس عليكم مني ذمام ــ الأرشاد ص 231 ــ ولا يخفى على المحقق البصير إن الجواب على هذين السؤالين ليس واحداً بل هما جوابان :

الأول ؛ أن السبب الرئيسي الذي جعل الإمام الحسين يطلب من الناس الذين رافقوه وبعد خبر مقتل مسلم ابن عقيل إن ينصرفوا عنه ، وذلك لأنه قد التحق بركبه جمع من الأعراب طلباً للغنائم والأموال .

وطبيعي ان بقاء هؤلاء مع الإمام ليس له دور إيجابي في مسيرة الثورة ، بل ربما يشكل بقاؤهم معه عبئاً أضافياً مرهقاً في المصارف والتكاليف ، وربما لو حدثت المواجهة والحرب مع العدو قد ينضموا إلى جيش العدو أو يفروا من المنازلة لذلك قال الإمام : فمن أحب منكم الأنصراف فلينصرف في غير حرج ليس معه ذمام .

ولأن الأعراب همهم المادة والطمع فلذا يكون رجوعهم وإنصرافهم عنه من مصلحته ، ولا بأس ان نتوجه إلى هذه الملاحظة الضرورية وهي ؛ ان الإمام الحسين لم يقل لأصحابه ؛ أنصرفوا بل قال :

من أحب الأنصراف ، والصيغة الأولى (أمرية ) أما الثانية (تخّيرية ) ومعناها هو ؛ إن أي شخص غير مستعد للمبارزة والجهاد وهمه فقط الغنيمة والمال فليرجع ولينصرف ، ولهذا فهم الأعراب هذا المعنى وتفرقوا عنه .

طبيعي ان الإمام لم يكن يريد من أصحابه الأوفياء ان يتركوه بعد مقتل مسلم بن عقيل بل أنه كان يريدهم معه ، وأن تمكن جاء بأخرين ، كما أذن لحبيب بن مظاهر الأسدي إن يذهب إلى بني أسد يدعوهم إلى نصرة الإمام (ع) (3) مقتل الخوارزمي ج 1 ص 243 .

الثاني ؛ أن السبب في طلب الإمام رسمياً من أصحابه وأهل بيته بالأنصراف عنه ليلة عاشوراء ، أنما يرجع إلى أن خطر الموت بالنسبة إليه أصبح قطعياً ، وأن أصحابه بهذا العدد القليل لن يستطيعوا دفع الخطر عن الإمام الحسين وواضح أذا أصبح الموت والقتل حتمياً فإن الحفاظ على الأفراد أفضل من دفعها إلى المنازلة ، وأيضاً ينبغي ملاحظة ذلك ، فأن الإمام ليلة عاشوراء لم يقل :

من أحب الأنصراف ، بل قال: أنصرفوا وليذهب كل واحد منكم مع واحد من أهل بيتي ، ثم قال الحسين لبني عقيل : يابني عقيل حسبكم من القتل بمسلم فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم . وبالنهاية فقد رجح هؤلاء الأحرار الموت مع الحسين على الحياة دونه