الفصل الثاني

 

 

تأصيل الثورة في ظل الخطاب السياسي

ثنائية الجهاد

من أجل تبيان ماهية الثورة الحسينية لابد ان نقدم للموضوع بعرض موجز ليسهل علينا فهمه

- ينقسم الجهاد المسلح إلى قسمين

- 1 – الأبتدائي .

- 2 – الدفاعي .

الجهاد الأبتدائي ؛ هو أن يقوم شخص أو مجموعة أشخاص على الحكومة أو إنهم يفكرون بتشكيل حكومة جديدة ، دون أن يكون هذا الشخص أو هذه المجموعة مورداً للتجاوز من قبل السلطات الحاكمة ، ومع ذلك يثور من أجل الأطاحة بالحكومة القائمة .

- الجهاد الدفاعي ؛ هو أن يقع شخص أو مجموعة أشخاص مورداً للتجاوز من قبل الحكومة ، فيقوم أو يقوموا بالدفاع ضد هذا التجاوز ومن أجل الحفاظ على النفس أو الهدف والمسلك والدين والمذهب والشرف والحيثية .

- وفي مسألة الجهاد الأبتدائي لآبد من القول ؛ ( أن الجهاد مشروط بالقدرة ) فلو أن قائد المجموعة المجاهدة كان ضعيفاً بلحاظ القدرة العسكرية والمالية ووسائل الأتصال والمخابرات فإن أكثر العقلاء لايجيزون الجهاد الأبتدائي لأن أحتمال النصر سيكون ضعيفاً ، ولذلك لايرونه جائزاً ألبتة ،

ولو كانت لدى القائد القدرة الكافية ولكنه يفتقد للهدف النبيل فالجهاد الأبتدائي غير جائز أيصاً ، إلا أن يكون هدفه سامياً كهدف الأنبياء والأولياء الكرام .

- ولو دمرت أمكانية هذه القوة وأنهزم القائد وأصحابة وتعرضوا للقتل والتعذيب . عندها يجب القول ؛ أن مسؤولية ذلك تقع على عهدة المشتركين في هذا القتال جميعاً .

وسر ذلك أن مثل هذا القتال مقرراً له منذ البداية أن يخسر المعركة فهو أذن لا يستطيع الوقوف بوجه الأنحرافات والتعديات التي تقوم بها الحكومة كما تفعل حكومة يزيد ، وبالتالي فلن يستطيع ان يقدم أي شكل من أشكال الأصلاح ، بل أن الثورة التي تقوم على هكذا فعل جهادي ستكون عقيمة ولاتعطي نتائج إيجابية ، لأنه في الحالة ستقوم الحكومة بحملة دعائية تشهيرية واسعة بالثورة وبعناصرها وبقياداتها وكوادرها مما يكون له أثراً عكسياً يؤدي إلى أباحة أي وسيلة من الوسائل التدميرية للحكومة في القضاء على أعدائها ، أي أنه يعطيها المبرر الكاف بالقضاء على كل من تحسبه أنه من أعدائها .

- وبالتالي فلا الجهاد ولا الثورة سببت وعملت للإصلاح بل أنها ربما أصبحت باللاشعور أداة إفساد وهذا ما لاتجّوزه أية قوانين وأفكار حضارية ومدنية ، وهذا حكم عقلي واضح ولا جدال فيه ، وحكم العقل ليس له أستثناء في الموارد كما تشعر بذلك الآية الشريفة

- ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) البقرة 195 ، وهذه الآية مشعرة بمفاد حكم العقل ومؤداه لا أنها حكم تعبدي وقانوني ، وبالأصطلاح العلمي أنها حكم أرشادي وليست حكماً مولوياً .

الآية الشريفة وطبق حكم العقل تقول ، أنه في أي مكان تهلك فيه فلا يجوز أن تلقي بيديك فيه لأنك لن تحصل من وراء ذلك على نتيجة إيجابية بل سليحقك الضرر وبالتالي لاتحصل على منفعة تذكر ، وفي هذه الحالة لا احد من العقلاء يجيز الجهاد الأبتدائي ، بل أن العقلاء سيتهمون قائد الثورة ، بأنه ثار مع علمه بعدم وجود قدرة كافية لذلك ، وأنه يعلم أنه سيخسر أو يتحمل الخسارة . أذن فالعقلاء لايجيزون الجهاد الأبتدائي أذا كان أحتمال النصر فيه ضعيفاً ، وأحتمال الخسارة كبيرة

- ( وهذا كله يتعلق بالجهاد المسلح ، وأما في عصرنا الحاضر حيث تكثر البدع والضلالة والمخالفات للشرع وأصول الدين ،

فالواجب يدعو إلى مراعاة شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأظهار الحقائق ، وهذه مهمة كل الناس وتتأكد على علماء الدين ) .

- كما قلنا سابقاً أن الجهاد الدفاعي ؛ هو أن يقع شخص أو مجموعة أشخاص للعدوان من قبل الحكومة ، فيقومون بالدفاع ضد هذا العدوان حتى يتمكنوا من دفعه أو الحد من خطره . ومن الأفضل أن يطلق عليه جهاد المقاومة لأنه يقف امام الأعتداء .

بديهي أن من يقع مورداً للعدون لا بد له بحكم العقل والقانون أن يدافع عن نفسه أن تمكن من ذلك ، حتى لو كان أحتمال الخسارة [ 99%] وأحتمال النصر [ 1%] فأن عليه بحكم العقل والقانون أن يدافع بل أنه واجب إلزامي عليه ذلك . لأنه لو لم يدافع ، فإن أحتمال الخسارة سيكون حتمياً وقطعياً ولو دافع فإن أحتمال النصر سيكون موجوداً .

- ولو دافع وأنتصر بدفاعه فأنه يكون قد حفظ نفسه وأدى تكاليفه الشرعية والوجدانية ، وأنه أن لم يوفق في دفاعه فإنه سيكون قد أدى ما عليه من التكاليف ولا يكون مورداً للذم والعتاب ولكن لو لم يدافع من رأس لاصبح مورداً للذم والعتاب . لأنه سيكون قد سلم نفسه للعدو مع أمكانية النصر عليه .

أذن فالدفاع وظيفة مقدسة وقد أعتبرها العقلاء واجبة ، لأن الدفاع هو الوسيلة للنجاة من التهلكة لا العكس . والدفاع ينقسم إلى أنواع هي

- 1 – الدفاع عن الحقوق الشخصية كالمال والنفس والشرف .

- 2 – الدفاع عن حقوق المجتمع .

- 3 – الدفاع عن العقيدة والمبدأ .

- ومن المسلم به في كل أقسام الجهاد يجب أن تراعي هاتين القاعدتين العقليتين وهما :

- 1 – كل أمر ذي بال ويُفتدى فأنه سيكون ذي قيمة .

- 2 – أن يقوم بحيث لاتشكل فتنة وأراقة دماء .

- مثلاً إن تمكن أن يعمل ملجأً لحفظ النفس يكون أفضل من الإقدام على الموت وإراقة الدماء وطبيعي أنه ليس من اللازم دائماً الدفاع في الحرب والقتال فقط ، بل أن تغيير المكان من محل خطر إلى مكان أقل منه خطورة يعتبر دفاعاً .

- نعم أن أخر مراحل الدفاع هي الحرب ، والتي غالباً ما تؤدي إلى إراقة الدماء . أذن فلو كان أحتمال النصر في الجهاد الدفاعي بنسبة (1%) فأنه يجب الجهاد . (وهناك نوع أخر من الجهاد يمكن تصوره بالشكل التالي ؛ لو أن قائد الثورة علم أنه سيخسر الحرب ، ولكنه مطمئن لنتائجها وثمراتها ومنافعها ، وأن الخسارة أكثر نفعاً من البقاء فعليه في هذه الحالة أن يقدم نفسه للموت وذلك أمرٌ عقلاني واجب )

هذا العرض الموجز في أقسام الجهاد جعلناه كمقدمة لماهية الثورة الحسينية ، وقبل أن ندخل في مطاوي البحث لا بد أن ننبه إلى التصور الخاطئ في أذهان بعض الناس عن ثورة الإمام الحسين ومن ثم نذكر التصور الصحيح ونوضحه وبعدها نرجع إلى أصل البحث .

- عندما يذكر الحسين وثورته يتبادر إلى الذهن صورة الثورة على انها حادثة مؤلمة وقعت في كربلاء ، وأن هذه الحادثة تشكل عصب الثورة وأساسها ، أي الجانب المأساوي من الثورة فقط .

فهي تعني حرب دامت ست ساعات كان سببها الرئيسي هو الإمام الحسين ، ثورة الحسين تعني عندهم مجابهة عسكرية لنصف يوم مع حكومة يزيد ، ونتيجتها قتل الإمام الحسين وأصحابه ووقوع أهل بيته بالأسر . فالذي يتصور أن ثورة الحسين عبارة عن هذه الدراما التراجيدية يقول :

أن الإمام الحسين كان منذ البداية عازماً على الشهادة هو ومن كان معه ، وأن يقوم بجهاد أبتدائي يقدم فيه نفسه قرباناً لمذبح الحرية . وبعبارة أدق ؛ أن الإمام الحسين عمل بكامل قواه وأرادته على أن تقع هذه الحادثة المأساوية لتكون سبباً لقتله وقتل أصحابه وسبي نسأئه ! ويردفون لقولهم السابق ، أن الإمام الحسين قام بهذا العمل المأساوي إحياءً للدين ونصرة للإسلام .

هذا التصور عن ثورة الإمام الحسين تصور ( مثيلوجي ورومانطيقي ) وغير معقول ويخالف الواقع التاريخي وسننه لأن الإمام الحسين سعى مخلصاً للحؤول دون وقوع هذه الحادثة المأساوية وسعى من اجل إيجاد حل سلمي للقضية كما يتبين لنا ذلك فيما بعد

- وبعد مراجعة واعية للمصادر التاريخية والتأمل التام فيها يتضح لنا أن ثورة الإمام الحسين إنما حدثت نتيجة للعدون الذي قامت به الحكومة عليه وقد تم ذلك على أربعة مراحل مختلفة هي :

منذ هاجر الإمام الحسين من المدينة إلى مكة إلى حين صمم البقاء في مكة -: المرحة الأولى

المرحلة الثانية : - ومنذ قراره بالذهاب إلى الكوفة وحتى وقت ملاقته بالحر بن يزيد الرياحي .

المرحلة الثالثة : - ومن وقت ملاقته بالحربن زيد الرياحي وحتى بداية الحرب .

المرحلة الرابعة : - مرحلة الحرب .

المرحلة الأولى : تمت على شكل مقاومة ضد العدوان الذي تقوم به الحكومة ، وكان موضوعها البحث والتحقيق عن الوضع وهل بالأمكان تشكل حكومة إسلامية أم لا ؟

- المرحلة الثانية : تمت على شكلين ، يعني الدفاع والمقاومة ضد عدوان الحكومة والتصميم لتشكيل الحكومة ـــ طبعاً ذلك مشروط بالظروف الموضوعية المناسبة ـــ -

- المرحلة الثالثة : وقد تمت بعد تغيير الأوضاع السياسية في العراق ، وكان موضوعها المقاومة وحفظ الجانب الدفاعي ، وفيها عمل الإمام الحسين ما بوسعه للأبتعاد عن دائرة الحرب وقام بإجراء سلسة مباحثات مع الجانب الأخر وقد تمت المباحثات على ثلاث مراحل مع أنصار أبن زياد . ( الأرشاد ص 226 - 232 - تاريخ الطبري ج 4 ص 312 - 313 )

- المرحلة الرابعة : وهي مرحلة الحرب ، وقد دخلها الإمام الحسين مضطراً كارهاً مدافعاً ، وقد تمت بعَد أن أنهارت مباحثات السلام ، والمسؤول المباشر عنها هو يزيد وعماله .

وفي كل من المراحل الأربعة كان الأصل فيها المقاومة ضد العدوان الذي تبديه الحكومة ، ولكنه في المرحلة الثانية أضيف إلى أصل المقاومة وجود شرائط موضوعية وجود للنصر وتشكيل الحكومة ، وقد كان تفكير الإمام منصباً في هذا الأتجاه ، وهو تشكيل حكومة إسلامية عادلة تزيل كل المظاهر العدوانية الظالمة ؛ هذه أشارة عابرة للمراحل المختلفة التي مرت بها الثورة الحسينية وهو التصور الصحيح والمنطقي للثورة ، وسنفصل البحث فيها لا حقاً . وما أكدناه لا بد أن ندعمه بأدلة تاريخية توضيحاً وتأصيلاً للمطلب . ولكن قبل ذكر الأدلة التاريخية لابد أن نشير إلى الدليل العقلي الكلي ، وهو مرتبط بالموارد التي لايكون النصر العسكري فيها ، وطبعاً ينطبق على المرحلة الأولى والثالثة والرابعة لثورة الإمام ولا علاقة له بالمرحلة الثانية لأن أمكانية النصر فيها كانت موجودة وقد فصلنا الأمر فيها بالفصل الأول فلا نعيد

- الدليل العقلي

- الإمام الحسين كان في زمانه الشخص الأكثر علماً ومعرفة وحباً في قلوب الناس ، والأعظم في بيته بيت آل النبي ، لأنه الوريث الشرعي بحكم العقل والقانون لمزايا الخير كلها من جدّه ، وأبيه ، وأنه قد شاهد عبر سني عمره [ ال57 عاماً ] أحداث سواء اكانت في خلافة أبيه أو حياة أخيه أكسبته تجربة سياسية ضخمة .

- ولاشك أن الإمام كان من أعظم الناس علماً وفكراً وعقلاً وتعقلاً

- ( ولاشك أنه لم يكن للإمام جيشاً عندما أمتنع عن مبايعة يزيد ) ، وما كان عنده إلا حب الناس وأحترامهم له وتقديرهم لأفكاره ووجوده .

ولكن التجربة أثبتت أن الحب والإحترام والشخصية الأجتماعية المرموقة ليست وحدها التي تستطيع أن تقف بوجه تجاوز الأعداء خصوصاً في ذلك الوقت الذي كانت فيه أفكار الناس من جهة التقدم العلمي والعقلي والفكري والأجتماعي لازالت في طورها البدائي الأول ، ولم يكن المجتمع الإسلامي قد بلغ الرشد في تكامله الفكري الحضاري ، وهذه الملاحظة لم تكن خافية عن الإمام الحسين .

لأنه من غير الجائز أن لايتوجه الإمام الحسين إلى هذا المعنى وأن يقوم بجهاد أبتدائي دون تجهيزات حربية وقدرات عسكرية كاملة , لأن نتيجة الثورة الأبتدائية هي فقدان السيطرة والخلل الأجتماعي وزيادة المعاناة والعذاب ولن تستطيع القضاء على الحكومة .

- وقد أثبتت التجربة أن الرجال الأعاظم يعملون دائماً في خدمة أهداف المحرومين ، وذلك بالتدبير العاقل الحاد من الأنحراف في أجهزة الدولة ، كما كان يفعل أمير المؤمنين علي في زمن الخلفاء وخصوصاً في عهد الخليفة عمر بن الخطاب ، فقد أستطاع أن يصحح له كثيراً من الأحكام السياسية والقضائية حتى تواتر عن عمر قوله :

- [ لولا علي لهلك عمر ولكن الشخص الذي يثور دون توفر الأمكانية لتلك الثورة ويقتل اويٌقتل ومن معه ، فأنه سوف لن يعطي أكثر مما أخذ ، وهذه القاعدة عملياً جارية في حياتنا .

وفي هذا الأتجاه نرى قول الإمام علي في خطبته الشقشقية وهو يؤكد هذا المعنى ويقول :

- [ وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقي ربه ، فرأيت ان الصبر على هاتا أحجى ] (1) نهج البلاغة شرح محمد عبدة ص 26 طبع مصر .

- فصبر أمير المؤمنين كان نتيجة منطقية لعدم توفر القدرة الكافية للثورة المسلحة ضد الحكومة القائمة ، ولو قام بالأمر مع عدم توفر الأمكانات تكون معركته خاسرة وعقيمة ولها ردود فعل غير إيجابية على مسيرة الإسلام والمسلمين . فهل يمكن ان يسير الحسين على خلاف سيرة أبيه ، وأن يثور دون قدرة مسلحة كافية ومن دون ان يتعرض للأعتداء من قبل الحكومة ؟

ونحن لانعذر أحداً يعرف الإمام الحسين ويقع في مثل هذه الأفكار ؛ أي أن الإمام الحسين ثار وهو يعلم بأن لا قدرة كافية لديه ولم تتعرض له الحكومة بأذى .

- وبالتالي يجر تلك المأساة التي تظل عبر الزمن كأفدح مصيبة عرفها التاريخ الأسلامي وتكون كلها بمفرداتها من مسؤوليته وبعهدته !

- مما قلناه يتضح أنه بحكم العقل ينبغي القول ؛ أن ثورة الإمام الحسين في مراحلها الأولى والثالثة والرابعة هي ثورة دفاعية لا أبتدائية لأنه لم يكن يمتلك قدرة كافية ، وبعبارة أدق ؛ كانت ثورته في تلك المراحل عبارة عن مقاومة ودفاع ضد الأعتداء الحكومي ولم تكن جهاداً أبتدائياً .

ولكن في المرحلة الثانية ولما كان هناك أمكانية في أعادة الخلافة إلى أهل البيت فقد ثار الإمام لتشكيل الحكومة وقد فصلنا البحث فيها بالفصل الأول فراجع .

الأدلة التاريخة

- قلنا أن ثورة الأمام الحسين تمت على أربعة مراحل هي :

- 1 – المرحلة الأولى ؛ الدفاع والمقاومة مقابل أعتداء الحكومة ، وفيها قام الإمام بتحقيق حول الوضع السياسي وأمكانية تشكيل الحكومة .

- 2 – المرحلة الثانية ؛ وأيضاً كانت الدفاع والمقاومة وكذلك السعي لتشكيل الحكومة .

- 3 – المرحلة الثالة والرابعة ؛ كانتا دفاعيتين خالصتين .

- أدلة المرحلة الأولى ؛

- الدليل الأول :

الذي يحقق في حوادث سنة 60 للهجرة يعلم جيداً أن يزيد بن معاوية وبعد هلاك أبيه والذي كان في النصف من شهر رجب سنة 60 للهجرة على أشهر الأقوال ، وقبل أن ينتشر خبر موت معاوية في المدينة .

كتب إلى واليه فيها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان كتاباً يخبره فيه بموت معاوية وأضاف إليه بورقة أخرى :

- [ أما بعد ، فخذ حسين بن علي وعبدالله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً ليس فيه رخصة ] (1) تاريخ الطبري ج 4 ص 250 والأرشاد ص 200

- وهذا أول أعتداء وتجاوز من الحكومة على الإمام الحسين .

ولم نجد فيما لدينا من المصادر التاريخية شئ يقول بأن الإمام الحسين وقبل أن تعتدي عليه الحكومة يعني قبل موت معاوية كان يفكر بالثورة أو القيام على الحكومة ، بل أننا نجده يؤكد في رسالته الجوابية إلى معاوية بن أبي سفيان الذي أدعى أن الإمام الحسين يريد الخروج عليه .

وكان معاوية قد كتب إليه يقول : -

- [ فقد أنتهت إليَِِّ أمور عنكَ .. فأتق شقك عصا هذه الأمة ، وان يردهم الله على يديك في فتنة فقد عرفت الناس وبلوتهم ، فأنظر لنفسك ولدينك ولأمة محمد ولا يستخفنك السفهاء ] (2) رجال الكشي ص 48 _ 49 طبع جامعة مشهد .

- وقد أجاب الإمام ، معاوية بكتاب عدد فيه جرائم معاوية وجناياته أذ كتب يقول : -

- [ .. وأما ماذكرت أنه أنتهى إليكَ عني : فإنه أنما رقاه إليكَ الملاقون المشاؤن بالنميم ، وما أريد لكْ حرباً ولا عليكَ خِلافاً .. ] (3) رجال الكشي ص 49 والأمامة والسياسة المنسوب لأبن قتيبة ج 1 ص 181 .

ومع أن حكومة معاوية قامت بجرائم وحشية بشعة لكن جهاز الدولة كان مراقب من قبل الإمام ولعل واحدة من جرائم معاوية الكثيرة هو فرضَ معاوية يزداً ولياً للعهد على المسلمين بالقوة والأكراه ، والتي يجب القول ؛ أن حكومة يزيد وولايته جريمة من جرائم معاوية وسيئاته .

- وكتاب الإمام هذا جاء في وقت أصبح فيه يزيد ولياً للعهد وذلك مادّل عليه قول الإمام في رسالته تلك :

- [ وأني لا أعلم فنتة أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها ] (1) رجال الكشي ص 50 ومع ذلك يقول له الإمام : وماأريد لك حرباً ولا عليك خلافاً .

وعليه فما دام معاوية حي فأن الإمام لم يفكر بالقيام عليه ، وهو لم يقم حتى أصّرت حكومة يزيد على أخذ البيعة منه عنوة ، ولم يكن بين موت معاوية وطلب الحكومة البيعة من الإمام اكثر من أثني عشر يوماً (2) الأرشاد ص 200 .

وقبل هذه المدة لم يكن خبر موت معاوية قد وصل إلى الإمام حتى يفكر بالقيام على يزيد ، ولم يكن يعلم بخبر موت معاوية حتى عندما طلب منه حاكم المدينة الحضور إليه ، ليأخذ البيعة منه ليزيد وينعي له موت معاوية (3) تاريخ الطبري ج 4 ص 251 والأرشاد ص 201 .

وعليه فلا وقت ولا فرصة لدى الإمام لكي يفكر بالقيام على يزيد .

- وبناء على هذه المقدمة يتضح أن الإمام لم يفكر بالقيام على الحكومة قبل قرار يزيد بأخذ البيعة من الحسين بن علي أخذاً ليس فيه رخصة . ومنه يتبين أن الحكومة هي التي أعتدت على الإمام أبتداء.

ويزيد أنما أعتمد على القوة في أصدار قراره هذا دون مراجعة او تدبر مخالفاً جميع الأصول ومبادئ الحرية والعدالة . فيزيد أنما أراد من الإمام التسليم دون قيد أو شرط ، يُسلم عليه بأمرة المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين ، وحاكماً على الإمام وعلى جميع المسلمين وان يقبل بحكومته تحت ضغط الدرهم والدينار ( الكامل في التاريخ ج 4 ص251 - 511

- وأعتبار خلافته خلافة قانونية وشرعية حتى لايفكر الناس الأخرون بمخالفتها . والإمام لايختلف في نظرته لحكومة بني أمية عن باقي الشخصيات كأبن عباس وأبن الحنفية اللذين يعتبرانها حكومة ظالمة ومفسدة في الأرض وغير شرعية ولا قانونية . ثم أن يزيد رجل يفتقد إلى التجربة والحكمة أضافة إلى خلو بطانته من الشخصيات الماكرة كما كان في عهد أبيه كعمر بن العاص والمغيرة بن شعبة .

والدولة بما انها وقعت في ظل شخصية فاسدة كيزيد فانها حتماً ستنتهي إلى زوال ويضيع العدل وتسقط القوانين ومبادئ الحق والعدل والأيمان ويكون المقياس مدى القرب والبعد من الدولة وتأييد الحاكم ، لا أعتبار للقضايا الأخلاقية والدينية .

وبناء على هذا فالإمام الحسين لا يستطيع أعتبار حكومة يزيد شرعية أو قانونية , وبالتالي يخالف عقيدته وإيمانه ، مع قدرته على رفضها وعدم التسليم لها دون قيد أو أشرط .

- فالإمام بحكم طبيعته وكونه زعيماً للبيت النبوي ، وأن الملايين من المسلمين تترقبه وترصد حركاته لأنه قد امتلك قلوب الناس حباً ، فلو عمل خلاف عقيدته وإيمانه مع قدرته على المقاومة والرفض فانه يكون قد أذن للفكر العام بالأنحراف بل وربما يكون قد أكد على صحة الأنحراف الحكومي الذي يسعى لأشاعة الفساد والتحلل الأخلاقي والتربوي .

- وهذا ما لايمكن أن يعمله الإمام وهو مصدر التقوى . وكمالها ومظهر العدالة وعنوانها .

لأنه من غير الجائز ان يعمل إنسان تربى ونشأ في بيت النبوة على خلاف تربيته ورسالته وأصالته والحسين يعتقد انه القادر على رفض حكومة يزيد ومحاربتها وأذا لم يعمل بقدرته يُعد خائناً للدين وأهداف الإسلام ورسالته .

فكيف بالإمام وقد توفرت له أسباب ذلك والمسؤولية في عهدته فهل يتراجع او يتنصل عن مسؤوليته ؟ كلا :

فهو لم ولن يُعطي لزيد فرصة يتحكم فيها برقاب الناس بأسم القانون والشرع .

- مما مضى يتبين ان أمر يزيد وقراره بأخذ البيعة من الحسين أخذاً ليس فيه رخصة وكان يمثل السهم الأول في الأعتداء المنظم من الحكومة على الإمام . وحتى لو كان الأمر لا يتعلق بقتل الإمام من جهة حاكم المدينة .

ولكن الأمر يختلف عند الولاة الأخرين . والقرائن تشير إلى أن مروان بن الحكم قد امر الوليد بن عتبة ان يضرب عنق الإمام لأن مروان هذا يحمل أحقاداً دفينة على النبي وآله لأنه الطريد أبن الطريد . حيث قال للوليد

- [ والله لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها .. أحبس الرجل ولايخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه ] (1) تاريخ الطبري ج 4 ص 251 والأرشاد ص 201

- ولما جاء الإمام الحسين إلى حاكم المدينة وطلب منه الأخير البيعة ليزيد . قال له الإمام الحسين

- [ أما ما سألتني من البيعة .

فأن مثلي لا يعطي بيعته سراً . ولا أراك تجتزي بها مني سراً دون أن نظهرها على رؤوس الناس علانية ..] (2) تاريخ الطبري ج 4 ص 251 . ولما خرج الإمام من مجلس حاكم المدينة . ظل أربعاً وعشرين ساعة حتى بعث إليه حاكمها مرة أخرى فتوارى عنه الإمام (3) تاريخ الطبري ج 4 ص 252 والأرشاد ص 201 . وكان الإمام يفكر في طريقة تخلصه من هذه الفتنة . لأنه أستنتج من مجموعة هذه القرائن أن الخطر عليه شديداً وقريباً وجدياً وأزاء هذا الخطر الجدي . هل يستطيع الإمام الحسين أن يستفيد من القوى العسكرية ؟ طبعاً لا

- ولو أفترضنا أنه بايع يزيد فهل يترك حراً ؟ طبعاً لا . فماذا عليه أن يعمل ؟

والإمام الحسين أستطاع أن يختار الطريق الثالث وذلك لقصر المدة ، وهو طريق عقلائي ولايتوقع منه غير ذلك الأختيار نتيجة للواقع الموضوعي وهو طريق ـ المقاومة والدفاع ـ ساعياً ما أمكنه الجهد أن لايقع في الفتنة وأراقة الدماء وهو كما ترى أختيار من أجل الدفاع عنه وعن دينه ومبادئه ورسالته السماوية . وهو عندما خرج من المدينة لا يعرف بالضبط المدة التي سيبتعد فيها عنها . أنه الخروج الذي أراد منه أن يعيش بأمان وأن يحقق ويستقرئ الوضع السياسي على الدقة .

ويتعرف على الشروط الواجب توفرها في أمكانية أعادة الخلافة إلى أهل البيت ) !

- أنه من المسلمات المتعارف عليها عند جميع العقلاء . أن التدبير والتخطيط الحكيم لمعرفة عواقب الأمور حالة صحية وعقلية وعلمية . ومن هنا جاء القول المشهور ؛ [ قدم الخروج قبل الولوج ] ولهذه العلة كان رسول الله يعمل دائماً للخروج من أي قضية يدخل فيها . فهو يخطط للكيفية التي تخرجه من أي مأزق . فهو يدرس جميع جوانب الأمر وقضاياه وأطرافه . ويلاحظ ذلك ويطبقه بما لديه من قرائن وحاجات عرفية وعقلية . ثم يختار الأصلح من بين الطرق خدمة له ولأمته . وبالتالي التوكيد على صحة الأختيار . ولهذا حينما أراد مشركو مكة قتله من خلال مادبروا له من مؤامرة . سعى لكي ينجو من شرهم . وذلك حفاظاً على نفسه وعلى الإسلام . وقد أجرى في هذا الأتجاه تخطيطاً مبرمجاً وموسعاً وخرج من مكة ليلاً إلى جبل ثور . وبقي فيه نحو ثلاثة أيام . وبعدها خرج إلى المدينة . وقد أستخدم في رحلته تلك دليلً إلى الطريق حتى ينجو من الخطر (2) الكامل في التاريخ ج 2 ص ص 73 . وهكذا كان يفعل في جميع حروبه فهو يلاحظ الطريق والأماكن ومراقبتها ! يعني لايترك فناً من فنون الحرب إلا وطبقه . ليساعده ذلك في تعجيل النصر على العدو . ونظرة أجمالية في جبهات الحرب التي قادها الرسول في بدر وأحُد والخندق وبدر وخيبر . تتضح لنا الصورة التخطيطية الدقيقة التي يطبقها النبي كحاجة قصوى وعمليه في حروبه .

أذ ليس من المصلحة الألهية ان يكون الرسول في أعماله كلها خاضعاً في عمله وتوجيهاته إلى العالم الغيبي الماورائي .

- وليس من المصلحة أن يعلق أعماله كلها وحركاته على المعجزة دائماً .

فهو قد يُصاب ويُجرح وأحياناً يخسر الحرب ، وقد ورد في القرآن تأكيداً على المنحى أذ قال الله تعالى :

- ( ولو كنت أعلمُ الغيب لأ ستكثرتُ من الخير ومامسني السوء ) الأعراف آية 188 . وهذا التوكيد الوارد في الآية الشريفة يشعر ؛ بأن عمل النبي يقوم على أنتخاب عقلائي . وذلك من خلال الفكر والتعقل والتدبر النافذ لواقع الأشياء .

والنبي مكلف بمتابعة ذلك الأمر ليصل إلى هدفة مراعياً وحدة العالم وصيرورته ، ومن هنا يكسب الحرب وربما خسرها أحياناً .. وهذا العرض في سياق الشخصية النبوية يقودنا إلى القول ؛ بأنه من غير الممكن ان يتحرك الأمام الحسين وهو عقل النبي وفكره دون تخطيط أو تدبير ودراسة مكثفة لواقع الأشياء لأن التحرك الذي يقوده الإمام يقتضي الأبتعاد عن الغموض والأبهام ، وهذا الشرط ليس توضيحياً وأنما تاكيدياً ، أذ لا يتصور أحد يعرف الإمام الحسين ذلك .

بل أن من يعرف الحسين بن علي يثق بأن حركته تتم ضمن ضوابط وحسابات علمية ودقيقة وفي ظل نظام حصر عقلي مميز ففي مثل حالته تلك لابد أن يقوم بعمل لا يضر الإسلام ولا يساعد الحكومة الظالمة ولايحط من قدر وعظمة البيت النبوي ، ولايعمل على إثارة الفتنة في المجتمع الواحد .

- وفي رأي الإمام لايوجد طريق غير طريق الهجرة بعدما أحس بالخطر ، ويعمل كما عمل النبي من قبل عندما هاجر من مكة بعدما أحس بالخطر إلى المدينة . لأن الأصل في الهجرة أن تتوفر له الأجواء المناسبة لأنجاز مشروعه الأصلاحي ، وبرنامجه الديني والسياسي .

فهو كجده رسول الله هاجر عن مسقط رأسه لمكان أقل خطراً ليستقرئ بدقة حالة وأمكانية تشكيل حكومة إسلامية حرة مستقلة ، ولأجل هذا المطلب فلا هجرة أفضل وأنسب من مكة لأنها حرم الله وأمنه ثم أنها مركز العالم الإسلامي .

- وهذا الجانب يسُهل على الإمام طريقة الألتقاء بسكان الأقطار الإسلامية القادمين لأداء فرائض الحج والعمرة ، وهذا الألتقاء بحد ذاته يوفر الأرتباط اللازم ، والتدارس والبحث المعمق عن شؤون وشجون الإسلام .. فالرسول عندما أحس بالخطر في مكة هاجر إلى المدينة والإمام الحسين عندما أحس بالخطر في المدينة هاجر إلى مكة ( جاء في تهذيب ابن عساكر أن الإمام الحسين لما ورد مكة دخل إلى بيت العباس بن عبد المطلب ) (1) التهذيب ج 4ص 328 .

والهجرة كانت الخطوة الأولى على طريق الدفاع والمقاومة .

- أذن فالهجوم والأعتداء من حكومة يزيد كان هو الأول على الإمام الحسين ، والإمام أزاء هذا الأعتداء دافع بحكم العقل والقانون ، وهذا الدفاع هو الأول منه ، وترك المدينة خارجاً منها ليلاً هو وبنيه وبني أخيه وجلّ أهل بيته (2) تاريخ الطبري ج 4 ص 253 . مهاجراً إلى حرم الله وأمنه ، ولما خرج من المدينة كان يردد الآية المرتبطة بهجرة النبي موسى

- ( فخرج منها خائفاً يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين ) القصص آية 21 .

أي أنه تلاها عندما خرج من المدينة ، وهذا دليل على أنه قد هوجم من قبل الحكومة الأموية .

- ربما يسأل إنسان نفسه قائلاً ، لو أن حكومة يزيد لم تهاجم الإمام الحسين فهل ان الإمام الحسين سيجلس في بيته ويعيش كما كان يعيش في حياة معاوية ؟ هنا لابد من القول : كما قال الإمام أذا مات معاوية ننظر وتنظرون (4) الأرشاد ص 200

- وقد روي عن رسول الله قوله :

- ( من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله ، مخالفا لسنة رسول الله ، يعمل في عباده بالأثم والعدوان ،فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله ) (5) تاريخ الطبري ج 4 ص 304 .

وبناءاً عليه فلو يهاجم يزيد الإمام الحسين فأن التكليف يقتضي أن يعمل الإمام على تغيير حكومة الظلم ولأن هذا التكليف كباقي التكاليف الأخرى وبالقدرة ، فلذلك ينبغي على الإمام أن يتحقق فيما أذا كان قادراً أم لا ، ولو أمكنه الحصول على القدرة ينظر إلى قدرته ، فهل هي بالحدود الكافية لتشكيل الحكومة أم لا ؟ وعليه فلو تهاجم الحكومة الإمام فأنه مكلف أيضاً بالنظر والتحقيق حول الوضع وأمكاناته ، وبعد موت معاوية حتماً ستكون الحكومة أضعف مما كانت عليه في عهده ، وأذا توفرت الشروط الموضوعية المناسبة لتشكيل الحكومة يعمل من أجل ذلك

- أذن يجب القول أن روح الجهاد الأبتدائي كانت موجودة في المرحلة الأولى لثورة الإمام الحسين . فالمرحلة الأولى للثورة يمكن أن نقول عنها هي المقاومة والدفاع ، وضمناً التحقيق حول الوضع السياسي لأننا أنما نبحث فيما وقع لا فيما يمكن وقوعه

- نعم الشئ الذي يجب قوله ؛ أنه لو لم تهاجم الحكومة الإمام الحسين فأنه ربما لايهاجر من المدينة وبهذه الكيفية يمكنه أن يقوم بالتحقيق عن الوضع السياسي وهو فيها . ولو أراد الذهاب إلى مكة لهاجر إليها أيام الحج لكي يلتقي بالحجاج من الأقطار والأمصار الإسلامية وتدارس معهم كيفية تهيئة الظروف المناسبة لتشكيل حكومة العدل الألهي . وعلى أية حال فأتصلات الإمام الحسين وأرتباطاته ينبغي ان تكون أساساً مع العراق ، وبالخصوص مع أهل الكوفة

- الفاصل الجغرافي بين مكة والمدينة يناهز الثمانين فرسخاً ) وبهذا التقدير تكون المدينة أقرب نسبة إلى الكوفة من مكة ، أذا ما نظرنا إلى الكيفية التي كانت عليها وسائل الأتصال والنقل البدائية في ذلك الزمان )..

- لو تمكن الإمام من أيجاد رابطة له مع أهل الكوفة من المدينة فأن ذلك سيوفر عليه مسافة الثمانين فرسخاً ؛ وبالتالي يسهل عليه عملية الأرتباط والأنتقال ووصول الأخبار وُحّلتّ من طريقه مشكلات كثيرة

- الدليل الثاني

- لقد أنتشر خبر رفض الإمام لبيعة يزيد وهجرته إلى مكة بسرعة فائقة وقد أنتقل من الحجاز إلى العراق .

وقد أعتبر هذا الخبر مع خبر موت معاوية من أهم الأخبار وأكثرها شيوعاً في المحافل السياسية ولدى المختصين بالشؤون أنذاك ، وقد أدى كل واحد تصوراته وأرائه حول هذا الموضوع ـ خلفياته وأبعاده ونتائجه ـ

ولأجل هذا الحدث الأهم عقدت في منزل الصحابي سليمان بن صرد الخزاعي سلسلة جلسات عمل سياسية ضمت نخبة من رجال الفكر والشخصيات السياسية البارزة أمثال حبيب بن مظاهر الأسدي وغيره ، وقد تناول البحث فيها عدة موضوعات سياسية من اهمها الأعتداء الحكومي الذي تقوم به الدولة ضد انصار الحق والعدل ، ومدى الأمكانية المتوفرة لتشكيل حكومة تخلف حكومة معاوية على زعامة المسلمين ، وقد جرى تقييم موسع للوضع السياسي لما بعد معاوية ، وقد بحث المجتمعون بأسهاب قضية هجرة الإمام الحسين من المدينة إلى مكة .

- وقد ترأس سليمان بن صرد الخزاعي جانباً كبيراً من هذه الأجتماعات ، وأعقب ذلك الأجتماع عدة مقررات وتوصيات كان من أبرزها قول سليمان بن صرد الخزاعي : لو كنتم على طريق الحسين فلا بد أن تكتبوا إليه وتدعوه ، وأن لو تكونوا قادرين على التضحية من اجله فلاتمنوه ولاتكتبوا إليه ، وكان لحديث سليمان هذا وقع خاص في نفوس المجتمعين مما أثار في نفوسهم الحمّية حتى قالوا جميعاً : نحن مستعدون للتضحية والفداء في طريق الحسين ولو تتبعنا كلام سليمان بن صرد الخزاعي تأريخياً لنبهنا إلى مسألة حيوية تبرز حركة الإمام في مرحلتها الأولى وذلك من خلال قوله :

- [ .. وهذا الحسين بن علي قد خالفه وصار إلى مكة هارباً من طواغيت آل أبي سفيان ] (1) اللهوف ص 27 ومثير الأحزان ص 10

- وهذه الجملة من حديث سليمان بن صرد تدل بوضوح على أن الإمام الحسين أنما ترك المدينة مهاجراً إلى مكة بعد أن أحس بالخطر الذي يداهمه من عمل الحكومة وسليمان هو أبن ذلك الزمان وهو على علم ودراية كافية بالأوضاع السياسية ، ولذلك أعتبر حركة الإمام من المدينة إلى مكة حركة دفاعية في مقابل تحديات الحكومة وهذا الدليل يؤكد بوضوح على أن حركة الإمام الحسين في المرحلة الأولى ، وقبل كل شئ هي للدفاع والمقاومة ضد تعديات وتجاوزات الحكومة

- الدليل الثالث ؛

- كان الإمام الحسين قد ألقى خطاباً هاماً في أحدى المنازل بوسط الطريق إلى الكوفة بعد ان سمع بمقتل مبعوثه الخاص قيس بن مسُهر الصيداوي ، وكان خطاباً دقيقاً حمل فيه الإمام هموم الأمة ووضوح مسلكيتها وخط سيرها التكاملي ، وأبدى أنزعاجه وألمه الشديدين لهذه الحادثة التي حدثت بهذه الشخصية البارزة ، والتي عملت بجد وأخلاص دفاعاً وتضحية في سبيل أهداف الحسين ثم بعد ذلك قام الحسين بجمع أبنائه وأخوته من أهل بيته وقال :

- ( اللهم أنا عترة نبيك محمد وقد أخُرجنا وطرُدنا وأزُعجنا عن حرم جدنا وتعدت بنو امية علينا اللهم فخذ لنا بحقنا وأنصرنا على القوم الظالمين .. ) البحار ج 10 ص 189 الطبع القديم .

ومن كلام الإمام : أخُرجنا وطُردنا وأزعجنا عن حرم جّدنا ــ هذا يتضح أنه قد أخرج عنوة وبالقوة والإكراه دون رغبته وخلاف أرادته بعد أن هاجمته السلطات الحكومية .

- الدليل الرابع

- وهو تأريخياً وزمانياً حدث بعد أستشهاد الإمام الحسين أي لما خرج عبد الله بن الزبير حاكم مكة على حكم يزيد ، ودعوة أبن الزبير الناس له بالخلافة والأمرة ، وكان قد دعا عبد الله بن عباس لبيعته ، ولكن أبن عباس رفض ذلك ، وقد كتب يزيد بن معاوية كتاباً إلى أبن عباس يشكره فيه ويقدر موقفه الرافض لبيعة أبن الزبير ، وبقاء ابن عباس وفياً لعهد البيعة ليزيد ، وقد أجابه ابن عباس بكتاب عالي المضامين في معناه وفي لغته الخطابية أذ تعرض فيه إلى مالاقاه الإمام الحسين من حكومة البغي الأموي وقد نبه صراحة إلى الهجوم الذي مارسته الحكومة ضد الإمام الحسين في المدينة ، وتابع يقول :

- ( وما أنس من الأشياء فلست بناس إطرادك الحسين بن علي من حرم رسول الله إلى حرم الله (1) تاريخ اليعقوبي ج2 ص 335 ومقتل الخوارزمي ج 2 ص 78 وتذكرة السبط ابن الجوزي ص 275 . وهذا الكلام من أبن عباس يوضح لنا رؤيته التشخيصية للوضع ولفعل الحكومة مع الحسين هكذا حيث أجبرته هذه الأعمال العدوانية إلى الخروج من المدينة مهاجراً إلى حرم الله في مكة

- أدلة المرحلة الثانية

- ذكرنا في ما مضى أربعة أدلة تأريخية عن المرحلة الأولى لثورة الإمام الحسين وأثبتنا فيها إن المرحلية كانت تقتضي الأسلوب الدفاعي والمقاومة ضد تعديات الحكومة وتجاوزاتها ، والآن سنذكر الأدلة التاريخية للمرحلة الثانية من الثورة ويعني تحديداً من وقت قرار الإمام بالذهاب إلى الكوفة وحتى ملاقاته بالحر بن يزيد الرياحي ، وقد نبهنا فيما سبق إلى أن المرحلة الثانية من الثورة لها جانبين أو أتجاهين ، وهما الدفاع والمقاومة والجانب الأخر تشكيل الحكومة ، والدفاع من الإمام في هذه المرحلة لما وقع في المضايقات والتجاوزات الحكومية ، وتشكيل الحكومة منه تلبية وشعور بالمسؤولية الجماعة ورغبات الناس وتوفير الأمكانية لذلك ، مع علمه بوجوب حماية الإسلام في ظل هذه الظروف من الوضع الذي تقوده الحكومة كصورة للتردي والأنحطاط والأفلاس ، وتشكيل الحكومة يعني الخلاص من هذا الوضع وشكليته ، وفي هذه المرحلة يجب أثبات ما يلي :

- 1 – وقوع الإمام في دائرة الأبتزاز الحكومي .

- 2 – التصميم على تشكيل الحكومة المستقلة القادرة الطموحة .

- وفي البداية لابد أن نعلم ان الإمام وقع في دائرة الأبتزاز الحكومي في المرحلة الثانية وسنذكر الأدلة التاريخية التي تشير إلى ذلك . ثم نبحث مسألة تشكيل الحكومة

- الدليل الأول

- روي عن الشاعر الفرزدق قوله : حججت بأمي في سنة 60 للهجرة فبينما انا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم ، أذ لقيت الحسين بن علي خارجاً من مكة ، مع أسيافه وأتراسه ، فقلت : لمن هذا القطار ؟

فقيل : للحسين بن علي ، فأتيته فسلمت عليه ، وقلت له : أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحب بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله ، ماأعجلك عن الحج ؟ فقال : لو لم أعجل لأخذت (2) الأرشاد ص 218 .

ومن كلام الإمام هذا يتضح أنه في المرحلة الثانية من ثورته وقع في دائرة الأبتزاز الحكومي لذلك عجل بالخروج من مكة المعظمة مهاجراً عنها ، يقول الشيخ المفيد :

- ( ولم يتمكن من تمام الحج مخافة أن يُقبض عليه بمكة فينفذ به إلى يزيد بن معاوية ) (1) الأرشاد ص 218

- الدليل الثاني

- عندما تحركت قافلة الحسين من مكة إلى الكوفة حطت رحالها في منزل [ الثعلبية ] وعند الصباح جاء رجل من أهل الكوفة يقال له أبو هرّة الأزدي وقد سأل الإمام الحسين قائلاً : يابن رسول الله !

ما لذي أخرجك من حرم الله وحرم جدك رسول الله ؟ قال

- ( يا أبا هرّة أن بني أمية قد أخذوا مالي فصبرت ، وشتموا عرضي فصبرت ، وطلبوا دمي فهربت ) (2) مقتل الخوارزمي د 1 ص 226 واللهوف ص 62 ومثير الأحزان ص 23 . ويتضح من كلام الإمام هذا أنه وقع في مكة مورداً للأبتزاز ، وعرضة للتجاوز من قبل حكومة بني أمية مما أفقده حريته وأمنه لذلك فقد عجل بالخروج من مكة إلى الكوفة

- الدليل الثالث

- أشرنا فيما سبق إلى أن يزيد بن معاوية كان قد كتب إلى ابن عباس كتاباً يشكره فيه على الوفاء ببيعته ورفضه مبايعة أبن الزبير ، وقد أجابه ابن عباس بجواب عالي المضامين أقتطفنا منه ما ينفعنا للمرحلة الأولى وحالتها الدفاعية ، وسنورد هنا بعضاً من كلامه ينفعنا في المرحلة الثانية لثورة الإمام الحسين كتب ابن عباس يقول :

- ( وما أنس من الأشياء فلست بناس ... دسك إليه (الحسين) الرجال تغتاله فأشخصته من حرم الله إلى الكوفة ) (3) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 335 ومقتل الخوازمي ج 2 ص 28 وتذكرة السبط ص 275 .

- وأبن عباس كان رجل سياسة مرموق وكان عارفاً بمجريات التحرك الحسيني ، وما يجري على الإمام في الظاهر .

لذلك قال مؤكداً هذه النزعة : دسك إليه الرجال تغتاله فأشخصته من حرم الله إلى الكوفة ، وهذا الكلام يبين ما كان يعانيه الإمام من أبنزاز وتعدٍ من قبل الحكومة ... كان شرحاً للأدلة التاريخية المبينة للأسلوب المرحلي في ثورة الإمام بدرجته الثانية ، والآن سنبحث مسألة تشكيل الحكومة .

- عندما قرر الإمام الحسين الخروج من مكة إلى الكوفة فأننا نلاحظ في تحركه على الصعيد العملي جانبين الأول : يتعلق بالمقاومة والدفاع ،

والثاني :

يتعلق بتشكيل الحكومة .. ونلاحظ في تأريخية الثورة الحسينية إن قضية الحكم والحكومة كانت المسألة المطروحة في حواراته وأحاديثه وخطبه ، كما نرى ذلك جلياً في رسالته إلى اهل الكوفة والتي بعثها بيد مسلم بن عقيل أذ كتب يقول

- : ( .. فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب ، والقائم بالقسط والدائن بدين الحق )(4) الكامل في التاريخ ج 4 ص 21 والأرشاد 204 .

وكذلك في حديثه إلى الحر بن يزيد الرياحي وجماعته قال :

- ( ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدعين ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور والعدوان )(1) الكامل في التاريخ ج 4 ص 47 والأرشاد ص 226 .

وهذا الكلام منه يبين خط سيره في المرحلة الثانية من الثورة ، فهو أضافة إلى مقاومته ضد أشكال التجاوز والعدوان كذلك كان يفكر بجدية بمسألة الحكومة والخلافة ، وهذا التفكير مشروط بتوفر الظروف الموضوعية المناسبة لذلك ، وقد فصلنا الأمر في ذلك في الفصل الأول فلا نعيد .

أدلة المرحلة الثالثة

- كان ذلك بحثاً في دليلية المرحلة الثانية وماهيتها ، والآن سنبحث في دليلية المرحلة الثالثة من الثورة وماهيتها ، يعني بحث في الوقت الذي إلتقى فيه الإمام الحسين بالحر بن يزيد الرياحي إلى ما قبل الحرب .

- وبتعبير أدق ؛ من يوم محاصرة جيش الحر للإمام إلى ما قبل الحرب رسمياً ... وهنا لا بد من التنبيه ؛ أن النصر العسكري للإمام أصبح مستحيلاً بعد ملاقاته لجيش الحر ، وأن مسألة تشكيل الحكومة هي الآخرى أصبحت منتفية ، لآن تشكيل الحكومة تكليف مشروط بالقدرة ... وعلى هذا أتفاق العلماء وأجماعهم بشقيه .. ولهذا السبب صار الإمام مدافعاً فقط ، وصار عمله التأسيسي هو تقوية دعائم السلام ، والأبتعاد قدر الأمكان عن دائرة الحرب وشبحها ، ولكي نثبت المدعى نأتي بأدلة من التاريخ توكيداً وتأييداً للمطلب

- الدليل ألأول

- عندما سارت قافلة الإمام الحسين نحو الكوفة ، ألتقى بالحر بن يزيد الرياحي في منطقة

- ( ذو حسم ) وكان الحر بن يزيد مأموراً بمحاصرة الإمام وأسره ، وقد خطب الإمام بجيش الحر قبل صلاة الظهر قائلاً

- ( .. أني لم آتكم حتى أتتني كتبكم وقدمت عليّ رسلكم ان أقدم علينا فأنه ليس لنا إمام ، لعل الله يجمعنا بك على الهدى ، فأن كنتم على ذلك ، فقد جئتكم فأن تعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم ، وأن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين أنصرف عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم ) (2) تاريخ الطبري ج 4 ص 303 والأرشاد ص 226 .

- وقد كرر نفس الخطاب البياني بعد صلاة العصر ، بديهي أن قول الإمام : أذا لم تفعلوا ، وكنتم لقدومي كارهين أنصرفت عنكم .

- هذا أمر حقيقي ، وأنه صمم فعلاً على ذلك ، لأن تشكيل الحكومة صار أمراً مستحيلاً وغير ممكن فالكوفة أوضاعها السياسية قد تغيرت ، وبنية التفكير الأجتماعي قد حوصرت بتسلط عبيد الله بن زياد على الحكم فيها . وبالتالي فلا قدرة لديه لتشكيل الحكومة مما ينتفي معه التكليف

- ( ( ينتفي التكليف بتشكيل الحكومة ، اما التكليف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فباق ) وهذا يبين مصداق طلبه بالرجوع حفاظاً على جماعته ، وأنتهازاً لفرصة أخرى أكثر تناسباً وأنفع للأسلام والمسلمين . وهذا العمل منه عقلاني جداً درج على أستخدامه الأنبياء العظام ، والأولياء الكرام في طول المسيرة البشرية . وهو تصرف يحدّ من العمل العدواني للديكتاتورية الحاقدة ، وهو حالة دفاعية مرحلية يُراد منها الخروج من دائرة الدم والفتنة

- الدليل الثاني

- لقد جاء عمر بن سعد إلى كربلاء طمعاً برضا ابن زياد وبعطاياه وهباته ، وقد حاول في البداية الأتصال بالإمام الحسين أذ بعث إليه قرة بن قيس الحنظلي فقال له : ألق الحسين فسله ما جاء به ، وماذا يريد ؟

فقال : قرة بن قيس فلما رآه الحسين مقبلاً ... قال له الحسين : كتب إليّ أهل مصركم هذا أن أقدم ، أذ كرهوني فانا أنصرف عنهم (1) تاريخ الطبري ج 4 ص 311 والأرشاد ص 220 والأخبار الطوال ص 227 .

- ولم يطرح الإمام الحسين هذا المبدأ الأقتراحي لغواً ، وإنما كان أقتراحاً حقيقياً وواقعياً ، لأنه كان فعلاً يريد الرجوع بحرية إلى الحجاز ، لأنه لا يريد أراقة الدماء ، وكلامه هذا يبين فحوى عمل الإمام المرحلي في الدفاع والمقاومة فقط من أجل حفظ السلام والأبتعاد عن دائرة الحرب .

- الدليل الثالث :

- وكان الإمام الحسين قد خطب يوم عاشوراء خطاباً تاريخياً سعى فيه إلى الحد من النزعة العدوانية والحماقة التي ترُتكب ، والأتجاه السادي في ممارسة الأعمال ، قال مخاطباً القوم : يا شبث بن ربعي ويا حجار بن أبجر ويا قيس بن الأشعث ، ألم تكتبوا أليَّ أن أقدم قد أينعت الثمار وأخضر الجناب ، وأنما تقدم على جند لك مجند ؟ قالوا : لم نفعل ، قال : سبحان الله ! بلى والله لقد فعلتم ... أيها الناس أذ كرهتموني فدعوني أنصرف إلى مأمني من الأرض (2) تاريخ الطبري ج 4 ص 323 . وهذا الخطاب يبين مصداقية التوجه الذي يقوده الإمام بالأبتعاد عن الحرب وكل ما يثيرها ، لأنه في المرحلة تلك صار مدافعاً فقط

- ملاحظة

- يقول البعض أن جملة ( دعوني أنصرف ) في كلام الإمام أنما هي توجيه يُراد منه أتمام الحجة . ولكن ينبغي القول ؛ لو كان المقصود من أتمام الحجة هو ؛ أن الإمام قال : دعوني أنصرف في الظاهر فقط ، وأنه لو ترك حراً لما رجع ، وبذلك لا تتم عليه الحجة ، أذ يفتح عليه طريق التسأؤل والأعتراض كالقول : نحن تركنا الحسين حراً فلماذا لم يرجع ؟ ولو كان المقصود من اتمام الحجة هو المعنى من جهة الواقع ، ولذلك قال : دعوني أنصرف ، ولو ترك حراً لرجع فعلاً ، وفي هذه الحالة لا يكون لكلمة توجيه معنى يذكر ، لأنه في الفرض هذا مقصود الإمام بقولة :

دعوني أنصرف واقعاً وحقيقياً ، أي لو تركت حراً لرجعت . وهنا ستكون الحجة تامة عليه وأنهم سيكونون محكومون بها ، لأن الإمام في الواقع يريد الرجوع ولكنهم منعوه وأصروا وأستكبروا أستكبارا ، وعتوا عتواً كبيرا ، على ذلك حتى فعلوا فعلتهم الدموية .

- إلى هنا نكون قد أتينا بأربعة أدلة على المرحلة الأولى وبثلاث أدلة على المرحلة الثانية والثالثة ، والمجموع كان عشرة أدلة تأريخية في المراحل الثلاث من ثورته . فالتجاوز من قبل الحكومة والمقاومة من قبل الإمام دفعاً لهذا التجاوز . مع هذه الملاحظة ؛ أن الإمام في المرحلة الثانية كان أضافة إلى أنه يدافع فقد كان يفكر بتشكيل الحكومة أذا توفرت الشروط الموضوعية لذلك . فكان الشغل الشاغل في تفكير الإمام الحسين هو تشكيل الحكومة الإسلامية القوية والقادرة على تخليص الأمة من شر حكومة يزيد . وتبين لنا انه قد فقدت الشروط الموضوعية لتشكيل الحكومة في المرحلة الثالثة ، وكان الأمر الذي يفكر به هو ترك النزاع والإتجاه نحو السلام والإبتعاد عن دائرة الحرب وما يقرب إليها

- المرحلة الرابعة

- حان الوقت لكي نزيح الستار عن الماهية الدفاعية مرحلياً في المرحلة الرابعة

- ( (مرحلة الحرب رسمياً ) فالإمام سعى جاهداً للحدّ من النزعة العدوانية والسعي الحثيث نحو السلام ، وهذا المسلك النزوعي تأكيدٌ على أنه لم يكن راغباً بالحرب ولا بأراقة الدماء ، ولكن يزيد وحكومته سعوا بكل قواهم المادية للدخول بالحرب وقتل وأنتهاك حرمة البيت النبوي ، وهذا الأجراء العدوني يلزمه وقفة بطولية من قبل الإمام وهكذا دخل الإمام الحرب مضطراً كارهاً ومدافعاً . مع أنه لم يكن معه إلا القلة من أصحابه وأهل بيته دخل الحرب مدافعاً ومقاوماً وهذا الدخول منه امر يحتمه العقل والقانون والضمير ، لأنه لا مجال لمكافحة نزعة العدوان الجبرية إلا بالدفاع عن الشرف والمبادئ والقيم السماوية الخالدة ، ولذلك تقدم هو ومن معه من أباة الضيم كراماً ضد الغزو البربري الحاقد .

- وقد كان في موقفه ذاك يجسد أرادة الإنسان وحقه في الحياة ، راسماً للأجيال طريق العز عبر قاعدة عقلانية مفادها ؛ ان من تعرض للعدون فلا بد له من المقاومة والدفاع ، ولعل الإمام في موقفه هذا عبّر خير تعبير عن لوائح وبنود الحقوق الدولية ، لأنه يعلم يقيناً أنه لو سلم لأبن زياد فانه سيكون تسليماً ذليلاً يبقى مع الدهر لطخة عار وشنار على حملة العقيدة ، ودليلنا في ذلك قوله يوم عاشوراء لقيس بن الأشعث حينما دعاه للقبول بحكم أبن زياد :

- (... أنت أخو أخيك ، أتريد أن يطلبك بنو هاشم باكثر من دم مسلم بن عقيل ؟ لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل .. ) (1) الطبري ج 4 ص 323

في هذا الجو وتحت ظل هذه الشروط فأن على الإمام أن يقاوم ويدافع ولا بديل له عن ذلك الطريق ، ولابد أن تنتهي المقاومة هذه إلى أحد طريقين لا ثالث لهما ؛

1 – أما النصر ولو كان بنسبة ضئيلة تقدر [ ب 1%] كما قال الله تعالى

( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بأذن الله ) البقرة آية 249

2 – أو الشهادة في طريق الهدف والمبدأ ودفاعاً عنهما .

أذن فعمل الإمام في المرحلة الرابعة فقط ذو جنبة دفاعية

ينبغي أن لا يتصور أن الإمام الحسين في المرحلة الرابعة دافع عن نفسه لا عن الإسلام ، لما رفض أعوان ابن زياد مقترحه بالسلام والنزوع إلى الصلح ، لأن هذا التصور غير صحيح لأنه لما ثار الإمام كان منذ البداية يريد إحياء الإسلام ، وظل ذلك شغله الشاغل حتى آخر مرحلة من مراحله الثورية . ودفاع الإمام في مرحلته الرابعة يجري تقييمه وحسابه داخل إطار الثورة المدافعة عن حقوق الإسلام والمسلمين

ولهذا فالتجاوز والهجوم على الإمام هو هجوم على الإسلام والدفاع عن الإمام هو دفاع عن الإسلام . وهذه القاعدة نجريها في السنن التاريخية عامة ، فكما لا يجب أن نتصور أن الرسول في حروبه كان يدافع عن نفسه لا عن الإسلام فهذا تصور رومانطيقي مختلق لا يكتنفه من الصحة أي دليل ، فعمل الرسول من بدايته وحتى نهايته هو للأسلام وفي الأسلام ومع الإسلام ، وأن تعددت الأدوار وأختلفت المراحل لكنه من حيث جوهره مرحلياً يعبر عن ذلك تماما ، وعليه فدفاع الإمام الحسين في مرحلته الرابعة يشبه دفاع النبي في المرحلة الأخيرة من معركة أحد

ربما يثار في أذهان المفكرين هذا السؤال ؛ أليس من الأفضل للإمام آنذلك أن يدخل بالسلم مادام كان يعلم أن لا مجال للنصر قطعاً ؟ ولماذا لم يباشر بالدعوة إلى محادثات سلام كما يفعل اليوم بين قادة الشرق والغرب دفعاً لحالات التوتر والنزاع السياسي والحزبي والأقليمي ؟ وأليس من الصلاح أن يجعل الإمام باب السلام مفتوحا لحل المشاكل السياسية العالقة ؟ وأليس من الأقرب للعقل والمنطق أن يتبنى الإمام هذا المشروع ، والمقترحات من أجل حل المشاكل السياسية والأبتعاد عن دائرة الحرب ، وما تجره من ويلات وخسائر ونكبات ؟

والجواب على هذه التساؤلات هو؛ ان الأرتباط بين الإمام الحسين والحكومة قد قطع ، عندما هاجمت الحكومة وعمالها الإمام في المدينة وأضطرته للهجرة إلى مكة والمسؤول عن قطع هذه الأتصالات هي الدولة وأجهزتها الحكومية .

ولما توقف الإمام بمكة أتصل به أهل العراق وطلبوا منه مساعدتهم في تشكيل الحكومة ، وأرجاع الخلافة إلى أهل البيت ، وبعد ملاقاته بالحر بن يزيد الرياحي فأن مسألة الحكومة أصبحت منتفية أو بقول الأصوليين ــ سالبة بأنتفاء الموضوع ــ وهذا ما جعل الإمام يدعو إلى السلام مرحلياً ، بعد أن فقد شرائط النصر ، وأصبح عملياً تحت سلطة الدولة ، والقبول بالمقترحات وهو في الحالة تلك كما لا يخفى على أهله . نعم أنه أصر جاهداً الأبتعاد عن دائرة الحرب والركون إلى طاعة المباحثات ، ولكن الأمر رفض بقوة وبعناد من قبل الحكومة ، ولم يبق الا خيار واحد وهو الحرب ؛ وليس من المعقول أن يسلم الإمام ذليلاً لأبن زياد

نعم أن الإمام الحسين سعى في المرحلة الثالثة من ثورته إلى ترك الخصومة ، والركون إلى السلام وحاول عبر مرات خمس أن يتركوه حراً، ليعود من حيث أتى والمرات تاريخياً وزمنياً هي كالآتي :

1 – لما ألتقى الإمام الحسين بالحر بن يزيد الرياحي طلب منه الرجوع قبل صلاة الظهر حيث قال :

( وأن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين أنصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم ) (1) تاريخ الطبري ج 4 ص 303 والأرشاد ص 226 .

2 – وأيضاً خطبهم بعد صلاة العصر قائلاً :

( ... وكان رأيكم على غير ما أتتني به كتبكم ، وقدمت به علىّ رسلكم أنصرفت عنكم ) (2) تاريخ الطبري ج 4 ص 303 والأرشاد ص 226 .

3 – وعندما ألتقى بمبعوث عمر بن سعد ــ قرة بن قيس ــ عندما سأل الإمام عما جاء به وماذا يريد ؟

قال له الحسين : كتب إليّ أهل مصركم هذا إن أقدم فإما أذ كرهوني فأنا أنصرف عنهم (3) تاريخ الطبري ج 4 ص 311 والأرشاد ص 230 .

4 – وقد طرح الإمام الحسين قضية رجوعه في خطبته يوم عاشوراء حينما قال :

( ... أيها الناس إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض ) (4) تاريخ الطبري ج 4 ص 323 والحسين بن علي سيد الشهداء ص 82 ابن العديم .

5 – وأيضاً طرح الموضوع نفسه مرة أخرى عندما ألتقى بعمر بن سعد ليلاً سراً في كربلاء حيث قال له :

( ... دعوني أذهب في هذه الأرض العريضة ... أو أن أرجع إلى المكان الذي قبلت منه ) (5) تاريخ الطبري ج 4 ص 312 والأرشاد ص 231 .

وقد أشرنا إلى الموارد الأربعة الأولى سابقاً وسنتحدث الآن عن المورد الخامس

لقد أرسل الإمام الحسين إلى عمر بن سعد رسالة قال فيها :

( أن ألقني الليل بين عسكري وعسكرك ، فخرج أبن سعد في نحو من عشرين فارساً ، وأقبل الحسين في مثل ذلك ، فلما ألتقوا أمر الحسين أصحابه أن يتنحوا عنه ، وأمر عمر بن سعد أصحابه بمثل ذلك ، قال هاني الحضرمي :

فأنكمشنا عنهما بحيث لا نسمع أصواتهما ولا كلامهما ، فتكلما فأطالا حتى ذهب من الليل هزيع .. ) (6) تاريخ الطبري ج 4 ص 312 والأرشاد ص 231 . ومرتين أو ثلاث أجتمعا سراً وتكلما طويلاً . (7) تاريخ الطبري ج4 ص 313 .

وقد سعى الإمام في ذلك أن ينضم إليه ابن سعد هو ومن معه ويسيرون سوياً نحو الكوفة

[ لذلك يقول عمر بن سعد بعد وقعة كربلاء ضمن إظهار أسفه : ــ أطعت الفاسق ابن الفاجر الظالم ، وعصيت الحاكم العادل ] ولو أطاعه ابن سعد لأستطاع فتح الكوفة بسهولة ولو تم ذلك فأن ابن زياد يهرب أذا استطاع أو يُقتل . ولكن وما في التاريخ المدون لم يُذكر شيئاً لنا عن تلك المحادثات وإليك البديهيات

1 – أن المباحاث أبتدأت مع مقترحات الإمام تلك .

2 – حرص الإمام الشديد على أدامة المحادثات ولذلك تمت على ثلاث أو أربع جلسات .

3- رضى الطرفين عن نتيجة المباحثات .

4- وقد جرى في المباحثات تقيّيم كلي للوضع وعرض فيها أسس السلام بقوة .

نعم أن الإمام الحسين كان قد تعامل مع المباحثات بروح طيبة وبحسن نية وأبدى كامل الأستعداد لتنفيذ ما يجري الأتفاق عليه ، والإمام قد أقترح الرجوع من حيث أتى وقبل عمر بن سعد هذا الأقتراح من حيث المبدأ ، وقد أبدى تجاوباً ملحوظاً مع نتيجة المباحثات وكتب في هذا الصدد لعبيد الله بن زياد يخبره بما جرى الأتفاق عليه . وكان لأقتراح الإمام أثرٌ إيجابي ظهر ذلك حتى عند ابن زياد مع حقده وعناده أذ قال في أول الأمر :

( ما أراني إلا مُخلِّ سبيله يذهب حيث يشاء ) (1) سير النبلاء ج 3 ص 202 .

وقد روي الطبري أن ابن زياد لما قرأ كتاب عمر بن سعد هذا قال :

( هذا كتاب رجل ناصح أميره مشفق على قومه ، نعم قد قبلت ... فقام إليه الشمر بن ذي الجوشن ورده عن ذلك ) (2) تاريخ الطبري ج 4 ص 313 والأرشاد ص 222 .

وهذا يؤكد لنا أن الإمام الحسين سعى من أجل أقرار حالة السلم ، وحتى أن ابن زياد مع وحشيته وهمجيته وحقده أضطر في بادئ للقبول ، لولا الشمر بن ذي الجوشن الذي صرفه عن ذلك .

صحيح أنه لو تم للإمام ما أراده في المرحلة الثالثة من ثورته في ترك النزاع والتخاصم لتحقق لديه نتائج باهرة منها

1 – لو تم ذلك ؛ لما قتل الإمام الحسين تلك الذخيرة الألهية العظيمة ، وزعيم البيت النبوي ، ولما حلت تلك الفادحة الأليمة في الإسلام ، ولما فقدت الأمة الإسلامية مصلحاً عظيماً وزعيماً ألهياً كبيراً .

2 – ولما قتل أصحابه سواء الذين كانوا معه في كربلاء ، او الذين أستشهدوا مع سليمان بن صرد الخزاعي في ثورة التوابين ، أو الذين ثاروا مع المختار بن أبي عبيدة الثقفي وقتلهم مصعب بن الزبير الذي أمر بأن تضرب أعناقهم جميعاً ، وكانوا يقدرون بستة آلاف رجل (3) الأخبار الطوال ص 309 .

وحتماً لو بقيت هذه القوات وظلت حتى فرصة أخرى لكان لها دور مفيداً ونافعاً تجاه الإسلام والمسلمين

3 – ولو حقق له ما أراد من النزاع والتخاصم لأستطاع الإمام أن يبتعد عن المراقبة ولتمكن من تشكيل جيش قوي يستطيع من خلاله أقامة الدولة والحكومة الإسلامية .

4 - وحتى لو لم يقتل الإمام يزيد بن معاوية لكان من نتائج الصلح أن يسيطر أصحاب العدل على الحكومة فبعد موت يزيد بثلاث سنين تخلى أبنه معاوية بن يزيد عن الخلافة وأختل وضع الحكومة الأموية ،

وأراد مروان بن الحكم ان يبايع عبدالله بن الزبير (1) الكامل في التاريخ ج 4 ص 145 . وضمن تلك الظروف يستطيع الإمام أن يتولى أمر المسلمين وخلافتهم

ربما يسأل أحدنا ؛ لماذا لم يطرح الإمام مشروع السلام عندما توقف بمكة ؟

والجواب : انه ليس من المعقول أن يطرح الإمام مشروع السلام ، وأمكانية النصر متوفرة وأن جنود الحق قادرون على قهر جنود الباطل ، فان الحالة هذه نهى عنها الله سبحانه بقوله

( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون ) محمد آية35 . لأنه بمجرد أحتمال القضاء على الباطل فالواجب يدعو لعدم المسامحة ، لأن الأنتصار هو تطهير للبلد الأسلامي من الأمراض والمفاسد التي تقوم بها الحكومة الظالمة ، فالأصل هو البناء الداخلي وعندما يتحول البلد الأسلامي إلى كتلة واحدة عند ذلك تزول كل الصور المخلة بوجوده وبأمنه وسلامته وأستقراره ، وتدفعه بالمقابل إلى التقدم والرُقي .

ولكن أذا لم يكن هناك أملاً بأنتصار الحق على الباطل فأنه بحكم الأجبار يكون ترك النزاع ، والدعوى إلى السلم عملاً جائزاً بل واجباً حتى لا يقضي نهائياً على القوى المحبة للسلام والعدل والحق ، والتي ربما يكون لها في المستقبل نصيب أكبر في عمليات دحض الباطل وأزهاقه .

ولقد فعل الإمام الحسن ذلك فعندما كان في أول أمره قادر على الأنتصار على معاوية جهز جيشاً وتوجه به نحو الشام ، ولكنه لما رأى الخيانة والضعف من أصحابه والنفاق عند بعض قادته ، وما دبروه بالخفاء من الكيد وأرادوا قتله أوتسليمه إلى معاوية ، وهذا مما أخل بموازين القوى وسلب من الإمام الحسن أي أمكانية للنصر على معاوية دخل في السلم مكرهاً مضطراً مجبراً ..

وهكذا فعل الإمام الحسين ، لما رأى أن أسباب النصر وتشكيل الحكومة متوفرة عزم على الخروج نحو العراق والكوفة خاصة ،

ولم يكن من الجائز في ذلك الوقت ان يطرح مسألة وموضوع الصلح عقلاً ، ولكنه رأى أن أوضاع الكوفة قد تبدلت وتغيرت وأن عبيد الله بن زياد قد صار حاكماً في الكوفة ، ولاحظ أن أمكانية النصر أصبحت مستحيلة ،

أقترح مشروعه في السلام مجبراً مكرهاً مضطراً ، وقد عمل مخلصاً من أجل أقراره وتنفيذه ، وعليه فالتوجه السياسي للإمام الحسين تجاه حكومة يزيد مطابق تماماً للتوجه السياسي للأمام الحسن وكلاهما ينطلق من مشكاة واحدة ، وليس من العدل بمكان أن نفسر ما قام به الإمام الحسين منفصلاً عما قام به الإمام الحسن لأن ذلك تجاوز لا شعوري مرفوض ولأنه ؛ خدش في مكانة ، وطبيعة الإمامة ونظامها وشكلها الدستوري ، وتوهين مقصود لسبط النبي

بعد أستشهاد الإمام الحسين شك بعض الشيعة البسطاء في سياسة الحسين وقالوا :

أذا كان فعل الإمام الحسن صحيحاً في أقامته الصلح مع معاوية ، فلماذا جاء الإمام الحسين إلى العراق يُقاتل يزيد بجيش أقل من جيش الإمام الحسن ؟ ولو كان فعل الإمام الحسين صحيحاً ، فلماذا صالح الإمام الحسن معاوية مع أن لديه جيشاً كبيراً ؟

وبناء على هذا الأختلاف والتناقض في فعليهما ؛ فنحن لا نستطيع قبول أمامة أي واحد منهما (1) المقالات والفرق تأليف سعد بن عبد الله الأشعري ص 25

ولهذا توقف الشيعة البسطاء والسذج في أمامة الحسين ، مع أن واقع الحال يقول

أن الإمام الحسن عاش في صلح مع معاوية ما يقارب العشر سنين ، في حين عاش الإمام الحسين صلح مع معاوية ما يقارب العشرين سنة ، عشرة في زمن الإمام الحسن وعشرة بعد وفاة الإمام الحسن حتى هلاك معاوية

وأشتباه الجماعة الذين توقفوا في أمامة الحسنين ناشئ من عدم دقتهم في تشخيص ماهية ثورة الإمام الحسين تشخيصاً علمياً ولذلك أنحرفوا في تلقيهم للمعارف وللعقائد الألهية ، ولكنهم لو قرؤوا الحوادث التاريخية قراءة تطبيقية تأملية لفهموا عمق الخطاب السياسي الشمولي لدى الإمام الحسين وأنه أقره بعد أن علم ؛ أن لا قدرة له على تحقيق النصر وفي ظل مثل تلك الظروف ، فأنه لم يكن ميالاً للدخول في الحرب مع يزيد ، وهذا ما يؤكده شمولية الخطاب السياسي المعرفي لدى الحسنين وأنه في حركة وحدوية ضد النزعة الأستبدادية لحكومة بني أمية .

نعم الفرق هو ؛ ما بين حكومة معاوية وحكومة يزيد ، فحكومة معاوية كانت ترغب بالصلح ، ولكن حكومة يزيد ترفض الصلح ، وهذا الأختلاف في منهج الحكومتين ، لا ينبغي أدراجه كأختلاف بين منهج الحسنين ،

ولهذا نرفض فكرة التشاؤم التي يبديها بعضهم حول صلح الإمام الحسن ، والواقع أنه يجري في المجتمع الشيعي بعض المقولات السفسطائية حول الإمام الحسن وصلحه ، وترجع هذه المقولات في خطابها العام إلى الأشتباه الموضوعي في تشخيص ماهية ثورة الإمام الحسين ومن هنا ينبغي رد هذا الأشتباه وتوجيه الناس إلى وحدة الخطاب السياسي لدى الحسنين وهي أمتداد لوحدة المنهج والرؤية السياسية لدى الإمام علي ) .

والحق يُقال أن الأنحراف في فهم الخطاب يعود إلى مجالس العزاء ولغتها التراجديدية الأسطورية والتي لا تبحث كثيراً وتفرق بين الخطابين دون وعي سابق ،

مما يخل بوحدة اللغة ونظام العقيدة وميزان العصمة والأمامة ، والواجب يقتضي أن ننبه إلى ذلك ولو مرور الكرام ، مجملين غير مفصلين تاركين الأمر إلى مناسبة أخرى وبحث مستقل إنشاء الله .

ولكي نحدد ملامح لغة الخطاب معرفياً ينبغي ملاحظة المرحلية في كلام الإمام الحسين فمرة يتكلم عن تشكيل الحكومة ويقول

( نحن أولا بولاية هذا الأمر من هؤلاء ) (1) الأرشاد ص 226 .

ومرة يدعوهم إلى أن يتركوه ينصرف إلى مأمنه من الأرض كما جاء بقوله : ( دعوني أنصرف ) ومرة ثالثة يتحدث عن الموت والإقدام والتضحية كقوله :

( أني لا أرى الموت إلا سعادة ) (2) تحف العقول ص 174 .

فكيف يمكن الجمع في تعددية الخطاب ؟ وهل أنه يريد أن يشكل الحكومة أو انه يريد الأبتعاد والأنصراف أم كان يريد أن يقتل نفسه ؟ وهل أن هذه المطالب المعنوية متراكمة ومتزاحمة فيما بينها ؟

ولكي نجيب على السؤال لابد من القول : أن الإمام الحسين كان يهدف في مرحلته الثانية أضافة إلى رفض بيعة يزيد ، فأنه قد لبى دعوة أهل الكوفة من أجل تشكيل الحكومة الإسلامية ، وأقتلاع جذور الظلم والفساد الأموي ، إحياء للسنة وإماتة للبدعة ، وقد سار في هذا المدى إلى أقصاه وأزداد حماساً لذلك لما وافاه كتاب مسلم بن عقيل ؛ يخبره بحسن رأي القوم وأجتماع ملئهم على نصره والطلب بحقه . (3) تاريخ الطبري ص ج 4 ص 297 .

وهذا ما جعل الإمام الحسين يقول

( نحن أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدعين ما ليس لهم ) (4) تاريخ الطبري ج 4 ص 303 والأرشاد ص 226 . فهذا الخطاب مرتبط بذلك الزمن الذي قرر فيه تشكيل الحكومة ، وفي ذلك الزمن لم يكن قد طلب الصلح ، ولا تكلم عن الموت ، لأن طلب الصلح سلب مقنن أمكانية الأصلاح الثوري الذي يطمح الإمام إلى تحقيقه . ولأن طلب الموت يعني قتل أعظم شخصية عرفتها الأرض بعد النبي والناس بحاجة إلى تطبيقاته العادله وأحكامه وعلمه ، والموت بما هو مصيبة وثلمة في الإسلام لا يسدها شئ

ولما تغيرت أوضاع الكوفة ، وسيطر أبن زياد على الحكم فيها فأن أمكانية النصر أصبحت حاجة مستحيلة أو هي كذلك ، لذلك نزع الإمام في خطابه السياسي إلى السلام مضطراً مجبراً ولذلك قال

( دعوني أنصرف إلى مأمني ) (5) تاريخ الطبري ج 4 ص 323 . وخطابه من هذا القبيل يرتبط بتلك الفترة الزمنية وقد سعى الإمام في ذلك الزمان لترك النزاع والخصومة ، ولم يكن عند ذاك طالباً للموت

وفي المرحلة الثالثة ؛ وعندما رفض ابن زياد أقتراح الإمام الداعي إلى الركون للصلح والسلام ، أيقن الإمام أنه لو سلمّ فأنه سُيقتل ذليلاً كما قتل مسلم بن عقيل (6) تاريخ الطبري ج 4 ص 323 .

أذن فألإمام بحكم الضرورة ضد الهجوم الذي شنه الأعداء وقد قدم نفسه قرباناً كسيد الثورة ، مما قدمناه يتضح ؛ أن الإمام الحسين كان يهدف بالدرجة الأولى إلى تحقيق النصر ؛

وأن الصلح المشرف كان هدفه بالدرجة الثانية ، وأن الأستشهاد كأعلى مراحل التضحية كان هدفه في الدرجة الثالثة ، مع هذا الفرق ، أنه في البداية سعى مخلصاً لتحقيق النصر وسعى إلى الصلح بعد فقدان الشروط الموضوعية للنصر ،

ولكنه لم يسع مطلقاً للقتل ،

بل أن الذي قتله أعوان يزيد وأنصاره ظلماً وحقداً وعناداً وتحدياً صارخاً لأرادة الإسلام والقرآن العزيز .. وهذا التسلسل المرحلي في بنية الثورة لم يلاحظه ( مارتن الألماني ) بل أنه خلط في درجة الخطاب فطبق كلام الإمام :

( أني لا أرى الموت إلا سعادة ) على هدفه بالدرجة الأولى وقال : كان منذ البداية هدف الإمام الحسين القتل . ولكن هذا ( المستشرق الالماني ) لم يوضح شخصياً معنى كلام الإمام هذا وحقيقتة ، أذ أن لكل مقام مقال

ينبغي التوجه إلى هذه الملاحظة ؛ أن الموت في خطاب الإمام جاء في الدرجة الثالثة من أهدافه ، وهو أنما يعني الموت بعزة وبشرف على الحياة الذليلة المعذبة ، أذن فالموت لم يكن هدفاً بل كان وسيلة متممة للهدف الأول .

ولذلك كان عمل الإمام الدؤوب للحد من ظاهرة العدوان والقتل ، حتى جاء في خطابه يوم عاشوراء تأكيداً على المبدأ وأرساء لقواعده ، قال

( أما بعد ، فانسبوني فانظروا من أنا ، ثم أرجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي ؟ .. ) (1) تاريخ الطبري ج 4 ص 322 والأرشاد ص 236 . ثم بدأ يعدد لهم خصاله الكريمة وقربه القريب من النبي وأن قتله يعتبر جريمة تاريخية كبيرة تحل بالإسلام والقرآن ، ومن هنا ورد الخطاب البياني في زيارة الإمام الحسين : ( مصيبة ما أعظمها وأعظم رزيتها في الإسلام ) (2) مفاتيح الجنان ص 457 القمي

يرى بعض أصحاب القياس : أن الإمام الحسين لم يقم بالثورة على معاوية بعد وفاة الإمام الحسن وذلك لأن معاوية كان يراعي ظاهراً من الدين ، ولم يكن خطره على الإسلام أعظم من خطر يزيد عليه ، أذ أن يزيد لم يراع ظاهراً من الدين ولهذا فخطره أعظم من خطر معاوية ، ومن هنا وجب القيام والثورة عليه .

ولكن جماعة أخرى من أصحاب الرأي يرون ؛ أن معاوية لم يكن في الواقع يراعي ظاهراً من الدين ، بل ان خطره على الإسلام أعظم بكثيراً من خطر يزيد ، وأن العلة المانعة من قيام الإمام بالثورة عليه ، لا لأن معاوية يحفظ ظواهر الدين ويراعيها ، بل لشئ أخر سيأتي بيانه فيما بعد ؛ ومن أجل تأكيد قولهم بأن معاوية لم يراع ظاهر الدين ولم يحفظ نوامسيه وقواعده ، نعرض للموضوع بفهرست حول أعمال معاوية المناهضة للدين ، ومن يطالع التاريخ الإسلامي ويقرأ يتضح له أن جرائم معاوية سواء من جهة الكم أو الكيف أكبر بكثير من جرائم يزيد وإليك التوضيح :

تولى معاوية بن أبي سفيان الحكم لمدة قاربت [ ال42 سنة ] ، منها [ 22 سنة] حاكم على أمارة الشام تولاها منذ موت أخيه يزيد بن ابي سفيان وبعد خمس سنين من خلافة عمر بن الخطاب وظل فيها إلى أن قتل أمير المؤمنين علي في سنة أربعين للهجرة ، ومنها [20سنة ]خليفة إلى أن مات سنة [ 60 للهجرة ] (1) شرح بن ابي الحديد ج 1 ص 338 .

وكانت فترة خلافته قائمة أساساً على مبدأ القوة والأستبداد والديكتاتورية ، وقد مرت الأمة بعهده بسنوات مظلمة ، ولو جمعنا جرائمه وهو والٍ على الشام إلى جرائمه وهو خليفة على المسلمين لتبين بوضوح هول وعمق جرائمه ومفاسده .

ولأيقن الجميع أن عصره عصر أنحلال وفساد أدى فيما بعد إلى تراكم الخلاف وزيادة الهوة بين الدين والحياة . فمعاوية لم يكن له هدف في الحياة غير الحكم والسلطان أشباعاً لرغباته وغرائزه من حب الجاه والمنصب والتمتع باللذائذ الدنيوية ، وحتى يصل إلى هدفه هذا لا يتردد في عمل أي جريمة حتى لو كانت مخلة بالشرف وبنظام الجماعة وطبيعة الأعراف ، ولعل مخالفته لأمير المؤمنين علي وعداؤه الكبير لأهل البيت أكبر دليل على صحة ما قلناه وتجاوزاته غير المبررة ، ولنعرض بعض جرائمه بفهرست مختصر لتعرف من هو معاوية بن أبي سفيان :

1 – ان معاوية قد شرب الخمر ــ الغدير ج 10 ص 179 .

2 – ان معاوية كان يلبس الحرير والديباج ـــ الغدير د 10 ص 216 .

3 – ان معاوية كان يشرب في آنية الذهب والفضة ــــ الغدير ج 10 ص 216 .

4 – ان معاوية كان كثير الهزل والخلاعة صاحب جلساء وسمار ، ولم يتوقر وقد كان في أيام عثمان بن عفان شديد التهتك موسوماً بكل قبيح روي أبو الفرج الأصفهاني قال : قال عمرو بن العاص لمعاوية في مقدمة قدمها إلى المدينة أيام خلافته ، قم بنا لنسمع غناء الجواري ... ولا خلاف أن معاوية كان يسمع الغناء ويطرب عليه ــ شرح ابن ابي الحديد ج 16 ص 161

5 – ان معاوية كان يُقضي على خلاف الإسلام ــ الغدير ج 10 ص 196 .

6 – قال في الأحكام السلطانية ص 219 وتاريخ ابن كثير ج 8 ص 136 ومحاضرة السكتواري ص 164 : ان معاوية لم يقطع يد سارق ، فكان أول حدّ ترك في الإسلام ــ الغدير ج1 10 ص 214 .

7 – ألحق زياد بأبي سفيان ــ شرح ابن ابي الحديد د 16 ص 187 والرواية عن علي بن محمد المدائن .

8 - – حربه مع أمير المؤمنين علي ـــ مروج الذهب ج 2 ص 400 .

9 – بعثه القوات للأغارة والقتل على شيعة علي . الغدير ج 11 ص 16 ــ 17 ــ 18 .

10 – قتله لمالك الأشتر بالعريش ــــ مروج الذهب ج 2 ص 409 .

11 – قتله لحجر بن عدي وأصحابه ـــ الغدير ج 11 ص 52 .

12 – قتله لعمرو بن الحمق الخزاعي الصحابي الجليل ـــ الغدير ج 11 ص 41 .

13 – قتله لمحمد بن ابي بكر والي مصر من قبل الإمام علي ـــ مروج الذهب ج 2 ص 409 .

14 – قتله لشيعة الإمام علي ـــ الغدير ج 11 ص 28 .

15 – وضعه الأخبار والأحاديث في ذم الإمام علي ـــ الغدير ج 11 ص 28 .

16 – وضعه الأخبار في مدح عثمان ـــ الغدير ج 11 ص 28 .

17 - أمره بلعن أمير المؤمنين علي في خطب صلاة الجمعة وبدل سنة النبي محمد في خطبة العيدين ـــ الغدير ج 10 ص 257 .

18 – قتله الإمام الحسن سبط النبي // مروج الذهب ص 427 .

19 – فرضه يزيد ولياً للعهد على المسلمين ـــ الكامل في التاريخ ج 3 ص 503 ــ 511 .

20 – صلاته الجمعة يوم الأربعاء ـــ مروج الذهب ج 3 ص 32 .

وهذه الجرائم التي فعلها معاوية لم تكن خافية على أحد لأنه قام بها دون تردد وبجرأة ووقاحة تامتين .

ولو قسنا ما فعله معاوية قبل خلافته مع ما فعله يزيد قبل خلافته لوجدنا أن جرائم معاوية أعظم وأكبر ، فمعاوية ظل والياً للشام زهاء [ ال22 ستة ] (1) شرح نهج البلاغة لأبن ابي الحديد ج 1 ص 338 . فهو قد مارس ولايته في عهد عمر وعثمان وحتى أستشهاد أمير المؤمنين . أذ أنه ظل حاكماً متمرداً ، وقد مثل الفئة الباغية في حربه للإمام علي مرتكباً أفدح الجرائم من القتل والتدمير كقتله لعمار بن ياسر الصحابي العظيم وسبعين ألفاً آخرين (2) مروج الذهب ج 2 ص 402 . وفي هذا الوقت كان قد هجم على مصر وقتل حاكمها محمد بن ابي بكر (3) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 183 . وبنفس هذا الزمان بعث بجنوده للإغارة على أطراف العراق والحجاز واليمن وأمرهم بالقتل والسلب والنهب ، وقد قتل أحد أعوانه الطغاة المدعو بسر بن أرطاة الفاجر طفلين صغيرين لعبيد الله بن العباس حاكم اليمن من قبل أمير المؤمنين (4) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 188 . وأذا جمعنا ذلك القتل فانه يكون قد تجاوز المئة ألف قتيل وهذا الرقم الهائل قبيل خلافته . أما حياة يزيد قبل خلافته فكانت عبارة عن اللهو والمجون والفساد وسماع الغناء وشرب الخمر والزنا وغيرها من المفاسد ، وهذه مع مالها لا يمكن أن تقاس بفعل معاوية الأجرامي

هذا كله أيام ولايته على الشام ، أما خلافته والتي دامت زهاء [ ال 20 سنة ] ففيها مارس معاوية لعبة القتل هذه المرة مع شيعة الإمام علي كقتله لحجر بن عدي الكندي وعمربن الحمق الخزاعي وأصحابهما ، وفي نفس الوقت أمر بلعن الإمام علي من على منابر المسلمين . وبنفس ذلك الزمان قتل الإمام الحسن وفرض أبنه يزيد ولياً للعهد (5) الكامل في التاريخ ج 3 ص 503 ــ 511 . ومئات الجرائم الأخرى

ولكن مدة حكم يزيد قاربت السنتين وعدة شهور أو ثلاث سنين وعدة شهور (1) تاريخ الطبري ج 4 ص 384

وفي خلافة يزيد ؛ جرت وقعة كربلاء ، ووقعة الحرة في المدينة ، والتي قام بها جنود الحكومة وبأمر من يزيد الذي قال لقادة جيشه : أذا ظهرت عليهم فأبحها ثلاثاً فما فيها من مال أو رق أو سلاح أو طعام فهو للجند (2) تاريخ الطبري ج 4 ص 372 . وقد أحرقت الكعبة المشرفة في زمنه . (3) تاريخ الطبري ج 4 ص 383

ولو قسنا جرائم العشرين سنة بجرائم السنتين لفاقت جرائم العشرين وهذا تأكيد على هول وفظاعة جرائم معاوية ، فالتاريخ أثبت ليزيد جرائم كبيرة هي

1 – وقعة كربلاء

2 - وقعة الحرة في المدينة المنورة .

3 – أحراق الكعبة المعظمة .

وقد أرتكب معاوية مثل هذه الجرائم الثلاث في عهد خلافته فهو قد :

1 - قتل الإمام الحسن ) .

2 – وأمر بقتل عام للشيعة .

ولو أفترضنا أن جرائمهما متساوية من جهة الكمية فأن الميزان سيكون أكثر لمعاوية فهو قد خالف السنن والفرائض فصلى الجمعة يوم الأربعاء وألحق زياد ابن ابيه بأبي سفيان وأمر بلعن الإمام علي و و و .. إلخ . وهذا التعداد يبين أرجحية جرائم معاوية في خلافته . وأتضح مما قلناه ان جرائم معاوية في مدة [ال 42 سنة] تفوق جرائم يزيد بكثير ، وهذا القياس من جهة الكم

لاشك أن معاوية بن ابي سفيان هو

1 – أول من بدل اسلوب وطبيعة النظام الإسلامي في الحكم بشكل كلي إلى نظام طبقي فردي أمبراطوري أستبدادي وديكتاتوري .

2 – وأنه أول من بدل نظام الأحكام فيما يخص القضاء والسرقة والأنساب وصلاة الجمعة وموضوعات أخرى .

3 – وأنه أول من عمل ضد حكومة الإمام علي وكان له الدور الخفي في معركة الجمل (4) شرح ابن ابي الحديد ص 231 . ومن ثم شن حربه القذرة في صفين منتهكاً كل القيم الإنسانية والأخلاقية والتربوية فهو بأختصار أول خارجي على النظام الإسلامي العادل

4 – وأنه أول من أمر بلعن وسب أمير المؤمنين علي في صلاة الجمعة .

5 – وأنه أول من قام بتولية أبنه يزيد ولياً للعهد وحاكماً للمسلمين وجعل الخلافة الإسلامية ملكية وراثية ، أي أنه أول من بدلها إلى نظام حكم ملكي كما قال ابن خلدون . وهذا الفعل منه تخطيط مسبق وعمل عدواني يستهدف منه شل حركة الإسلام التقدمية ، فما قام به يزيد كان المنهج الذي رسمه معاوية من قبل فهو تابع وبقول الحسن البصري : أربع خصال كن في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة ، أنتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة ، وأستخلافه بعد أبنه سكيراً خميراً ، يلبس الحرير ويضرب بالطنابير ، وأدعاؤه زياداً ، وقال رسول الله : الولد للفراش وللعاهر الحجر . وقتله حجراً فيا ويلا له من حجر ويا ويلا له من حجر وأصحاب حجر (1) وقعة كربلاء ص 34 ـ 35 للمؤلف طبع دار بلال بيروت

وقد روي البخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي والنسائي كما في مسند أحمد ج 4 ص 186 ــ 187 ومسند أبي داود الطيالسي ص 169 والترغيب والترهيب ج 3 ص 21 ) قال رسول الله (ص) :

( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) أذن فمعاوية شريك ليزيد في كل جناياته وجرائمه حتى في قتله للإمام الحسين لأن معاوية هو الذي فرض يزيد حاكماً على المسلمين ومن هنا صح ما يقال : أن حكومة يزيد سيئة من سيئات معاوية

وهذا القياس قدمناه يبين جرائم معاوية ويزيد هو قياس من حيث الكيفية وبناء علية فأن جرائم معاوية من جهة الكم والكيف كانت أكبر بكثير من جرائم يزيد ، وهذا ما يجعلنا نقول : أن خطر معاوية على الإسلام كان أكبر وأعمق من خطر يزيد ، ولعل ذلك ما يدل عليه خطاب الإمام إلى معاوية حين كتب إليه يقول : ( وأني لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها )(2 ) البحار ج 10 ص 149 الطبع القديم

وهذا الخطاب أنما جاء بعد تولية معاوية أبنه يزيد ولياً للعهد وهو تدليل معنوي على أن ولاية معاوية فتنة عظيمة لا أعظم منها ، ومن هنا نقول ؛ بأن الذين قالوا بأن معاوية كان يراعي ظاهراً من الدين ، لم يكونوا على قدر لائق من الثقافة والأطلاع بتاريخ الإسلام .

ولو أفترضنا جدلاً ان معاوية لا يراعي الظواهر الدينية ولكن أعماله وأفعاله مخالفة للدين ، لذلك يكون خطره أفدح وأكبر من الذي لا يتظاهر بلباس الدين ، لأن من يتظاهر بالدين قد يمارس أنواعاً من الحيل التي تجعل البسطاء تصدق ما يقول ، ولهذا لو عمل عملاً مخالفاً للدين فلا أحد يتوجه إليه عملاً بالظاهر ، اما الذي لا يتظاهر بالدين فأن جميع اعماله مرصودة ويمكن تنبيه العامة إلى ذلك ، ولو أفترضنا ان معاوية كان يتظاهر بالدين ويعمل على خلاف الدين ، فأن ذلك الحال يؤدي إلى التناقض ومن هنا خطره أكبر من الذي يتظاهر بالدين ، نعم ربما يتصور البعض ان بنية الثورة الحسينية وماهيتها تقوم على ، ان الإمام الحسين أنما تحرك لكي يُقتل وأنه بذلك القتل يحمي الإسلام ، وهو لم يتحرك بعهد معاوية لأن معاوية لم يكن خطره كبيراً على الإسلام كما كان خطر يزيد .

ولكننا أثبتنا في مطاوي بحثنا السابق أن الإمام الحسين لم يكن يهدف من تحركه القتل لذلك فنحن لا نحتاج إلى هذا التوجه اللامنطقي والفاقد للقواعد والضوابط العلمية ، ونحن لسنا مضطرين للقول خلاف الحقيقة ؛ وبأن معاوية خطره أقل من خطر يزيد على الإسلام ،

والحقيقة أن معاوية ويزيد يفكرون بطريقة واحدة تجاه الإسلام ، وهم يسّخرون الإسلام خدمة لمصالحهم وأمتيازاتهم السلطوية ، أذ لا معاوية ولا يزيد يحفظون ظاهراً من الدين . ولكن معاوية كان أخطر على الدين من يزيد لأعتبارات منطقية منها

1 – انه أستخدم فن المكر والخديعة إلى أبعد الحدود .

2– أنه المؤسس الأول لكل الأعمال والتعديات المخالفة للدين وأحكامه .

3 – وأن مدة حكمه كانت أكبر فجرائمه أكثر ..

ومن هنا برزت أعماله المخالفة للإسلام بشكل واضح وجلي ، وطبعاً نحن لا نريد هنا التقليل من جرائم يزيد ، بل أردنا ان ندحض الفكرة القائلة ؛ أن معاوية كان يراعي ظاهراً من الدين وان خطره أقل من خطر يزيد على الإسلام .. ومن أجل حل أشكالية هذا التناقض يمكن القول ؛ انه في زمن معاوية ويزيد كان مقتضى الثورة عليهما موجودة ، وذلك لأعمالهم المخالفة للدين والإسلام ولكنه في زمن معاوية كان هناك مانع كبير عن ذلك وهو قوة وقدرة الحكومة ودهاء الحاكم ومكره بحيث لا يسمح لأية محاوله أنقلابية بالنجاح ، وان الثورة عليه ستكون فاشلة منذ البداية ، اما بعد موته فقد رُفع المانع مع وجود المقتضي وأن الفرصة قد اصبحت اكثر تناسباً ، لأن حكومة يزيد لا زالت في بداية تكوينها ، وان أية ثورة مسلحة عليها ستسقطها بأحتمال راجح وقوي ، ولو أردنا أختصاراً لكلامنا المتقدم بجملة علمية واحدة فيجب ان نقول ؛ أنه في زمن معاوية كان مقتضى الثورة موجودة ، والمانع ايضاً موجود ، وأما في زمن يزيد فالمقتضي موجود والمانع مفقود .

لقد مارست الحكومة الأموية في زمن يزيد الضغوط والتشهير بالإمام الحسين في حياته وبعد أستشهاده وقد أثارت حوله زوبعة من التشكيك في أهداف ثورته وخطابها السياسي المعرفي . لما خرج الإمام الحسين من مكة كان يزيد قد عين عمرو بن سعيد بن العاص حاكماً على الحجاز وأمارة الحاج (1) تاريخ الطبري ج 4 ص 301 .

وقد بعث عمرو بن سعيد بمجموعة بقيادة يحيى بن سعيد وراء الإمام الحسين فقالوا له : أنصرف أين تذهب ؟

فأبى عليهم الحسين ومضى وتدافع الفريقان فأضطروا بالسياط . ولما رأى أن الإمام الحسين لا يرجع ومضى على وجهه نادوه ياحسين

( ألا تتقي الله وتخرج من الجماعة وتفرق بين هذه الأمة ) (2) تاريخ الطبري ج 4 ص 289 .

أذن فمنطق الدولة وأجهزتها الحكومية يعتبر الإمام خارجاً على الجماعة ولا يخاف الله ولا يخشى الفرقة ، وهذا المنطق الأستعلائي الفوقي يعتبر الحكومة هي مركز الجماعة ووحدتها وأن الحسين بن علي هو المثير للشغب والفتنة وعليه فلا بد من الأطاحة به وتقوية حكم يزيد ، بهذه اللغة الخطابية المتدنية تصف الحكومة الإمام الحسين ) .

ولما جاؤوا بمسلم بن عقيل أسيراً عند ابن زياد قال له : ( يا ابن عقيل أتيت الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة لتشتت بينهم وتفرق كلمتهم .. ) (1) الأرشاد ص 217 ومقتل الخوارزمي ج 1 ص 213 . فقال مسلم : لست أتيت ، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم وعمل فيهم اعمال كسرى وقيصر (2) تاريخ الطبري ج 4 ص 282 , وهذا التوكيد الخطابي يثبت بأن حكومة بني أمية قائمة على الأرهاب والقتل وسلب الحريات العامة وأن أفعالها تشبه أفعال كسرى وقيصر . وأن هذا المجتمع هو الذي دعانا لنصرته وكبح جماح الحكومة ، وإقامة الحكم العادل الشريف بقيادة الحسين وقد بعثني في هذه المهمة لأرى ماعلية الأمر وماذا يريدون ؟ وعليه فنحن لم نأت للفرقة بل ( أتينا لنأمر بالعدل وندعوا إلى الكتاب ) (3) تاريخ الطبري ج 4 ص 283 ومقتل الخوارزمي ج 1 ص 213 والأرشاد ص 217

ان الحملة العدائية التي تشنها الحكومة الأموية على الإمام الحسين لم تقتصر فقط على ايام حياته بل أستمرت حتى بعد أستشهاده فقد أعتبر أنصار الحكومة ما جرى في كربلاء هو فتنة قام بها الإمام ، وقد حاولت الحكومة التأكيد على هذا المنحى من خلال ما تقدم من برامج وتوجيه أعلامي مخطط عبر أجراءات طغيانية كمصادرة الحريات وكبت الأنفاس .

وأشاعوا في الناس صلاح الحاكم واعتبروا ابن زياد فاتحاً أسلامياً قام بدور عظيم في وقعة كربلاء ، وقد عبر عن ذلك مبعوثه الخاص إلى عمرو بن سعيد الذي كان والياً على الحجاز وممثلاً ليزيد في المدينة ، أذ صعد المنبر وأعلن رسمياً قتل الإمام الحسين معتبراً ذلك حاجة دفاعية ضرورية قامت بها الحكومة ضد التحرك الذي يتزعمه الإمام وقال في حديثه الذي ألقاه من على منبر مسجد رسول الله ) :

( ولكن كيف نصنع بمن سل سيفه يريد قتلنا إلا أن ندفعه عن أنفسنا ) (4) البحار ج 10 ص 22 2 طبع امين الضرب . ومقتل الخوارزمي ج 2 ص 217 .

ومن خلال هذا الخطاب الأعلامي أرادت الحكومة بأن توحي للعامة أن الإمام الحسين هو الذي قام ضد الحكومة الشرعية خارجاً على ضوابطها وأمنها وأستقلالها .

وهذا اللون الدعائي يُراد منه حرف الصورة الواقعية لتحرك الإمام الحسين عند الذهن العام . أختلف أراء الكتاب والمؤلفين حول ثورة الإمام الحسين وخطابه السياسي ، بين مؤيد ومشكك بين من يرى انها لازمة بحكم الضرورة وأنها عملية مقدسة ، وبين من يعتبرها حركة أبتدائية ونزعة غير دقيقة في توجهاتها ، حدثت في ظل شروط غير موضوعية مناسبة وقالوا :

ان الإمام الحسين في تحركة لم يحسب للقدرة والقوة حسابها . أي ان عمل وتحرك الإمام لم يكن منطبقاً وموافقاً للمصلحة وشرائطها . وربما أدانها بعضهم معتبراً نتائجها تجسيد لعمل ستبقى أثاره باقية إلى يوم القيامة . وسنحاول نقل أرائهم ثم نسلط الضوء عليها ، راجين من القارئ العزيز ضبط النفس والتحلي بالصبر وعدم الأنفعال حينما يقرأ هذه المقالات أو تناقش

1 – قول القاضي ابو بكر بن العربي المتوفي سنة 540 هجرية وهو من علماء الأندلس ، وقد أظهر أسفه لما حل بالحسين مستنكراً عليه طريقة التلقي المعرفي والتتبع الروائي حيث قال : ( ولو أن عظيمها وأبن عظيمها وشريفها وابن شريفها الحسين وسعه بيته أو ضيعته أو ابله ولو جاء الخلق يطلبونه ليقوم بالحق في جملتهم ابن عباس وابن عمر لم يلتفت إليهم وحضره ما أنذر به النبي وما قاله في أخيه ورأى أنها خرجت عن أخيه ومعه جيوش الأرض وكبار الخلق يطلبونه فكيف ترجع إليه بأوباش الكوفة ؟ (1) العواضم من القواصم ص 232 .

2 – وقول عبد الرحمن بن خلدون الفيلسوف والأجتماعي والمؤرخ الكبير والمتوفي سنة 808 هجرية ضمن رؤيته التحليلية لخطاب الثورة عند الإمام الحسين وأهلية الإمام لذلك ولكنه أعتبر تشخيص الإمام عن قدرته غير صحيح بل خطأ وقال : ( وأما الحسين فأنه لما ظهر فسق يزيد عند الكافة من أهل عصره بعثت شيعة أهل البيت بالكوفة للحسين أن يأتيهم فيقوموا بأمره ، فرأى الحسين ان الخروج على يزيد متعين من أجل فسقه ، لاسيما من له القدرة على ذلك وظنها في نفسه بأهليته وشوكته فأما الأهليه فكانت كما ظن وزيادة وأما الشوكة فغلط ( يرحمه الله ) (2) ممقدمة تاريخ ابن خلدون ص 216 .

3 –وقول الشيخ محمد الطنطاوي أستاذ اللغة العربية في الأزهر حيث قال ( أحسن الحسين رضي الله عنه بمن التفوا حوله ، الذين الحفوا في استفزازه لقيامه بطلبها ، ولم يحسب لصرامة الأمويين وشدة شكيمتهم حساباً ولم يستعرض ما غرر به العراقيون أباه وأخاه فيما سبق . (3) مجلة رسالة الإسلام طبع القاهرة السنة الحادي عشر العدد الأول ص 85

4 – وقول الشيخ عبد الوهاب النجار أستاذ الأزهر ، ورأيه يشبه رأي محمد الطنطاوي في ثورة الإمام الحسين حيث قال : ( من الظلم ان يقال ان يزيد اشخص حسيناً إلى العراق فأن حسيناً ذهب إلى العراق مختاراً بما جاءه من أهل العراق ، وبما يعتده لنجاحه من قربة رسول الله (4) في هامش الكامل في التاريخ ج 3 ص 318 طبع مصر سنة 1356 هجرية .

5 – وقول محب الدين الخطيب الذي يدور في فلك الآراء السابقة حيث قال ( فلم يفد شئ من هذه الجهود في تحويل الحسين عن هذا السفر الذي كان مشؤوماً عليه وعلى الإسلام وعلى الأمة الإسلامية إلى هذا اليوم وإلى قيام الساعة وكل هذا بجناية شيعته الذين حرضوه بجهل وغرور ورغبة في الفتنة والفرقة والشر )(5) في هامش العواصم في القواصم ص 213 .

هذه بعض اراء المتقدمين للكيفية التي تمت بها ثورة الإمام الحسين وسنناقش ماقالوه بأختصار تضميناً للفائدة . نلاحظ في كلام هؤلاء الخمسة نقاط ضعف منها

1 – ان هؤلاء لم ينظروا ولم يأخذوا بعين الأعتبار أعتداء الحكومة وتجاوزها على الإمام الحسين ، أذ ان أنصار الحكومة أعتدوا عليه في مراحل ثورته الأربع ، فلما كان في المدينة أمر بالبيعة ليزيد بالقوة والأكراه مما سلب منه الأمن والحرية ، حتى أضطره ذلك الأجراء الحكومي إلى ترك المدينة خارجاً منها ليلاً وبالخفاء مكرها مجبراًمضطراً . وعندما كان في مكة أحس بأعتداءات الحكومة عليه حتى لم يستطع من تأدية مناسك الحج وبقوله : لو لم أعجل لأخذت (1) الأرشاد ص 218 . ولما خرج من مكة أعترضه رسل الحكومة وجيشها (2) تاريخ الطبري د 4 ص 289 والأرشاد ص 219 . وحينما ألتقى بالحر بن يزيد الرياحي حوصر ومنع من الرجوع إلى الحجاز وأخذ على خلاف رغبته وأنزل في مكان لا أمن فيه ولا ماء

ولما أنزل بكربلاء عنوة صار مورداً للهجوم والتعدي من قبل جيش الحكومة وكلما قدم أقتراحاً حول الركون للصلح والعودة من حيث أتى او الذهاب إلى مأمنه من الأرض ، يُمنع بالقوة وتصر الحكومة على موقفها العدائي حتى أنتهى الأمر إلى قتل الحسين تلك القتلة الشنيعة ... وإذا لم يدرك هؤلاء الكتاب محتوى واقع الأعتداء الحكومي فأنهم لن يدركوا ماهية وبنية وعقلية الثورة الحسينية ، وأنهم قطعاً سيقعون في أخطاء ومشاكل سواء أرغبوا بذلك أم لا ،

فأن السبب الرسمي والواقعي لهذه الوقعة المؤلفة هو أعتداء وتجاوز الحكومة على الإمام الحسين وبالتالي فالذنب يقع على يزيد لأنه صاحب العمل ومنفذه ومجريه ، لا انه رغبة وأرادة الإمام الحسين )

2 – وأيضاً أخطأ هؤلاء الكتاب في فلسفة الأنتصار ، فانهم لما رأوا أن الإمام الحسين لم يحقق النصر أعتقدوا أنه لما خرج من مكة إلى الكوفة لم يكن لديه القدرة الكافية على تحقيق النصر ، في حين أن الأمر ليس كما ظن هؤلاء . لأن الحسين أنما تحرك إلى الكوفة بناء على توفر الشروط الموضوعية للنصر ، أضافة إلى حب وتأييد الناس له وقد فصلنا ذلك في الفصل الأول بأسهاب فراجع ..

أما قولهم بأنه لم يكن لديه القوة الكافية فهذا قياس غير دقيق ، وبالتالي يظهر بطلان أستنباطهم وعدم صحته

قال محب الدين الخطيب : ( هذا السفر كان مشؤوماً عليه وعلى الإسلام وعلى الأمة الإسلامية إلى هذا اليوم وإلى قيام الساعة .. ) ماذا يقصد من كلامه هذا ؟ فهل يريد ان يقول ؛ أن حركة الإمام الأصلاحية كانت شؤما على الإسلام والمسلمين ؟ أو أنه يريد القول ؛ أن أصل الحركة الأصلاحية التي قام بها الإمام مشؤومة ؟ وعلى هذا الأعتبار لابد من ؛ القول أن حركة النبي وحركة الإمام علي هي حركات مشؤومة على الإسلام وفي أصلها . وأيضاً فهل من المعقول أن تعتبر حركة الإمام الحسين التي قامت أساساً للأصلاح وإحياء للسنة وإماتة للبدعة (3) تاريخ الطبري ج 4 ص 266 . حركة مشؤومة على الإسلام ؟

وهل يمكن اعتبار تحرك الإمام من أجل أقامة الحكومة العادلة وأرجاع الخلافة إلى أهل البيت حركة مشؤومة ؟ وأذا كان الأمر كذلك فلابد من أعتبار جميع الحركات الإصلاحية التي قام بها الإنبياء والإولياء عبر التاريخ حركات مشبوهه ومشؤومة !

وأنك تدري أن هذا المنطق مرفوض لدى كافة الناس المحبين للإصلاح والتغيير ، وإذا كان يريد الخطيب بالشؤوم هو قتل الإمام الحسين فأنه لا بد ان يعلم ان ذلك وقع بفعل الحكومة التي رفضت نداء السلام الذي رفعه الإمام في المرحلة الثالثة من ثورته .. ان قول الخطيب لا يتعدى كونه خاطرة عابرة في مخيال وهمي غير تحقيقي وغير استقرائي ، لأنه اعتبر قتل الإمام بكربلاء هو جزء من ثورة الإمام وبرنامجه ومن هنا جاء شؤمها . نعم خطأ الخطيب هو بالخلط بين هدف الإمام ورغبة الحكومة ، ولم يتوجه إلى المعاني الآخرى في خطاب الإمام السياسي كرفض البيعة والسعي لتشكيل الحكومة ... ان ما حدث في كربلاء كان تعدياً واضحاً من الحكومة على الإمام يتجلى هذا المعنى في كلام الإمام السجاد الذي يقول : ( ان قتل ابي عبد الله مصيبة وثلمة في الإسلام عظيمة ) (1) اللهوف ص 180 .

نعم هذه المصيبة باقية إلى اليوم وإلى قيام الساعة

في هذا الفصل كنا قد بحثنا عن بنية وماهية وعقلية ثورة الإمام الحسين وأتضح لما ان ماقام به الإمام في الدرجة الأولى ؛ هو الإمتناع ورفض بيعة يزيد ، واستقراء عام وشمولي للاوضاع السياسية والعسكرية . وفي الدرجة الثانية ؛ أضافة إلى رفض البيعة قام بالسعي لتشكيل الحكومة الحَّرة العادلة ضمن الظروف الموضوعية . وفي الدرجة الثالثة ؛ الإبتعاد عن دائرة الحرب والنزاع

وفي الدرجة الرابعة ؛ الوقوف بصلابة أمام التعديات والتجاوزات والدفاع بشرف عن العقيدة والمبادئ حتى أستشهاده عزيزاً عظيماً أبياً للضيم ، هذه هي بنية الثورة وعقليتها التكوينية وتأصيلها داخل محتوى الخطاب السياسي وفي ظله