الفصل الأول

نظام الثورة وإشكالية التعليل

توطئة

نعم لم تنته حكومة الظلم الأموي بنهاية معاوية بن أبي سفيان ، بل إنها ظلت تمارس أحكامها الطغيانية من ورائه بخلافة ابنه يزيد ، ومن البديهي أن أفضل فرصة للشعوب في تقرير مصيرها وتحقيق مطالبها بالعدل والحرية هو في بداية أي عهد حكومي جديد ، ففي بداية العهد اليزيدي ، وهلاك معاوية أجتمعت القوى المحبة للحرية والسلام مشّكّلة فيما بينها خلايا وفصائل عمل مهمتها أرجاع الخلافة إلى أصحابها الشرعيين ، وقد شكل المجتمعون جمعيات عمل من جميع الذين أصابهم أذى وضرر بعهد معاوية ، وقد كان الموضوع الأول الذي بحث في أجتماعهم هو كيفية أرجاع الخلافة إلى أهل البيت .

وهذا الأمر يحتاج إلى قيادة رائدة قادرة على أستيعاب الجماهير والسير بهم نحو تحقيق مطالبهم العادلة ، ولما كان الإمام الحسين يمثل الآمال والطموحات الأجتماعية أتجهت إليه الأنظار لأنه يعتبر حلقة الوصل الجامعة لكل مؤهلات ومزايا القائد الرباني ، ..

ولأن الجو السياسي العام وشعور الأمة الأجتماعي بحاجة إلى نهضته ووقفته ، لأنه العلة الأولى في تنهيض الفكر الثوري المطالب بالأصلاح في جميع حدياته ، والناس إنما تنتظره لكي يقودها نحو شاطئ الإسلام الحصين .

(1) فبعد وفاة الإمام الحسن كتب إلى شيعته في العراق يطلبون فيه القيام على معاوية ولكنه قال أن بيني وبين معاوية صلح ولا أحله أبداً ـ ولكن ـ إذا هلك ننظر وتنظرون ـ الأرشاد ص79 ـ

فبعد موت معاوية أصبحت الشروط الموضوعية للقيام أكثر تناسباً مع توجهات الإمام الأصلاحية في محتواها الفكري والعلمي من أجل تأسيس حكومة ربانية رائدة مهمتها أن تخرج البلاد والعباد من الأحكام الطغيانية الأستبدادية والأنحطاط ، وتسير بالناس نحو عالم الرفاهية والمحبة والسلام والعدل والتكامل بشقيه المادي والمعنوي ..

وقبل أن يقدم الإمام على إعادة الخلافة وتأسيس الحكومة ، شرعت السلطة الأموية بتنفيذ عدة أجراءات عدوانية ضد كل أتجاه إصلاحي أو مشروع حضاري ، ولهذا طالبت الإمام علناً وبقوة أن يبايع يزيد دون قيد أو شرط وطالبت كذلك بعض الوجوه البارزه في المجتمع المدني . (2) الأرشاد للمفيد ص 179 ـ 180 ،

فالسلطة الحاكمة إنما أرادت بذلك الضغط على الإمام من أجل الأعتراف بشرعيتها ، ولذلك مارست في حقه إرهاب منظم ومكشوف تستهدف منه السلطة أعتقال الإمام أو قتله ، وهذه الأجراءات الحكومية ألزمت الإمام بتعهداته تجاه مصير الدين والمجتمع ولهذا قرر القيام بثورته على الحكومة الأموية ، إذن فثورته إنما جاءت كرد فعل للأعتداء الأرهابي والتجاوز الحكومي على الإمام ، ونحن في بحثنا هذا وفي فصله الأول سنبين على وجه التفصيل العلل الرئيسية للثورة ، أسباب وعوامل الثورة نظام الثورة وإشكالية التعليل ، فبداية الثورة كانت رد فعل عملي ضد الحملة الأرهابية السلطوية على الإمام الحسين بعد أن رفض الأعتراف بحكومة يقودها يزيد ، وقيامه بالسعي لتشكيل حكومة ربانية عادلة تعيد للإسلام ما سلبته منه الحكومة الأموية ، من أجل هذا سنبحث في هذا الفصل مواضيع رئيسية ثلاث هي :

1- لماذا قامت حكومة يزيد بالضغط على الإمام لكي يبايع ؟

2- ولماذا رفض الإمام البيعة والأعتراف بيزيد خليفة للمسلمين ؟

3 - ولماذا أقدم الإمام على تأسيس الحكومة ؟

وعلية فأسباب الثورة في محتواها المعرفي لابد أن تبحث داخل أطارين .الأول داخل الجهاز المفاهيمي المرجعي السلطوي للحكومة الأموية ، والثاني داخل أطار الأطروحة العملية لنظرية الإمام ورأيه في الحكم والدولة .

الإطار الأول

لاشك إن حكومة يزيد السلطانية قامت على أساس من الحكم الملكي الوراثي الأستبدادي الفردي ، ومهمتها تنفيذ رغبات يزيد ، ولهذا أفتقدت الحكومة للارادة والأختبار وأصبحت مجردة أداة تنفيذ لأرادة الحاكم الفرد ، وهذا الأتجاه والنزعة السلطوية كان له كبير الأثر في ثورة الإمام على الحكومة طالما إن الخليفة الجديد إنما يطبق أرادته وسلطته فوق سلطة القانون وارادته . إن الأستقراء الموضوعي لهذه الشخصية على الصعيد الأجتماعي والنفسي ، يبرهن لنا على وجه الدقة أن الموجة التي يشنها يزيد على الإمام كانت لثلاث علل هي

1- تقوية الحكم والحكومة .

2- عقدة الحقارة .

3- الحس الأنتقامي .

1- تقوية الحكم والحكومة

ربما يسأل أحدهم ، ماذا تعني بيعة الإمام ليزيد من أجل تقوية حكومته ؟ طالما أن ولاية عهد يزيد قامت على القوة وأموال بيت مال المسلمين . (1) الكامل لأبن الأثير ج3 ص 503 ــ 511

ولقد أستند يزيد من بعد أبيه على قدرة الخلافة وقوتها وإمكاناتها في تدعيم سلطته ، انه أذن قد قبض على الحكم بيديه ، فما قيمة أخذ البيعة من الإمام الحسين وموافقته على الخلافة ؟

من أجل الأجابة على ذلك السؤال لابد من القول : أن ولاية عهد يزيد قامت على مبدأ الترغيب والترهيب المادي والمعنوي ، فهي لم تكن مورداً لرضى الناس وأرادتهم ، والدليل على ذلك ؛ أن الكافة أتجهت أنظارها بعد هلاك معاوية إلى الشخصيات المدنية الكبيرة والقادرة على تولي منصب الخلافة ، والجميع يأمل أن يتولاها رجل قادر يمتلك الصفات التي تؤهله للزعامة وتغيير النظام الملكي الأستبدادي الطغياني الفرعوني إلى نظام عدل ومحبة وسلام تحكم فيه القوانين الإسلامية ويسود فيه مبدأ الحرية .

ولا ريب أن من أكثر الشخصيات قرباً إلى هذا المنصب وإلى قلوب الناس هو الإمام الحسين فقد كان يتمتع بحب واسع وبمنزلة عظيمة عند عموم الناس ، وأنهم لو تركوا أحراًراً فيما ينتخبون لأختاروا الإمام للخلافة دون منازع ، وحتى لو رفض الإمام ذلك فلا أحد من بين كل الشخصيات قادر على كسب الناس وتأييدهم ، فهو أضافة إلى مزاياه الخاصة التي يعرف الدهر فيها انها ذروة الكمال المتاح ، كذلك فهو سليل البيت النبوي بل هو زعيم ذلك البيت وسيده ، علاوة على ذلك ، كفايته ودرايته وسعة أطلاعه وعلمه وشرفه وعلو همته وعدله وجميع الصفات التي تليق بالحاكم الرباني اللأزم ، وهذه الإعتبارات الأجتماعية والنفسية يشهد له فيها العدو والصديق ،

فلو قبل الإمام مبدأ خلافة حكم يزيد فإنه سيكون له أثر عام على الناس في البيعة والتسليم والأعتراف بشرعية حكم يزيد ، من هنا جاز أن نقول ؛ أن بيعة الإمام تعني بيعة الأكثرية وهي على حد تعبير أبن خلدون ( بيعة الكافة ) ، لهذا الإعتبار سعى يزيد وبسرعة أن يأخذ البيعة من الإمام من أجل تدعيم حكمه وحكومته حتى لو أدى ذلك إلى أستخدام القوة

بالقهر والغلبة ) وهذه النزعة السلطوية تنبع من أعتبارات سيكيولوجية مهمة في الوعي الأجتماعي ، ومن أجل أن نوضح المعنى لا بد أن نشير إلى بعض الأدلة التاريخية التي وردت بلسان أنصار الدولة وأقطاب الحزب الأموي في مكانة الحسين وعظمته وتأثيره وأثره في المجتمع والأمة .

رأي معاوية

قيل لمعاوية أن الإمام الحسين يعد العدة للقيام ، فكتب إلى الإمام كتاباً طويلاً يزعم فيه أن الإمام الحسين يفكر بالثورة عليه ، وقد رد الإمام عليه بكتاب عالي المضامين ضمنه نقداً صريحاً لمنهجية حكم معاوية وسلوكه غير الإخلاقي مشيراً إلى بعض الأمثلة معدداً جرائم معاوية قائلاً :

وليس الله بناس لأخذك بالظنة ، وقتلك أوليائه على التهم ، ونفيك أوليائه من دورهم إلى دار الغربة ، وأخذك للناس ببيعة أبنك غلام حدث يشرب الخمر ويلعب بالكلاب .. ) (1) رجال الكشي ص 51 طبع جامعة مشهد

فيزيد برأي الإمام فاسق شارب للخمر ، فلما قرأ معاوية كتاب الإمام قال له أبنه يزيد أجبه جواباً تصغر إليه نفسه وتذكر فيه أباه بشر فعله ! قال معاوية ؛

ماعسيت أن أعيب حسيناً ، ووالله ما أرى للعيب فيه موضعاً ) (2) رجال الكشي ص 49 طبع النجف

وهذا قول معاوية ورأيه بالإمام الحسين فيما بينه وبين خاصته .

رأي حاكم المدينة

عندما وصل كتاب يزيد إلى حاكم المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان يطلب فيه منه أخذ البيعة من الإمام الحسين أخذاً ليس فيه رخصة (1) تاريخ الطبري ج4 ص 250 والإرشاد ص 200 .

عند ذلك دعا الوليد الإمام ليلاً ليخبره بذلك ويأخذ البيعة منه ، وأعطاه مهلة حتى الصباح ، وقد قال مروان بن الحكم للوليد : لاتدع الحسين يخرج من عندك بلا بيعة فيكون أولى منك بالقوة ، وتكون أولى منه بالضعف فأحبسه حتى يبايع أو تضرب عنقه (2) وقعة كربلاء ص 84 للمؤلف طبع بيروت 1986 م . فقال الوليد :

( والله ما أحب أن لي ماطلعت عليه شمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأني قتلت حسيناً ) (3) الأرشاد ص 201 المفيد .

رأي شبث بن ربعي

يعتبر شبث بن ربعي ممن دعوا الإمام الحسين في البداية ، ولكنه مال إلى ابن زياد وسار معه نحو حرب الإمام في كربلاء حيث كان قائداً على الرجالة يوم عاشوراء ، ولكنه بعد وقعة كربلاء بسنين وفي أيام مصعب بن الزبير أستذكر يوم عاشوراء وما جرى فيه وقال :

( كنا سنين خمس في ركب علي والحسين قاتلنا معهم آل أبي سفيان ، ثم عدونا على أبنه وهو خير أهل الأرض نقاتله مع آل معاوية وابن سمية الزانية ، ضلال يالك من ضلال .) (4) تاريخ الطبري ج4 ص 332 .

رأي عمر بن سعد

قال عمر بن سعد قائد جيش الضلال يوم عاشوراء بعد وقعة كربلاء وهو يتألم على ما فعله وأرتكبه من جرائم : ( الويل لي ! أطعت ابن زياد الظالم ابن الفاجر وخالفت أمر الحاكم العادل الحسين بن علي ) (5) وقعة كربلاء للمؤلف ص 156 .

ملاحظة

لقد رأينا كيف تحدث معاوية عن الإمام الحسين وعن عِظم شخصيته وانه مبرأ من كل عيب ، ونفس الشئ قاله صاحب المدينة الذي لو خيُر بين كنوز الأرض على أن يقتل الحسين لم يختر شيئاً من حطام الدنيا ، وهو عند ابن ربعي قائد الرجال يوم عاشوراء : خير أهل الأرض جميعاً ، وهو عند ابن سعد ؛ طاعته واجبة لأنه الإمام العادل الحاكم بالحق ...

وبناءً عليه فهو الرجل الذي تهوى إليه قلوب المسلمين وأحرار الدنيا ومحبي العدل والحرية ليكون هو قائدهم وزعيمهم لكي يحفظ حقوقهم دون تعدٍ من طائفة على أخرى .

بالأضافة إلى قرابتهُ من رسول الله القريبة فهو سبطه وابن فاطمة الزهراء سيدة النساء .

إلى جانب ذلك كله قدرته الفائقة والمؤثرة إيجاباً بأفكار الناس ، من هنا فأسم الإمام الحسين هو الأكثر شهرةً وقرباً للناس ، وبعد وفاة معاوية صار أسمه الشريف الأكثر طرحاً وتداولاً في المحافل والجمعيات السياسية ، وقد أعتبرته الأغلبية الممثل الشرعي والوحيد الذي يمثلهم لمنصب الخلافة ،

ولو تركوا أحراراً لبايعه الناس جميعاً ، وهذا ما يجعل يزيد غير قادر على أستيعاب مثل تلك الشخصية في مملكته ؛ ولهذا أمر واليه على المدينة أن يأخذ البيعة من الحسين بن علي قبل شياع خبر موت معاوية في البلدان .

(1) تاريخ الطبري ج4 ص 250 ـــ والأرشاد ص 200 .

فيزيد أراد من تلك البيعة أن يضرب عصفورين بحجر كما يقولون .

فهو من جهة أراد أن يخرج أكبر عدد من الساحة وأن يجبر الأتجاهات المؤيدة للإمام الحسين على الرضوخ والقبول بخلافته .

وبهذا الأجراء يكون قد ساهم في تقوية وتدعيم مملكته وحكمه ، ومن هذا العرض التاريخي يثبت برهانياً ان الأسباب الرئيسية التي دفعت يزيد للاعتداء على الإمام هو من أجل تقوية حكمه وحكومته .

(عقدة الحقارة : (الدونية)

الجميع يعرف ان الذين يصلون إلى موقع الزعامة والسلطة السياسية من دون المؤهلات والكفاءات والقدرات إنما يصلون عبر المؤامرات والدسائس والرشوة ؛ وفي أحيان كثيرة عن طريق القتل وأرتكاب الجريمة المنظمة ، ويمارسون هذه الأعمال من أجل تدعيم مركزهم القيادي حفاظاً عليه وأرهاباً للخصم .

ولاريب أن هذه القوة ما هي إلا قوة كاذبة لا تستند على أساس ولا تقوم على واقع ، فهم من دون تلك الجرائم والأشكال الأرهابية المنظمة وما يمتلكون من قوى بوليسية سرية لا يساوون شيئاً بل ربما تسقطهم قطرة ماء كما يقول المثل العربي الشهير ، ومن البداهة أن هؤلاء القادة والزعماء على علم تام بأنهم لن يستطيعوا النفوذ والدخول إلى قلوب الناس بالجبر والأكراه ، وتلك حقيقة نفسية تسالم الجميع على قبولها . وهذا ما يولد عندهم نزعة عدوانية ناتجة عن عُقد نفسية وعذاب ضميري وروحي واضح .

فتولي مثل هكذا إنسان سلطة سياسية بارزة فإنه بلا شك سيمارس نزعاته العدوانية تجاه أي شخص يمتلك صفات ومزايا كاملة علمياً وسياسياً ، فالحسين كان له تأثيراً مباشراً على قلوب الناس ، وهذا ما يجعل يزيد وهو في مركز الزعامة يعاني من عُقد الأنغلاق والضعف والحقارة والدونية .

وهذه العُقد تدفعه لأشباع رغباته المكبوتة من عدوانية وسادية في حب الأنتقام نتيجة لما يحسه من عذاب نفسي وروحي معاً .

وهذا الأمر ممتد في طول الزمان وعرضه فهذا ( المنصور الدوانيقي ) * المنصور هو أبو جعفر بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ولد سنة 95 هجرية في 7 ذي الحجة وتوفي يوم 7 ذي الحجة سنة 158 هجرية ودفن بالحجون ــ العقد الفريد ابن عبد ربه ج5 ص 370 طبع دار الكتب العلمية . يحس بغُقدة الحقارة تجاه الإمام الصادق لذلك تراه يقول : ( جعفر بن محمد الشجي المعترض في الحلق ) (2) البحار ج11 ص 154 الطبع القديم .

فيزيد بن معاوية حينما وعى هذه الدنيا وأدار وجهه يمنةً ويسرةً فلم يجد غير أسم الإمام الحسين يطبق الأفاق كسلسلة مراتب لعناوين متعددة من الفضل والكرامة والمناقب الحسنة ، فالإمام الحسين كان يمتلك رصيداً هائلاً من الحب والولاء الشعبي قبل أن يكون يزيد شيئاً مذكوراً ، وأنه وأخوه الإمام الحسن يعتبران الصورة المثالية الناطقة بشخصية الرسول الأعظم .

ولعل الترابط المصيري بين الأمة والإمام يفهمه يزيد ويعي حقيقته منذ زمن ؛ فأفراد الأمة على أختلاف طبقاتهم مع الحسين في منهجه وتوجهاته ، وهو أيضاً على علم كاف بعظمة الإمام علي وعظمة الزهراء ، ويعلم جيداً أن كل هذه المعاني والعظمة والسمو تأتي كحاجة طبيعية ناشئة عن رسالة جدّ الحسين النبي الأكرم محمد وجهاد أبوالحسين علي بن أبي طالب وهي ثمرة من ثمرات ذلك الجهاد المرير والعطاء الكبير لمسيرة محمد وعلي ، ويزيد يعي جيداً أن أسلافه من بني أمية كانوا الأعداء الألداء لدعوة السماء ورسالة الإسلام واستمروا في ذلك سنين قاربت العشرين عاماً ، ولم يدخاوا الإسلام إلا قهراً وخوفاً بعد فتح مكة عام 8 للهجرة وأصبحوا كما تروي السير والصحاح من كتب الحديث طلقاء على لسان النبي ، وأن يزيد يعي تماماً مدى عمق شخصية معاوية وما أكتسبه من قوة إنما جاء كأمر ضروري لازم ثم تحت لواء الإسلام وفي ظله ، يزيد هذا الغلام الحدث التجأ إلى منطق القوة واسبابها السلطوية .

لأنه يعلم أن لا علاقة له بالجماعة الإسلامية ، فالعلاقة إنما بين الإمام والناس تمتد حيث وجد الإسلام ودخل الإيمان نور قلوبهم ، ولم يأت عبر المادة وأسباب القوة وأجهزتها السلطوية والقمعية ، وحب يقوم على الإيمان لا يمكن للمادة أن تفك منه أو تبدله ، وهو يعلم أنه لن يستطيع أن يدخل القلوب عبر وسائله المادية وكل الوسائل . فبطانته وحاشيته رجال لا هم لهم إلا الطمع والمادة ، وهو يعلم بأنهم أهل دنيا لا أهل دين وحياة ، وهذا الأمر يُشكل عنده مجموعة عوامل تحد من قدرته وتمالكه ومحتوى تفكيره وخطابه الحكومي ، ولأنه كما يعبر علماء البيان ؛ قد أتى به القدر ليكون في زمن الإمام الحسين وفي مواجهته ، ولما كان يرى ويسمع كل ذلك لم يتحمل تراجيديا خطاب العشق الجماهيري للحسين ، لذا شكلت هذه الحاجات مع بعضها شدّاً روحياً ونفسياً ، لأنه رجل مغرور تعوزه الكفاية والحلم ، ورباطة الجأش ، وعندما يرى عشقاً وولهاً خالصاً نحو الحسين تعبر عنه الجماهير بعفوية ، تتصارع في ذاته تلك الصور العدوانية مع صور حالمة رسموها له عبر أموال تبذل هنا وهناك سعياً وراء التأييد مدفوعة كلها عبر وسائل أعلامية وفنون صناعية تبليغية ، لم تؤد غرضها في استحقاق الكسب أو النصرة ، فذلك كله لن يستطيع أبداً أن يقف بوجه الحق ونوره ورجاله ، هذه هي بأختصار عُقدة حقارة أبن معاوية التي ملأت قلبه كغدة سرطانية أحتوت فكره المنحرف ، وروحه المعذبة لتلقي به مكرراً وسابقاً ( للمنصور الدوانيقي ) في مقولته (هذا الشجي المعترض في الحلق ) لقد مثلها يزيد في دراما خطابه وسلوكه وعبر تمثيله للدور السلطوي المعتمد على أجهزة الكبت والأرهاب ضد كل أتجاه فكري وعلمي أصلاحي ، علماء النفس يقولون :

أن الذين يعانون من عُقدة الحقارة عادة يبحثون عن علاج لأرواحهم عبر البكاء تارة وأخرى بالأنتحار ومنهم من يمتلك سلطة وقوة يسخرونها خدمة لهم ، وتسكيناً لما يعانون . ولعل ابن معاوية أختار الأتجاه الثالث في التعبير عن عُقده وتسكيناً لروحه العدوانية والدموية .

البرهان

وربما يفيدنا كلام يزيد بعد أستشهاد الإمام الحسين كدليل برهاني على ذلك ، فهو عندما وضع الرأس المقدس للإمام الحسين أمامه نظر إليه يزيد ثم قال للناس : أتدرون من أين أتى هذا ؟ قال : أبي علي خيرٌ من أبيه ، وأمي فاطمة خير من أمه ، وجدّي رسول الله خيرٌ من جده ، وأنا خيرٌ منه وأحق بهذا الأمر . فأما قوله : أبوه خيرٌ من أبي فقد حاج أبي أباه وعلم الناس أيهما حكم له ، الظاهر أن يزيد أعتبر ان معاوية قد انتصر على أمير المؤمنين علي في التحكيم ولكن هذا واضح ، إذ أن أبو موسى الأشعري خلع يد الطاعة من الإمام علي في حين ثبتها عمرو بن العاص لمعاوية وقد فصّلت القضية بكتب السير والتواريخ وما نتج عنها .

وثانياً : أن معاوية قد أمر بسب الإمام علي على المنابر لما يقارب العشرين عاماً وهذا كان له أثر في قبول ذلك كما يُزعم ذلك أنتصاراً لمعاوية على الإمام علي والأمر ليس كذلك كما لا يخفى على أهله . ..

وأما قوله : أمي خيرٌ من أمه فلعمري فاطمة بنت محمد رسول الله خيرٌ من أمي . واما قوله : جدّي خيرٌ من جدّه ، فلعمري مامن أحدٍ يؤمن بالله واليوم الآخر يرى لرسول الله فينا عدلاً ولا نداً ،

ولكنه أنما اتى من قبل فقهه ولم يقرأ :( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) . (1) تاريخ الطبري ج 4 ص 355 . ومقتل الخوارزمي ج2 ص 57 ... فيزيد هنا استخدم فن الحوار الدعائي معترفاً فيه ومنوهاً على عظمة النبي جدَّ الحسين وبفاطمة الزهراء أم الحسين ، ولأنه أنما يوجه خطابه للمسلمين وشرط الإسلام الأيمان برسالة محمد وبمن أشار إليهم بالحب والود كفاطمة الزهراء : التي هي بضعته يريبه مارابها ويغبطه ما أغبطها

وهذا التكامل السلالي في بيت النبوة الذي من ثماره الحسين كان له أكبر الأثر في مايحسه يزيد من عُقدة الحقارة تجاه المكانة والوضع الأجتماعي الطبيعي ، وابن معاوية يعلم أن الحسين :

أضافة إلى معانيه الكاملة وفضائله الجمة هو ابن تلك الشجرة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء .

شجرة الرسالة ونور النبوة ومصباح الهداية ، وهذه الكينونة الطبيعية للحسين في أنتمائه أرغمت يزيد عنوة على الأعتراف بعظمة تلك الشجرة في جدّ الحسين وأم الحسين وإن كان أعترافاً مرّاً بل لعله في نفسه أشد من السم الزُعاف على ابن معاوية ولكن لا مناص من ذلك .

وعُقدة الحقارة من ابن معاوية أكدتها أعترافاته تلك ، وأدلت بمعلومات قيمّة حول ماهية الحقد على الحسين واسباب قتله بالصورة التي ترويها المدونات التاريخية وبشاعتها وفظاعتها ، وبالمقابل أراد أن يفيد ذلك الأعتراف لكي لا يبقى على أطلاقه ويصير مورد للتساؤل ، فحاول الالتفاف على جريمته مبرراً أياها بأحدى آيات القرآن الكريم

ــ قل اللهمَ مالكَ المُلكَ تؤتي المُلكَ من تشاء وتنزعُ المُلكَ ممن تشاء ــ

وهذا التبريرمثير للسخرية حقاً ، لأنه قد دفع بيزيد ليكون مفسراً للقرآن وعالماً بمداليله ومعانيه ومقاصده ، وكأن الحسين وهو ابن بيت الوحي والقرآن ليس كذلك ومنطق ابن معاوية يقوم على فلسفة منطق ارهاب الدولة القائم على القهر والغلبة والعدوان ضد أماني الناس وحرياتهم ، وذلك المنطق يبرر السلب المعلن لحقوق الناس وحرياتهم ، وإنه إنما يتم بمشيئة لطف الله وأمره وكأن الله .

أراد ذلك أو يُرده ، وأن القرآن على ذلك دليل .

هنا ينبغي التدقيق جيداً فيزيد بن معاوية وبعد أن أقر وأعترف بعظمة النبي وفاطمة الزهراء لم يقل ان الحسين لم يكن عطيماً أو محبوباً من قِبَل الناس وما استطاع القول : أنه ليس ابن النبي وابن فاطمة .

وما استطاع نفي فضائله المعنوية والأخلاقية ، وهذه كلها تثير إلى عُقدة الحقارة ، ولعل التفسير الأنسب مع قول ابن يزيد تبياناً لتأويله الأية وإدراجها في محتوى صحة عمله الأجرامي لا بد من القول : أن يزيد حينما وظف كل طاقات المسلمين وأموالهم من أجل قتل ابن النبي وابن فاطمة مع أهل بيته وأصحابه ، إنما قام بذلك استناداً إلى أرادة الله ، والإمام الحسين لم يستطع تشخيص ذلك المطلب ، لأنه قال : أنا خيرٌ منه وأحق بهذا الأمر ، لأنه إنما أتى من قبل فقهه ، ولم يقرأ قوله تعالى (قل اللهم مالكَ المُلكَ .. الآية ) وهذا هو الذي (1) مقتل الخوارزمي ج2 ص 57

ومحصل كلام ابن معاوية هذا هو لا بد من كل الشخصيات والقوى الأجتماعية ورجال الفكر والأخلاقيين وذوي الفضائل ، وجميع التحرريين وأصحاب الأفكار الحية ، أن يكونوا تحت ظل حكومته ، لأنها تعبر عن أرادة الله على الأرض يعني أن جميع سلسلة العلل تنتهي بالله وبأذنه أو أثراً منه ، وهذه ليست منافية لكون حكومة يزيد ومعاوية قامتا ضد الأختيار بل على القتل والظلم وأنتهاك الحرمات ...

تحت ظل تلك الفلسفة الروما نطيقية المبتذلة والقائمة في بنيانها على مجموعة عُقد نفسية ، والتي يراد منها تحريف أراء الناس وأفكارهم عن الإمام الحسين وعن فلسفة نهضته وأبعادها الأجتماعية والسياسية والأقتصادية ..

والظاهر أن منطق يزيد في حدوده الدنيا يمثل ذلك المنطق الذي يبرر الجريمة على أنها حق لأنه يمتلك القوة ومن يمتلك القوة يمتلك الحق كما يقول (بسمارك) بسمارك هو القائد الألماني الذي أصبح الصدر الأعطم أو المستشار كما يطلق عليه اليوم .. .

الحس الأنتقامي

لا شك أن التاريخ يسجل لنا حالات العداء والكراهية بين هاشم وأمية في الجاهلية (1) راجع كتاب صدر الدين شرف الدين (هاشم وأمية في الجاهلية) .. .

وهما من بني عبد مناف ، ولهما قبل الإسلام مواقف وخلاف وتحفظ ، وقد أزدادت هوة الخلاف بعد ظهور الإسلام ، أذ ان النبي محمد هو أحد بني هاشم ، ولهذا سعى بنو أمية من أجل أطفاء نور الإسلام ودعوته التوحيدية ، يدفعهم إلى ذلك حقدهم القديم على بني هاشم ، تحركهم في ذلك نزعات قبيلية وتفاخر عشائري مقيت ورجعي ، وبعد اشتداد الأزمة والصراع بين الكفر والإسلام مثل أبو سفيان جانب الشرك بكل ماضمه من حقد وخسة ، وتزعم الحملات العدوانية أعلامياً وعسكرياً على الإسلام ، وتبوأ قيادة الجيش في أحُد والأحزاب وغيرها من غزوات المشركين ، وعمل ما بوسعه من أجل الأطاحة بالإسلام ونظامه المدني الحضاري ، معتمداً في تصديه للأسلام ونبيه على مجموعة أحقاد وهوس وتدني وشعور بالنقص ، مقدمين آلهتهم وأصنامهم كعنوان في ممارساتهم العدوانية ، ومهما أختلفت النزعات والأتجاهات مع ابي سفيان فإنه مع بني أمية يشتركون بعداء أحدي مرموز له بشكل العلاقة مع الألهة والصفة السياسية والقدرة الأقتصادية داخل المنظومة القبلية متمثلة بالهيكلية القرشية وبنيتها الأجتماعية القائمة على :

حماية الأصنام والأوثان التي يعبدونها .

التنافس السياسي مع بني هاشم الذين أختارهم الله ليكون منهم رسول الإسلام .

هذه العناصر السكيولوجية لها كبير الأثر في جعل ابي سفيان أشد عداءً للنبي من عامة عبدة الأوثان الآخرين .

ويبدو من قراءة بسيطة في تاريخية العداء الذي يكنه بنو امية للنبي تؤكد هذه القراءة على الكثير من أجل أظفاء نور السلام والإسلام ومارسوا الضغوط الكبيرة على نبي الإسلام ، وتحملوا في ذلك الطريق خسائر مادية ومعنوية كثيرة ، حتى قتل منهم يوم بدر الكبرى ابن ابي سفيان ، وجدّ معاوية أبو هند ، وأخوها ، وعمها ، وهذه النكبة ولدت في نفس هند وزوجها شعوراً متزايداً بالأنتقام والكراهية ، مما دفعهم للتأمر وأستخدام أسلوب الفتك في القضاء على من يكرهون حتى أستطاعوا قتل سيد الشهداء عم النبي (ص) والذي مثلت هند بجسده الشريف أذ بقرت بطنه وشقتها واستخرجت كبده وقطعتها ثم لاكتها بأسنانها (2) راجع سيرة أبن هشام ج2 ص 144 ..

أعلاناً وتوكيداً على النزعة العدوانية والأنتقام والحقد على محمد ودينه وشيعته ، وهذه النزعة الأنتقامية متجذرة عند آل ابي سفيان يتوارثونها جيلاً بعد جيل ، يتحينون الفرص للقضاء على الدين ورموزه وشعاراته وشعائره ، فأبو سفيان وبحكم طبيعة التجربة الإسلامية وحركتها التصاعدية ، وماحققته من أنجازات تقدمية حالت دونه ودون رغباته بالأنتقام والكيد بالنبي ودينه ، وكان دخوله في الإسلام تعبيراً دقيقاً عن هذه الرؤية ، فهو لم يدخل طائعاً بل دخل كارهاً مع الطلقاء من المشركين عند فتح مكة ..

ولقد وصف المؤرخون النزعة الأنتقالية عند آل أبي سفيان بعد دخول زعيمهم مكرهاً في الإسلام ( كالنار تحت الرماد ) وقد أخفوا ذلك في الظاهر نفاقاً وتمشياً مع الحركة الزمنية المتقدمة للإسلام ، وظل هذا المنهج السلوكي جارياً حتى آل الأمر إلى عثمان بن عفان الذي ينتمي ولاء لبني أمية ، وقد رأى أكثرهم أن ذلك يعد أنجازاً عظيماً وتحقيقاً لحلمهم الذي طالما عملوا من أجله ،

نعم كان معاوية بن ابي سفيان قد تولى ولاية الشام بعهد الخليفة عمر بن الخطاب ، وقد أستخدم منصبه في الولاية خير استخدام من أجل توظيفه خدمة لطموحاته المتعددة التي تعُني في النهاية القيادة والخلافة ، وقد عمل لكسب الناس بمختلف الوسائل المشروعة وغير المشروعة حتى آل الأمر إليه .

فيما بعد قضية التحكيم المشهورة ، لقد كان معاوية يمثل رأس حربة في عدائه للدين تمثل ذلك في أعماله ضد أمير المؤمنين علي وما رتبه لحرب الجمل وحرب صفين وما نتج عنها من دمار وقتل وازهاق للأرواح ، واعقب ذلك بشن سلسة غارات على مدن الخلافة الإسلامية في الأنبار وهيت والقطقطانية والمدينة ومكة واليمن ، ولما استشهد امير المؤمنين علي ، على يد الخارجي ابن ملجم لعنه الله ، والذي كان استشهاده سبباً من أسباب قضية التحكيم التي دبرتها يد الغدر والنفاق ، ولما آل الأمر إلى الإمام الحسن ومصالحته لمعاوية ضمن ظروف وشروط قاهره معروفة ، تولى ابن سفيان الحكم دون منازع .

ومن بديهيات الأمور ان يجري الحديث سجال في قصر معاوية عن تراجيديا الأحداث التاريخية التي أدت إلى تولي بني أمية الحكم ، وربما يكون يزيد قد سمع هذه الدراما القصصية بلسان أبيه مشافهة ، ومن دون شك ان اقسى مرحلة من مراحل حربهم ضد الإسلام كان يوم بدر الكبرى الذي كان لعلي النصيب الأكبر في قتل المشركين من بني امية اذ قتل فيها أخو معاوية وخاله وجده لأمه ، (1) أنظر نهج البلاغة صبحي الصالح ...

في معركة بدر والتي حدثت قبل ولادة يزيد بثلاث وعشرين سنة ، وامر الوقعة يسمعه يزيد تكراراً عندما وعى هذه الدنيا إلى يوم توليه الحكم ويسمع ما جرى لأهله فيها من قتل وأسر ، ولعله كان يتحين الفرص للكيد من آل النبي أنتقاماً لأ جداده وأعمامه ، والتاريخ يذكر أن يزيد قد اظهر ذلك الحقد وتلك النزعة عبر أبيات الشعر كان قد قرأها بعد استشهاد الإمام الحسين .

يقول المؤرخون ؛ أنه لما وضع رأس الحسين امام يزيد تمثل بأبيات من الشعر لعبد الله بن الزبعري التي تغنى بهن الشاعر يوم أحُد بعد أن قتل من المسلمين عدد ما قتل من المشركين يوم بدر :

ليت أشيــاخي ببــدر شهـــدوا جــزع الخــزرج من وقــع الأســل

قد قتلنـــا القــرن من ســاداتهــم وعــدلـنــاه بـبــدرٍ فــا عـتــدل

ثم قال يزيد :

لــست من خنــدف إن لم أنتقــم مـن بنـي أحمــد مـاكــان فـعــــل

لعــبــــت هــاشــــم بــالمـــلك فـــلا خـــبر جـــاء ولا وحـــي نــزل

قــــد أخـــذنــا مــن عـــلي ثــأرنــا وقـتـلنـــــا الفـــارس الليــث البــطل (1) مقتل الخوارزمي ج2 ص 59 وقال بعض الأعاظم ان البيت الأول والثالث ليست ليزيد وأنما وردتا بلسان حاله ...

وواضح ان قتل الإمام الحسين ، يعتبر حملاً ثقيلاً قد أزاحه يزيد عن نفسه معبراً في ذلك عن ساديته وعدوانيته وحقده المعلن ضد آل النبي .

هذه هي الأسباب والعلل التي دفعت يزيد للفتك بالإمام الحسين منظوراً إليها داخل أطار الجهاز المفاهيمي المرجعي السلطوي للحكومة الأموية ، وحزبها وطريقة التفكير التي يتبنونها تجاه قضايا الدين والمجتمع .

 

الأطار الثاني

حان الوقت لكي نحقق في الأسباب التي دعت الإمام الحسين للثورة على الحكومه الأموية ؛ طبيعي أن الإمام الحسين لم يعترف بحكومة يزيد رسمياً ، من هنا فقد كان مورداً للاعتداء من قبل عصابات الحكومة الأموية وهذا ما دعاه للقيام من أجل دراسة الأوضاع السياسية والأجتماعية ، وأمكانية أعادة الخلافة إلى مركزها وتأسيس حكومة ربانية بزعامته .

وهذا ما يتطلب منا بحثاً داخل محتوى السؤال التالي : لماذا لم يبايع الإمام يزيداً ؟ ولماذا عمل على تأسيس الحكومة ؟

لماذا لم يبايع الإمام يزيداً ؟

من نافلة القول : يعتبر الإمام الحسين الممثل الشرعي والوحيد للإسلام ونظامه وقوانينه لأنه مؤمن به إيماناً ملك عليه قلبه وروحه ؛ فقد تغذى على لبانه حين كان طفلاً يحبو وتربى في مملكته وعاش في بيت تهبط إليه ملائكة الجليل ، فهو أبن الإسلام بكل ماتضمه وتحويه تلك الكلمة من معاني ومُفردات لغوية وخطابية ، لأنه قد تلقى حقائق الإسلام من بيت النبوة وشرب ماءه العذب قانوناً وتشريعاً ...

وهذا ما يجعله يشعر بأن الإنسانية بحاجة إلى قوانين الإسلام ومبادئه وأنظمته ، ويشعر بأن العقيدة الإسلامية هي الأقدر على تلبية طموحات البشرية في سيرها التكاملي والبنائي في الحياة والتطور ، ومن هنا فكل عمل أو فعل يخل بوحدة النظام الأسلامي سواء أكان مباشراً أم غير مباشر فأنه يعتبر دون شك ذنباً كبيراً ، وهذه القاعدة القانونية نطبقها على مصاديقها في حياة الحسين حينما طلبت منه الحكومة أن يبايع دون قيد أو شرط وبالقوة من دون وجه حق قانوني وأسلامي ، وقد كان عملاً أجرائياً وقائياً مارسته الحكومة في مواجهة النقمة الشعبية المتزايدة ضد حكومة يزيد ، ولأن الحسين في هذا كله يعتبر مفتاح العملية لذلك طلب منه أن يبايع وضمن تلك الصورة ليستخدم يزيد ذلك الأعتراف كموجه أعلامي يشيعه بين الناس على صحة خلافته وقانونيتها وأسلاميتها ، والإمام الحسين لأعتبارات عدّة لا يستطيع أن يعترف بخلافة يزيد على أنها قانونية وإسلامية ، وهذه الأعتبارات كما أرى هي عبارة عن :

الأعتراف : بها كذب صريح ، والإمام لا يقول الكذب .

الأعتراف : يخالف ضمير الإمام ووجدانه وعقله ، والإمام لا يفعل ما يخالف ضميره ووجدانه وعقله .

الأعتراف : يعني المساعدة في الظلم والعدوان ، لأن قبول خلافة يزيد تجاوز معلن على الحقوق الإنسانية ، وقد نهى القرآن الكريم عن ذلك صريحاً في قوله تعالى :

( ولا تعاونوا على الأثم والعدوان) . المائدة آية

الأعتراف هو قبول بحكومة يزيد في وقت الإمام فيه قالدر على الرفض والأمتناع ، وبذلك يكون الأعتراف جراً للناس إلى الظلال لأنه في تلك الحالة سيقال للناس ؛ إن الإمام الحسين كان بوسعه أن لايعترف بحكومة يزيد ، ولما أعترف بها فهي أذن حكومة قانونية وأسلامية .

الأعتراف : بحكومة يزيد تعدٍ واضح ومفضوح على الإسلام ، لأن حكومة يزيد حكومة طغيانية أسيرة للشهوات ، وتعمل ضد مصالح الإسلام العظيم ، ولايمكن للإمام أن يعترف بحكومة جبرية قامت على الغلبة والقهر ، فالأعتراف بها تّعَّدٍ غير مباشر على الإسلام .

الأعتراف : بحكومة يزيد هو سلب لكل عمل أو تحرك أصلاحي من الإمام ، لأن الإمام بأعترافه سيضطر إلى الأيفاء بعهد البيعة ، وفي هذه الحالة يجب عليه السكوت ، في حين أن الوقت مناسب للقيام بعمل اصلاحي تغييري في البلاد والحكومة .

لهذه الأسباب لايمكن للإمام ان يعترف بخلافة يزيد على أنها قانونية واسلامية ، والحال أنها تعمل على تحطيم الضوابط القانونية والتشريعية في المنهج والسلوك الإسلامي

لماذا عمل الإمام على تأسيس الحكومة ؟

لقد أحدثت حكومة بني أمية أحداثاً في الدولة الإسلامية ومفاصلها ، وكان بمثابة الداء العضال الذي يهدد الدولة بالسقوط مادياً ومعنوياً ، فحكومة معاوية عملت على تجاوز الأحكام الإسلامية وتعطيل الحدود الواحد تلو الأخر ، فمن سلب الحريات الشخصية ومصادرتها إلى الأرهاب والتضييق وحملات الأعدام والأعتقال الكيفي إلى الأستثمار والأستغلال المعلن للإنسان والمال الإسلامي خدمة لمصالح البيت الأموي .

فلم يكن معاوية يولي أهمية تذكر لمبدأ العدالة ، ولا مبدأ الحرية ولا لقضايا الأصلاح الإسلامي وبرامجه ، ورغم كل هذه التعديات فأن القيام على حكومة معاوية غير ممكن البتة . لأنها كانت حكومة قاهرة قوية تمتلك وسائل البطش المُحكمة ، ضمن تلك الأجواء المظلمة والتي لاتدلي بشئ حول المستقبل ونظام الجماعة الأتي ، كان على القوى المحبة للعدل والحرية والسلام ان تتحرك من أجل الاصلاح ولكنها تحينت الفرص حتى هلك معاوية فبعده مباشرة ، فكروا جدَّياً ومليَّاً لاعادة الخلافة إلى مركزها الأصلي وتأسيس حكومة العدل الألهي وقد سرت موجة من التحولات النفسية والشعبية داخل هيكلية الدولة الإسلامية إحياءً لأحكام الله وسنة نبيه ولأجل هذا التحرك كان لا بد من تقديم الإمام الحسين كرائد لمرحلة التغيير والأصلاح ، فهو الأكثر شعبية وحباً وألتفافاً من قبل الجماهير ولدى كل مؤالف ومخالف ، والإمام كان ينتظر موت معاوية (1) الأرشاد ص 200 المفيد .

اذ أن أمكانية التغيير والأصلاح بعد موت معاوية متوفرة بحدود واسعة ، وقد وصل الأنتظار الجماهيري إلى نهايته فمعاوية قد هلك والإمام الحسين كان يرى ، ان الحكومة الجديدة ستواجه وبعنف أي عمل أصلاحي يراد منه تغيير البنية الفوقية لنظام الخلافة ، وقد مورس بحق الإمام ارهاب مكشوف لأرغامه على البيعة ليزيد ، وقد تحمل الإمام في ذلك الشئ الكثير حتى سلبوا منه الأمن ، مما أربك تحركاته وطريقة تفكيره في ممارسة دوره الأصلاحي المرتقب ، وقد حدّاه الطغيان الحكومي ان يترك المدينة ليلاً سراً مهاجراً منها إلى بيت الله ومركز الإسلام مكة المكرمة ، وقد كان لهذه الهجرة أثراً سلبياً شديداً على الحكومة وأجهزتها البوليسية ، فتحرُك الإمام يعني بداية تحرُك جماهيري واسع في ظل ظروف وشروط مناسبة للثورة على يزيد .

دعوة الناس

لقد ذكر لنا التاريخ صوراً جميلة عن الألتفاف الحقيقي من قبل أنصار العدل ومحبيه حول الإمام علي بعد مقتل عثمان ، وكيف بايعوه على الخلافة وتولي مقاليد الحكم ، هذا الأمر نفسه مع اختلاف يسير قد اعيد تكراره بعد موت معاوية وهجرة الإمام الحسين إلى مكة ، فأنصار العدل ومحبو السلام الذين عاشوا ما يقارب العشرين عاماً تحت ظل الأرهاب والبطش والأستبداد الأموي ، قد أنتهزوا فرصة هلاك معاوية لتشكيل فصائل وخلايا عمل مهمتها الطلب من الإمام الحسين أن يتولى مقاليد الخلافة ، وزمام أمر المسلمين لينقذهم من الظلم وذل الأستبداد إلى النور وطريق الحرية والكرامة ، وكان نداء العدالة منبعثاً من أهل الكوفة قادماً من أعماق قلوبهم ، فهم تواقون لتأسيس حكومة العدل الألهي في العراق والحجاز ، وقد عبر أهل الكوفة عن رغبتهم تلك بكتب ورسل بعثوها للإمام الحسين ليسمعوه صوتهم ودعوتهم طالبين من الإمام أن يقبل دعوتهم في التصدي للأمر ، والإمام الحسين لم يجب القوم عفوياً بل أراد أن يكون عمله قائماً على أسس وبرامج عملية مستحكمة ، فبعث مسلم بن عقيل كرسول منه إلى أهل الكوفة لهذه الغاية ليستقرئ ويطلعّ على أوضاعهم السياسية بشكل مباشر ودقيق ومفصل ، وليحقق له عن القوى التي دعته ، وهل هي كافية لتأسيس وتشكيل الحكومة والمساهمة في إعادة الخلافة إلى أهلها أم لا ؟

وأذا أكتملت عنده جميع الشروط الموضوعية المناسبة في هذا الأتجاه فليأخذ البيعة من أهل الكوفة على الجهاد معه

ولقد ظل مسلم بن عقيل ما يقارب الأربعين يوماً يدرس الأوضاع ويتحقق من نوايا ، وصدق دعوتهم . ثم بعث إلى الإمام الحسين كتاباً يقول فيه

( الرائد لايكذب أهله أن جمع أهل الكوفة معك فأقبل حين تقرأ كتابي ) (1) تاريخ الطبري ج4 ص 297 والأرشاد ص 205 ..

لقد كان كتاباً مشعراً بالمسؤولية ، ولهذا رأى الإمام إنه بناءً على هذا التوجه فلا بد من العمل لآحياء معالم الدين ، وتأسيس حكومة العدل الألهي من القوى الموجودة في الكوفة والعمل على تقويض بنية النظام الديكتاتوري للحزب الأموي الحاكم .

عوامل النصر متوفرة :

لقد توفرت للإمام أسباب النصر من كتاب مسلم ، وأستعداد أهل الكوفة للجهاد معه على عدوه ، وضمن تلك الظروف يستطيع أن ينقذ المسلمين من الظلم الأموي بمساعدة هذه القوى المحبة للعدل ، وأسباب النصر وعوامله كما نرى هي كالتالي :

ضعف الحكومة :

أول أسباب النصر هو ضعف الحكومة ، فحكومة يزيد أضعف من حكومة معاوية لعدة أعتبارات منها :

1 - إن آي حكومة جديدة تقوم على أنقاض حكومة أخرى فأنها من أجل أن تبتدئ بمشاريعها وأعمالها ستكون في بدايتها ضعيفة متزلزلة ، وعادة يظل الناس يترقبون الأحداث وما ينتج عنها ، وهل تستطيع الحكومة الجديدة السيطرة على الأوضاع ام لا ؟ وتلك قاعدة معمول بها في العلوم السياسية الحديثة والمعاصرة

2 -ماضي يزيد السئ وعدم كفايته للخلافة ، وهذا سبب قوي لضعف الحكومة ، لأن ذلك علة مباشرة في ضعف الحكومة ، ولعل كثيراً من الساسة كانوا يعتقدون بأن يزيداً لن يستطيع السيطرة على الأوضاع ، والحق معهم أذ أنه في الأيام التي تشكلت بها حكومة يزيد . كان الإمام الحسين قد هاجر إلى مكة وتوقف فيها مبتدئاً المرحلة الأولى من نهضته ... وأن عبد الله بن الزبير قام في مكة بحملة من أجل تجهيز جيش لمحاربة يزيد وحكومته ، وقد أرسل إليه يزيد إلفي مقاتل لملاقاة عبد الله بن الزبير ولكن جيشه قد أنهزم وأسر قائده وضرب أسواطاً (2) الكامل لأبن الأثير ج4 ص 19 ..

وخلال مدة قصيرة أستطاع عبد الله بن الزبير أن يمدّ نفوذه إلى كامل بلاد الحجاز . وبعد ذلك بفترة قام تمرد بقيادة نجدة بن عامر الحنفي في اليمامة (1) الكامل ج4 ص 102 أبن الأثير .. ويزيد بن معاوية لم يستطيع القضاء في حياته على عصيان عبد الله بن الزبير ، وتمرد نجدة بن عامر الحنفي في اليمامة

3 -لما خرج الإمام الحسين من مكة بعث حاكمها مجموعة من جنوده لمنع الحسين من الخروج منها وأرجاعه إليها .

ولكنه لم يستطع بسبب رفض الإمام ومقاومته مما أضطرهم للرجوع (2) الأرشاد ص 220 المفيد .. ونعلم إن حاكم مكة لما أرسل جنوده لمنع الحسين من الخروج من مكة كان يريد أن يرسله أسيراً إلى يزيد في الشام (3) الأرشاد ص 220 .. وربما يقتلون جماعته ، وفي هذه الحالة ينبغي أن ترجع قافلة الإمام كلها ، وهذا العمل العدواني من الحكومة دليل على ضعفها وعدم قدرتها على التصرف الحكيم

4 - ودليل آخر ضعف الحكومة هو : إن حاكم الكوفة النعمان بن بشير لم يستطع الوقوف بوجه حركة أهل الكوفة وفعاليتهم السياسية ، وحتى إنه لم يتمكن من معرفة مكان مسلم بن عقيل السرّي ..

ولما تولى عبيد الله بن زياد الحكم من بعده قام بسلسلة أعمال عدوانية من قتل وأعتقال وسجن للاهالي ، وهذه الأعمال الأرهابية دليل على ضعف الحكومة داخلياً لأن أستخدام لغة البطش والأرهاب هو دليل أكيد على فقدان الدولة لمقومات البقاء ، وعليه فعدم قدرة النعمان بن بشير ، ورعونة ووحشية وقساوة عبيد الله بن زياد كل واحد منها دليل على ضعف الحكومة وتزلزلها .

معاناة الناس

والعامل الثاني من عوامل النصر لدى الإمام هو ؛ ما يعانيه الناس من حكومة بني أمية من ظلم وأستبداد وديكتاتورية بعيدة في وصفها عن كل تصور معقول ، ودليلنا في ذلك ، ما قام به معاوية خلال العشرين سنة من خلافته من تجاوز وظلم وتعدٍ وتحطيم لمبادئ العدل والقانون وسيادة النزعة الفردية ، مما جعل الكافة تزدري حكومته وينتابها الشعور باليأس والأحباط والسلبية أزاء هذا العدوان الحكومي القمعي المنظم ،

ولقد بين معاوية بن يزيد معاناة الناس تلك بقوله : (فما نجهل كراهتكم لنا وطعنكم علينا ) (4) تاريخ اليعقوبي ج2 ص 240 دار صادر بن واضح ..

وبناءً على هذا الأستقراء المنطقي الطبيعي للواقع فأنه من المحتمل جداً ، لو إن الإمام الحسين أستطاع الدخول للعراق ودخل الكوفة وأستقر بها فأن أهل البلدان الآخرى من مدن العراق والحجاز واليمن وخراسان ومصر سيكونون معه ضد حكومة بني أمية الديكتاتورية ، وذلك لأن الناس في تلك البلدان لا زالوا يحتفظون بتلك الذكريات الجميلة والحلوة عن حكومة أبيه امير المؤمنين (4) تارخ اليعقوبي ج2 ص 240 دار صادر بن واضح . ..

وهذا عامل نفسي يضاف لما تقدم في أستعدادهم لنصرة الإمام الحسين وتقوية أزره ومساندته في مجهوده الحربي والدفاعي .

الأفكار العامة

والعامل الثالث هو تطابق وجهات النظر والإفكار العامة مع فكر الإمام وأرائه ، فمما لا ريب فيه إن أبناء البلاد الإسلامية جميعهم مع الإمام وأفكاره عدا أهل الشام الذين كانوا أمويّين النزعة ، وهذه القضية الإيجابية من الأفكار والأراء العامة مدعاة للفخر والأطمئنان ، وهذا يعني في أنسيابيته التقويميه مصدر قوة فيما لو تمكن الإمام من الدخول إلى الكوفة ، أذ انه في الحالة تلك تصبح مسألة تأسيس الحكومة أمراً قهرياً ، بل أنه في ساحات المواجهه هو الأقرب للتحقيق والأكثر أستجابة لمنطق الأشياء المعنونة تحت قائمة الخطاب السياسي ، ويكون مثلها في مواجهة حكومة يزيد مثل حكومة الإمام علي مقابل حكومة معاوية ، مع أختلاف في البنية والتركيب السياسي إذ أن الذي يواجه الإمام علي هو معاوية بكل ما عنده من مكر وتحايل وسلوك شيطاني ، وفي مواجهة الإمام الحسين يقع يزيد بكل ما أنتجته مفاهيم الرداءة والفساد والخسة وسوء الخلق والسيرة والضعف واللامبالاة .

وإليك دليل أوضح

يعتبر شريك بن الأعور بن الحارث الهمداني من الساسة المرموقين في ذلك الوقت وكان من شيعة الإمام الحسين ، وكان قد ورد الكوفة من البصرة مع عبيد الله بن زياد ، وقد أصيب في الكوفة بمرض شديد ألم به ، وكان يسكن في المنزل السّري لمسلم بن عقيل ، وله عند عبيد الله بن زياد قدر وشرف وجلالة ، فلما سمع أبن زياد بمرضه جاء لعيادته ، فقال شريك بن الأعور إلى مسلم بن عقيل :

( إن هذا الفاجر عائدي العشية ، فأذا جلس فأخرج إليه فأقتله ، ثم أقعد في القصر ليس أحد يحول بينك وبينه ، فإن برئت من وجعي هذا أيامي هذه سرّت إلى البصرة وكفيتك أمرها .. ) (1) تاريخ الطبري ج4 ص 271 ..

وشريك هذا كان سياسياً صادقاً يُعبر بأخلاص عن وجهة النظر العامة ، لأنه يعتبر قتل ابن زياد مفتاح الحل لعملية التغيير الحكومي في العراق ، من دون معارض وقد تكفل هو بالبصرة وأمر قبول خلافة الإمام الحسين فيها ،

وهذا تأكيد برهاني على أن الوضع العام كان يرتقب قيام حكومة حسينية ، ولم تكن عبارة شريك تلك تمثل وجهة نظر فردية بل كانت تمثل أرادة واقعية حقيقة ملموسة وقد عبر عنها بهذا الكلام إيحاءً وترجمة لعموم رأي وتفكير أهل الكوفة والبصرة ، وأنهم جميعاً جندٌ للحسين ويريدون حكومته وسلطانه ، بداهة أنه لو قتل ابن زياد لأستطاع مسلم السيطرة على الكوفة والبصرة ولتمكن الإمام الحسين من الدخول إلى العراق منتصراً .

كفاية القائد

العامل الرابع من عوامل النصر ، هو الكفاية واللياقة وحسن أداء القائد ومقدرته ، والحسين يشهد له بذلك العدو والصديق ، فهو زعيم البيت النبوي وأكثرهم كفاية ومقدرة على أدارة شؤون البلاد في شرقها وغربها ، لأنه ترجمان لنفس رسول الله في القيادة وفنونها . وهذا ما أكده معاوية لأبنه عندما قال له :

حسين أحب الناس إلى الناس ) (1) تهذيب ابن عساكر ج4 ص 327 .. وهذا التوكيد جاء بلسان أكثر الناس عداءً للحسين أنه صادر عن معاوية رأس الفتنة وسيدها وأبن قائد الأحزاب ومن أشد الناس عداوة على النبي وآل النبي )

القوات المتطوعة

العامل الخامس من عوامل النصر ، هو وجود عدد لا بأس به من القوات المتطوعة لخدمة الإمام والدفاع عنه ، فقد بعث إليه أهل الكوفة بكتاب يقولون فيه : ( أقدم على جندٌ لك مجندهٌ ) (2) تاريخ الطبري ج 4 ص 262 ..

ولعله من البديهي أن يكون هناك فرق بين القوات المتطوعة والقوات المسخرة عنوة ، والفرق بينهما هو فرق بين قوات الإسلام ، وقوات كسرى يزدجرد الساساني ، لأن الأولى تدافع عن المبادئ والحق والعدل وتقاتل حتى آخر قطرة وآخر نفس ، وإما الثانية فأنها تفتقد لشروط تواجدها ولذا فأن أكثرها تسلم للخصم ..

والقوات التي تشكلت تحت أمرة مسلم كانت من الصنف الأول ، وهي كثيرة يدفعها الشوق وتقارب عدتها ب ل18 ألفاً (3) الأرشاد ص 184 ... والأربعين ألف رجل (4) تاريخ ابن كثير ص 161 .... وكان من بين تلك القوات رجالات على غاية من الأهمية والصلابة والأيمان والسمو الذاتي والمعنوي ؛ أمثال مسلم بن عوسجة وحبيب بن مظاهر وعابس بن ابي شبيب الشاكري رضوان الله عليهم ، وقد ظهرت مواقفهم كأسمى صور المجد يوم عاشوراء في وقعة كربلاء وستبقى أسمائهم مشاعل هداية في طريق النور الألهي تضئ للعالمين دروب الكفاح الحرّ والخلود الإنساني في أكمل صوره التاريخية ، وطبيعي أن عدد أنصار الإمام لم ينحصر بهذا العدد الذي بايع مسلم فقط بل أزداد عددهم وصارو هم الركيزة والمحور الأساسي لقوات الإمام في الكوفة حتى قيل أنه بلغ عددهم فيها مئة ألف أو يزيدون عدا المدن الأخرى والأقاليم كالبصرة والحجاز وغيرهما .

وقد أتفقت كلمة المؤرخين من السنة والشيعة وقالوا : ( أنه كتب إليه أهل الكوفة أن معك مئة ألف ) (5) الأرشاد ص 201 وتاريخ الطبري ج4 ص 294 ومثير الأحزان ص 11 وتاريخ ابن كثير ج8 ص 170 ..

وهذا النقل من الناحية التاريخية صحيح جداً ، وهذا الأمر إنما تم عبر شرائط سرّية قاسية وسيئة .

فقد بايع من أهل الكوفة في ظل تلك الشروط من 18 ألفاً إلى 40 ألفاً ولو تركوا أحراراًً لمبايعته أكثر من مئة ألف ، يقول الشيخ الطوسي : ( أن مسلم بن عقيل أخذ البيعة من أكثر أهل الكوفة ) (1) تلخيص الشافي ج4 ص 183 ...

ويقول شمس الدين الذهبي الرجالي المعروف : (ولقد ثبت عدد من أحصاهم ديوان الإمام في الكوفة مئة ألف ) (2) سير النبلاء ج3 ص 201 ....

دليل من الحياة :

من أبرز الأدلة الواضحة في هذا الأتجاه هو ؛ مشاركة في دعوى الإمام إلى الكوفة ساسة معروفون من أمثال شبث بن ربعي وعمرو بن الحجاج الزبيدي للمساهمة في تأسيس الحكومة فيها ،

وهؤلاء الساسة متطوعة جاهزة تحت أمرته وفي الحالة هذه فإن النصر سيكون أمراً حتمياً ، ولهذه العلل كتبوا له يدعونه فيها للمجئ عاجلاً ، ليسجلوا أنفسهم في ديوان الحكومة المرتقبة ، أذ من المعروف أن هؤلاء الساسة أصحاب هواء وأهل دنيا وسلطان ، فلو لم تكن أمارات النصر لائحة للحسين فأنه لن يُرسل أمثال هؤلاء أي كتاب يدعونه فيه ، فدعوتهم إنما جائت تعبيراً عن حقيقة أمكانية النصر وتأكيده للإمام فهم إنما قالوا بكتابهم ( فاقدم على جندٌ لك مجندةٌ ) (3) تاريخ الطبري ج4 ص 262 والأرشاد ص 204

فهم قد عبّروا عن الواقع وحقيقته وقد أيد مسلم بن عقيل هذا التوجه وامضاه ، أذ أنه بعد أربعين يوماً من التحقيق والبحث كتب يقول : ( أن الرائد لا يكذب أهله إن جمع أهل الكوفة معك فأقبل حين تقرأ كتابي ) (4) تاريخ الطبري ج 4 ص 297 ..... اذ أنه من غير الجائز أن يكتب مسلم هذا خلافاً للحقيقة وخيانة للإمام ، ولن يكون ذلك أيضاً قائماً على الحدس والتخمين دون النظر والأستقراء التامين ، أضافة إلى هذه الأخبار السارة عن أهل الكوفة فإن الإمام كان قد بعث لأهل البصرة يدعوهم إلى نصرته ، وقد استجاب أهل البصرة كما يقول صاحب اللهوف ، (5) اللهوف ص 34 ــ 37 ابن طاووس

يتضح مما قلناه أنفاً أن القوات المستعدة لنصرة الإمام والمتواجدة في الكوفة فقط كانت بحدود المئة ألف سيف بالأضافة إلى أهل البصرة وما أبدوه من أستعداد للمساعدة ، وعليه فعندما صمم الإمام على التحرك نحو الكوفة كان له فيها مئة ألف سيف ، وكان أهل البصرة معه .

ولهذا يتضح معنى سرور الإمام وغبطته وأصراره وتمسكه بدعوته أذ قال :

( أما بعد ، فأن كتاب مسلم بن عقيل جائني يخبر فيه بحسن رأيكم وأجتماع ملآكم على نصرنا والطلب بحقنا فسألت الله أن يحسن لنا الصنيع وإن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر ) (6) الأرشاد ص 220 ....

وأنه دون شك لو دخل الإمام الكوفة في ظل تلك الظروف والشرائط فأن الناس جميعاً وأنصار الحق والعدل في الأمصار الأخرى سيقفون معه يدافعون عنه ويؤازرونه ، لأنهم ذاقوا طعم حلاوة العدل في ظل حكومة الأمام علي )

ملاحظة (1)

لا بأس من الألتفات إلى هذه الملاحظة ؛ أن بيع وشراء السلاح في ذلك الزمان كان يجري بين الناس ، وإنه بمقدور أنصار الإمام ، شراء الأسلحة المشابهة والمماثلة لأسلحة الحكومة ، كما تم ذلك في الكوفة بإدراة مسلم ،(1) الأرشاد ص 208 المفيد ... و المسلمون جميعاً آنذاك على علم بفنون الحرب وأدواتها ، وعليه فلا مشكلة تواجه أنصار الإمام من هذه الناحية فيما لو قدر لهم الأشتباك حربياً مع قوات الحكومة ...

مما مضى يتبين أنه في الوقت الذي تحرك فيه الإمام نحو الكوفة لتشكيل الحكومة كانت هناك قوى تؤيده وتساعده في الكوفة والبصرة وعلى قول بعضهم :

( وأن لك مئة ألف سيف فلا تتأخر ) (2) أعيان الشيعة ج4 ص 182 ..

هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فإن للإمام دوره البارز المؤثر القادر على ملء الفراغ بما له في قلوب الناس من حب ومحبة ،وهذا مالا يمكن قياسه مطلقاً مع وضع ابن معاوية وكراهية الناس له .

هنا ينبغي التنبيه إلى كلام الإمام الذي وبخ فيه أهل الكوفة بالقول :

( سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم وحششتم علينا ناراً أقتدحناها على عدونا وعدوكم ) (3) اللهوف ص 85 ..

أليست هذه السيوف التي تشهر بوجه الإمام هي نفسها التي كان ينبغي ان توجه نحو العدو المشترك والتي جاءت في كتاب مسلم ؟

وأليست تلك القوى هي التي دفعت الإمام لكي يتحرك من مكة إلى الكوفة ، فلماذا يقول فيهم ( فأصرخناكم موجفين ) (4) اللهوف 85 ... ؟ أليس هي نفسها القوات المتطوعة لأهل الكوفة أم لا ؟ . وماذا تعني لفظة ( فأصرخناكم ) غير مساعدته في أرجاع الخلافة إلى مركزها وتلبية دعوى أهل العدل ؟ ثم ألم تكن تلك القوات كافية لمساعدة الإمام وأنتصاره ؟

يقول الشيخ الطوسي في جوابه على من يقول : أن الإمام الحسن صالح معاوية وكان لديه من المقاتلة أكثر مما كان لأخيه الإمام الحسين فيقول : من أين لهم بذلك وأن مقاتلة الإمام الحسن أكثر من مقاتلة الإمام الحسين ؟

بل الحقيقة على خلاف ما زعموا ومن يقرأ التاريخ يفهم ذلك . (5) تلخيص الشافي ج4 ص280

ويظهر من كلام الشيخ أنه يرد على من يقول بأن قوات الإمام الحسن كانت أكثر من قوات الإمام الحسين وهذا منه رد على ما ذهب إليه نفر من الخاصة بقولهم أن عوامل النصر للإمام الحسين من هذا الجانب غير متوفرة .

والسؤال الذي يطرح هنا وبالحاح عن الكيفية التي يمكن للإمام الحسين فيها أن يترك البلد الإسلامي يضج بمحنه والأمة ويدير ظهره له .. بعد توفر كافة الشروط الموضوعية سواء من جهة يزيد وحكومته ، وما تقوم به من أعمال متعددة لتعطيل حركة الإسلام وأبداعاته ، وأحكامه الواحدة تلو الأخرى ،

ومن جهة المظلومين وأهل العدل والمتضررين من المسلمين في العراق من الذين وصل نداؤهم إلى مسمع الإمام مطالبينه بالثورة من الظلم والفساد الحكومي ، ومن جهة القوى المتطوعة والتي أبدت أستعدادها لنصرته والوقوف معه ،

مضافاً إليه ما توفر عنده من أسباب القوة وعوامل النصر ، كضعف الحكومة ومعانات الناس وأفكارهم العامة وكفاية القائد ووجود قوى متطوعة ، كلها تشير إلى أمكانية النصر وأحتمالاته بنسبة [%50] ،

أذن فالمسؤولية والشعور بالواجب بعد كل تلك المقدمات تدعوه للنهوض والحركة والثورة ؟ لأنه ليس من العدل أن يترك الإمام الناس بعدما وضعوا أمانيهم وأمالهم وسعادتهم بقيادته ! . وليس من الممكن أن لا يستجيب الإمام لنداء المستضعفين والمظلومين ولا يجب أستغاثتهم ! ،لأن العقل والمنطق وميزان الحكمة ، يقول لا بد له من الأجابه ، لأنه من غير المظنون به عقلاً ومنطقاً أن يحرم الإمام الناس من عدله ، بعدما ذاقوا الأمرين بحكومة معاوية الأستبدادية زهاء العشرين عاماً ..

فتلبية النداء شعور بالمسؤولية وبالواجب أزاء القرآن والإسلام والناس ، ولذلك صمم على التحرك نحو الكوفة ليلبي نداء الناس وليؤسس معهم حكومة العدل الألهي القادرة على أجتثاث أصول الظلم الأموي .

يقول الإمام علي أمير المؤمنين في خطبته الشقشقية

( لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لأ لقيت حبلها على غاربها ) نهج البلاغة الخطبة رقم 3 ...

يعني أني إنما أخذت بزمام الأمور بعد أتمام الحجة الملقاة عليه ، كذلك فعل الإمام الحسين فأنه لما رأى أن أهل الكوفة وأهل البصرة مستعدون للوقوف إلى جانبه وأن فيهما مئة ألف سيفاً أو يزيدون ، مع حالة من تأييد في سائر الأقطار وبعضها في طور التكوين أحس بالمسؤوليه وشعر بها وكأنها تدعوه للنهوض من أجل محو الظلم من خلال وبواسطة هذه القوى ، وبالتالي فأنه قد لبى دعوة المظلومين عن تلك الأقطار .

بداهة أن لا طريق أخر سوى ذلك الطريق من أجل القضاء على حكومة بني أمية ، فاللإمام أراد أن يفتح العراق ـــ الكوفة والبصرة ـــ من خلال تلك القوى وضمن تلك الشروط ، ليطهر العراق من رجس حكومة البغي الأموي ، أسوة بما فعله النبي حينما فتح مكة ، نعم يوجد أختلاف بينهما من وجهين :

الأول ؛ أن جيش النبي الذي فتح مكة لم يكن أكثر من عشرة آلاف سيف (1) الطبقات ج2 ص 135 محمد بن سعد كاتب الواقدي طبع بيروت .

في حين كانت قوات الإمام مئة ألف سيف أو يزيدون (2) أعيان الشيعة ج 4 ص 182 محسن الأمين طبع بيروت .

الثاني ؛ عندما فتحت مكة كان جيش النبي قادما إليها من الخارج ، بينما جيش الإمام الحسين أكثره من أهل الكوفة ، وبلا شك فأن عملية الفتح متى تمت من الداخل كان العمل أسهل فيما لو كان الفتح من الخارج ؟

ولو قدر للإمام دخول الكوفة ضمن تلك الشروط فأنه سيسقط حكومة يزيد المهترئة الضعيفة أو على أقل التقادير يمكن الوقوف بوجهها ، وقد ثبت ضعفها من خلال مواجهتها للتمرد الذي تزعمه عبد الله بن الزبير (3) الكامل في التارخ ج 4 ص 19 أبن الأثير طبع بيروت .

من كل ذلك يظهر إن فتح العراق وتشكيل الحكومة في الكوفة والتفكير فيه من قبل الإمام الحسين يشبه من حيث الجوهر ما قام به الإمام علي عندما قبل بالحكم والخلافة .

وهو من حيث الفعل يشبه عملياً الأجراء الذي أتخذه رسول الله عند فتح مكة والسيطرة على جزيرة العرب ، ولهذا لا يمكن فصل عمل الإمام الحسين عن العمل الذي قام به رسول الله وأمير المؤمنين ونعتبر قضيته خاصة أو أنها تكليف أستثنائي كما يحلو لبعضهم أطلاقه عليها ...

يرى زعماء الشيعة الكبار ، أن الإمام الحسين لما توجه نحو الكوفة وحتى قبل ملاقاته بالحر ، كانت الأمور تسير بشكل طبيعي وأن أحتمالات النصر كانت هي القائمة ، وهذا الرأي سجله عقل الشيعة وزعيمهم السيد المرتضى علم الهدى في كتابه تنزيه الأنبياء ً 179 ــ 182 ، وكذلك أكده زعيم الطائفة الشيخ الطوسي في كتابه تلخيص الشافي ج 4 ص 182 ــ 188 ،

وهذا التأكيد من أعلام الشيعة وأساطينها يكفي دلالة على أن الإمام الحسين خرج من مكة يأمل بالنصر أن أمكانية النصر كانت قائمة حتى ملاقاته بالحر بن يزيد الرياحي ، وإليك على ما ندعي أدلة بيانية تضميناً وتوكيداً لهذا المعنى

: أن الإمام الحسين لما هاجر إلى مكة وأستقر بها ، أقام سلسة أرتباطات مع العراقيين فكتب إلى زعماء البصرة كتاباً ضمنه عدة مطالب ، مستعرضاً فيه الحوادث التاريخية التي جرت بعد وفاة رسول الله وتنحية أهل البيت عن الخلافة ، وأنه يدعوهم لأرجاع الخلاقة إلى أهلها من أجل أحياء السنة وأماتة البدعة ، وقال :

(أما بعد ، فأن الله أصطفى محمد على خلقه واختاره لرسالته ثم قبضه إليه .. وكنا أهله وأوصياؤه واحق الناس بمقامه في الناس ، فأستأثر علينا قومنا بذلك وكرهنا الفرقة واحببنا العافية ، ونحن نعلم أنا أحق بذلك الحق ممن تولاه .. وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب وانا أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه فأن السنة قد أمُيتت وأن البدعة قد أحييت ، وأن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد ) (1) تاريخ الطبري ج 4 ص 266 .

وواضح من كتابه هذا أنه يدعوهم لأرجاع الخلافة إلى أهل البيت فإن ذلك هو الضمانة والوسيلة التي بمقدورها أماتة البدعة وأحياء السنة ، وهذا الكتاب وما تضمنه لدليل أكيد على أمكانية النصر التي كانت متوفرة ضمن شرائطها الموضوعية تلك ...

ودليلنا على ذلك أن زعماء البصرة قد فهموا معنى كتاب الإمام وطلبه النصرة والمساعدة منهم لتشكيل الحكومة في الكوفة ، وقد عبر عن ذلك أصدق تعبير ــ يزيد بن مسعود النهشلي ــ الذي كتب للإمام جواباً أبدى فيه أستعداده لنصرة الإمام (2) اللهوف ص 32 ــ 37 ابن طاووس .

لأنه من غير الممكن أن يدعو الإمام أهل البصرة لمساعدته وهو يحتمل ان لا امكانية للنصر على عدوه ، وإلا أذا لم يكن كذلك لما فهم زعماء البصرة فحوى دعوة الإمام وأحتياجه للنصرة ومعنى خطابه النهضوي .

ثانياً : لما خرج الإمام الحسين من مكة إلى العراق إلتقاه الفرزدق الشاعر في الصفاح قادماً من العراق ، فلما سأله الإمام عن أوضاع الكوفة وأحوالها قال الفرزدق :

من الخبير سألت قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية ... ينزل من السماء والله يفعل ما يشاء ، فقال له الحسين : صدقت ، لله الأمر ، والله يفعل ما يشاء وكل يوم ربنا في شأن ، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر ، وأن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعد من كان الحق نيته والتقوى سريرته . (3) تاريخ الطبري ج 4 ص 290 والأرشاد ص 199 ..

ويتضح من كلام الإمام : أن نزل القضاء بما نحُب فنحمد الله على نعمائه .

ان الأمر المطلوب في الدرجة الأولى عند الإمام هو تشكيل الحكومة ورفع الظلم من على المسلمين ، وهذا الأمر ممكن بحسب القرائن المتوفرة لدى الإمام أذ أن تأسيس الحكومة ورفع حالة التبكيت والظلم تعتبران عند الإمام نعمة ألهية كبرى ولا بد فيها من شكر المنعم ، ولا ريب أن كلام الإمام يجري في سياق أمكانية النصر وإلا لو كان غير ذلك فلا يمكن ان نتصور ان يقول الإمام ذلك الكلام للفرزدق .

ثالثاً : وما كتبه الإمام الحسين من منزل (حاجر) إلى أهل الكوفة وزعمائها الذين وقفوا مع مسلم بن عقيل وأيدوه في تشكيل الحكومة ، ومدى جدّيتهم في أرجاع الخلافة إلى أهل الخلافة أهل البيت ،

وقد نبه الإمام إلى ذلك في كتابه ودعا الله لهم بالخير وقال :

( أما بعد ، فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبر فيه بحسن رأيكم واجتماع ملئكم على نصرنا ، والطلب بحقنا فسألت الله أن يحسن لنا الصنيع وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر ) (4) تاريخ الطبري ج 4 ص 197 والأرشاد ص 200 .

والكتاب يظهر فرح الإمام وسروره بما قام به مسلم وأهل الكوفة من عمل شاق ودؤوب لأرجاع الخلافة ، وتشكيل الحكومة وتابع يقول :

( وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية ،

فأذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم ، وجدّوا فأني قادمٌ عليكم في أيامي هذه ) (1) تاريخ الطبري ج 4 ص 297 والأرشاد ص 201 . ويظهر من هذا الكتاب تحديد هدف الإمام صريحاً وأستعدادات أهل الكوفة من أجل تشكيل الحكومة ، والكتاب فيما يتضمن دليل أخر على إمكانية النصر للإمام وهذا ما يحكم به العقل .

لأنه من غير المعقول أن يقول الإمام لأهل الكوفة جدّوا وانكمشوا في أمركم دون امكانية في النصر ولو قيل بالخلاف فذلك مالا يصح نسبته للإمام الذي هو أعقل الناس وأكثرهم معرفة ووعياً لما يقول .

رابعا : وما جاء في خطاب الإمام الحسين التوبيخي يوم عاشورا حينما ذكرّ القوم بعهودهم ووعودهم التي أبدوها من أجل نصرته والدفاع عنه ومساعدته في تشكيل الحكومة قائلاً

( تباً لكم أيتها الجماعة وترحا أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم وحششتم علينا ناراً أقتدحناها على عدونا وعدوكم فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أملٍ أصبح لكم فيهم )

(2) اللهوف ص 85 ومقتل الخوارزمي ج 2 ص 6 ، والتهذيب لأبن عساكر ج 4 ص 333 والأحتجاج للطبرسي ج 2 ص 24

ومن هذا الخطاب يفهم أن خروج الإمام من مكة إلى العراق كان بناءً على طلب من القوات التي عرضت مساعدتها عليه ووقوفها معه ومع رسوله مسلم بن عقيل ، للمساهمة في تشكيل الحكومة والقضاء على دولة الظلم الأموي ، وهذا دليل على ان تحركه كان بمقتضى وجود شرائط مناسبة للنصر ، وإلا لو لم يكن ذلك موجوداً لما تحرك من رأس .

ربما يواجه المؤرخ سؤال يطرح على هذه الشاكله ، لماذا خالف الإمام الحسين رأي ابن عباس وغيره من الشخصيات وتحرك نحو الكوفة ؟

ولكن في البداية يجب العلم أن كثيراً من الساسة والمفكرين وأصحاب الرأي وأهل التجربة كانوا مع الحسين في حركته نحو الكوفة ، أمثال حبيب بن مظاهر الأسدي ، وسليمان بن صرد الخزاعي ، ومسلم بن عقيل ، وهاني بن عروة المرادي ،

ومئات الشخصيات الذين لهم كامل أطلاع بأوضاع الكوفة وأحوالها ، ومن هنا كان أصرارهم وتأكيدهم وألحاحهم أنما يقوم بناء على علمهم بواقع الكوفة وحقيقتها ...

نعم حتى نشخص بدقة أياً من الفريقين المخالف والموافق كان صحيحاً فأنه لا ينبغي ان ندرس معنويات كلا الفريقين على حده ، ومن ثم نقيس بينهما ،

بل يكفينا ان نأخذ رأي ابن عباس كمخالف ونقيسه برأي مسلم بن عقيل كموافق ثم ننظر في الرأيين أيهما أصح وأقرب إلى الواقع من الآخر ؟

هنا ينبغي ان نتوجه إلى هذه الملاحظة وهي ، ان ابن عباس ذهب إلى الحجاز ولم يرجع منه إلى العراق بعد صلح الإمام الحسن البتة ، ومن ذلك الوقت وحتى سنة 60 هجرية وهي سنة تحرك الإمام الحسين لم يستطع الأطلاع على أوضاع العراق عامة والكوفة خاصة .

ومن وقت مغادرة ابن عباس العراق إلى الحجاز حتى سنة 60 للهجرة يكون قد أنقضى من الزمن ما يقارب العشرين عاماً وهذه كما ترى مدة طويلة لم يستطع ان يتعرف على اوضاع العراق الأجتماعية بناءً على متطلبات الجيل الجديد ، وهذا الجيل يشكل الغاليبة العظمى عادة .

ومدة العشرين سنة هي زمن ابتعاد ابن عباس عن أوضاع وتحولات العراق الفكرية والأجتماعية والسياسية وبالذات التصورات الفكرية لدى الجيل الجديد ..

اما مسلم بن عقيل فهو رجل ذو بصيرة وحكمة ومعرفة إلى جانب هذا فأنه أقام في الكوفة مدة أربعين يوماً يستقرئ ويتحقق من أوضاعها وتحولاتها ومتطلبات جيلها الجديد ، وطبيعي ان مدة الأربعين يوماً كافية لرجل ذي تجربة ومورد أعتماد وثقة الإمام ، ثم ان مسلم بن عقيل كان مكلفاً بالتحقيق في آراء زعماء الكوفة ومدى صحة مطالبهم ، وهل انهم فعلاً يريدون تغيير بنية النظام السياسي فيها أم لا ؟ وبعد الأربعين يوماً التي قضاها مسلم في تحقيقاته وأستقراءاته اتضح له ان عموم اهل الكوفة يريدون التغيير وهم جادون في مساعدة الإمام والوقوف معه لتشكيل حكومة العدل الألهي ، ولذلك جاء كتابه للإمام يحمل الأمضاء التالي :

( أن الرائد لا يكذب أهله إنً جمع أهل الكوفة معك فأقبل حين تقرأ كتابي والسلام ) (2) تاريخ الطبري ج 4 ص 297 .

وهذا الأمضاء والتقرير ليس وليد حاجة عرفية أو مشاعر عاطفية ، وأيضاً لا يمكننا القول ان مسلم لم يستطع التعرف على أوضاع الكوفة السياسية والأجتماعية عبر الأربعين يوماً التي قضاها في الكوفة ، وعليه فلا يمكن اعتبار ما كتبه سطحي وغير دقيق .

وربما يقودنا ذلك إلى القول ؛ بأن مسلم بن عقيل على علم تفصيلي بأوضاع الكوفة الأجتماعية والطبقية وهو بالتأكيد أدق فهماً ومعرفة من أبن عباس في هذا المجال الذي تفصله عن الكوفة الأف الكيلومترات وبعيد عنها منذ ما يقارب العشرين عاماً ، وما يتطلبه الجيل الجديد وآراءه وحاجاته ومقتضياتها .

ولو حكمنا بحياد حول هذه القضية لقلنا : ان تحقيقات وأستقراءات مسلم بن عقيل أدق وأقرب إلى الواقع ، ولذلك فهي أهم وأدق من آراء غيره في هذا المجال . وهذا لم يكن رأي مسلم وحده بل أن طائفة كبيرة من أهل التجربة وأصحاب الفكر والبيان على هذا الرأي وعددهم يفوق بمرات عديدة عدد الذين خالفوا الإمام في تحركه إلى الكوفة ، ومن هنا جاء ترجيح الإمام لرأي مسلم بن عقيل وحبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة والمئات من أمثالهم على رأي ابن عباس ، وصمم على الذهاب إلى الكوفة .

 

ملاحظة (2)

ربما يظهر من كلام ابن عباس أنه لم يكن على علم بالكتب والرسل التي كانت بين الإمام وأهل الكوفة والظاهر انه لم يكن يعلم بالأخبار التي بعثها مسلم بن عقيل من الكوفة عن أوضاعها السياسية ، ونعتقد ان ذلك كان من الأسرار العسكرية ، وكما هو معلوم دائماً وأبداً ان الأسرار العسكرية وفي جميع أنحاء العالم تبقى سرية ، والقادة العسكريون والسياسيون لا يبيحون في مثل هكذا اسرار حتى إلى أقرب المقربين إليهم .

وابن عباس وأن كان من أقرب الناس إلى الإمام الحسين فعلياً ولكنه لما لم يكن مشاركاً في نهضته ولا هو فيها مستودع لسره ، فلهذا لم يكن على أطلاع بجزئيات وتحقيقات مسلم بن عقيل التي اجراها في الكوفة .

ولما لم يكن ابن عباس مستودعاً لسر الإمام في قضايا الثورة فإنه حتماً سوف لن يكون عالماً بما يجري حولها . وبناءً عليه يجب القول : ان جميع الذين أبدوا مخاوفهم في سفر الإمام إلى الكوفة ، أنما بنوا اعتقادهم هذا لعدم اطلاعهم وعلمهم بأسرار الثورة وقضاياها ومفرداتها .

ولعدم علمهم بوجود قوى متطوعة مستعدة وجاهزة لأخذ الحكم وإعادته إلى مركزه الأصلي .

وعلية فلو كان ابن عباس وأمثاله ممن خالفوا الإمام في سفرته إلى الكوفة يعملون بجزئيات ومفردات عمل الناس وتحقيقات مسام وأستقراءاته ، لكان رأيهم مثل رأي مسلم وسائر زعماء الكوفة بلا خلاف .

قد يتخيل بعضهم ان تحقيقات الإمام حول الوضع في الكوفة سياسياً لم يكن تحقيقاً دقيقاً .

وأن معلومات ابن عباس أدق في هذا الشأن ، لأن ابن عباس أنما قال للإمام ) :

( أني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك والإستئصال ) (1) تاريخ الطبري ج 4 ص 288 .

ولقد حدث ما قاله ابن عباس بالضبط ، ولكن ينبغي القول ، ان التحقيقات والمعلومات غير النتائج .

ففي معركة أحُد كان ( عبد الله بن أبُي ) زعيم المنافقين يخالف الحرب خارج المدينة وكان يتوقع الهزيمة للمسلمين ان حاربوا خارج المدينة قائلاً : ( على ما نقتل أنفسنا ) (2) سيرة ابن هشام ج 2 ص 64 .

ولكن رسول الله ، يرى أن النصر للمسلمين يقوم على أسس وقواعد أهمها أن :

(لكم النصر ما صبرتم ) (3) الطبقات ج 2 ص 38 محمد بن سعد .

وقد حقق المسلمون النصر في الجولة الأولى من الحرب وقتلوا من المشركين عشرين رجلاً وانهزم المشركون ، ولكنه سرعان ما تغيرت كفة المعادلة عندما ترك الرماة قمة جبل (عينين) طمعاً في الغنيمة ، وأستطاع فرسان المشركين أن يأتوا المسلمين من خلفهم ويوقعوا بهم شر هزيمة حيث قتل منهم سبعون رجلاً وقد جرح رسول الله ، وكسُرت رباعيته .(4) الطبقات ج 2 ص 42 .

وتوقع المشركون أن النبي قد قتل .. وعليه فهل يمكننا القول ، أن رأي النبي لم يكن دقيقاً وأن رأي عبد الله بن أبُي رأس النفاق كان أدق ؟ طبعاً لا . بل أننا نقول أن رأي النبي كان صحيحاً ودقيقاً جدّاً ودّليلنا على ذلك ؛ ما حققه المسلمون من نصر مبين في الجولة الأولى من المعركة . وفيما بعد حدثت الهزيمة نتيجة لترك الرماة مكانهم من قمة جبل (عينين ) وقد أستطاع العدو أن يتسلل عبر خطة من وراء المسلمين ويوقع بهم الهزيمة ، وما حدث كان أمراً أستثنائياً لا علاقة للنبي به أذ لا قدرة له في حينه على تجاوزه أو الأبتعاد عنه .

الإمام الحسين أيضاً جعل أوضاع العراق والحجاز وبقية الأقاليم الأسلامية تحت نظره التحقيقي أذ أمضى قرابة الأربعة شهور

( من شهر شعبان وحتى الثامن من ذي الحجة لسنة 60 للهجرة ) وهو قائم على التحقيق والتدقيق في شؤون الكوفة السياسية والأجتماعية مراعياً كافة الأحتياطات ، وبعد سلسة التحقيقات تلك توصل إلى نتيجة مفادُها أنه لو سارت الأمور بمجراها الطبيعي فإن أمكانية النصر قائمة وأكيدة للإمام ) .

وأما ابن عباس فكان يرى عكس رأي مسلم ويخالفه ، وذلك لأنه لم يكن على وعي كاف وأطلاع دقيق حول مجريات العمل التحقيقي الذي قام به الإٌمام وعلى الصعد كافة ، والإمام يرى أن تلك التحقيقات كافية في أداء الغرض كما أسلفنا وأنها صحيحة جدّاً ودقيقة وتامة أضافة إلى الأمور الخمسة التي كان لها كبير أثر في تحركه نحو الكوفة وهذه الأمور هي :

1 – ضعف الحكومة .

2 – معاناة المجتمع .

3 – الأفكار العامة .

4 – كفاية القائد .

5- والقوات المتطوعة .

نعم أن ما يجري خلف الكواليس غير قابل للرؤية العادية ، فأوضاع العراق قد تغيرت وتولي عبيد الله بن زياد الحكم في الكوفة وقد دخل القصر خائفاً ثم أغلقه عليه (1) تاريخ الطبري ج 4 ص 176 والأرشاد ص 190 . ثم أستطاع فيما بعد أن يبسط نفوذه على القوى الشعبية بالقوة والجبر والأكراه . وكما ان رسول الله خسر الحرب في معركة أحُد نتيجة لوضع غير طبيعي وتصرف للرماة مُخالف لتوجهات الرسول مما أدى إلى ان يخسر المسلمون الحرب .

كذلك فإن الوضع الطبيعي في الكوفة قد تغير بعد تولي أبن زياد الحكم ، وهذا الأمر لايخدش في تحقيقات الإمام وأستقرائه وتصرفه ، كما لايخدش ذلك برسول الله وبما جرى للمسلمين يوم أحُد .

ربما يسأل أحدهم ، أذا كان هدف الإمام الحسين هو تشكيل الحكومة ، أذن فما هو الفرق بينه وبين عبد الله بن الزبير الذي يريد هو الآخر تشكيل حكومة ؟

وربما يرد السؤال على هذه الكيفية ، لو كان الهدف هو النصر في الحرب ، أذن فما هو الفرق بين رسول الله وأبو سفيان اللذان يحاربان من أجل النصر ؟

والجواب فيما نعتقد يدور لا على الصورة بل على الجوهر يعني ، أن رجال الله وأهل المبادئ يفترقون عن أهل الدنيا بثلاث فروق هي :

الفرق في الهدف : فهدف أهل الدنيا من الحرب هو الحصول على المنافع واللذائذ الدنيوية المادية ، وأما أهل الله فهدفهم من الحرب والنصر هو إقامة حكم الله العادل الذي تقام فيه الموازين وأحكام الشرع والقانون.

الفرق في الوسيلة : أن أهل الدنيا عندما يريدون الوصول إلى غاياتهم فأنهم يستخدمون كافة الوسائل اللاأخلاقية واللاشرعية لتحقيق رغباتهم ، ولكن أهل الله عندما يريدون الوصول إلى غاياتهم لا يستخدمون الوسائل غير المشروعة في تحقيق أهدافهم ولا يقومون بأعمال تنافي طبيعتهم الأيمانية والأخلاقية .

الفرق في النتيجة : أن أهل الدنيا لايجدون في حربهم معنى إلا بالنصر ، وأذا ما أنهزموا فأنهم يخسرون كل شئ ، وأما أهل الله فإنهم أن أنتصروا أقاموا العدل والحق في مملكتهم وأن أنهزموا فأن أهدافهم ستبقى حية ، ولا يجدون في ذلك غبناً بل الشهادة والسعادة الأبدية .

وقد ذكر الله الفرق بين من يصاب من أهل الحق وأهل الباطل في القرآن بقوله تعالى

( إن تكونوا تألمون فانهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون ) (1) النساء آية 104 .

ومن ذلك كله يتبين معنى قول الإمام الحسين للفرزدق

( ان نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر وأن حال القضاء دون الرجاء فلم يتعد من كان الحق نيته والتقوى سريرته ) (2) تاريخ الطبري ج 4 ص 290 والأرشاد ص 199 .

وهذا الكلام ترجمة للفرزدق بين أهل الله وأهل الدنيا في حربهم وأنتصاراتهم فأهل الحق دوماً يسعون لأقامة العدل وتحكيم مبادئ الحق وقوانينه وهو أختلاف مع أهل الباطل في الهدف والوسيلة والنتيجة كما ترى وكما يظهر من شكلية الخطاب العقيدي .. ربما يتصور بعضهم أن الإمام ليس شخصاً عادياً بل هو رجل سماوي ملكوتي وقائد روحاني وأذا كانت هذه صفاته فما باله بالحكم والحكومة ؟

ولكن ينبغي العلم ان الإمام أضافة إلى أنه رجل سماوي وروحاني وشخص ملكوتي لكنه في الوقت نفسه ، هو قائد سياسي .

يقول علماء البيان من المتكلمين في تعريفهم لمعنى الإمام أن

( الأمامة رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا نيابة عن النبي ) (1) شرح الباب الحادي عشر مبحث الأمامة ص 43 العلامة الحلي طبع أيران .

وبناء على مضمون هذا التعريف فالامام هو النائب عن النبي في كل الشؤون الدينية والدنيوية ، ومع توفر الشروط المناسبة ، فلا بد من تولي الحكم وولاية الناس ليقيم الحدود والقوانين بينهم . ..

بداهة أن الإسلام له نظرته الخاصة لقضايا الفكر والثقافة وفلسفة الأجتماع ، وقضايا الفكر السياسي الداخلية والخارجية وشؤون الحرب والسلام ، فكل تلكم القضايا قد نظم الإسلام شرعيتها ، وهي تشريعات مستقلة وتامة مقابل القوانين الوضعية في الدنيا ، فلو تولى الإمام الحكم فأن هذه التشريعات ستطبق على الناس وتقام الحدود واجرائها في الحياة ، أذ أنه فقط في ظل حكومة الإمام تقام الحدود وتطبق القوانين الجزائية والمدنية والشرعية ، ويصار إلى تنظيم الحياة الأقتصادية وتوزيع الثروة وتنمية رأس المال بصورة عادلة وصرف الزكوات والخُمس إلى مستحقيها بشكل صحيح ، وأن الإمام يستطيع تطوير المناهج الفكرية والعلمية والثقافية .

والإمام يمارس دور واسع في أمور الدعوة والتبليغ الإسلامي بأسلوب منظم ومؤثر ، وأنه يعمل على زيادة المنفعة والمصلحة الإسلامية من خلال العقود والأتفاقات والبروتوكولات التي تصب في خدمة الإسلام ومصالحه .

وبالتالي فأن الإسلام تحت ظل قيادة الإمام يستطيع تطوير التكامل والتقدم على المستويين المادي والمعنوي .. .

أذن فالحكومة هي التي بمقدورها تنفيذ كل هذه البنود فرسول الله ظل في مكة ثلاث عشرة سنة ولكن الإسلام لم يتقدم ولم يأخذ هذا الدور التقدمي الذي حصل عليه في المدينة فحينما هاجر وشكل فيها الحكومة استطاع عبر أقل من عشر سنين أن يفتح جزيرة العرب ، وتمكن خلال فترة وجيزة تحدى الحكومات الكبيرة في الزمان كحكومة قيصر الروم وكسرى فارس ، والإمام كالنبي يستطيع بالحكومة أن يجري القوانين الإسلامية في المجتمع ، وأذا توفرت اللإمام شرائط تشكيل الحكومة فلابد اللإمام أن يقدم على ذلك (2) تلخيص الشافي ج 4 ص 182 الشيخ الطوسي طبع قم .

أذ أن أجراء القوانين وتنفيذها واجب . وتشكيل الحكومة مقدمة لذلك الواجب .

حيث يقول علماء الأصول : ( مقدمة الواجب واجب ) (3) أصول الفقه ج 1 ص 141 المظفر طبع النجف .

نعم الحكومة من هذه الجهة مقام دنيوي ، مع أنها في حد ذاتها ليست لها أية قيمة وهذا ما عبر عنه الإمام علي قائلاً لأبن عباس : يا ابن عباس ؟ ما قيمة هذا النعل ؟ قلت سيدي ليس لها قيمة ، قال : والله أنها لأحب إليّ من أمرتكم هذه ، إلا أن أقيم حقاً أو أدحض باطلاً (4) نهج البلاغة الخطبة 41 .

وبناءً على النظرة أزاء قيمة الحكومة دنيوياً : فإن الإمام الحسين في هذا الأتجاه يمثل جوهر المعنى الراقي لكلام أمير المؤمنين ، وهذه النظرة لاتلغي دور الحكومة في الإسلام ، بل تؤكدها لأن بالحكومة تقام الحدود وترد المظالم وهذا ماعبر عنه الإمام الحسين وهو في طريقه إلى الكوفة قائلاً :

( نحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر ) (1) الأرشاد ص 205 المفيد .

وهذا يعني ان الحكومة وسيلة لتنفيذ وإجراء القوانين الإسلامية ، ولو توفرت تلك الوسيلة فأنه يمكن من خلالها أرجاع الحق إلى أهله وإذا ثبت اللازم ثبت الملزوم ، لأن جميع الحقوق منوطة بوجود حكومة فحق الله وحق الرسول وحق المجتمع ، وبالتالي فلن يستطيع الإمام أن يصرف النظر عنها زهداً فيها وطمعاً في العبادة كما يقولون ، ولأن تركها مع توفر الشروط تضييع للحق العام وليس من حقه ذلك مع ثبوته وتوفره ، ولعل من له أطلاع على مباني الفقه الإسلامي يعلم أن أخذ الحق واجب وخصوصاً الحق من جهة العامة أي الأجتماعية والمدنية وهو الحق الذي يرتبط بسعادة الناس وشقائهم

(إلا في موارد خاصة مبحوث فيها على التفصيل بالمطولات من كتب الفقه والتشريع )

والخلافة الإسلامية هي حق الإمام قبل أن تكون حقاً شخصياً لأنها ذات صبغة أجتماعية عامة ؛ وكون الخلافة بيد الإمام توفر للأمة الإسلامية طرق التكامل والوحدة والتقدم ...

وبملاحظة سريعة لتأريخية الخلافة ؛ نجد أمير المؤمنين بعد قضية السقيفة وماجرى فيها وما أتت عليه ومن ثم قضية الشورى وما حققته ، أكد الإمام علي على حقه في الخلافة دون سواه لأنه أنما عبر عن رؤيتة لصالح الأمة والإسلام وأعتبر تولي زعامة الجماعة الإسلامية قضية أصولية من دونها تختل الأحكام والنظم الدستورية ، ومن هنا جاء تأكيده على أصالة الحكومة وثوابتها والتمسك بها كحق دستوري منصوص عليه حيث قال :

( إنما طلبت حقاً هو ليَّ وأنتم تحولون بيني وبينه ) (2) نهج البلاغة الخطبة رقم 170 .

ولو ترك الأمر دون مطالبة لقلنا ، أن الإمام علي مسؤول أمام الله مسؤولية شرعية ولن يستطيع ان يعطي أجابة منطقية عن تلك المسؤولية ، نعم المطابة هي تأكيد على الحق وإبراء الذمة تجاه المسؤولية الألهية ، فحتى لو لم يصل إلى هدفه فأنه يكون قد أدى ما عليه من التكليف ويكون بذلك قد قدم الأجابة المنطقية على المسؤولية الألهية .

وهكذا الأمر بالنسبة للإمام الحسين فعندما توفرت لديه الشرائط الموضوعية لأرجاع الخلافة إلى أهل البيت عمل من أجل ذلك عبر الوسائل المتاحة وتقدم خطوات في هذا الأتجاه ، ولو لم يفعل ذلك لأعطاء الفرصة لحكومة الحزب الأموي أن تمارس أرهابها وظلمها بشكل قانوني مشروع ، ومنه تبين ان أخذ الحق يعني تولي الخلافة ضمن الشروط الموضوعية واجب لا جدال فيه ، فالحجة قد ألزمت الإمام الحسين بوجود قوى متطوعة على أهبة الأستعداد والجاهزية وبالتالي فلو تأخر عن أداء التكليف وأبطال الحجة يكون مسؤولاً أمام الله سبحانه وتعالى . وتوكيدأً لفعله في ممارسة المسؤولية الولائية ؛

قام وهو في طريقه إلى الكوفة بتفتيش عير في منطقة التنعيم كانت قادمة من اليمن . وكان قد بعثها

( بحير بن ريسان الحميري ) إلى يزيد بن معاوية ، وعلى العير (الوروس والحلل ) فأخذها الإمام الحسين وقال لآصحاب الإبل :

لا أكرهكم من أحب أن يمضي معنا إلى العراق أوفينا كراه ، واحببنا صحبته ، ومن أحب أن يفارقنا من مكاننا هذا أعطيناه من الكراء على قدر ماقطع من الأرض ، فمن فارقه منهم حوسب فأوفى حقه ، ومن مضى منهم معه أعطاه كراء وكساء (1) تاريخ الطبري ج 4 ص 289 ــ 290 ـ واللهوف ص 60 والأخبار الطوال ص 221 . وربما يسأل أحد : وهل يجوز للإمام ان يصادر هذه الأموال بالقوة والأكراه ؟ وهل يتناسب ذلك الفعل مع شأنيته كإمام ؟

ينبغي التأكيد هنا ؛ أن تصَرَّف الإمام هذا لايعد مصادرة قهرية كما يفهم من السؤال ، ولكنه تَصرَّف واجب تم في ظل شروط موضوعية خاصة ودليلنا على ذلك مايلي :

1 – أن هذه الأموال هي أموال بيت مال المسلمين ، وأنها تذهب ليزيد كي يستخدمها في أغراضه وتصرفاته الخاصة وأعماله الشخصية ، كما يستخدم أموال الخزينة العامة لأغراضه وشؤونه الخاصة .

وتصرَّف الإمام كان تصرفاً أسلامياً ومن وحي التشريع طالما عرُف مستند الأموال وأهدافها ، فالثروة المهداة هي ليزيد هي عبارة عن اموال مغصوبه ويجب أخذها من الغاصب وردها في خدمة مصالح المسلمين (2) تلخيص الشافي ج 4 ص 179 .

وقد نبهنا فيما سبق إلى قاعدة أصولية في وجوبية أخذ الحق ، وذلك على الإمام خصوصاً أذا أرتبط الحق بالأمة الإسلامية .

2 – ولأن الإمام يقوم بعمل أصلاحي ثوري ضد حكومة يزيد ، وهو عازم على هذا العمل عبر تشكيل الحكومة وأرجاع الخلافة إلى أهل البيت ، وهذا العمل كما انه يحتاج إلى قدرة عسكرية كذلك يحتاج إلى قدرة أقتصادية ، وتوفير القدرة الأقتصادية من أجل الأصلاح واجب على الإمام ، وعليه التصرف بتلك الثروة عمل إلزامي مشروع يستهدف خلخلة الوضع الداخلي وتقوية هدف الإمام ) ..

اذن فتصرف الإمام بأموال العير بهذا الشكل لم يكن عملاً يستهدف تقوية خط الإمام وبرنامجه الأصلاحي فقط ، بل وكذلك يكون قد أدى تكليفاً ألهياً ومسؤولية شرعية ، لأنه قام برد المال المغصوب إلى أصحابه الحقيقين وتوظيفه في برنامجه الإصلاحي التغييري ، وهذا الفعل منه أقوى دليل على صحة ثورته وأهدافها ، وهو ما ينبغي فعله وتكراره من قبل المصلحين والثوريين .

( ولكم في رسول الله أسوة حسنة ) فعل يُلزم الأخرين بالعمل مثله . فهو حجة ملزمة لهم وعليهم ، أشعارا ً بلغة النص المقيدة بقوله تعالى : :

وتأكيدا عليها

قضية البيعة

أتفق المؤرخون على أن الإمام الحسين كان قد بعث مسلم بن عقيل إلى الكوفة ليأخذ البيعة من أهلها ، بشرط ان تكون الظروف الموضوعية مساعدة على ذلك ، والأن لنا ان نتعرف على ماهية البيعة التي كان على مسلم بن عقيل أن يأخذها من أهل الكوفة . من أجل ذلك يُلزم بنا ؛ أن نعُطي شرحاً مختصراً يبين لنا معنى البيعة وأقسامها ؛ البيعة لغة : التولية وعقدها أن يمسك أعيان البلاد من يولونه الخلافة علامة لقبولهم أياه وتعهدهم بطاعته والأنقياد له (1) المنجد ص 57 الأب لويس معلوب طبع بيروت .

وهي أصطلاحاً من العقود التي تثبت بمجرد عقدها ، ويجب الألتزام والوفاء بها ، ويلتزم المرء بوظائفها وتكاليفها التي تثبت في عنقه ، وهي على أقسام :

بيعة المتابعة

وهي البيعة التي يلتزم صاحبها بالوفاء لما تعاقد عليه ، مثل بيعة النساء حين يدخلن بالإسلام بايعن رسول الله على أن لا يشركن ولا يزنين ولا يسرقن ، قال تعالى :

( ياأيها النبي أذا جاءك المؤمنات يبايعنك على ان لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولايعصينك في معروف فبايعهن ) (2) الممتحنة الآية 12 . وهي في الحقيقة بيعة متابعة للإسلام في أحكامه

بيعة الخلافة

وهي البيعة التي يتعهد صاحبها بالوفاء بها والوقوف خلف الخليفة الذي يبايعه ويناصره ويسانده كما حدث لأمير المؤمنين بعد مقتل عثمان بن عفان .

بيعة الجهاد

وهي البيعة التي يتعهد صاحبها بالوفاء بها عند الحاجة ، وبأن يحارب من حاربه وأن يكون تحت لوائه ، كما جرى للمسلمين الذين بايعوا النبي في الحديبية على الموت معه ودونه (3) مجمع البيان ج9 ص 113 طبع ايران الطبرسي وهو مافعله أمير المؤمنين علي قبل معركة الجمل ( في ذي قار ) اذ أخذ بيعة الجهاد من الناس الذين حضروا ذلك الموقع (4) الأرشاد ص 117 . .

والبيعة التي أخذها مسلم بن عقيل من أهل الكوفة هي بيعة الجهاد ، ويجب على ان يلتزموا بها في الحرب مع الإمام الحسين ضد حكومة يزيد .

قال الشيخ المفيد حول هذا الموضوع

( فدعا إلى الجهاد وشمّر للقتال ، وتوجه بولده وأهل بيته من حرم الله وحرم رسول الله نحو العراق لأستنصار بمن دعاه من شيعته على الأعداء وقدم ابن عمه مسلم بن عقيل للدعوة إلى الله والبيعة له على الجهاد فبايعه أهل الكوفة على ذلك ) ( 5) الأرشاد ص 179 . ولا ريب ان بيعة الجهاد هنا لاهدف لها سوى أرجاع الخلافة الإسلامية إلى مركزها الأصلي . روي الشيخ المفيد ان عبيد الله بن زياد قال لمسلم بن عقيل

( اتيت الناس وهم جمع فشتت بينهم وفرقت كلمتهم وحملت بعضهم على بعض ، فقال له مسلم : أتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب ) (6) الأرشاد ص 215 ــ 216 .

والسؤال الذي يطرح حول هذا الكلام ؛ ماهي الوسيلة التي يمكن ان يؤمر بها بالعدل وأن تقام بها حدود الله وأحكام القرآن ؟

الجواب : أن الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها الأمر بالعدل وإقامة الحدود هي الحكومة ، فهي المنظمة الإسلامية التي من خلالها يمكن تطبيق القوانين وأجراء العدالة ، ومرتكز ذلك ليس في الأذهان وأنما يتم بإعادة الخلافة إلى اهل البيت وأرجاع الحق إلى نصابه بتولية الإمام الحسين كخليفة للأمة الإسلامية ، وعند ذلك تصبح أحكام القضاء تحت أرادته مباشرة وما يحكم فيه يجري أمضاءه وتقريره منه وبناءً على منطوق كلام مسلم

(أتيناهم لنأمر بالعدل ) يعني ان مسلماً مكلفاً بالعمل لذلك الهدف أذا ما توفرت الشروط الموضوعية لأعادة الخلافة إلى أهل البيت ، والتي ستطبق في ظلها أحكام القرآن وحدود الله ، ونفس الأمر أشار إليه أبن زياد في كلامه مع مسلم بن عقيل عندما قال :

( أن نفسك تمنيك ما حال الله دونه ، ولم يرك الله له أهلاً ، فقال مسلم : فمن أهله أذا لم نكن نحن أهله ؟

فقال ابن زياد : أمير المؤمنين يزيد ! ) (1) الأرشاد ص 216 .

هذا الكلام يبين هدف الإمام من تحركه وثورته أذ لا هدف آخر عنده غير الحكومة والخلافة ، ومن اجل هذا لايستطيع من قال ان الإمام الحسين ذهب للشهادة تفسير قول مسلم هذا إلى أبن زياد .

أذ من غير الممكن أن يكون مسلم يريد بقوله هذا ؛ انما أتينا لنُقتل بيد الناس حتى نطبق العدل ، ولا من المعقول ان يقول ابن زياد لمسلم : أنك تمني نفسك بالشهادة ولكن الله لم يراك أهلاً لها وان يزيد بن معاوية هو أهل لها .

الذين يقولون ؛ بأن الإمام الحسين لما عزم على الخروج إلى الكوفة لم يكن عنده القوة الكافية وليس لديه الأمكانية في النصر ، وهذا القول على عواهنه ينسب الخطأ والأشتباه لمسلم بن عقيل عندما كتب للإمام الحسين

( .. أن جمع أهل الكوفة معك فأقبل حين تقرأ كتابي .. ) (2) تاريخ الطبري ج 4 ص 297 ..

لأن مسلم بن عقيل حينما كتب ذلك لم يكن شاكاً في ما كتب ولا شاكاً بعدم أمكانية النصر ، ولو خالف أحدٌ رأي مسلم بن عقيل وقال : إن الإمام لم تكن له القدرة الكافية على تحقيق النصر ، فهل يجوز نسبة الخطأ إلى مسلم ؟

وثانياً أن مسلم كان مورد أعتماد وثقة وتأييد الإمام الحسين ولهذا فقد أختاره لتمثيله في هذا العمل الكبير ، وفي الحالة هذه لو نسب أحدٌ الخطأ في تشخيص مسلم للوضع فأن ذلك يجر القول في صحة أختيار مسلم لهذه المهمة وبالتالي الشك في الإمام الحسين ، وهذا المعنى لا نقبله بأي وجه من الوجوه ، وعليه فمن يقول : بأن الإمام الحسين لما عزم على الخروج إلى الكوفة لم يكن عنده القوة الكافية التي تمكنه من النصر ، فأن هذا القول يعني من باب الأولوية نسبة الخطأ في تشخيص مسلم والشك في أختيار الإمام وخدشة لمعتقدات ويقينيات العمل السياسي الأصلاحي عند الإمام ) .

لو وجدنا جماعة من الناس تبدي كامل الأستعداد لأرجاع الخلافة الإسلامية إلى مركزها الأصلي ، ونراهم قد أظهروا الجد في أمرهم هذا . فأن على الإمام الحسين أن يلتزم بهذا التوجه ويدعمه أتماماً للحجة ونصراً للدين فمن باب الوجوب التكليفي عليه أن يأخذ بيد هذه الجماعة ويتولى زمام الأمر من أجل أحياء السنة وإماتتة البدعة ، ولكن قضية تشكيل الحكومة وأزاحة الظلم من على الناس لها جانب إلزامي من جهة الحجة ، وبتعبير أدق ، أن أتمام الحجة هو أداء للتكليف وشعور بالمسؤولية . وأداء التكليف هي قضية أحياء معالم دين الله ، واتمام الحجة على الإمام تعني إعادة الخلافة إلى مركزها عند توفر الشروط الموضوعية لذلك ،

ولكن الحوادث التي جرت فيما بعد لم تساعد الإمام في تحقيق أهدافه المعلنة ، وفي هذه الحالة يكون الإمام الحسين قد أقام الحجة على الناس وأتمها عليهم ولم يبق أي مجال للأعتراض . وعليه ففي ثورة الإمام الحسين ليكون لمعنى أتمام الحجة جانبان الأول :؛ هو توفر الشروط الموضوعية لأعادة الخلافة إلى أهل البيت وبها تكون الحجة من الله قد تمت على الإمام .

والثاني : أن الإمام الحسين قد أتم الحجة على الناس بقيامة وثورته ، ولكن ينبغي التأكيد أن قيام الإمام سيد الشهداء من أجل فتح العراق لم يكن أتمام الحجة فقط ، بل كان له معنيان كما قدمنا هما ؛ إحياء الإسلام عن طريق أرجاع الخلافة والثاني أتمام الحجة ،

ربما يطرح السؤال التالي من أهل الرأي والأجتهاد ؛ أذا كان للإمام قوى متطوعة جاهزة ومستعدة فلماذا لم تأت هذه القوى من أجل مساعدته في أنها حكم يزيد ؟

وهذا السؤال ربما يطرح حول ماهية جيش أمير المؤمنين علي أذ . لماذا لم يساعده الجيش في صفين من أجل القضاء على معاوية ؟

الجواب : الكل يعلم بأن النصر كان حليفاً للإمام علي في معركة صفين ، ولكن أسلوب النفاق وما أحدثه عمرو ابن العاص من فرقة بين المسلمين عندما رفع بالأشتراك مع الأشعث بن قيس المصاحف على الرماح وقال : هذا بيننا وبينكم ، وقد شكلت قوى التمرد في جيشه كمجاميع ضغط عليه للقبول بحالة التحكيم والرضوخ لمبدأ الصلح سالبين منه الأرادة والقيادة حتى صار يقول ..

لارأي لمن لا يطاع نهج البلاغة الخطبة 27 .

يكررها مرات عديدة ، وضمن تلك الشرائط وتلك الظروف قبل التحكيم كأصل لتأصيل مبدأ الحكم والمحاكمة ، وفيها يكون قد فقد مبادئ النصر وأمكانيته ، وعلى هذا الأحتمال فأن التغيرات التي جرت على الساحة الكوفية آلت إلى تغيير نمطية القوى المتطوعة ، فالذي حدث في العراق تم عبر عمليات سريعة من أغلاق للحدود وقطع للأتصالات ومحاصرة الإمام الحسين عبر جيش الحر بن يزيد المكلف من قبل عبيد الله بن زياد بمراقبة الإمام وأحضاره عنوة ، وضمن تلك الشروط أصبح النصر للإمام غير ممكن .

ومن هنا يمكن أن نشخص السبب الرسمي لعدم أنتصار الإمام علي في صفين والإمام الحسين في حركته الثورية الأصلاحية يعود بالدرجة الأساس إلى أنقطاع الرابطة بين القيادة والجيش الذي تحت أمرته مع أختلاف بسيط هو ؛ أنه في معركة صفين شكلت قوى النفاق اللوبي الذي أثار الأختلاف وقطع الرابطة بين القيادة والجيش ، في حين كان لتغير الوضع في الكوفة أثر تسلط عبيد الله بن زياد على الحكم وأغلاقه للحدود ، السبب في قطع الرابطة بين الإمام وقواته في الكوفة .

وهنا قد يسأل أحدنا نفسه ؛ من هو المسؤول عن قطع الأرتباط بين الإمام وقواته ؟

وهل يجوز أن نقول أن مسلم بن عقيل هو المسؤول في قطع الأرتباط ، لأنه لم يشخص على وجه الدقة قدرة هذه القوات وجاهزيتها الفعلية أزاء أي متغير تواجهه كما لو كان تسلط أبن زياد على الحكم مثلاً ؟

ولكن ينبغي القول : أن ما فعله وقام به مسلم بن عقيل في واجبه التكليفي ضمن مهامه الجهادية قد أداه على وجه جدير بالأهتمام ، أذ أنه قام بتحقيق موسع ودقيق لأوضاع الكوفة السياسية ومن خلال ذلك العمل أستطاع أن يجهز تلك القوات ويختبر مدى جاهزيتها وأستعدادها لمساعدة الإمام فيما لو دخل الكوفة وكتب للإمام يستعجله القدوم ، ولكن الذي حدث كان مغايراً في فلسفته لفحوى ومضمون التحقيقات .

أذ أن عبيد الله بن زياد قد تولى الحكم في الكوفة حديثاً ، وأستطاع عبر وسائله المخابراتية أن يحصل على مكان مسلم بن عقيل السّري عن طريق أحد جواسيسه ، الذي أخبره بأن مسلم ينزل في بيت هاني بن عروة المرادي ، الذي طلب أبن زياد أحضاره إليه وأمره أبن زياد أن يسلمه مسلم بن عقيل وقد أمتنع هاني في الرد على طلب أبن زياد ، مما أثار في نفسه الحنق والحقد قائلاً :

أدنوه مني ، فأدني منه ، فأعترض وجه بالقضيب فلم يزل يضرب أنفه وجبينه وخده حتى كسر أنفه وسالت الدماء على وجهه ولحيته (1) الأرشاد ص 209 .

ومسلم قد خبر تلك الأمور ورآها ، فالعدو قد علم بمكان تواجده ولهذا صار عليه لزاماً أن يستخدم القوة العسكرية خوفاً من أن يأخذوه على حين غفلة ويحاصرونه ويقطعون أمداداته العسكرية ، وهنا ستكون الخسارة حتمية وقطعية وفادحة ، وقد تجمع لمسلم أربعة الآف رجل (2) الأرشاد ص 210 ..

وقد عقد مسلم لرؤوس الأرباع على القبائل وأصبح هو قائد تلك الجموع ، وهذه الجموع لابد لها من إن تعبر الكوفة وشوارعها لتصل إلى قصر الحكومة ، وكان أبن زياد قد ألقى خطاباً هدد وتوعد ، ولكنه لاذ بالقصر هو ومن معه . (3) الأرشاد ص 210 . ولم تطل المدة حتى تمت محاصرة قصر أبن زياد بقيادة مسلم بن عقيل (4) تاريخ الطبري ج4 ص 275 والأرشاد ص 211 . وقد رأى ابن زياد الموت بعينيه .

وكان مسلم بن عقيل يهدف من محاصرته للقصر إعتقال أبن زياد أو قتله ، وهذا العمل من مسلم كان دقيقاً وشجاعاً وموفقاً .

وقد كان مع عبيد الله بن زياد خمسون رجلاً (1) تاريخ الطبري ج 4 ص 276 والأرشاد ص 211 . أو مائتين (2) الأخبار الطوال ص 217 .

من أصحابه في القصر وقت حصاره ومن أجل إبعاد شبح الموت قاموا بإعمال مضادة خلاصتها كالتالي :

1 – دعا أبن زياد كثير بن شهاب وأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج فيسير في الكوفة ويخذل الناس عن ابن عقيل ويخوفهم الحرب ويحذرهم عقوبه السلطان (3) تاريخ الطبري ج 4 ص 276 والأرشاد ص 211 .

2 – وأمر محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كنده وحضرموت فيرفع رأية أمان لمن جاءه من الناس (4) الأرشاد ص 211 .

وقد أمر شمر بن ذي الجوشن وشبث بن ربعي أن يخرجوا من القصر ويدعوا الناس إلى الأمان تحت الراية ، وقد نصبت لهذه الغاية خمس رايات أمان في الكوفة في خمس مناطق منها ، وكانوا يدعون الناس للأبتعاد عن أنتقام الحكومة

3 – بث الرعب بصفوف أنصار مسلم بن عقيل عندما أعتقل أثنين من بني فتيان من قبل كثير بن شهاب ومحمد بن الأشعث وأرسلهم إلى عبيد الله بن زياد الذي أمر بحبسهم .

4 – وبعد أن نصب كل من كثير بن شهاب وخمسة من أعوان أبن زياد رايات أمان أخذوا بألقاء الخطب على الناس فيمتدحون أبن زياد ويذمون مسلم بن عقيل وقد أجتمع عند كثير بن شهاب ومحمد بن الأشعث والقعقاع بن ثور الذهلي فيمن أطاعهم من قومهم ودخلوا على عبيد الله بن زياد من قبل دار الروميين (5) تاريخ الطبري ج 4 ص 276 والأرشاد ص 211 .

5 – إضافة إلى ما يقوم به أعوان أبن زياد من الدعايات والتبليغات في شوارع الكوفة ضد مسلم بن عقيل ، فأن أبن زياد أمر كثير بن شهاب وجماعة أن يصعدوا القصر ويهددوا الناس ويتوعدوهم .

وقد خطب كثير بن شهاب بالناس قائلاً : ( أيها الناس ألحقوا بأهليكم ولا تعجلوا الشرّ ، ولا تعرضوا أنفسكم للقتل فأن هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت ، وقد أعطى الله الأمير عهداً لئن أتممتم على حربه ولم تنصروه من عشيتكم أن يحرم ذريتكم العطاء ، ويفرق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع ، وأن يأخذ البرئ بالسقيم والشاهد بالغائب حتى لايبقى له فيكم بقية من أهل المعصية إلا أذاقها وبال ما جرت أيديها ، وتكلم الأشراف بنحو من كلام هذا فما سمع مقالتهم الناس أخذوا يتفرقون وأخذوا ينصرفون ) (6) تاريخ الطبري ج 4 ص 277 والأرشاد ص 211 .

كان لهذه الأعمال التي قام بها أنصار أبن زياد أثر كبير على روحية ومعنويات جماعة مسلم بن عقيل فمن

1 – الخطب التي إلقيت بشوارع الكوفة المنددة بمسلم والممتدحة دور الحكومة .

2 – إلى رفع رايات الأمان الخمسة في أماكن متفرقة من الكوفة .

3 – والى أعتقال وسجن رجلين من بين فتيان من أصحاب مسلم بن عقيل .

4 – وإلى التهديد بأستخدام القوة وبجيش الشام وبالتفريق في البلاد والحرمان من العطايا .

كل تلك الأعمال التي قام بها أنصار أبن زياد رافقتها موجة عنف موجهة مباشرة ضد مسلم بن عقيل في وقت كانت الكوفة تعيش فيه حالة من الأنفعال التراجعي غير المنضبط أدت فيما بعد إلى سيطرة جماعة أبن زياد على الأمر على خلاف الأرادة العامة التي كانت تنتظر قدوم الإمام الحسين إلى الكوفة ، ومع حلول المساء أنفض عن مسلم ماكان معه من أصحابه وسُلب من مسلم قدرته العسكرية ، حتى أمسى مسلم بن عقيل وما معه ثلاثون نفساً في المسجد على رواية الطبري ، فلما صلى ورأى إنه لم يبق معه أحد إلا أولئك النفر ، خرج متوجهاً نحو أبواب كندة فلما بلغ الأبواب ومعه منهم عشرة ، فلما خرج من الباب وأذا ليس معه إنسان ، وألتفت فأذا هو لايحس أحداً يدله على الطريق ولا يدله على منزل ولايواسيه بنفسه حتى أنتهى إلى باب أمراءة يقال لها طوعة (1) تاريخ الطبري ج 4 ص 277 والأرشاد ص 212 .

وكما حدث في معركة صفين حين وصلت إلى غايتها ومنتهاها وأن النصر قريب من المؤمنين ، سارت الأحداث على عكس ماكان متوقعاً ، فجيش الإمام علي وقع ضحية لمؤامرة خبيثة أدت إلى فرقته من خلال مكيدة عمرو بن العاص برفع المصاحف على الرماح ، مما سلب فعلاً قيادة الجيش من الإمام علي والحال عندما تولى ابن زياد الحكم وما قام به من أعمال سياسية وعسكرية كقطع الأرتباط بين مسلم بن عقيل وجيشه وبالفعل أدت هذه الأعمال غرضها المنشود أذ سلبت من مسلم بالفعل قيادة الجيش .

وأزاء هذا التراكم الحدثي فهل من الجائز أن نلقي باللوم والمسؤولية على مسلم ؟

الظاهر أن إلقاء المسؤولية على مسلم يفتقد للشعور بالمسؤولية أذ أن مسلم عمل ما بوسعه لتشكيل ذلك الجيش كقاعدة أرتكاز يستقبل فيه الإمام الحسين أذا ما دخل الكوفة ، ولكن دراما الأحداث في المراحل الأخيرة غيرت من الوضع في الكوفة إلى شكل آخر ، أفقدت مسلم السيطرة عليه وعلى هذا الأعتبار فلا يصح أن نلقي بعهدة المسؤولية على مسلم لأن ذلك يجرنا للقول ، إذا كان الأمر كذلك فإن أمير المؤمنين كان مسؤولاً عما جرى في صفين !

وهذا مالا يقوله عاقل والأمر عينه جرى في الكوفة ولذلك فلا ينبغي أن نجعل مسلماً هو المسؤول عما جرى في الكوفة من أحداث ومتغيرات .

لقد جرت في الكوفة أحداث أنتهت لمصلحة أبن زياد ، تواجه الباحث مشكلتان فيما يمكن أن تؤدي إليه في فهم ما جرى على الصحة والصواب

الأول ؛ أننا نرى أن الجماعات التي حاصرت القصر لم تقطع جميع أرتباطات القصر مع الخارج ، ولذا كثيراً من أشراف الكوفة يدخلون القصر ويخرجون منه عبر البوابة المجاورة لدار الروميين ،

ونلاحظ أن أبن زياد قد بعث كثير بن شهاب وأشباهه إلى داخل الكوفة من أجل تفريق الناس عن مسلم بن عقيل ، ومن أجل تقوية معنويات أبن زياد جاؤوا له بمجموعة أدخلوها إلى القصر (1) تاريخ الطبري ج 4 ص 276 والأرشاد ص 211 . وأذا كان الأمر كذلك فالسؤال الذي يطرح بألحاح ، لماذا لم تقطع علاقة أبن زياد بالخارج ؟ ماهي العلة الأساسية لذلك ؟

وماهي الكيفية التي كانت عليها شكليات البناء المجاور للقصر وخاصة من جهة دار الروميين ؟ وماحال الطرق المؤدية إلى القصر من هناك ؟

وقد كانت القوات التي تحت أمرة مسلم ابن عقيل تقدر بحدود الأربعة آلاف رجل (2) تاريخ الطبري ج 4 ص 275 والأرشاد ص 209 .

وهذه القوات لم تستطع أن تحاصر القصر من جهة دار الروميين لماذا ؟

بالطبع نحن الأن أبنا القرن الخامس عشر للهجرة لانستطيع أن ندلي بمعلومات دقيقة عن كيفية البناء ونمطية الشوارع وهندسة المدينة ، وحالها الأرتباطية مع قصر الحكومة في الكوفة ولما كان الحال هكذا فأننا لا ندري بالضبط العلة الواقعية التي جعلت جيش مسلم لم يستطيع محاصرة القصر من جانب دار الروميين .

ربما قيل : لو سلمنا بأن هذه القوات بعدديتها في كتب التاريخ لم تكن قوات تمول من بيت المال مما يوفر لها المؤونة والحاجيات المعيشية ، وأنما هي قوات مستعدة فقط لأستقبال الإمام الحسين أن هو دخل الكوفة لا أنها مهيئة للحرب .

مع أنها بمهمة محاصرة القصر دون سابق ترتيب وأستعداد تنظيمي معد ، ولذا فمهما حاول تجاوز الأرباكات فأنه حتماً سيقع في الأشتباه ، ولهذا الأعتبار ربما صح ما قيل ، أن ذلك يعود لهذين السببين وباتالي فلم تستطع أن تقطع جميع أتصالات أبن زياد مع خارج القصر

( وقد أجاب أحد العلماء : بأنه ربما يكون الباب المجاور لدار الروميين يقع في شارع فرعي وفي موقع عادي وغير معد للعبور والمرور ، وأن مجموع الشوارع والبيوت في أطراف الباب متصلة مع بعضها بالطريق الرئيسي ، كما كان حال المدن العسكرية في السابق ) ..

الثانية ؛ ورد في الأخبار أن مسلم بن عقيل بعد أن تفرق الناس عنه أخذ يسير في الطريق وليس معه إنسان يدله على الطريق (3) تاريخ ج 4 ص 277 والأرشاد ص 212 . في حين ورد في الأخبار أيضاً ؛ أنه كان مع مسلم بن عقيل رجال بارزون .

أمثال حبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة وأبو ثمامة الصائدي ، وكان بعضهم من قادة جيشه ، أذ عقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذحج وأسد ، وعقد لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان (4) تاريخ الطبري ج 4 ص 275 .

وكان هؤلاء الرجال أهل إيمان وتقوى وأخلاص وفداء وكانوا من أبرز شهداء وقعة كربلاء ، حيث أنهم إلتحقوا بالإمام الحسين بعد أستشهاد مسلم بن عقيل ، وأذا كان كذلك ، فكيف يمكن تبرير رجوع مسلم بن عوسجة وأبو ثمامة الصائدي إلى منازلهم وتركوا مسلم أبن عقيل وحيداً ؟

وهذا يجرنا للسؤال عن الكيفية التي كانت عليها أوضاع الكوفة وفي مراحلها الأخيرة ، فالظاهر إنه وضع غير طبيعي وطارئ ، وما هي الأعمال التي قامت بها قوات أبن زياد حتى أستطاعت قطع الرابطة بين مسلم وأصحابه حتى أنه لم يكن معه أحد منهم يدله على منزل . ؟ (1) تاريخ الطبري ج 4 ص 277 . بلا شك لو كانت الرابطة موجودة بين مسلم وأصحابه لتمكنوا من عقد أجتماع وجلسة عمل في تلك الليلة لتصحيح الوضع ، ولو تمكنوا من ذلك لقاموا بروابط مع زعماء الكوفة والتشاور معهم لتشكيل قيادة جديدة للجيش وأسلوب جديد في الحرب يختلف عما كان عليه ، ولو تمكنوا من ذلك أستطاعوا ان يخرجوا مسلم بن عقيل من الكوفة ليلتحق بالأمام الحسين وأن يوضح له أوضاع الكوفة بصورة تفصيلية ودقيقة .

ومن البديهي أن تاريخ ثورة الإمام الحسين كتبت في القرن الثاني للهجرة ، ولهذا فلم يستطع المؤرخون توضيح جميع مفردات وجزئيات الثورة المرتبطة بجماعة مسلم بن عقيل ولم يكتبوها كما هي ، وهذا ما جعل المشكلة قائمة دون حل .

وظلت التساؤلات على حالها دون جواب من التاريخ يرفع هذا الأشكال أو يساهم في تأويله بالمنحى الطبيعي أذ يبقى ؛ لماذا قطعت الرابطة بين مسلم بن عوسجة وأبو ثمامة الصائدي وغيرهم المئات مع مسلم بن عقيل في المراحل الأخيرة من ثورته ؟ وكيف كان وضع الكوفة وماهي الإجراءات التي كانت متبعة والتي أدت لأن يكون مسلم وحيداً لايدله أحدٌ على الطريق ؟ وهل بعد هذا الوضع وتراكماته ومبهماته وغموضه أن نلقي باللوم والمسؤولية على مسلم وأن نتهمه بالضعف وعدم القدرة ؟

أن إلقاء المسؤولية على مسلم بن عقيل هو عدم إنصاف بينّ ، وتعدٍ من المؤلفين والكتاب على رجل الإخلاص والجهاد والفداء ، ومثل مسلم لا يُتهم بالضعف وعدم القدرة (2) هامش الكامل في التاريخ ج3 ص 217 عبد الوهاب النجار ..

قد يتصور أحد أن من الشروط الأساسية لتشكيل الحكومة هو معرفة الناس ، ضمن هذا المعنى والعنوان أي أن على قائد الثورة قبل أي شئ أن يعرف روحية وأخلاقية الناس ، والتي يجب أن يعتمد عليها في تأسيس الحكومة ، وأن يتحقق بدقة وعلم ، عما أذا كانت الأكثرية مستعدة وثابتة في رؤيتها ، أم أنها متذبذبة ومتدنية ، وهذا الشرط ضروري أذ لا يمكن الأعتماد على الأكثرية ، أذا كانت متذبذبة خاوية العقيدة والمنهج ، وقد قيل أن أكثر أهل الكوفة كانوا كذلك ، وهذا التصور حول أكثرية أهل الكوفة محض خيال لا يقوم على الصحة ، وإليك مزيد بيان .

يقول علماء الأجتماع والمختصون بدراسة التغيرات التي تصيب الأمم المختلفة عبر التاريخ ، أن أخلاقية وروحية المجتمعات البشرية ثابتة ، أو ذات طبيعة جامدة وغير قابلة للتحول ، فأنه بمساعدة الشروط العلمية والتقنية والسياسية ، والتحولات التي تصيب النظم السياسية ، التي تجري عادة مع تشكيل الحكومات ، وهذه مقرونة بشرائطها الموضوعية فأذا توفرت كان لها نتائج باهرة ومتقدمة .

1 – تهيئة الأفكار الأجتماعية لقبول فكرة أن الحكومة بحاجة إلى مساعدتهم ، ولا بد من تشكيل أجهزة الضبط الأداري والعسكري والشرطي لتنظيم الجهاز الحكومي والشعبي .

2 – قدرة القائد على تذليل الصعاب عند تأسيس الحكمة .

3 – إيمان الناس بقدرة القائد وكفايته حتى يمكن قبول قراراته وتنفيذها .

4 – تشكيل الخلايا والفصائل والمليشيا الشعبية التي يمكن للحكومة الجديدة الأعتماد عليها .

وهذه الحاجات الأربع ضرورية لتشكيل الحكومة ، فأذا ما توفرت فأنه يكون لها نتائج طيبة ومفيدة ، ويكون لها قدرة على رفع حالات الأختلاف الأجتماعي المتوارث بين الناس .

كانت قبيلتا الأوس والخزرج من أشد القبائل عداوة في التاريخ الأنساني ، فالتنازعات الدموية والأختلافات كانت سبب متوارث في الحرب الدائمة بينهما ، ولكن هذه الصورة العدائية التي يرسمها المؤرخون قد ولت وأندثرت عندما أنضموا جميعاً تحت قيادة موحدة ، وهي قيادة النبي بل أنهم ساهموا مع إخوانهم المهاجرين في تأسيس دولة النبي في المدينة تلك الدولة التي لا نجد مثيلاً لها في دول العالم أجمع ، وبتأسيس الحكومة أنتهت أحقاد الماضي وغلبت المصلحة العامة ، وتمكن النبي ان يسيطر على جميع أرجاء الجزيرة العربية عبر أقل من ثمان سنين ، وعلة الأنتصار العظيم هذا كما بيناها سابقاً هو بتوفر الشروط الموضوعية لتشكيل الحكومة :

1 – أن الأوس والخزرج قد ملوا الحرب الضروس والطويلة بينهما ، وأنهما قد وجدوا صورة الحل والخلاص من هذا الوضع المميت .

2 – وجود القائد الذي أستطاع تحويل أرائهم السياسية من مجرد تفكير بالهوامش والجزئيات إلى تفكير بالأمور الكبيرة وتشكيل الحكومة وتنظيم مؤسساتها .

3 – إيمان الناس بقدرة القائد وكفايته .

4 – إنضمام الناس إلى قيادته راضين مرضيين .

في مثل هذا الجو وضمن تلك الشروط تشكلت الحكومة الإسلامية بقيادة الرسول الأعظم وتشكل المجتمع الإسلامي بخصائصة ومميزاته ، والذي أستطاع ان يمتلك جزيرة العرب عبر فترة قصيرة .

ولم يكن اختلاف اهل الكوفة أشد من أختلاف الأوس والخزرج في المدينة ، ومع توفر الشروط الموضوعية لتشكيل الحكومة وتغيير الوضع ، فإن امكانية التغيير من هذه الناحية كان ممكناً جداً ، فأمير المؤمنين أستطاع بمساعدة أهل الكوفة أن يحقق النصر في معركة الجمل على عائشة وطلحة والزبير ، وأستطاع بأهل الكوفة أن يخوض معركة صفين وكاد ان يحقق النصر فيها لولا المكيدة التي دبرها ابن العاص ، وأستطاع بمساندة أهل الكوفة أن يقضي على قوى التمرد والعصيان من الخوارج ، فأمير المؤمنين كان قد حارب بأهل الكوفة وبمساعدتهم الناكثين والقاسطين والمارقين ..

وكان أمير المؤمنين قد وجه خطاباً إلى أهل الكوفة الذين إلتحقوا به في (ذي قار) قبيل معركة الجمل قال فيه :

( يا أهل الكوفة أنكم من أكرم المسلمين وأقصدهم تقويماً ، وأعدلهم سنة وأفضلهم سهماً في الإسلام ، واجودهم في العرب مركباً ونصاباً . أنتم أشد العرب وداً للنبي وأهل بيته ، وإنما جئتكم ثقة بعد الله بكم ) (1) الأرشاد ص 133 المفيد .

وأيضاً خص أهل الكوفة بعد أن حقق الله على يديه النصر في معركة الجمل بالقول :

( جزاكم الله عن أهل بيت نبيكم أحسن ما يجزي العاملين بطاعته ، والشاكرين لنعمته ، فقد سمعتم وأطعتم ودُعيتم فأجبتم ) ) ( 2) نهج البلاغة الرسالة رقم 2 ..

ملاحظة (3) :

ربما يتبادر إلى الذهن هذا الأشكال ؛ أنه كيف يصح من الإمام علي هذا الوصف الرائع لأهل الكوفة وهذه اللغة التي تبرزهم كمصلحين تقدميين ، ثم يعود ليصب عليهم الكيل توبيخاً وتقريعاً حتى قال عنهم :

( يا أشباه الرجال ولا رجال ويا أحلام الأطفال ، وعقول ربات الحجال .. والله لوددت أني لم أراكم ولم أعرفكم معرفة والله جرت ندماً ، وورثت صدري غيضاً ، وجرعتموني الموت نفاساً وأفسدتم علي رأيي بالعصيان ) (3) البيان والتبيين ج 2 ص 35 الجاحظ طبع بيروت . فهل هذا إلا تناقض صريح ؟

ونفس الإشكال يقال : عن الإمام الحسين الذي أعتبر أهل الكوفة مجد وعز وأنه راضٍ عنهم وقد دعا لهم بالقول :

( .. فسألت الله أن يحسن لنا الصنيع ، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر ) (4) الأرشاد ص 220

ثم يعود ليوبخهم ويجعلهم مورداً لملامته وعدم رضاه كما قال في خطبته يوم عاشوراء :

( تباً لكم أيتها الجماعة وترحا ) (5) اللهوف ص 85 ابن طاووس . فهل هذا إلا تناقض صريح ؟

والأجابة على السؤال ليست معقدة أو غامضة أو في علم الغيب ، لأن المجتمعات البشرية كما قدمنا سابقاً وكما هي تصريحات علماء الأجتماع والنفس تتغير تبعاً للظروف البيئية والسياسية والدينية وغيرها ، فقد تكون بعض المجتمعات وضمن شروط معينة قادرة على البذل والعطاء والتضحية ، ولكنها في ظل شروط أخرى تبدو أقل تصميماً وأندفاعاً وتضحية .

( مثل بعض المسلمين الذين رضي الله عنهم عند بيعة الرضوان ، ولكنهم لما تخلفوا عن جيش أسامة لعنهم الرسول (6) سيرة المصطفى ص 685 هاشم معروف الحسني طبع بيروت .

وعليه يكون رضى الإمام الحسين عن أهل الكوفة قائماً على جديتهم التي أظهروها في الدفاع عنه وعن مبادئه ، ولكنه ذمهم واشتكى منهم حينما تخلفوا عن الوفاء بألتزاماتهم .

نعم دعوى التناقض ترد أذا أمكن تأويل الحديث كما فعلنا الأن وأذا عارض جوهر الرسالة ينبغي طرحه ، ولا بد من التحقيق في سنده ، وللعلم أن بعض المرويات بهذا الأتجاه جاءت بلسان الحال ولا يعتد بها كثيراً ، والتوقف فيها أسلم .

تنبيه

طبعاً مدح الإمام لأهل الكوفة كان متوجهاً إلى الناس ذوي المروءة وأهل الفداء والمخلصين ولم يكن بالطبع يعني المنافقين في حال من الأحوال ، وربما يظهر أن توبيخه كان للمنافقين والناكثين وهذا اللون من الأستعمال جار في لسان العرب يطلق على الكل ويراد به الجزء ، ولاحرج في هذا الأستعمال ، ولا غرابة كما يظهر لأهله .

فقد جاء خطاب النبي موسى لقومه في هذا السياق حيث قال :

( أنكم ظلمتم أنفسكم بأتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فأقتلوا أنفسكم ) (1) القبرة آية 53 وراجع في معنى الأية تفسير أطيب البيان ج 2 ص 34 .

والمعلوم أنه ليس كل قوم موسى كانوا يعبدون العجل ولكن خطاب النبي موسى كان متوجهاً للكل ، لأن العجل كان بينهم جميعاً .

وهكذا فعل الإمام الحسين يوم عاشوراء عندما قال في دعائه :

( فأنهم غرونا وخدعونا وخذلونا ) (2) مفاتيح الجنان ص 165 طبع المكتبة الأسلامية ضمن أعمال الثالث من شعبان .

وعندما خطبهم يوم عاشوراء بقوله : [ فأنهم غرونا وكذبونا ](3) مقتل الخوارزمي ج 2 ص 8 . وطبعاً مقصود الإمام بعض أهل الكوفة لا جميعهم ، ونفس الأمر أستخدمه الإمام السجاد في خطابه لأهل الكوفة حيث قال :

[ أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه ] (4) اللهوف ص 140 . يريد بذلك المنافقين منهم لا جميعهم .

وهذا ليس نقصاً في الإمام والأمام السجاد يريد بذلك المنافقين منهم لاجميعهم . وهذا ليس نقصاً في الإمام أذ أن حمل كلامه على الظاهر أولى في عرف المتشرعة ولهذا يُحمل كلامه على الحقيقة لا على المجاز . لأن الأمر فيه مصلحة الله ولا دخل للعلم اللدني الغيبي فيه كما يظهر لمن تدبر . دليلنا في ذلك عمل الأئمة وهذا أمير المؤمنين يكتب إلى واليه المنذر بن الجارود بعد أن سمع بخيانته لبيت المال قال له

( ان صلاح أبيك غرني منك ) (5) نهج البلاغة الرسالة 71 .

والرسول عمل بالظاهر حينما كذب عليه الجماعة الذين تأخروا عن معركة تبوك ، وقد سمح لهم النبي بعدم الأشتراك في الحرب حتى نزلت هذه الآية :

[ عفى الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ] (6) البراءة الأية 43

مما مضى تبين أن المقولة التي تقول بأن أهل الكوفة كلهم منافقون هي الأكثر شهرة وشياعاً ، وهذه المقولة هي تصور سطحي بدائي لايستند على دليل . نعم ذكرت جملة تقول

[ الكوفي لا يوفي . ومعناها أن عامة أهل الكوفة لا يوفون ، وقد نقبنا بحثاً حول هذه الجملة ، فلم نجد لها ذكراً في التاريخ ، إلا في كتاب نور العين للأسفرائيني ص 20 والكتاب ساقط عن الأعتبار كما لايخفى على أهله من الدراية والتحقيق ]

. صحيح أن لكل أمة ظروفها وزمنها وبيئتها ، وأن عملية التغير إنما تنبت ضمن تلك الشروط ومن خلالها ، فأذا وجدت الشروط وجد التغيير والعكس بالعكس ، والإمام الحسين في حركته الأصلاحية إنما نظم قضاياه بناء على تلك الشروط يعني :

1 – كان الناس يسعون مخلصين للنجاة من ظلم بني أمية وأحكامهم الأستبدادية .

2 – وجود الإمام كقائد رباني يمثل قيادة النبي بكل أبعادها .

3 – وإيمان الأمة والناس بقدرة الإمام القيادية وكفايته المعنوية .

4 – وجود قوى متطوعة تطمح لنيل أستقلالها وهذه القوى على أتم الجاهزية والأستعداد .

فبظل تلك الشروط كان الإمام الحسين قد قرر تشكيل الحكومة أضافة إلى إنه سبق ورفض بيعة يزيد ، وأن عمليته الأصلاحية تستهدف بنية التفكير والنظم الدستورية وشرعية الحاكم وصلاحيته وقد كان المشروع صدى إيجابي عند كل القوى المحبة للعدل والحرية والسلام والأستقلال ، وكان أكثر أهل الكوفة معه في هذا المشروع إلا البعض المنافق الذي لا يمثل الأكثرية كما لا يخفى .

وشاهدنا على ذلك ما يلي

1 – إن أهل الكوفة وبعد مضي سنوات قليلة على وقعة كربلاء قاموا بحركة ثورية تحت قيادة الصحابي الجليل سليمان بن صرد الخزاعي وقد أستشهد منهم عدة آلاف كما في بعض الكتب ، وقد أطلق على تلك الحركة الثورية أسم ثورة التوابين .

2 – وأن المختار بن عبيدة الثقفي أستطاع بمساعدة أهل الكوفة من تأسيس حكومة كبيرة سيطرت على مناطق واسعة من البلاد الإسلامية ، وكان قيام المختار يرفع شعار الطلب بدم الحسين .

وهذا يبين أن علاقة أهل الكوفة بالإمام الحسين أضعاف علاقتهم بسليمان بن صرد والمختار بن أبي عبيدة ، بل أن طاعتهم لسليمان والمختار جاءت تحت عنوان الطلب بثأر دم الحسين أو ( يا لثارات الحسين )

وأما كيف سيطر أبن زياد على الكوفة ؟

فيبدو أنه أستطاع أن يأخذهم على حين غفلة ويفتك بهم ، كما فعل بمسلم بن عقيل حين أعطاه المواثيق وبعد ذلك فتك به ، وطبيعي أنه لة أخذ القائد أو الشعب على حين غفلة وأنهزم أو أنهزموا فأن ذلك لا يقع مورداً للتوبيخ وعدم الرضى واللوم لأن الأمر خارج عن الأرادة تماماً ، كما حدث للرسول في معركة أحُد .

ولكي نعرف بالضبط ما هم عليه أهل الكوفة ؟

لا بد من تقسيمهم بحسب طبيعة الظرف الزماني والمكاني والنظام المعرفي العام ، وبحسب أستقرائنا لهم فانهم ينقسمون إلى أربعة أقسام وطوائف وهم :

1 – المخلصون ؛ وهم الذين يمثلون حركة الأصلاح في الكوفة أمثال حبيب بن مظاهر الأسدي ومسلم بن عوسجة الأسدي وغيرهم .

2 – البسطاء والسذج ؛ وهم الذين إلتحقوا بمسلم بن عقيل وهم يشكلون طائفتين من أنصار الإمام الحسين ) .

3 – المنافقون ؛ وهم الذين يسعون وراء مصالحهم الدنيوية ورغباتهم الشخصية ومواقفهم تتغير تبعاً للظروف ، وهم موجودون في كل عصر ومكان ؛ أمثال عمرو بن الحجاج الزبيدي وشبث بن ربعي وحجار بن أبجر .

4 – الفاسدون وأصحاب الهوى وهم على نوعين .

وهنا يجدر التنبيه ؛ أنه لو قدر للإمام الحسين الدخول إلى الكوفة منتصراً لوقف معه المنافقون والفاسدون لأنهم كما أسلفنا أصحاب وطلاب دنيا ومواقفهم تبعاً لذلك ، وهكذا هم على طول الزمان . يطرح بعضهم سؤالاً يقول فيه ؛ لو قدر للإمام الحسين الدخول إلى الكوفة وتم له فتحها منتصراً ، فهل يمكنه ذلك من الوقوف امام حكومة يزيد في الشام ؟ يعني ؛ هل بمقدوره أن يقف ضد حكومة يزيد وينتصر عليها ؟ هنا ينبغي القول ؛ انه لو تمكن الإمام الحسين فعلاً من الدخول إلى الكوفة في ظل الشروط المساعدة للنصر ، فانه بمقدوره الوقوف بوجه حكومة يزيد ، وليس هذا وحسب بل ، ربما أنتصر عليها في نهاية الأمر ، وإليك البيان التوضيحي :

1 – أن عبد الله بن الزبير كان قد أعلن ثورته في مكة وكان يجمع لهذا الغرض العدة والعتاد ، وكان عمله هذا في الأيام التي توقف الإمام الحسين فيها بمكة (1) الكامل في التاريخ ج4 ص 19 .

ومن جهة أخرى فقد ثار على أهل حِداث ودشتي واهل الديلم (2) أبو الشهداء ص 114 العقاد طبع القاهرة ولا شك أن يزيد صرف مالاً ووقتاً كثيراً من أجل إيقاف هذين المتمردين .

ولو أفترضنا أن الإمام الحسين أستطاع الدخول إلى الكوفة ضمن تلك الشروط وألتحق به أهل البصرة وسائر الأمصار والمناطق ، ووقفوا إلى جانبه ، فأنه سيتمكن حتماً من الوقوف بوجه حكومة يزيد ومحاربتها بقوة وربما أنتصر عليها أن لم يسقطها .

2 – الكل يعلم أن الإمام الحسين شخصية عظيمة جداً ، وان الناس يحبونه جداً ، وحتى عبد الله بن الزبير كان يحضر مجالسه في مكة نزولاً عند رغبة الناس (3) الكامل في التاريخ ج 4 ص 20 .

وبالمقابل كانت شخصية عبد الله بن الزبير ضعيفة جداً ، ومع ذلك أستطاع أن يقف بوجه حكومة يزيد ويقاومها بصلابة ، وهذا المعنى يدلنا على أن الإمام لو تمكن من الدخول إلى الكوفة فأنه حتماً سيقف بوجه حكومة يزيد وبقوة

وبعد ثلاث سنوات من هلاك يزيد ، والدولة تمر بحالة غليان وعدم أستقرار ، فقد أطيح بآل أبي سفيان عندما نحي معاوية بن يزيد عن الحكم وقرر مروان بن الحكم مبايعة عبد الله بن الزبير (1)الكامل في التاريخ ج 4 ص 145 والأخبار الطوال ص 209 .

وأذا كان الحال كذلك فان الإمام الحسين يُعتبر أكبر الشخصيات وعياً ودراية وحباً من قبل الناس ، وهذه الأمور تؤهله لأدارة الدولة أدارةً تبعد عنها كل مظاهر اللااستقرار ، ولا ريب انه لو تم للإمام ، ذلك فأن عبد الله بن الزبير سينقاد إلى ولايته أذ لا قدرة لديه تمّكنه من الوقوف بوجه حكومة الإمام ، فالإمام الحسين هو قائد رباني يقود المسلمين نحو التقدم والحرية والتطور المادي والمعنوي ويقودهم كما كان رسول الله يقود الناس تماماً .

فلو تمكن الإمام الحسين من تأسيس الحكومة وبسطت يد الإمام على زعامة الأمة الإسلامية ، فأنه سيقودهم إلى وحدة سياسية ، وهذا المنحى الفكري يؤدي إلى إعادة تطبيق العمل بأحكام الشريعة كما كانت قبل ربع قرن أو أقل تابعة لمسيرة الإسلام ، وقيادته الربانية الألهية من أهل البيت ، وهذا في الواقع هو فلسفة التشيع وهويته على الحقيقة ، طبعاً الوحدة مصدر امان لضبط التحرك والقضاء على أشكال التعددية والأختلاف ، ووجود قيادة توحيدية ستلغي حتماً من القاموس المفردات المستحدثة عند الشيعة ، والسنة بكل ما تحمله المفردات من معان لغوية عن الأختلاف والتناقض .

أن صيرورة الإمام في مقام الزعامة والخلافة شكل تطبيقي لنزع كل الأشكال العدوانية والأعمال الهدامة غير المسؤولة ، لأنه سيكون الرائد في عملية الأصلاح والتصحيح لكل الممارسات الخاطئة التي قامت بها حكومة آل أبي سفيان لما يقارب الأربعين سنة .

أذن ينبغي القول ؛ أن الوحدة السياسية تعني القضاء على التعددية والأختلافات والتناقضات السلوكية والمذهبية التي نشأت وترعرت في ظل عهد آل أبي سفيان الحكومي .

من مجموع ما مضى من تحليلنا للوضع السياسي ظهر لنا ؛ أن الأمام الحسين إنما تحرك للكوفة بناءً على ما لديه من عوامل النصر وأسبابه العادية والمتوفرة [ 50%] أن لم نقل أكثر ، وعلى هذا الحسلب يتضح ؛ أنه لو لم تكن مجاري الأمور طبيعية وعوامل النصر متوفرة للإمام لما تحرك إلى الكوفة .

وهذا الشرط لا يحتاج إلى دليل لكي يوضحه ، ولكننا سنشير إلى بعض الأدلة التاريخية تضميناً للفائدة ولكي يطمئن قلب القارئ العزيز .

1 – أن الإمام الحسين أمر مسلم بن عقيل أن يحقق بدقة حول أوضاع الكوفة وصحة مطالب أهلها ودعوتهم قائلاً [ يا أبن عم قد رأيت أن تسير إلى الكوفة فتنظر ما أجتمع عليه رأي أهلها ، فأن كانوا على ما أتتني به كتبهم فعجل علي بكتابك لأسُرع القدوم عليك ، وأن تكن الأخرى فعجل الأنصراف ] (1) الأخبار الطوال ص 230 الدينوري تحقيق عبد المنعم عامر .

وهذا يعني ، إنه لو رجع مسلم أبن عقيل وقال : إن أهل الكوفة على غير ما ظننا بهم ، فأن الإمام الحسين لن يتحرك إلى الكوفة .

2 – أن الإمام الحسين لما بعث مسلم بن عقيل إلى الكوفة رسولاً عنه كتب إلى أهل الكوفة معه كتاب يقول فيه : [ فأن كتب إلىّ أنه قد أجتمع رأي ملئكم وذوي الحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم أقدم إليكم وشيكاً أنشاء الله فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب والقائم بالقسط والدائن بدين الحق والسلام ] (2) الأرشاد ص 204 المفيد .

ومعنى هذا الكتاب أن الإمام ينتظر جواباً من مسلم حول صحة دعوة أهل الكوفة ، فإذا كتب إليه غير ما أتت به كتبهم فأنه لن يقدم إليهم .

بداهة أن الشرط الأيجابي الذي يتحرك لأجله الإمام إلى الكوفة هو أستعداد أهلها لمساعدته ونصرته في تشكيل الحكومة .

3 – وأن الإمام الحسين كان قد وجه أنتقاداً لاذعاً لأهل الكوفة يوم عاشوراء عبر خطاب قال فيه .. [ فهلا لكم الويلات تركتمونا والسيف مشيمٌ والجأش طامن والرأي لما يستصحف ...] (3) الأحتجاج للطبرسي ج 2 ص 24 ومثير الأحزان لأبن نما ً 28 ومقتل الخوارزمي ج2 ص 6 والتهذيب لأبن عساكر ج 4 ص 333 .

ومعنى هذا الكلام ، أنه لولا أخباركم ومواثيقكم والتي قلتم فيها أنكم ستكونون معي لما جئتكم ، وهو تأكيد على أن قدومه إليهم ، إنما كان نتيجة لعهودهم ومواثيقهم ، فلو أن مجاري الأمور لم تكن طبيعية لما قدم إليهم ، وهذا معنى خطابه بيانيا .

سؤال

ربما يطرح هذا السؤال ، هل كان الإمام الحسين يأمل شيئاً ولم يصل إليه ؟

الجواب : أن النبي والإمام في حياتهم قد يصلون إلى بعض الأمور والأشياء وبعضها قد لا يصلون إليها .

فالرسول مثلاً كان يأمل بالنصر على العدو في معركة أحُد ، ولكنه خسر المعركة بعد أن خالف أصحابه طاعة أوامره ، وهكذا كان أمير المؤمنين يأمل بالنصر على معاوية في صفين ، ولكنه لم يتنصر عليه بسبب مكيدة التحكيم ، مما زاد في طغيان معاوية وأنصاره حتى راحوا يغيرون على أطراف الدولة الإسلامية ، وقتلوا محمد بن أبي بكر حاكم مصر ، وقد بين أمير المؤمنين صورة ذلك الموقف بقوله :

[ سبحان الله ! بينا نرجو أن نغلب القوم على ما في أيديهم ، أذ غلبونا على ما في أيدينا ] (4) طشف الحجة ص 174 ومعادن الحكمة ج 1 ص 34 .

وهكذا الإمام الحسين فقد توفرت له أسباب النصر [50%] أو أكثر ، ولو تمكن الإمام الدخول إلى الكوفة ضمن تلك الأحتمالات والشروط لحقق النصر وأسس الحكومة ، ولكن الأمور جرت على خلاف طبيعتها وعلى عكس رغبة الإمام ثم أنتهت إلى نهايتها المأساوية ، ولكن الذي ينبغي ملاحظته أن النبي أو الإمام سواءٌ وصلوا أو لم يصلوا إلى هدفهم فإن الطريق الذي أختاروه صحيح [ 100% ]وهذا ما أكده الإمام الحسين للفرزدق حيث قال له :

[ أن نزل القضاء بما نحب ونرُضي فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر وأن حال القضاء دون الرجاء فلم يبعد من كان الحق نيته والتقوى سرسرته ] (1) الأرشاد ص 218 .

نريد هنا ، التأكيد على هذه القاعدة الموضوعية القائلة : [ أن الإمام الحسين إنما تحرك للكوفة بعد رفضه لبيعة يزيد ، وبعد أن دعاه أهل الكوفة لتشكيل الحكومة ، وأرجاع الخلافة إلى أهل البيت وذلك بحسب مجاري الأمور الطبيعية والعادية .. ]

ولكن هناك تصور شاع بين الألسن ويتناقله الخطباء على المنابر يقول ، إن الإمام الحسين لما خرج من المدينة كان يريد كربلاء ليستشهد فيها ، وقد سار في هدفه هذا إلى نهايته ، ولكن لا بد من القول أن هذا التصور المثيولوجي عارٍ عن الصحة وخاطئ ولا ندري من أين جاء ؟ وكيف نشأ ؟

ربما منشأه ظواهر بعض الأخبار الواردة في كتب التاريخ والحديث ونحن سنقوم بتحقيق بعض هذه الأخبار في الفصل الخامس من هذا الكتاب ، ونورد هنا مثالاً منها .

خطب الإمام الحسين قائلاً : [ أن هذه الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها ، ولم يبق فيها إلا صابة كصبابة الأناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ، إلا ترون الحق لا يُعمل به ، وأن الباطل لا يُنتهي عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً ، فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما] (2) تحف القول ص 174 وتاريخ الطبري ج 4 ص 305 وسير النبلاء ج 3 ص 209 .

هذه واحدة من الأخبار التي يظن البعض منها ان الأمام الحسين تحرك لكي يستشهد ، وبرواية الطبري أن هذه الخطبة ألقاها الإمام الحسين عندما ألتقى بجيش الحر بن يزيد الرياحي القادم من الكوفة ، وطبق ما رواه الذهبي في سير النبلاء أن هذه الخطبة إلقاها الإمام الحسين بعد مجئ عمر بن سعد إلى كربلاء ، وأنه قالها بعد أن علم بقتلة .

وبناء عليه فأن حاكم العراق أراد من الإمام أما التسليم دون قيد أو شرط أو القتل ، وهنا لابد من القول ، أن مقصود الإمام من جملة [ أني لا أرى الموت إلا سعادة هي ؛ أن حاكم العراق أرادني أن أسلم دون قيد أو شرط وأنني لن أسلم بذلك ، بل إني أجد الموت حلو المذاق على التسليم بذلة ، لأن وجودي وحياتي في ظل أرادة حاكم العراق ورغبته هي حياة ذليلة وفاقدة لاعتبارها ، فالموت في سبيل المبدأ والهدف هي غاية حينما تقاس بحياة تكون في ظل رغبة الحاكم الديكتاتوري المغرور ، ويبدو من كلام الإمام ذلك أنه يريد أن يعمل قياساً بين التسليم في ظل جبروت الطاغوت دون قيد أو شرط وبين الموت والشهادة في سبيل الدفاع عن القيم والأهداف الألهية النبيلة ، وهذا النوع من القياس يشبه القياس الذي فعله يوسف الصديق عندما خيُرَّ بين السجن أو النزول عند رغبة العزيز فأختار السجن على رغبتها حيث قال كما ورد في القرآن الكريم : ( رب السجن أحبُ إليَّ مما يدعونني إليه ) فهنا لا يريد يوسف الصديق القول : أن السجن هو هدفي ومقصودي في الحياة وأني قمت لرغبة أمرأة العزيز سعياً وراء الوصول إلى هدفي هذا ، لأن ذلك ليس هدفاً أذ أن السجن أمراً صعباً عند كل أنسان ، ولكنه يريد القول ، أني لما خيُرَّت بين السجن أو فعل المحرم فأني قد أخترت السجن على ما فيه من مصاعب وألم ، إذ فيوسف يقول : أن السجن ليس هدفي ولا هدف أي إنسان ، ولو قيس السجن وألمه ومتاعبه على أنتهاك الحرمة والعفة فأنه يجب أن يقال ، أن السجن في هذه الحالة أفضل وأحب ، وعليه لايمكن القول ؛ بأن السجن هدف يوسف الصديق ومقصوده وأنه عمل كل ذلك من أجل الوصول إليه ..

ودليلنا على ذلك ؛ أن يوسف الصديق قد عمل الكثير من أجل الخروج من السجن ، حتى أنه قال لرفيقيه في السجن أن يعرضوا حالته على من يهمهم الأمر ، حيث قال : [ أذكرني عند ربك ] وهذا معناه نفي الأعتراض على من يستشكل ويقول ليوسف أنك قد أخترت السجن فلماذا تطالب بالخروج منه ؟ (1) راجع تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي ج 11 ص 180 __ 181

والإمام الحسين عندما يقول : أني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما ، يعني أن يعمل قياساً بين موتة عزيزة وشريفة وبين حياة ذليلة تقع تحت سلطة جائرة ظالمة ، فمعنى قول الإمام هذا يكون كالتالي ؛ أن الموت وهو أمر صعب عند الكافة ولكنه لو قيس بحياة ذليلة عند سلطان جائر فيجب القول ؛ بأن الموت أحبُ وأفضل ، ومن هنا يتبين عمق القرار ومصداقية الكلام الربوبي بلسان الإمام الحسين ، لأن هدف الإمام من كلامه هذا هو ؛ أن التسليم لعبيدالله بن زياد وقبول ولايته أمرٌ لا يطاق وأن الموت أفضل من الحياة معه ، وهذا ليس معناه أن الموت بما هو هدفي وأني عملت من أجله وتحركت في سبيله ، ومنه يتبين أن كلام الإمام هذا ليس دليلاً على أثبات هدفية الإمام بالقتل أو أنه يريد أن يقتل نفسه .

ولكي نؤيد ما قلناه نأتي بهذا الدليل البرهاني توكيداً للمطلب ودليلاً عليه ؛ لو قلتم بأن الإمام تحرك لكي يُقتل في كربلاء ! أذن فلماذا بعث مسلم بن عقيل ؟ فهل يرُيد الإمام لمسلم أن يُقتل ؟ ولماذا أرسل قيس بن مُسهر الصيداوي من وسط الطريق إلى الكوفة ليخبرهم بقدومه إليهم ؟

فهل يريد الإمام لقيس بن مُسهر الصيداوي أن يُقتل في الكوفة ؟

ولماذا طلب مسلم بن عقيل من محمد بن الأشعث وعمر سعد ان يكتبا للإمام الحسين بعدم القدوم إلى الكوفة ؟

(4) الأرشاد ص 204 – 222 - 217 للشيخ المقيد

وهذا الطلب من مسلم يقتضي أن لا يكون عالماً بهدف الإمام وسر حركته ؟

وهذا الشرط مستبعد هنا كما لايخفى ، لأن مسلم بن عقيل يعلم أن الإمام تحرك لكي يُقيم الحكومة في الكوفة ويُرَّجع الخلافة إلى أهل البيت لا لكي يُقتل في كربلاء ، ولهذا كان كتاب مسلم بن عقيل يتضمن الأشعار التالي :

[ أن جمع أهل الكوفة معك ، فأقبل حين تقرأ كتابي ..] (1) تاريخ الطبري ج 4 ص 297 .

ولكنه بعد ان وقع أسيراً بيد عبيد الله بن زياد طلب من عمر بن سعد أن يكتب للإمام أن لايأتي إلى الكوفة .... أذن أتضح من خلال ما قدمنا من عرض أن :

1 – إرسال مسلم بن عقيل إلى الكوفة ليأخذ البيعة من أهلها ويُعيد الخلافة إلى أهل البيت لا يُقتل فيها .

2 – أرسال قيس بن مُسهر الصيداوي إلى أهل الكوفة ليجدوا في أمرهم وينكمشوا في طلبهم فأنه قادم إليهم لا لكي يُقتل قيس في الكوفة .

3 – طلب مسلم بن عقيل من عمر بن سعد أن يكتب للإمام أن لا يأتي إلى الكوفة .

لا لكي يأتي حتى يُقتل وهذه أدلة ثلاث أوردناها تنفي مقولة القائل بأن الإمام الحسين تحرك من مكة لكي يُقتل في كربلاء .

من المناسب هنا أن نذكر بعض الشواهد أثباتاً للمطلب ، ودليلاً على أن هدف الإمام من تحركه هو لأقامة الحكم وأعادة الخلافة إلى أهل البيت وليس هدفه من التحرك هو القتل كما أذاعه السطحيون السذج ، وإليك هذه الشواهد :

1 – كتب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد يقول : [ إما بعد ، فأنه كتب إلىَّ شيعتي من أهل الكوفة يخبروني أن أبن عقيل فيها يجمع الجموع .] (2) الأرشاد ص 226 .

فهل كان مسلم بن عقيل يجمع الجموع في الكوفة لكي يقتل الإمام أم كان يجمعهم لكي يعد الخلافة ويشكل الحكومة فيها ؟

2 – وما قاله ابن زياد لغلامه : [ خذ ثلاثة آلف درهم وأطلب مسلم بن عقيل وألتمس أصحابه ، فأذ ا ظفرت بواحد منهم أوجماعة فأعطهم هذه الثلاثة آلاف درهم وقل لهم أستعينوا بها على حرب عدوكم .. ] (3) الأرشاد ص 207 . فهل يُفهم من هذه العبارة أن مسلم بن عقيل كان يهئ لقتل الإمام الحسين أم يهئ لتشكيل الحكومة بقيادة الحسين ؟

3 – وما قالة مسلم بن عوسجة لغلام أبن زياد حينما جاءه يخبره بالأموال التي عنده : [ أحمد الله على لقائك أياي فقد سرني ذلك لنتال الذي تحب ولينصر الله بك أهل بيت نبيه ] (4) الأرشاد ص 207

فهل كان سرور مسلم بن عوسجة بهذا الغلام لأنه يريد قتل مسلم بن عقيل أم كان مسرورأً لنصرته أهل البيت ومساعدته في تشكيل الحكومة ؟

4 – وقد أمر مسلم بن عقيل أبا ثمامة الصائدي بقبض المال من هذا الغلام ، لأن أبا ثمامة كان يقبض الأموال وما يعين به بعضهم بعضاً ويشتري لهم السلاح . (1) الأرشاد ص 208 . فهل كان عمل أبي ثمامة لشراء الأسلحة من أجل قتل الإمام أم من أجل إعادة الخلافة إلى أهل البيت ؟

5- وما قاله ابن زياد لهاني بن عروة المرادي [ جئت بمسلم بن عقيل فأدختله دارك وجمعت له السلاح والرجال ] (2) الأرشاد ص 208 . فهل كان جمع المال والسلاح والرجال من أجل قتل الإمام أم من أجل تشكيل الحكومة ؟

6 – وما قاله ابن زياد لعبد الله بن يقطر : [ أصعد وألعن الحسين بن علي . فلما أشرف [ عبد الله بن يقطر ] على الناس ، قال :

أيها الناس ، أنا رسول الحسين بن فاطمة ابن بنت رسول الله لتنصروه وتؤازروه على أبن مرجانة أبن سمية الدعي ] (3) تاريخ الطبري ج 4 ص 300 . فهل دعا عبد الله بن يقطر الناس لنصرة الإمام على أبن زياد أم دعاهم لكي يقتل الإمام ؟

7 – وما قاله ابن زياد لمسلم بن عقيل عندما جاؤوا به أسيراً [ .. أن نفسك تمنيك ماحال الله دونه ولم يرك الله له أهلاً ، فقال مسلم : فمن أهله أذا لم نكن نحن أهله ؟ فقال ابن زياد أمير المؤمنين يزيد .. ] (4) الأرشاد ص 216 . فهل المقصود من الشئ الوارد في كلام ابن زياد والذي تمني مسلم نفسه به إلا الحكم أم أنه القتل ؟

8 – وما قاله عبد الله بن مطيع العدوي للإمام الحسين : [ فوالله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلوك ] (5) الأرشاد ص 221 .

9 – وما قاله ابن عباس للإمام الحسين [ أخبرني رحمك الله أتسير إلى قوم قد قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوهم فأن كانوا قد فعلوا ذلك فسر إليهم وأن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم وعماله تجبي بلادهم فأنهم إنما دعوك إلى الحرب ] (6) تاريخ الطبري ج 4 ص 287 . فهل كان فحوى كلام ابن عباس يعني الحكم أم القتل ؟

10 – أضافة إلى ماسبق فأن الإمام الحسين يقول : [ نحن أهل بيت محمد أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء ] (7) الأرشاد ص 226 . فهل كان هدف الإمام من تحركه نحو العراق هو تشكيل الحكومة وأرجاع الخلافة إلى أهل البيت والذي أكده كل من الإمام الحسين ومسلم بن عقيل وأبو ثمامة الصائدي ومسلم بن عوسجة الأسدي وهاني بن عروة المرادي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مطيع وعبد الله بن يقطر ، أم أن هدف الإمام من تحركه نحو العراق حتى يستشهد في كربلاء وهذا ما أكده أبن طاووس في النصف الثاني من القرن السابع الهجري زمن تأليف كتابه اللهوف ؟

إلى هنا نكون قد أنهينا بحثنا في الفصل الأول ونود أن نلخص ما جاء فيه على النحو التالي : أن مطالبة حكومة يزيد بفرض البيعة على الإمام كانت نتيجة لأسباب ثلاثة هي :

- تقوية الدولة والحكومة .

- 2- عقدة الحقارة والدونية .

- 3 – غريزة حب الإنتقام . [ العلة الأولى في رديف العلل الغائبة أما الثانية والثالثة ففي رديف العلل الفاعلة ]

- ومنهجية الثورة الحسينية مرت عبر :

- 1 – الأمتناع عن بيعة يزيد .

- 2 القيام من أجل إعادة الخلافة إلى أهل البيت -)

- وعلة الأمتناع عن البيعة كانت نتيجة لستة أشياء وقد فصلنا فيها سابقاً ومن بين أهم هذه الأشياء هي مسؤولية الإمام تجاه الدين والإسلام .

وأما علة القيام من أجل أعادة الخلافة فتعود إلى مايلي :

- 1 – وجود الأنحرافات الخطيرة في هيكلية الدولة وجهازها الحكومي مما يؤثر على بنية الإسلام وعقيدته .

- 2 – مسؤولية الإمام تجاه الناس الذين تقيدهم الحكومة بقيود مثقلة ظالمة .

- 3 – مسؤولية الإمام تجاه القرآن الذي تركوه مهجوراً وأماتوا السنة وأحيوا البدع .

- 4 – مسؤولية الإمام تجاه عهد الله الذي أخذه على العلماء فقد ورد منصوصاً عن امير المؤمنين أنه قال [ أن الله أخذ على العلماء أن لايقاروا على كظة ظالم أو سغب مظلوم ] (1) نهج البلاغة الخطبة رقم 3 .

من أجل هذا كله ثار الإمام الحسين وتحرك لتشكيل الحكومة الإسلامية الحرة الشريفة التي توفر للأنسان سعادته وتقدمه وترفع عنه الظلم والتبكيت والحرمان