تفسير آية الحرابة

آية الله الشيخ إياد الركابي  

الحلقة الثانية

 

 

في الحلقة الماضية كنا قد تحدثنا وبحثنا المعنى اللغوي والإصطلاحي للحرب وآية الحرابة  ، وهنا في هذه الحلقة سنواصل البحث عن المعنى  وعن  الأحكام ، ونقول ..

قال الله  تعالى : -  إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ، أن يقتلوا أو يُصلبوا أو تُقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ، ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم – المائدة 33 .

في هذا النص  كما هو ظاهر هناك  أربعة عقوبات مُرتبة بحسب درجتها وشدتها ، والسؤال الممكن طرحهُ في هذا المجال هو  :  هل إن هذه العقوبات وردت  ككونها   مانعة للجمع أو إنها  وردت  لكونها  مانعة للخلو ؟  ،   بعبارة   أدق   :  هل هذه العقوبات يجب  تطبيقها  - جملة واحدة  -  أو إنها تطبق عقوبةً عقوبة حسب الجريمة ونوعها وكميتها  ؟ و نفهم من ظاهر الآية إن العقوبات فيها إنما ذكرت   من باب  منع الخلو لا من باب منع الجمع   : والمُراد من ذلك هو :   عدم  ترك أية جريمة من دون عقاب ، والعقاب  :   يجب النظر إليه بحسب الجريمة شدة وضعفاً  ، فمثلاً  :  من قتل نفساً  وسرق مالاً  وقطع الطريق وأشاع الرعب بين الناس  ،  فالعقوبة بحسب هذا الوضع تبدأ من  الشدة إلى الضعف أي من الأعلى فالأدنى ثم الأدنى  وهكذا   .

 وكل جريمة  كما قلنا لها عقوبتها  المقدرة المعينة  التي تكون  بحسب الوضع  والطبيعة   و الأثرها  الإجتماعي   ،  وإن ما قاله  الحر العاملي في وسائل الشيعة  ج18 ص534 ، في هذا المجال  فلايمكن التأسيس عليه في بناء الحكم الشرعي ، ذلك لأن الحكم في الآية  إنما مستندة  العقل والعرف والقانون  ، والمجرم المستحق لعقوبة الإعدام والصلب ، يقُدم  فيه الإعدام  قبل  الصلب  ثم  يُصلب من بعد ذلك  ..

كما يجب القول :  بأن نية الفساد ليست  شرطاً  للعقوبة  ،  إنما الشرط  في العقوبة  هو فعل الفساد -  بالفعل والواقع -  وليس بالذهن والضمير  ، يقودنا هذا الكلام للقول :  بأن ما تقوم  به بعض الجماعات والتنظيمات والأحزاب  من الأفعال كتفجير السيارات وقطع الطرقات وتهديد الأمن العام  هو مصداق للفساد ، ولاينفع في هذه الحالة أن نقول إنهم يقومون بذلك  بقصد الإصلاح  السياسي والإجتماعي ، فهذا القول  :  فيه تجني على العدالة وخروج على القانون ذلك لأن  فعلهم  ينطبق عليه  معنى الفساد في الأرض  ،   فترويع الناس وسلب الأمن  لايكون أحقاق للحق بل هو مصداق لمعنى قوله تعالى -  ويسعون في الأرض فسادا -   ، وعلى الحاكم الشرعي  النظر لفعلهم  ككونه فساداً وليس إصلاحاً ، إذ إن قتل الناس وترويع  الآمنيين ليس إصلاحاً بل  هو إعتداء وظلم  يستحق فاعله أشد العقوبة  ، ولايحق للحاكم  الشرعي أو للقاضي  ان يُعطي  لهؤلاء العذر بما يقومون به من أفعال   ،  طالما  يسبب ذلك الفعل منهم أذىً وإرهاباً وتخويفاً للناس يستهدف حياتهم  وأمنهم -  فالغاية لاتبرر الوسيلة  -   ،  بل إن  ترك هؤلاء من دون عقاب هو فساد في الأرض  وتخريب وفوضى  .

 لذلك  نقول : إن النية  الصالحة وحدها  ليست  شرطاً  لنفي عقوبة الفساد  ،  بل إن الشرط  الواجب في ذلك  ان يكون  الفعل صالحاً  وليس فعلاً  فاسدا  ، والتمييز بين كون هذا الفعل صالحاً وذاك فاسداً إنما في أثره وتأثيره على الناس والمجتمع  ، وكل فعل فيه تجاوز على القانون والنظام  هو مصداق من مصاديق معنى  الفساد في الأرض ،  ونفس الشيء نقوله  بالنسبة لمن يستخدم سلاح  الدولة في ترهيب  الناس وترويعهم  وقتلهم من دون أذن شرعي -  إنما يكون فعله فساد في الأرض -   ،  ذلك لأن سلاح الدولة إنما  جُعل من أجل  حماية  الناس وحماية القانون والنظام العام   وليس لقتل الناس وتخويفهم  وترويعهم  وإرهابهم   ..

وللتذكير  نقول : يوجد في  -  آية الحرابة  -  أمور أربعة هي    :

أولاً  : : إن الملاك الحقيقي  لعقوبة المُحارب هو الفساد في الأرض    .

وثانياً  :  إن العقوبات بحسب النص  إنما تطبق بحسب درجتها  من الأعلى إلى الأدني  وهكذا  ، فمثلاً  ذكر النص القتل أولاً  ثم الصلب وهكذا  .

وثالثاً  : لايجب النظر إلى درجة الفساد بل إلى أثره وتأثيره ، فالفساد ليس نوعاً محدداً إنما هو أنواع مختلفة تختلف بحسب الزمان والمكان والأدوات .

ورابعاً  :  جُعلت العقوبة متناسبة مع الجريمة في الشدة وفي الضعف ، وهذا التناسب منظورا إليه  بحسب  الأثر الذي تحدثه الجريمة في الواقع .

ومن ذلك يمكننا إستنباط  الحكم الشرعي  التالي   :  يجب على الحاكم الشرعي  مراعاة الواقع  ونوع الجريمة  في مايتخذه من حكم ، وله أن يُخفف ذلك  إن وجد فيه  مصلحة عامة ، كما له  أن يُغير الحكم من الأشد إلى الأدنى بحسب الضرورة والمصلحة  إيضاً  .

فمراعات  التناسب  بين الحكم والموضوع  يرتبط  بما  يُمليه عليه الواقع من  حماية  للناس و المجتمع  ، ولابد  أن نعترف بان مفهوم التناسب بين الجريمة والعقاب يخضع لعملية فنية ترتبط  بموازين يعرفها ويحددها  أهل الإختصاص ، و يكون الحكم  تبعاً  لها  .

  والحكم في  -  آية الحرابة -  لم يكن  حكماً  تعبدياً  ، إنما ورد بصيغة الإرشاد  و المثال ،  يؤيد ذلك ما دلت عليه  بعض الروايات المؤيدة  كما في  وسائل الشيعة ج18 ص 540  و ص 536 ،  إذ جُعلت  فيها العقوبة مقدرة بحسب الوضع ،  يعني هذا إنه لايجوز التعبد  باللفظ  الوارد في النص  لكونه  ورد من باب المثال والذكر لا التعبد والحصر ، فالنص مثلاً  حين ذكر القتل ذكر بعده  الصلب،   مع إن الصلب هو القتل   ،  والصلب بعد القتل  لا يكون  زيادةً في العذاب والأذى ، وما  لفظ -  أو -   الوارد  في النص إلاّ دليل على التخيير وليس للتدريج   ،  كما لو قال : إنما جزاء الذين يحاربون الله .. إن يقتلوا أو يصلبوا أو يحبسوا أو أو وهكذا .... ،  إذن  فالعقوبات الأربعة التي ذكرها النص لم ترد من باب التعبد حتى يتم الإلتزام بها كما هي ، ككل  القضايا  القانونية  التي لا يكون فيها معناً للتعبد والحصر  ، وقد دلت  السيرة العقلائية  على ذلك في باب الأحكام والقضايا التي تتعلق بالمجتمع .

 وبما إن الملاك في   -  ويسعون في الأرض فسادا – نأخذه  من الواقع ومن العقل لذلك  صار هذا علةً موجبةً للحكم ، وأما عقوبة المجرم فقد أجمع العقلاء في العالم أجمع على أنها  واجبة  لكي تسود العدالة ويتم الإستقرار ،( والعقوبة  كما قلنا  :  تتقدر بقدر الجريمة وتتناسب معها من حيث الواقع والمصلحة  ،  و شرط  وجوبها أن تكون  الجريمة دالة على معنى الفساد والإفساد ، ولايجوز حصر الفساد بنوع معين أو بعقوبة معينة نظراً لما يتطلبه الواقع وماتفرضه الظروف الموضوعية )   ،   إذن فالجريمة والعقاب في   -   آية الحرابة  -  هي تجسيد أو تمثيل لمعنى القانون العام أو القانون الكلي الذي جاء لحماية الناس والمجتمع  ، وأما  نوع العقوبات التي ذكرتها الآية  فقد  وردت  من باب المثال لا الحصر والتخصيص كما قلنا  ..

 ثم  إن الحكم في -  آية الحرابة -  لايتعلق بفئة من الناس أو بدين من الأديان ، بل هو حكم عام وكلي يشمل جميع الناس ومختلف الشعوب والأقوام والملل والفرق والأديان   ،  يدل على ذلك  طبيعة ونوع  ملاك الحكم في الآية الذي هو -  الفساد -  هذا العنوان العام الذي يرتبط  بالمجتمع  في الأثر والتأثير  ، ولم تنظر  الآية  للفساد من حيث الدين أو القومية  ،  بل نظرت للفساد  بما هو وسواء أكان ذلك الفساد من المؤمن أم من الكافر ..من المشرك أو من غير المشرك ، والعقوبة  في الآية  لاتميز بين المؤمن  و الكافر  بل هي عقوبة للفساد لا للشخص من حيث إنتماءه أو قوميته  .

  ولايجب النظر إلى حكم  الآية من حيث  سبب  النزول المزعوم  ،  بل يجب النظر إلى الحكم فيها ككونه  حكماً كلياً خارجاً  عن   إطار الزمان والمكان والظرف المعين -  ، لكن الطبري خالف  في ذلك  بناءاً على متبنايته في مفهوم سبب النزول  نافياً  شمول الآية للكفار والمشركين ، بدعوى قوله إن  الآية اللاحقة إنما قالت  : - إلاّ الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم -  ،  معتبراً توبة الكافر قبل التمكن منه لامعنى لها  بدليل كفره وأما  المحارب فتُقبل توبته قبل التمكن منه وأما بعد ذلك فلا ، وأما المشرك فهو خارج عن هذا لأنه ليس من أهل التوبة لذلك فلا تشمله الآية بالحكم  -  أنظر ج6 من تفسير الطبري ص225 - .

ونفس الشيء قاله  الشيخ الطوسي في تفسيره التبيان ج3 ص 509 ، وكذا قال في الخلاف ج3 ص209  ما نصه : إن الآية  لا تتحدث   عن المرتدين ولا عن أهل الذمة ،  إنما تتحدث عن التوبة قبل التمكن وليس بعد ذلك ، ولاموضوعية لأهل الذمة في هذا الحكم  ، وكذا نقل القرطبي في تفسيره ج6 ص 149 و 150 - ، عن بعض الفقهاء قولهم : إن الآية إنما تتحدث عن المحارب المسلم وليس المحارب الكافر ، لأن الكافر لامعنى لتوبته قبل التمكن منه ، قال تعالى : - إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم -  فتوبة المحارب تقبل قبل التمكن منه لا بعد ..

والحق إن هذا الكلام منهم لا دليل عليه بل هو وهمٌ وخلافٌ لمعنى الآية ومعنى التوبة  فيها ،  إذ المقصود بالتوبة هنا هو التوبة   عن الفساد في المجتمع   لا  التوبة عن الكفر ، وجملة – إلاّ الذين تابوا من قبل ان تقدروا عليهم –  حاكية بل دالة  على  أن المجرم قبل التمكن منه وتاب إلى الله فلاعقوبة عليه  هي إذن تتحدث عن الجريمة  لا عن الكفر أو الإيمان  ، ولأن الحديث فيها كذلك  فلاشأنية  للحكم فيها بالإيمان أو الكفر  ،  أعني إن الحكم في الآية يتساوى فيه  المسلم  و الكافر معاً  ، فالمسلم إن تاب عن الجرم الذي أرتكبه  قبل التمكن منه فهو معفو عنه  ،  كذلك الكافر إن تاب عن الجرم الذي أرتكبه  قبل التمكن منه فهو معفو عنه ، وعليه فلايجوز الخلط  في الفهم  والتفسير  بين التوبة عن الفساد والتوبة عن الكفر ، لأن لكل واحد  منهما حكم خاص به  ومنفصل عن غيره  .

ومفهوم الحرابة أوالمحارب  ليس مفهوماً خاصاً  يطلق على تلك المجموعات التي تثير الفساد والرعب والقتل والإرهاب بين الناس فقط  ، بل هو مفهوم عام كما قلنا  ومن مصاديقه -   الحاكم الظالم المستبد  الجائر -    ، ذلك  الحاكم  الذي يستبيح الدماء والأعراض وينتهك المحرمات إنما هو مصداق لمعنى المفسد في الأرض   ،  والظلم في التعريف هو ضد العدل  ،  والحاكم الظالم  هو من يُصادر الحقوق  والحريات  ،  والعدل  : هو الذي يوفر للناس الحرية والحقوق والحياة الطبيعية  ،   كذلك هو يوفر لهم  القاعدة التي على ضوئها يمكنهم إنتخاب الحاكم الذي يريدون ويرغبون  ، وكل فعل فيه مصادرة لهذه الحقوق   هو فساد في الأرض ،  قيل :  ومن العدل إحترام  خيارات الناس  بإعتبارها واجبة ومحترمة  ،  ولايجوز بحال سلب هذا الحق  لصالح الغير ، وفي ذلك إنما نتذكر كيف يعتدى على حقوق الناس وعلى خياراتهم في المنطقة العربية  حدث هذا في الإنتخابات التي فازت بها جبهة الإنقاذ في الجزائر ،  

وهذا الفعل أدى إلى فوضى وإلى قتل وإلى عدم إستقرار تعيشها الجزائر إلى اليوم ،  ونفس الشيء نقوله  بالنسبة  للجرائم التي أرتكبها صدام حسين حين إستخدام الأسلحة الكيماوية ضد الشعب في الشمال وفي الجنوب هذا هو الفساد في الأرض  ،  والذي يستحق فاعله أشد العقوبة وأقساها ،  وكلنا يعلم كيف  أستخدم صدام الجيش والشرطة والأمن في قتل الناس وإشاعة الرعب والتخويف والتنكيل ، وما حروبه ضد إيران وضد الكويت إلاّ دليل بارز على فساده في الأرض .

 إن الجنايات والجرائم التي أرتكبها صدام تجعلنا نقول :  إن إعدامه هذا لا يكفي في عقوبته وما أرتكبه ،  والله يقول : -   من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا  -   ،   وصدام هذا  قتل الآلاف من الأنفس وبدد الكثير من الثمرات ومن الجهود ومن الطاقات ،  فهل يكفي في  كل هذه الجرائم  حكم واحد أم إننا نحتاج إلى أحكام بقدر مافعل من الجرائم ؟   ،  طبيعي إننا بحاجة إلى أحكام أخرى ، لكن ذلك غير ممكن في ظل الواقع وطبيعة الحياة ، لهذا لم يغفل النص ذلك وقال لنا إن لهؤلاء المجرمين عذاب عظيم في الآخرة ، قال تعالى :   ( ولهم في الآخرة عذاب عظيم )  ، ليخفف على الناس وليزيد في إيمانهم وثقتهم به ، ويقول لهم إن حقوقهم محفوظة عنده وهو كفيل بردها وإنتزاعها ..

يتبع