آية الله الشيخ الركابي

 

 

 

 

 

 

التفسير الجديد للكتاب المجيد

 

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الحمد

أو

ما يسمى بفاتحة الكتاب

 

 

 

 

هذة قراءات تفكيكية وتحليلية لنصوص الكتاب

في الأبواب والموضوعات التي تناولها

 

دار الكتاب المجيد للطباعة النشر

                             

                          

المدخلAnchor 01

 

ثمة سؤال موضوعي يتناول طبيعة الكتاب المجيد وصحة صدوره ، وهو سؤال في قيمة الكتاب المادية والمعنوية وكذا طبيعة اللفظ والمعنى فيه ، هذا السؤال يرافق جميع المهتمين بقضايا الكتاب منذ قديم الأيام ، ولا أحد منا يستطيع الإجابه عليه هكذا من دون مقدمات وقراءات تفكيكية وتحليلية لنصوص الكتاب في الأبواب والموضوعات التي تناولها ، وفي ذلك يجب ان تكون تلك القراءات من وحي طبيعة الكتاب وطبيعة خطابه والفاظه ومعانيه أو لنقل عن الدلالات التي حكى عنها أو قصدها أو تحدث عنها أو أثارها .

ولكن ما ذلك السؤال الذي أبتدأنا به مقدمتنا ،

وكيف يجب أن يُصاغ ، قليلون ماهم الذين تمسكوا بكون سورة الحمد هي - فاتحة الكتاب – ولهذا كان السؤال هو : لماذا تقدمت سورة الفاتحة على ما سوآها من سور الكتاب المجيد إن لم تكن هي أول السور ؟ و لماذا جُعلت أو صُيرت فاتحةً للكتاب ؟ ، مع إنها من الناحية الموضوعية و التسلسل التاريخي تأتي أو جاءت لا حقاً ، حسب نزول الكتاب المجيد وكما هو مقرر و الذي أبتدأ بقوله - أقرء .. - .

وبما إن السؤال هذا يقتحم جوهر الكتاب المجيد وماهيته و مضمونه ، فهو إذن سؤال معرفي عن الكيفية التي تم بها هذا التقديم ، وعن الطريقية التي إنتُهجت في ذلك السبيل ، أعني من ذا الذي قام بذلك الفعل وسوآه ؟ ، ونعني بقولنا هذا : هل إن تقديم هذه السورة على ما سوآها تم وفقاً لإجتهاد الرسول محمد – ص - ؟ ، أم إنه تم وفقاً لأمر إلهي و إرادة إلهية جاءت عبر الوحي في بلاغ خاص ؟ .

والصحيح عليه ان الوحي لم ينزل بذلك التقديم ولم يذكره وهذا ما عليه الإعتقاد لدى الجميع ، وإذا كان ذلك كذلك فلا يجوز إعتبار هذا الموضوع داخل فيما هو إيماني و إعتقادي ، هذا من ناحية و من ناحية أخرى وضع شيء في غير موضعه يُعد مخالفة للمنهج العلمي الواجب إتباعه في هذا الباب ، كما إن الصحيح إيضاً إن الرسول محمد - ص – لم يثبت لدينا إنه قدم سورة الحمد على ما سوآها من السور ولم يثبت عنه إنه أعتبرها فاتحة للكتاب ، إذ ليس بين أيدينا خبر أو رواية صحيحة ومثبتة في هذا المجال ،

ولأن السؤال لم ينته بعد لذلك يُقال : هل إن الترتيب هذا هو من إجتهاد الصحابة وممن جاء بعد الرسول منهم ممن عُني بجمع القرآن وكتابته ؟ .

وفي هذا الباب نقول : - إن الكتاب المجيد في صورته ورسمه الحاليين وفي ترتيب سوره و أسماءه ، مُختلفٌ فيه فمن قائل إنه من إجتهاد الرسول محمد – ص - وأمر منه ، ومن قائل إنه من ترتيب الصحابة وعملهم ، وفي كلا الحالين هو إجتهاد وليس هو وحي منزل كي يكون حجة ملزمة ، ولا فرق كبير في الإجتهاد ما بين إجتهاد الرسول وأمره وبين فعل الصحابة وعملهم مادام الأمر يتعلق بالإجتهاد ، وحتى لو قيل إن الرسول – ص – كان مشرفاً على وضع النصوص في مواضعها من السور وفي تسمية السور ، وحتى لو قيل بأنه كان مشرفاً على عملية التقديم والتأخير في وضع الكتاب كما نقرءه اليوم ، وهذا القول هو في أحسن الأحوال مجرد ظن والظن في مسألتنا هذه لا يغني من الحق شيئا ، وإذا كنا نرفض فكرة التقديم والتأخير في الكتاب المجيد من الرسول – ص - فمن باب أولى أن نرفضها من غيره ، فهذه العملية أحدثت فوضى في مسائل الكتاب وقضاياه ، لذلك أستسهل البعض القول بالتحريف في مواجهة هذا الخلط الذي نلاحظه في تشكيل الكتاب ووضعه . .

بقي أن نقول إن : إجتهاد الرسول – ص – من حيث هو ليس وحياً بل هو مجرد رأي ، هو فهم الرسول – ص - لسياق النص ومضمونه ومعناه القريب المتبادر إليه والذي يفهمه بحكم طبيعة الخطاب وتوجهه ، وهذا اللون من الفعل جارِ في سيرته وفي كل مواقع العمل من حياته ، فهو يعمل حسب ما يكون ذلك مناسباً للحاجة والغرض ، وإجتهاده إعمال للعقل وبيان للحكم فيما يمكن ملاحظته من الأدلة ، في كل شأن من شؤون الحياة ، و أما الوحي الإلهي فمنحصر فقط وفقط في الذي جاء بين دفتي الكتاب المجيد ، ..

وهنا قد يتبادر ربما إلى الذهن من يقول أو من يسأل : هل إجتهاد الرسول – ص – هذا حجة ملزمة في كل زمان وفي كل مكان شأنه في ذلك شأن ماورد في الكتاب المجيد من وحي ؟ .

وأقول : إن إجتهاد الرسول – ص - من حيث هو إجتهاد ، ليس حجة ملزمة دائماً ، بل هو بيان لشأن ما في زمن ما ، والإستئناس بإجتهادات الرسول – ص - يأتي من باب التأييد للمطلب الذي نحن فيه ، إن وافق ذلك وإلاّ فيرمى به عرض الجدار كما ورد عنه – ص - ، وبما إنه إجتهاد وكل إجتهاد يخضع للشروط الموضوعية في القبول والرفض ، فكذلك يكون إجتهاد الرسول – ص – إيضا ً خاضعاً لقوانين الموافقة والمخالفة للنصوص الإلهية الواردة في الكتاب المجيد .

وعلى هذا القول : فنحن نرفض الفكرة التي يُروج لها البعض بجعل ما يسمى بالسنُة النبوية عدلٌ للكتاب المجيد ، بل ذهب البعض إلى ترجيح السُنة على الكتاب !!! كما هو مذهب بعض رجال الفقه ، الذين جُعلوا من الكتاب المجيد واحداً من أدلة أستنباط الأحكام الشرعية ، ِشأنه في ذلك شأن الإجماع والقياس - وهذه كما ترون كبيرة في بابها - كما لا يخفى على من فهم الكتاب ووعاه !!!

فالكتاب المجيد عندنا هو المصدر الأول والوحيد في إستنباط الأحكام الشرعية ، والعقل هو الدليل الوحيد الدال عليه ، وأما السُنة فهي عنصر مساعد ليس إلاّ ، وأما الإجماع فمرفوض عندنا بشقيه لعدم إعتبار حجيته دليلاً في عملية الإستنباط ، وهذا القول يمكننا إطلاقه ليكون الرفض متعلق برفض المنهج الذي يتبعه رجال الأصول في التعليم الإسلامي السائد في الجامعات والحوزات .

وإذا كان ذلك كذلك ، فهذا يعني إننا مع من يقول بوجوب تغيير قواعد الإستنباط وأصوله ، والقول هذا هو دعوى لمن يهمه الأمر كي يخرج من الدوران في الحيز الواحد الذي وضع فيه ، وهذا موقف يلزمه التصريح والإعلان بان ما أُسس في هذا الباب ليس مقدساً لا يمكن الخروج منه أو عليه ، بل هو رأي يقبل الصواب والخطأ كما يقول واحد من أعلام الفقه ، ومن ذلك تكون دعوتنا لتأسيس علم أصول جديد في مسائل إستنباط الأحكام الشرعية مشروعة ومبررة ، لأنها حاجة وضروة لا بد منها ، في ظل ما تبين للجميع من نوع وماهية الخطأ في التأسيس وما قام عليه ..

 

 

السورة                                          الآية                   عرضAnchor 02 

· * * *

و نعود لنقول : بان تسمية هذه السورة بالفاتحة أو فاتحة الكتاب إنما جاء :

1 - للإستفتاح أو للإستهلال الممارس في ألسن الناس وعاداتهم ليس إلاّ ، أعني هو عادة جرى تقريرها في عرف المسلمين في معظم المناسبات ، وكون ذلك كذلك لا يوجب وقوع الخلط في الأذهان سواء في تعريف دلالة السورة أو في بيان مضمونها ولغة الخطاب فيها .

أضف إلى هذا كون الخطاب في السورة مقيدٌ للمُخاطب الحاضر وليس للغائب الميت ، ولكن البعض أصر على هذا الخلط وتبناه مما أنتج خطأً في فهم مُراد السورة وما تُريد بيانه .

ومن هنا - [ فنحن لا نُجيز قراءة - سورة الفاتحة - على الأموات ولا نعتبر ذلك من لزوميات مجالس العزاء والذكر ] ، فالأموات عموماً لا تنتفع بأجر هذه السورة ولا بثوابها ، ونحن نعلم إن الخطاب والغاية منه فيها للمخاطب الحي ، والضمير يعود كذلك فيها للمخاطب الحي ، بدليل قوله تعالى : - أهدنا - ، وفعل الهداية : فعل يُخاطب فيه الحي العاقل الواعي المُدرك ولا يُخاطب فيها الميت المُغيب ، كما إن فعل الهداية في لغة العرب فعل دنيوي هكذا يقول أهل الدلالة ، والمُراد منه إن يهتدي الإنسان الحي في عمله وفي حياته ، ولا يُعقل بل لا يصح أن يطلب المولى سبحانه وتعالى من الميت أن يهتدي ، فالإنسان حين يموت ينقطع عمله ، وقد أشار الله إلى ذلك بقوله - كل أمرءً بما كسب رهين ، وكل نفس بما كسبت رهينة - وإلى ذلك نبه الإمام علي بقوله : - اليوم عمل ولا حساب وغد حساب ولا عمل - ، والميت لا ينتفع من عمل الحي بشيء ، ومن هنا نقول : الميت لا ينتفع بالحج نيابة عنه ولا ينتفع بالصلاة والصيام ولا بسائر الأفعال من عبادات ومعاملات ولا شيء من هذه الأفعال يقع صحيحاً من الأحياء إلى الأموات .

فإن قلتم : أفتى معظم الفقهاء بجواز الإنابة في الحج عن الميت وبقضاء الأعمال نيابة عنه .

قلنا : لا يجوز القيام بالأعمال نيابة عن الميت لا على سبيل القضاء و لا على سبيل الأداء وكل فعل في هذا الشأن فهو غير صحيح و غير جائز ، والشخص الذي يقوم بهذه الأعمال نيابة عن الميت فعمله هذا وأجره وثوابه يقع للحي وليس للميت ، وللمثال نقول : لو إن إنساناً في نيته القيام بالحج أو بالعمرة أو بغيرها من الأعمال ومات ، فهو عند الله يُعد مؤدياً للعمل إن كانت نيته في ذلك صادقة وسليمة ، وهذا ما تنبه إليه الإمام الصادق بقوله – نية المؤمن خير من عمله - وهو يُريد هذا ، وكذا باقي الأعمال وتمام الصدقات ، وكلها تقع للحي الفاعل أجرها وثوابها .

ومنها نقول : إن قراءة سورة الفاتحة للأموات بداعي حصولهم على الأجر ، قول لا يستقيم مع قول الله : - كل أمرء بما كسب رهين – أو - كل نفس بما كسبت رهينة - ، فالميت حين يموت يطوى سجله و كتابه ويختم ويُعلق بيمينه أو بشماله من دون زيادة لا حقه أو نقصان لا حق ، وكل ذلك مرتبط بنوع وطبيعة هذا الإنسان وعمله ، ولا يُضاف على ذلك الكتاب فعل أو عمل ثواباً أو عقاباً .

وعليه تكون قراءة سورة الحمد - الفاتحة - في مجالس العزاء مُفيدة للأحياء ، تذكرهم بالموت وتهديهم للعمل الصالح ، بدليل قوله تعالى : - أهدنا الصراط المستقيم – ، والخطاب والضمير فيه للحي وليس للميت بكل تأكيد ، فهداية الميت بعد الموت للصراط المستقيم قبح في حقه وفي من يقول بذلك ، وحين يموت الإنسان ينقطع عمله ، وإذا انقطع عمله فلايكون توجيه الخطاب إليه من الله كما هو ثابت في العقيدة السليمة .

2 - وسورة الفاتحة هي ليست – السبع المثاني - كما يزعم البعض ، ولا يجوز إطلاق ذلك عليها لمجرد الظن ، الذي علق في الذهن في كونها تُثنى في الصلاة ، وهذا تعليل بل إطلاق ليس على ما ينبغي ، إذ الإطلاق هذا متعلق بدليل غير ثابت وغير وجيه ، خاصة إذا ما أخذنا بعين الإعتبار صلاة الرسول – ص – ، فالثابت عندنا إنها لم تكن بفاتحة الكتاب ، بل إنه كان يقرء ما تيسر له من الكتاب ، بدليل قوله تعالى : - فأقرءو ما تيسر منه – ، وهذا الخطاب عام مطلق ولا تقييد يخرجه عن إطلاقه ، بل هو شامل لجميع نصوص الكتاب وسوره ، فالصلاة فيها تؤدي الغرض المرجوا منها ، وهذا يعني إن ما ذهب إليه البعض بالقول أن : – لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب – ليس على ما ينبغي ، كما إن نسبة ذلك القول إلى الرسول – ص - ليس صحيحاً ، فالخبر الذي أقيم عليه الإحتجاج ضعيف الإسناد ضعيف الدلالة معارض لعمل الرسول وفعله ، ثم إن التثنية بالصلاة في سورة الفاتحة ، يعارضه عمل غالب المسلمين الذين يقرؤن الفاتحة في جميع الركعات وليس في ركعتين فقط .

3 - وقيل إن - سورة الفاتحة - هي : - أم الكتاب - : والمُراد من ذلك القول إنها السورة التي جمعت أو أحتضنت معلومات الكتاب وموضوعاته المتعلقة بالكائن الحي ما يجب عليه وما لا يجب ، بدليل ذكرها للصفات الإلهية شديدة الإرتباط بالإنسان وبحركته ، يظهر ذلك في حديثها عن الربوبية و عن المالكية وعن الرحمانية وعن الرحيمية ، وهي صفات ترتبط بوصف - الذات الإلهية - بما هي مرافقة وقريبة من الواقع الموضوعي للإنسان وعقله ، وسنأتي على شرح ذلك وتفصيله في القريب .

4 - وقيل هي : – أم الكتاب – لأنها تناولت مفهوم - الصراط المستقيم - ماهيته ولوازمه وبيان معناه ، ونسبة الصراط إلى المستقيم هي نسبة في وصف الدليل الدال على العمل الصالح ، كما هي نسبة في وصف الحالة الوسطية في العلاقة مع الأشياء ، يظهر ذلك في نفي الغلو ونفي التطرف ، [ والصراط المستقيم ] فيها لا يعني الخط المستقيم الغير منحني كما قد يتبادر من الفهم الأولي ، بل هو : - الإتباع لأوامر الله في الإيجاب وفي السلب ، والأوامر : هي مجموعة النظم التي تحدد طبيعة ونوع السلوك الواجب على الإنسان إتباعه ، والصراط المستقيم هو الوصايا العشر الواردة في كل الكتب السماوية .

وترجيحنا للإتباع كمعنى للصراط المستقيم دليله عندنا قول الله تعالى مُخاطباً رسوله محمد – ص - : - وأستقم كما أومرت - ، أي أتبع ما يوحى إليك من دون زيادة أو نقصان - أي ولا تحرك به لسانك ، ولا تعجل بالقرآن من قبل ان يقضى إليك وحيه - ..

* * *

بِسمِ اللهِ الرَّحَمِن الرَّحِيمِ ] [

النص هنا وفي معظم سور الكتاب المجيد له دلالة ، دلالة في ترويض الإنسان لكي يفهم خطاب الله ، وهو خطاب في توجيه الإنسان إلى قيمة صفات الله وأهميتها هنا حين يتحدث عنها ، ويكون الإبتداء - بالله - تلك الصفة الدالة على الإله المعبود ، والتي لاتتم العبادة من دونها ، كما يكون الإبتداء - بالرحمن - مرتبط صفة بعالم الخلق والتعليم ، ويكون الإبتداء - بالرحيم - دائماً في إشارة و دلالة على أهمية الرفق بالإنسان والحرص على سلامته وسلامة مستقبله ، إذن فهو خطاب توجيه وإرشاد للإنسان كي يتعرف منذ البدء على طبيعة الإله الخالق الرحيم الذي يهمه سعادة الإنسان في الدنيا والأخرة .

من أجل هذا تكرر النص في الكتاب المجيد كله إلاَّ في سورة التوبة ، التي ورد فيها مصحوباً بخطاب دعوة إلى السلام لملكة سبأ وممن حولها من الأنصار ، فهو إذن مفهوم دال على معنى أستخدمه الله في خطابه في الكتاب المجيد وحده من دون الكتب السماوية الأخرى ..

[ الحَمدُ للهِ رَبّ العَالَمِينَ ]

مفهوم - الحمد - في لغة العرب يرتبط بمعنى الشكر والثناء ، - فهو حمد لله رب العالمين أي أن نشكر الله رب العالمين - لذلك جاءت الإضافة لله تلك الصفة الدالة على إخلاص العبادة لرب العالمين ، ورب العالمين هنا هو المربي وهو المعلم وهو القائم على تنظيم خط حركتنا ، وكأن النص يتحدث عن سلسلة صفات فاعلة في حياة الإنسان ، مما يستوجب شكرها والثناء عليها ، وليس المقام هنا كما يقول البعض جعل الرب هو الإله ، إذ مقتضى حال الربوبية صفة فعل وتنظيم يتصف بها الإله أو هي أحد مظاهره التي يُعرف الناس بها عن نفسه ، ولكي يكون الله الإله المعبود في التعريف دالاً على الربوبية فهذا يقتضي ان يكون المقام دالاً على ذلك ، وعندنا مفهوم - الرب - أو كما هو في اللسان العربي : يعني المربي ويعني الراعي ويعني المعلم ويعني المهيمن ، وفي الكتاب المجيد ورد اللفظ في سياق واقع الحال فقال : رب العالمين ، ولفظ - العالمين - لفظ مركب ويعني به هنا عالم الإمكان ، أي عالم الحياة وليس عالم الأخرة ، ففي عالم الأخرة يكون الحديث منه تعالى عن الملكية والمالكية ، التي تعني إنتفاء صفة الإرادة والإختيار من الآخر ، وفيها لا يكون معنى للربوبية دور لا في مجال الرعاية ولا في مجال التعليم والهداية ، فالربوبية كصفة منه تعالى ترتبط بالكائن الحي العاقل وغير العاقل وهي تبين القدرة على تنظيم حياة هذا الكائن وتكون للعاقل أداة له في الخيار بين الخطأ والصواب وبين الخير والشر ، وتنتفي هذه الصفة عن الإنسان في العالم الآخر ، حيث هناك تكون المالكية لله ، لذلك ورد التقابل بعد ذكر الربوبية على العالمين أو للعالمين .

قال – مالك يوم الدين - ، هناك حيث يكون مالكاً ليوم الدين الذي هو اليوم الموعود وهو القيامة ، وطبعاً حين يتحدث الله عن الملكية هناك فهو يتحدث بشكلٍ غير مباشر عن المشيئة يتحدث عن الحساب وعن العقاب ، وطبيعي جداً أن يكون الملك مع فقدان الإنسان للإختيار وفقدان الإنسان للعمل وفقدان الإنسان لكل لوازم وصفات عالم الربوبية ، هنا تتقدر المشيئة منه تعالى في العقاب وفي الثواب ، وتلك شأنية لا دخل للإنسان فيها ، لكن في عالم الربوبية تتدخل الإرادة الإنسانية في العمل وفي طبيعتة ، وبالتالي يستطيع الإنسان في عالم الربوبية ان يصنع مستقبله وفق شروط عالم المُلك ، وكل هذا مرتبط بطبيعة الفعل من الإنسان .

فحين يقول الرب : - أهدنا الصراط المستقيم - أي خُذ بيدنا إلى الصراط المستقيم ، فالهداية إلى الصراط المستقيم فعل متعلق ولازم لجملة الأعمال الواجب فعلها من قبل الإنسان ، بإخلاص العبادة لله الواحد الأحد ، ولازمه كذلك نفي الشرك بكل أنواعه و متعلقاته ، ومحو كل ما يؤدي إليه .

والشرك مفهوم مركب يقود صاحبه إلى عدم الإلتفات في الفعل والعمل ، يظهر ذلك في الدعاء و التوسل بغير الله لجلب النفع ودفع الضرر ، [وغير الله ] هنا : هو كل شيء من البشر والحجر من الأحياء والأموات ، من الأنبياء وغير الأنبياء ، و يتحقق الشرك بالفعل حين يُصدّق المرء ويؤمن بقدرة غير الله على جلب الخير ودفع الضرر في الحياة وفي الممات ، و فعل الشرك من الذنوب الكبيرة كما تقرره العقيدة السليمة ، وكل ما ينتج عن الشرك ويترتب عليه باطل وفاعله من أصحاب النار .

والشرك كما يظهر فعل مُخالف للصراط المستقيم ، الذي هو : الوصايا العشر في لسان ومقال جميع الأنبياء والرسل ، والتي جاءت مرتبة في الكتاب المجيد في سورة الأنعام من 151 إلى 153 ، وعلى النحو التالي :

1 - الإقرار بالوحدانية وتحريم الشرك بالله .

2 – الإحسان إلى الوالدين

3 – تحريم قتل الأولاد خشية الإملاق والفقر والحاجة .

4 – تحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن .

5 - تحريم قتل النفس .

6 - حماية مال اليتيم .

7 - والعدل في الميزان

8 - والعدل في القول

9 - والوفاء بالعهد .

10 - والإيمان بالوحدة الإنسانية والبشرية

هذا هو صراط الله المستقيم الواجب إتباعه كما قال : [ وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ] ...

والأيمان الواردة في جميع الكتب السماوية ، أي إنه الجامع الكلي الواجب الإيمان به و الإتفاق عليه من والصراط على هذا النحو هو الجامع لأوجه الإسلام للجميع ، وبناءً عليه تخرج جميع التفاريع والإجتهادات من المكان والزمان ، كما تخرج من ذلك بعض الأوامر والنواهي من حيث كونها مقيدة وغير مطلقة ومحكومة بالزمان والمكان الموضوعي الخاص .

لهذا قال تعالى في إتمام صيغة العرض على مستوى البيان بالقول : - صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين - ، والتقابل بين فعل أهدنا وفعل أنعمت تقابل في القاسم المشترك بين الإسلام والإيمان وما يترشح عنهما ، وجملة - غير المغضوب عليهم ولا الضالين - جملة بيانية مهمتها التعريف بمن يتنكب عن الصراط المستقيم ، فهو مغضوب عليه في الآخرة ، وحين يُنسب الغضب من الله فهو صفة مرتبطة بحياة ما بعد الموت سواء في وصف الحال أو في تقريره ، ولفظة – الضالين - هي صفة متعلقها في الحياة الدنيا والموصوف بها من ضل في الحياة ولم يهتدي إلى الصراط ولم ينل الخير والنعمة الكثيرة ، والصفة والموصوف في مجمل العبارة لم يردا للحصر والتعريف بطائفة أو فئة معينة من الناس كما توهم رواة الأخبار ذلك ، بل الصيغة كما هي وكما أسلفنا وصف لحالة دائمة الحدوث دائمة التكرار ، يعيشها الناس حينما يتنكبوا عن الصراط المستقيم وما يؤدي إليه ، والمُراد منها على مستوى المعنى منع الفتنة وإنزلاق الناس في جدل المفاهيم أو التنابز بالألقاب ، لذلك بين الله حدود الصراط ومعناهAnchor 03 ..

 

...

 

سورة البقرة

 

 

أسماء سور الكتاب المجيد لها دلالة خاصة ، ترتبط وصفاً ودلالة وتسمية بما هو قريب ومتبادر ، ولكن أصل التسمية خاضعة لإشكالية معرفية لذلك ورد في شأنها كلام كثير وجدل كثير ، وأصل هذا الجدل و مرده يعود على من سمى هذه السور بأسمائها ولماذا ؟ ، والظاهر إن غالب هذه الأسماء إما إشتقاق من معاني الكلمات والنصوص أو هي ألفاظ بعينها وردت في السورة ، أو فعل النبي كما يقول البعض بناءاً على الرأي القائل بان أسماء سور الكتاب توقيفية وليست إجتهادية ، ويقولون إن النبي هو من سمى هذه السورة – بالبقرة - نسبة إلى بقرة بني إسرائيل المثيرة للإهتمام والجدل في الحكاية المشهورة ، ولهذا قيل : إن جميع اسماء السور توقيفية وليست إجتهادية وهو قول كما ترى فيه نظر ، خاصةً مع أفتقادنا للدليل القطعي الدال على ذلك ، وذهب البعض للقول : بان التسمية في الأصل هي أمر مولوي قام بتنفيذه النبي - ص - ، داعياً أصحابه لمراعاته وعدم مخالفته ، ولكن ذلك منهم هو مجرد قول لا يعضده دليل سوى الترجيح ، ولكن الذي أعتمده وأرجحه في هذا الباب : هو إن تسمية السور بأسمائها الدارجة والمعروفة تم وفق إجتهاد نبوي محض ولا علاقة للأمر المولوي فيه ، من أجل هذا نجد إن لبعض السور أكثر من أسم مشتق من معاني النصوص وشهرتها

...

* * *

-1- ] الم] قوله:

يجب الإشارة إلى إن ثمة تميُز للكتاب المجيد عن غيره من الكتب السماوية ، هو في هذه الكلمات المقطعة في اللفظ وفي القراءة ، ومنذ التفسير الأول للكتاب فقد أُختلف في معناها ودلالتها وفي وجودها وفي ضرورتها ، والإختلاف له ما يبرره بلحاظ طبيعة القراءة الغير مسبوقة في اللغة واللسان العربي .

1 - لذلك أعتبر البعض هذه الكلمات المُقطعة - إعجاز لغوي - جيء به للتدليل على أهمية البيان الوارد بعده ، وهو إعجاز في الإستخدام بحسب الموضع الذي تردُ فيه ، وقد مال إلى هذا الرأي بعض من المفسرين القدامى وبعض من المتأخرين ، وهو نمط من التفكير يُركن إليه حين يختلط على البعض كشف المعنى المُراد من هذه الكلمات .

2 - والبعض الآخر أعتبر التقطيع في الكلمة الواحدة في اللفظ وفي القراءة إنما هو أمر إلهي يدور مدار الخطاب ودلالته في السورة ، وأحرف هذه الكلمة مُستلةٌ في الغالب من بدايات كل سورة بحسب الوضع والطبع.

3 - ومنهم من سد باب البحث في معنى الكلمة وطبيعتها ومُرادها موكلين ذلك - لله سبحانه - في العلم والمعنى ، معتبرين ذلك من - الغيب - الذي لا يعلمه سواه.

4 - ومنهم من قال : إن هذه الكلمات المقطعة اللفظ إشارة من الله لتباين حدود اللسان المخلوق عند المتكلمين من الناس ، أي إن لكل لغة في العالم الوجودي أحرف معلومة تعرف بها ، ولكل لغة حدٌ في العدد والرسم والصوت فهناك حدٌ أعلى وحدٌ أدنى ، وهنا يُشير الكتاب المجيد إلى ذلك ، طبعاً هذا مأخوذاً بلحاظ حذف المكرر من الأحرف والباقي يشكل أحدى عشر حرفاً ، وهذا هو الحد الأدنى للسان البشري الموجود لدى أهل جزر سيشل في المحيط الهندي .

5 - وهناك من أعتبرها رموز وأشارات ليوم القيامة.

والمتفحص لمجمل هذه الأراء يجد إنها لا تخرج عن الظن الذي لا يغني من الحق شيئا ، إنما هي إحتمالات ربما تصح أو لا تصح و لا يقين فيها .

ونحن نقول : إن كل لفظ في الكتاب المجيد له معنى في الحياة ، لأن اللفظ في الكتاب عبارة عن خطاب للناس وهو بيان لهم ، ولا يُعقل ان يخاطبهم الله بنوع من الخطاب مبهم وغير معروف أو إنه خطاب معجز لا يستطيعون تمثله أو الإلتزام به ، لهذا فنحن مع من يقول إن الكلمات المقطعة اللفظ هي إستهلال وترويض للإنسان كي يستشعر قيمة ما خوطب به ..

* * *

- 2 - [ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ]قوله :

هذا النص هو تعريف بنوع الكتاب وهدفه و المُراد منه ، ونفي الريب والترديد والشك فيه ، هو إثبات للمُراد في كون ذلك الكتاب صحيح من جهة الصدور وصحيح من جهة المعلومة ، - والكتاب - هنا يعني كتاب النبوة والرسالة ، ولفظ الكتاب كما ورد معرفاً للتدليل على معنى معين ولم يرد هنا على نحو مطلق و قوله تعالى - هدى للمتقين - ، هي جملة بيانية تُشير إلى طبيعة الكتاب وماهيته وهدفه الرئيسي الذي هو : هداية للناس لكي يكونوا متقين .

والتقوى : ملكة تقع في نفس الإنسان كصفة إيجاب تدور مدار العمل وتلازمه ، وهي ليست صفة مستقلة يمكن إن يوصف بها المرء من دون عمل ، إنما هي صفة لاحقة يوصف بها عموم من خوطب بالكتاب وأمتثل لأمره ، إذن فهدف الكتاب الأول هو حماية الناس من الفساد والإنحراف والجريمة والعدوان ، أي إن هدف الكتاب هو صُنع مجتمع يمتلك أدوات الحماية الذاتية التي تقيه من الوقوع في الخطأ أو أرتكاب الجرائم والمفاسد ، ..

* * *

[ قوله : - الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلوات ومما رزقناهم ينفقون ] - 3 -

يأتي هذا القول بعد التعريف بطبيعة الكتاب وهدفه ، يأتي في سياق بيان ماهية وطبيعة المتقين وكيف يجب ان يكونوا ؟

،

فيقول : إن أول شرط لازم لكي يكون المرء متقياً ، إن يؤمن بالغيب ، أي إن الإيمان بالغيب شرط لازم من شروط المتقين ، والغيب في اللفظ يعني عموم ماهو غير مشاهد بالنسبة للإنسان ، والإيمان بالغيب هنا يعني الإيمان بالله والغيب يعني عالم الآخرة ، وكل ما غاب عنا في هذا المجال يجب ان نؤمن به ، وفي سباق المضمون وسياقه يكون الإيمان بالأنبياء والرسل واليوم الآخر إيمان بالغيب كذلك

قال تعالى : [ والذين يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك وبالأخرة هم يوقنون ] - البقرة 4 - هذا النص هو من أحكام النبوة وليست من أحكام الرسالة ، الذي يأتي فيه ذكر الشرط الرابع والخامس والسادس في سياق الحديث عن التقوى وشروطها ولوازمها ، وهذه الشروط أعني الأول والرابع والخامس والسادس تقع كلها في باب الإيمان بالغيب ..

والشرط الثاني للتقوى هو : إقامة الصلاة ، و للصلاة معنى معروف لدى الجميع لكنها هنا ليست هي مجموعة تلك الأعمال المعروفة من ركوع وسجود ، كما إنها ليست الدعاء كما تُعرف عند صاحب اللسان .

بل هي الصلة والإتصال ، قال ابن فارس : والصلاة أصلها صحيح من الفعل - صلى - وهي من الصلة ضد القطع ، ويمكن إعتبار معناها هو كذلك بدليل المُراد منها كحلقة إتصال وجمع بين المختلفين ، وكأن الله يريد ان يقول : إن المتقي هو من يعمل للوحدة وينبذ الفرقة بين مكونات المجتمع ، ولا يتحقق ذلك إلاَّ بالعمل الصالح ، وأما الصلاة بمعنى الشعيرة المعروفة فهي وظيفة عملية خاصة ، وفعلها والمُراد منها خاص كذلك ، أي إنها فعل مخصوص بين العبد وربه ، وأثرها خاص كذلك سواء في أدائها أو عدمه ، وأما فعل - أقام - فهو فعل ثلاثي صحيح المصدر ، ومعناه التسوية والتعديل والنهوض ، ويكون معناه إن المتقي هو من ينهض لتعديل الأوضاع الإجتماعية وتسويتها بالعدل والإحسان ،

وأما الشرط الثالث للتقوى فهو قوله تعالى : - ومما رزقناهم ينفقون -

الرزق عنوان عام يعني كل شيء حصل ويحصل عليه الإنسان مادي كان أو معنوي ، وإنفاق الرزق يعني بذل الرزق في مساعدة من يحتاج إليه ، وهو التزكيه كما ورد في التعريف اللغوي والدلالي ، ولذلك أعتبر الله الإنفاق شرط من شروط التقوى ، الذي به يتحقق التوازن في الحياة وبه يُقضى على التفاوت الطبقي بين الأفراد وبين المجتمعات ، ومعنى ذلك هو إيجاد الفرص لكي يعيش الناس بكرامة ، وهذا هو الشرط اللازم لخلق مجتمع التوازن ، من هنا جعل الله هذا الشرط من لوازم التقوى ، فلا تكتمل الشخصية الإنسانية من دون ان تنفق وتبذل مما رزقك الله به ، وإنفاق الرزق و إقامة الصلاة هو العمل الصالح ، ولو تأملنا موضوع ذلك الكتاب في بيان التقوى أو في تبيان طبيعة الشخصية المتقية ، نجد إن هذه النصوص تُحدد الإطار العام لمعنى الإسلام الذي هو : الإيمان بالله ، والإيمان باليوم الأخر ، والعمل الصالح - ..

* * *

[قوله: أُوْلئك على هدى من ربهم وأُوْلئك هم المفلحون ] - 5 -

يأتي هذا بعدما بين الله شروط التقوى ، وكيف يجب ان تكون ؟ ، جاء هنا ليقول : إن من يتمسك بهذه الشروط فهو على هدى من ربه ، أي إنه يسير بالإتجاه الصحيح في الحياة ، ذلك الإتجاه الذي يحقق لمن تمسك به الفلاح والنجاح ، ووجود أسم الإشارة والضمير معاً دليل على أهمية التقوى في الفعل والعمل كونها تؤدي للفلاح والنجاح في الحياة ، وبذلك العرض تكتمل الصورة في بيان الشرط وبيان المشروط لتحقيق المجتمع الصالح الذي يُبنى على أساس التقوى ، وبالمحصلة يكون كل متقي ناجح وكل ناجح من الأتقياء ..

Anchor 04* * *

[ قوله : إن الذين كفروا سوآءٌ عليهم ءأنذرتهم أم لم تُنذرهم لا يؤمنون ] - 6 -

ظاهر النص وسياقه يتحدث عن الطبيعة النفسية الدائمة الملازمة للذين كفروا ، والنص يبين إن هذه الجماعة كفرت بالإيمان بالله ، أي إن فعل كفروا متعلق بالله ، والكفر : أسم صفة يتسم بها ممن أغلقوا منافذ العلم والفكر ، والكفر من المتقابلات التي هي من سنخ الجهل الذي هو ضد العلم ، فبالتضمن يكون الجهل أساس الكفر وفي المقابل يكون العلم أساس الإيمان ، والتلازم بين الإيمان والعلم هو كالتلازم بين الكفر والجهل ، فلا إيمان من دون علم ولا كفر من دون جهل ، و الإنذار مع الجهل غير ذات جدوى طالما إن العلم بمعنى الإيمان ومايؤدي إليه غير معلوم ، وعليه فالإنذار وعدمه واحد من جهتي التأثير والأهمية لدى الذين كفروا ، فالكافر بشيء ما هو في الواقع واقف أزاءه لا يتحرك من أجل معرفته والتعرف عليه ، ولايعطي لعقله المجال في الفهم والإدراك والتحليل وإتخاذ ما يجب ..

* * *

[ قوله : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أَبصارهم غشاوةٌ ولهم عذاب عظيم ] - 7 -

الختم : في اللغة هو الإمضاء والتوكيد ، والختم لايُنسب إلى الله إلاَّ عندما يكون المختوم قد تجاوز حدود القدرة في الرجوع والتراجع وتصحيح الأمور ، والختم ليس فعلاً أو إرادةً من الله حتى يمكن نسبته إليه بل هو إمضاء منه بعد العجز من إمكانية التغيير أو الإصلاح في الفعل والعمل ، والقلوب المختومة هي القلوب المعطلة عن التفكير ، والقلب هو الأداة المفكرة أو القادرة على التفكير والبحث والتأمل ، وليس هو العضلة التي تضخ الدم [ وتعطيل هذه الأداة من التفكير هو فعل يقوم به الإنسان وليس الله ] ، وكذلك الحال يكون حين تعطل أداة السمع عن أداء دورها في الإستماع والإنصات الذي يؤدي إلى الفهم ، ونفس الشيء يقال حين تعطل أداة البصر من رؤية الحقايق كما هي ، وحين يُعطل الإنسان أدواته المعرفية الحسية عن العمل يكون الإمضاء من قبل الله تحصيل حاصل ، و يكون العذاب العظيم في الكيفية والنوعية والشأنية هو نتاج فعل الإنسان وصنعه ...

* * *

[ قو له : ومن الناس من يقول ءامنا بالله وباليوم الأخر وماهم بمؤمنين ] - 8 -

هذا النص يتحدث عن البعض من الناس الذين تتناقض أقوالهم مع اعمالهم ، فهم يدعون الإيمان بالله قولاً ، وبالقول أيضاً يدعون الإيمان باليوم الأخر ، وهم في قولهم هذا أو في دعواهم هذه يكذبون ، فالقول المناقض للعمل كذب محض ، وشرط الإيمان بالله واليوم الأخر هو في تطابق القول مع العمل ، والعمل هو مظهر للقول ، والتناقض بينهما يخرج الإنسان من ساحة الإيمان ، ويصبح قوله في الإيمان مجرد دعوى كاذبة ليس لها أساس بالفعل ، وعليه فكل مُدعي للإيمان بالقول دون العمل فهو كاذب في دعواه ...

* * *

[ يُخادعون الله والذين آمنوا ومايخدعون إلاَّ أنفسهم ومايشعرون ] - 9 -

الأصل في الخداع هو الحيلة ، وقيل هو الغش كما ذكر ذلك أبن منظور في اللسان ، وقيل هو الإستهزاء كما عند أبن زيدون ، وقيل هو الإيهام ، والنص في ظاهره يتحدث عن بعض الناس بقوله إنهم : يُخادعون الله والذين آمنوا ، فالخديعة في معنى الحيلة والتحايل تعني عدم الإيمان بالله وبما جاء من عنده من كتب ورسل وبينات ، لكن مفعول الحيلة يظهر في الواقع من خلال - الذين آمنوا - وهم الذين ربما ينخدعوا بدعوى الإيمان الكاذب بالله وبكتبه ورسله ، تلك الدعوى التي تصنعها طبيعة المُدعي المُحتالة ، نعم قد تنطلي هذه الدعوى على الذين آمنوا ، ولكنها لا تنطلي على الله العالم بالسرائر ، لذلك قال : وما يخدعون إلاّ أنفسهم ومايشعرون - وهنا يبين الله إن التحايل والتضليل لا أثر له على الله وعلى الذين آمنوا على نحو الفاعلية ، إنما أثره وتبعاته عليهم خاصة ، وهذا ما لايشعرون به نتيجة لجهلهم وعدم إيمانهم ...

* * *



[ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ] - 10 -

هذا المرض عارض وليس ذاتي ، ناتج عن فعل سلبي يقوم به المُخادع يُعطل أو يمنع ذلك الفعل أداة التفكير من العمل ، ونسبة المرض إلى القلب هي نسبة إعتبارية ، أي بإعتبار إنه الأداة المفكرة التي تُعطل عن العمل بشكل مقصود ، وأما قوله تعالى : فزادهم الله مرضاً .. لا يعني إن الله شارك على نحو الفاعلية في زيادة المنع والتعطيل في الجهاز الفكري ، بل إن المُراد من قوله – فزادهم الله مرضاً - هو تقرير واقع الحال وإمضاءه ، وهذا يأتي كنتيجة وليس كفعل منه تعالى ، أي إنه نتيجة لإصرار وتعمد هؤلاء على تعطيل أداة التفكير من البحث والتحقيق وبمنعها من إتخاذ الموقف الصحيح على نحو متعمد ، فزيادة المرض هي نتيجة فعل يختاره البعض في إصرار وتعمد في الكذب والخديعة في العلاقة بالله وبالذين آمنوا ، والزيادة تكون على هذا النحو إقرار وتوكيد منه تعالى في إستحالة التغيير والإصلاح مع وجود أسباب المرض وعلله المستحكمة ، ولذلك قال في نفس السياق : ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون . . فالعذاب الأليم وجوده مرتبط بسبب وجود الكذب والتحايل والإصرار على ذلك ، وليس بسبب إن الله يريد إن يزيد في مرضهم ، تعالى ربنا عن ذلك علواً كبيرا ، وعليه يكون العذاب الأليم مرتبط دائماً بنوع العمل الذي كانوا يقومون به ، والذي هو منهم ومن أختيارهم

* * *

[ وإذا قيل لهم لاتفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ] - 11 -

التقابل بين الفساد والإصلاح تقابل موضوعي وجدلي دائم الحدوث دائم الوجود ، فالفساد كفعل هو التخريب المتعمد لقواعد الحياة الطبيعية في الأرض وهو الخراب كصفة نعت ، و عكسه الإصلاح سواء كفعل أو كصفة والأصل فيه الإعمار والبناء والتنمية في الأرض ، والفساد يكون على نحو مطلق حين تكون إرادة المفسدين اقوى وأظهر ، وفي مثل تلك الحالة يكون هدفه تدمير الإنسان وحركته من أجل البناء والإعمار ، والفساد كما الإصلاح أنواع منه ماهو مادي ومنه ماهو معنوي وروحي ، والمُراد به هنا هو مطلق الفعل في الأرض التي تكون هنا بمثابة المتعلق أو الساحة التي يتحرك فيها المُفسد والمصلح معاً من الناحية الموضوعية ، إذ لايكون لفعل الفساد أو الإصلاح موضوعية من دون وجود متعلق تظهر فيه إرادة الفساد وإرادة الإصلاح ، والكاشف الطبيعي المُميز بينهما الأثر الموضوعي المتحقق للجماعة على الأرض ، فالعلاقة بين الأرض والإنسان هي علاقة تبادلية وعلاقة كاشفة لطبيعة الفعل ونوعه وأثره وما يتحقق منه في الواقع ..

* * *

[ ألآ إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ] - 12 -

هذا تأكيد من الله على إنهم في فعلهم مفسدون ليس مصلحون ، و دعوى الإصلاح التي يزعمون هي دعوى لا تستقيم مع الواقع ولا تستقيم مع ما يترشح منهم من عمل و فعل ، وحين يصف الله قوم بانهم لا يشعرون ، يعني هذا إنهم قد فقدوا الإحساس وفقدوا الميزان في الحكم على الأشياء ، وفقدان الإحساس هذا من طبائع الطغاة وأصحاب النفوذ ، فهم ومن أجل تحقيق مصالحهم يقومون بكل قبيح من الفعل كالقتل وإنتهاك الحرمات وإنتهاك الأعراض ، فاذا قيل لهم : لماذا تفعلون ذلك ؟ قالوا : إنما نريد الإصلاح ، أي إنما نحن مصلحون !! وعندهم الإصلاح لايتم من غير تدمير ، أي إن الإصلاح عندهم هو التدمير والتخريب في مقومات بناء المجتمع وأسسه لكي يستقيم الأمر ويستحكم ...

* * *

[ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ، قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألآ إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ] - 13 -

خطاب النص هذا دال على الأمر وهو موجه لتلك الجماعة التي تكذب وتتحايل ، الأمر دال على الوجوب وهو هنا لبيان الحجة وإتمامها ، وأمر الله فعل واجب على المُخاطب ويأتي دائماً في صيغة العموم والإطلاق ، والخطاب هو دعوة من الله للإيمان به وبكتبه ورسله واليوم الأخر ، ولأنه كذلك فهو لايقبل التجزئه لا على أساس الوضع الإجتماعي ولا على أساس الوضع الإقتصادي ، وخطاب الإيمان للناس واحد في اللفظ وفي المعنى ، والتخصيص والتقييد فيه باطل لأنه يُخرج الأمر من معناه .

وصيغة الأمر في الوجوب كما يُقال في قواعد الأصول إنها مطلقة غير مقيدة ولا مستثناة ، ولأنها كذلك فهي لا تعجب أصحاب النفوذ والسلطان الذين يعتبرون أنفسهم فوق الجميع ، من هنا إستنكروا على الله خطابه في صيغته المطلقة ، قائلين : أنؤمن كما آمن السفهاء ؟؟!! .

والسفيه : في الإصطلاح هو كل من يضع الشيء في غير موضعه ، وهي هنا ضد الحكمة التي من خصائصها وضع الشيء في موضعه ، وصيغة الإستنكار المقدمة منهم تعني بطلان المساوات في الخطاب والتوجيه من الله للسادة والعبيد ، وهم يريدون القول إن شمولهم بنفس صيغة الخطاب غير صحيحة ، وكان يجب ان يميزهم الله بخطاب خاص ، فوحدة الخطاب منه غير ملزمة لهم ، ولذلك استنكروا على الله شمولهم بنفس الخطاب ، ومن هنا أعتبر الله تلك المقاربة منهم دليل على جهلهم ، فالإيمان يلزمه العلم ومن يؤمن لابد ان يكون قد علم ووعى ماهية الإيمان ومُراده ، لهذا نعتهم الله بقوله : [ ألآ إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ] ، وعدم العلم متعلق بطبيعة الإيمان ، فهم لا يعلمون معنى الإيمان لذلك فهم السفهاء ، ومن هنا يتبين : إن السفيه هو من عطل أو ضيع أو جعل أداة العلم من التفكير والبحث في غير محلها ...

* * *

[وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا ، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم إنما نحن مستهزءون ] - 14 -

لازال الكتاب المجيد يتحدث عن صفات هذه الجماعة التي لاتؤمن بالله ولا باليوم الأخر ، ولازال الكلام في وصف طباعهم وكيف يفكرون ، فتارةً وصفهم بالمخادعين في القول والعمل ، وطوراً وصفهم بالكاذبين ، ومرة ثالثة سماهم المفسدين والسفهاء ، وفي هذا النص يبين حالهم كما يصفون أنفسهم بالقول : [ إنما نحن مستهزءون ] ، والإستهزاء في اللسان العربي يعني السخرية ، اي إنهم يسخرون بالله وبالمؤمنين به ، ونرى في النص إشارة للتقابل المضطرد الدائم بين من يؤمن بالله وبين من يتخذ الشيطان له وليا ، وإذا كنا قد تعرفنا على المؤمنين بالله من خلال صفاتهم ومن خلال ما وصفهم به الله . لذلك فإننا هنا أيضاً سنتعرف على الشياطين من هم ؟ وكيف يفكرون ؟؟ وكيف يفعلون ؟؟ ، وإذا كان الأصل اللغوي للشيطان : هو من فعل شاط الثلاثي ، ذلك الفعل الناتج عن الإنسان وما يقوم به ، إذ ليس للشيطان ماهية مستقلة أو هيئة مستقلة يمكننا التعرف عليها في الخارج ، وبالمناسبة الشيطان ليس أبليس كما قد يتوهم فذاك ماهية مستقلة معروفة الخواص ، لكن الشيطان وصف لفعل الإنسان المخالف والمناقض لإرادة الله ، ، ويجب ان لا يلتبس على الأذهان إستخدام فعل – خلوا – فهو هنا لتقريب الصورة لكي تكون أكثر وضوحاً في ذهن الإنسان ، وهي تبيان لحالة الإنسان في التبدل والتغير من حالة إلى أخرى ، وهذا النحو من الفعل وصفه الله - بالإستهزاء - ، وصيغة الإستهزاء ملازمة لعدم الإيمان في أي موضع وحالة جاءت أو أتت ، والمستهزء الفاعل هو الساخر بالشيء الذي لا يؤمن به ، وكذلك هو حال هذه الجماعة التي لا تؤمن بالله ، ينعكس عدم الإيمان هذا بالإستهزاء بالله وبالمؤمنين وباليوم الأخر ..

* * *

[الله يستهزئُ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون ] - 15 -

إعتقادنا إن الله منزه عن ساحة الفعل ورد الفعل في الدنيا تجاه هذه الجماعة أو غيرها ، والتنزيه مرتبط بقانون العدالة في العقاب والثواب الأخروي الذي لا يتقدم ولا يتأثر بالوضع والحاجة الزمانية والمكانية ، وحتى لو خُيل للبعض إن النص أستخدم الفعل المضارع في رد الفعل المتقابل ، لكننا نعلم إنه تعالى أستخدم هذا الفعل بصيغة المضاف إليه مع الضمير ، التي هي صيغة بيان وتوكيد على إن الله عالم بما يفعل هؤلاء وبما يفكرون به ، ولأنه عالم فقد ترك ساحة العقاب في الدنيا ، أي إنه ترك صيغة التدافع تتحرك بشكل طبيعي بين المؤمنين وبين هؤلاء ، بدليل قوله تعالى : – يمدهم في طغيانهم يعمهون - أي إن فعل الله في الدنيا متعلق بالعلم وحده ، وأما رد الفعل منه في صيغة العقاب فمتعلق بطبيعة الفعل ولكن ليس في الدنيا ، ولفظ - يمدهم - هو توكيد على ما تقدم أي استغراق رد الفعل في الملاحظ والترك لحين ، ولفظة – طغيانهم - تعني الخروج على القانون وعلى الطبيعة الإنسانية والتمادي في الشر ، وهي صيغة مبالغة دالة على كثرة التعدي والخروج على القانون والناموس الإنساني ...

* * *

[ أُؤلئك الذين أشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ] - 16 -

بعدما بيّن الكتاب المجيد صفات المستهزئين بالله وبالذين آمنوا ، أعتبر : كل علاقة لا تقوم على أساس الهدى علاقة غير صحيحة ، والناتج عنها كذلك غير صحيح ، اي إن كل علاقة تقوم على أساس المنفعة الذاتية وحدها هي علاقة غير صحيحة ، وإن كل ما يترتب عليها غير صحيح ، فالعلاقات التي تؤسس على الربح دون النظر إلى القيمة هي علاقات باطلة ، لأنها لم تبن على أسس صحيحة ، والله يريد ان تقوم العلاقة معه وتبنى على أساس الإيمان به والإيمان بوحدة الجنس البشري ، وان تقوم على رفض التمايز الطبقي أو العرقي أو الوظيفي بين البشر ، فكل نوع من أنواع المعاملة التي تقوم على غير الإيمان هي علاقة خاسرة في نتائجها وأبعادها ومضامينها ، لأن الملاك الذي تقوم عليه هو الكسب المادي وحده ، وهذا النوع سماه الكتاب المجيد - التجارة الضالة - أي التي تستبدل المنفعة الواقعية بالمنفعة الموقتة ، كمن يستبدل الهدى بالضلال ، فالضلال يأتي من هذه الناحية ، وكل إستبدال على هذا النحو فهو باطل وهو ضلال ، لذلك قال تعالى : [ فما ربحت تجارتهم وماكانوا مهتدين ]

 

Anchor 05* * *

[مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضآءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ] - 17 -

هذا النص مصداق للمفهوم الذي جاء بصيغة الوصف والمثال ، أي إنه جاء لتقريب المفهوم إلى ذهن المخاطب في سياق المبني للمعلوم ، وهذا اللون من الوصف يتّبعه الله في بيان المفهوم وفي بيان الواقع ، وكيف يمكن ان يكون ؟ ، فعند الله : إن من يستبدل الهدى بالضلال في العلاقة معه ومع الواقع ، مثلهم كمثل من يستوقد ناراً من أجل حصول المنفعة منها ، لكنه لم يرى من نورها شيء ولم ينتفع منها ، ومثله : [ كمثل الذي أستوقد نارا فلما أضاءت ذهب الله بنورهم ] ، أي كالذي فقد بصره ولم يرى سوى الظلام ، ونسبة ذهاب النور منهم إلى الله هي نسبة إعتبارية ، أي بإعتبار إن الله هو واهب النور في البصر ، وليس معنى ذلك ذهاب النور على وجه الحقيقة ، فالنص هنا يتحدث عن نتيجة فعل ، وليس عن فعل الله حتى يمكن نسبة ذلك إليه ، والفعل في الواقع هو من صنعهم ، لذلك قال : - ذهب الله بنورهم - ، ولو تأملنا العلة الفاعلة فسوف نجد إنها تابعة لطبيعة الفعل وأثر منه ، وهذا يعني ان الله لم يذهب بابصارهم كفعل منه بل كنتيجة فعل منهم ، ويجب التنبيه إلى إن معنى ذهاب البصر هنا ، جاء على نحو المجاز وليس على نحو الحقيقة ، وجاء بصيغة مثال في بيان المفهوم وتقريبه ، وليس ذهاب البصر حقيقةً في الواقع مدار الكلام ، إنما جاء بصيغة الوصف والإعتبار الدال على مخالفتهم لطريق الهدى وسيرهم في طريق الضلال ، لذلك جاء وصف الله على هذا النحو - كنتيجة فعل وليس فعل - ، ومثله كما ورد في النص كمن ذهب الله ببصره ولم يرى ما حوله : [ وتركهم في ظلمات لا يبصرون ] وهذا هو المراد من جميع الخطاب ..

* * *

[ صُمٌ بُكمٌ عُمىٌ فهم لا يرجعون ] - 18 -

يواصل الكتاب المجيد إستكمال عرضه في الوصف والتعريف بالجماعة التي تتعمد تعطيل أجهزتها المعرفية في الحس والإدراك ، والتعمد هذا هو موقف مع سبق الإصرار من الإيمان وما يتعلق به ، يصعب معه الرجوع أو التراجع في الموقف وفي الرأي ، ومعلوم ان المعرفة الإنسانية تتعرف وتحكم على الأشياء من خلال أدوات المعرفة هذه ، لذلك أستعمل النص فعل - لا يرجعون - المرتبط بالواقع - أي واقع الحال - الذي لايمكن فيه العودة والنظر والتأمل فيما هو مطروح تجاه قضية الإيمان والهدى والموقف من قضية الإصلاح في الفكر والدين والحياة ، وهذه قضايا ترتبط بشكل مباشر بالمعرفة وأدواتها ....

* * *

[أو كصيب من السمآء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين] - 19

...

الصيب  :  في اللسان العربي جاءت من أصاب  أي الذي يُصيب  ،  والذي يُصيب هو الذي يُحدث الضرر  ،  ونسبة  الإصابة إلى السماء توحي بالفعل القوي المؤثر بإعتبار موقع السماء بالنسبة للإنسان ،  ولذلك قيل  : إن الصيب هو المطر النازل من السماء على نحو  غزير وفيه هلاك وسيول وفيضانات وظلمة ، ووصف الفعل على هذا النحو  وصف مجازي ، ومعناه تعظيم ما يحل بهذه الجماعة  المعاندة  ، و قد ورد الفعل  في صيغة وصف الحال التي هم عليها من الخوف والفزع في مواجهة ما يحيط بهم  ، وهذا الوصف جار في اللسان العربي وهو وصف مجاز ووصف إعتبار  ، وليس وصف حقيقة حدوث الفعل على نحو الواقع ، بدليل صيغة الوصف التالية قوله :   [ يجعلون أصابعهم في آذانهم حذر الموت ]  ،  والحذر هو الحيطة الدالة على الخوف الشديد ،   و هذا دليل على عجزهم  في مواجهة قوى الطبيعة  ،  التي هي مظهر من مظاهر قوة الله وقدرته ،  وهذا دليل على ضعفهم في مواجهة آثار قدرة الله وفعله ، وهو توكيد منه تعالى على ضعفهم في مواجهة قدرة الله  ، ولذلك قال : [ والله محيط بالكافرين ] فهي إحاطة  هيمنة وقدرة وفعل  ، ومتعلق الإحاطة كما هو ظاهر بقدرة الله وفعله  ...

 

يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه ، وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير ] -  20   

 

 

فعل كاد  يدل على الإحتمال في صيغة وصف بيان حال المعاندين  للحقيقة والإيمان  ، والوصف يأتي من باب  الإعتبار  الذي هو تقريب للمعنى في ذهن  المتلقي  ، أي وصف  حالة الإرتباك وعدم وضوح الرؤية الناتجة من فقدان الهدف  ، الذي يجعلهم يتحركون وفقاً للظروف الموقتة   ،  وليس وفقاً للمقاييس والأهداف والقيم النبيلة  ، وهذا هو حال من فقد بصره في مواجهة ما يحدث له من نور شديد  ،  والتحرك من هؤلاء في القيام والقعود لاتنظمه ضوابط  وقوانين يمكن الحكم عليها  ، وهم في ذلك كالذي  فقد بصره  من شدة الخوف الشديد  الناتج  من فقدان  الهدف والتوازن ،  قال تعالى : [  ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير ] ،  ولفظة    – شاء الله -  تحتمل  التشريع وتحتمل التكوين  .

 

وهي هنا لاتأتي  بمعنى التشريع  ، ذلك لأن التشريع هو تكليف وأمر ، وأمر الله هنا   : 

1 -  إما ان يتعلق بذهاب البصر والسمع ، وهذا الأمر غير صحيح  ، لأن الله لايأمر  بذلك  .

2 – وإما ان يتعلق  بذهاب أداة  السمع والبصر  ،  وهذا من باب الإنفعال وليس من باب الفعل ، وامر الله فعل وليس إنفعال ، أي إنه ليس ردة فعل  .

3 – أو ان يتعلق الأمر  في إعداد وتهئية المقدمات التي تؤدي إلى فقدان البصر والسمع ، وهذا غير ممكن إذ إن الله لايفعل أمر لا يريده بالفعل .

 

*

ولو كانت -  مشيئة الله هنا تعني التكوين  -  ، فهذا من حيث الكلية المطلقة ممكن  ،  بلحاظ كون العالم كله بما فيه يقع تحت فعل تكوين الله ، المرتبط بقوانين العلة والمعلول ،  وأعمال الناس سواء أكانت حسنة أم سيئة لا يمكن ان تستثنى من هذا القانون  ..

 ويجب العلم ان ملاك الأمر التشريعي يجب ان يكون مرغوبا من قبل الله  ، وإذهاب السمع والبصر من حيث هو غير مرغوب  فيه وغير مطلوب  منه  ،  ولكن حدوث ذلك  على نحو التكوين ممكن بلحاظ قدرة الله  ...

 

 

 

 

*   *   *

 

 

 

 

[ يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ] -  21 -     

 

 

 

 الفرق بين الربوبية والألوهية معلوم  ، والدعوة هنا لعبادة الرب الخالق لا لعبادة   الله الإله المعبود  وهذا واضح من خلال السياق  ،  وفي النص دعوة  للناس على نحو مطلق مما يعني إن المُراد ليس الصلاة والصوم والحج من حيث هي عناوين خاصة   ، بل المراد  هو تنظيم علاقة الكائن الحي في الواقع وفي الكون  ، لتحقق الغاية من الخلق والغاية من الوجود ، ضمن تعاليم  الرب واحكامه  في كل ما يتعلق بحركة الإنسان والحياة والكون  ، ولم يكن الربط في عبادة الرب الخالق عبثياً  بل جاء  في سياق هذا المعنى ومقتضاه  ،  وعليه فالعبادة بمعنى الشعائر والطقوس ليست هي المطلوب هاهنا ، بدليل كون المراد من هذه الدعوة عموم علاقة الإنسان بخالقه  ، من أجل تحصينه أولاً  :  من كل عوامل التعدي والتعريه التي تمارسها قوى الإنحراف ، وثانياً  :  هي دعوة لتقويم حركة الإنسان في الدنيا وتجاه كل ما يحيط به من كائنات لخلق واقع يمتلك كل عناصر الحماية  .

  هذا التنظيم في سلوك الإنسان  اطلق عليه النص معنى :  [ لعلكم تتقون ]  ،  أي إن الهدف النهائي الناتج عن العبادة للرب الخالق هو :  الوقاية من كل ما من شأنه الإضرار بالإنسان وبوجوده  ، إذن فهو هدف لحماية الإنسان وحماية  عالمه الذي يعيش فيه    ...

 

 

 

 

*   *   * 

 

 

 

 

 

[ الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً وأنزل من السماء مآءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلاتجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون ] -  22 - 

 

 

 يجب التنبيه هنا على إن فعل جعل وأنزل بمعنى واحد ، وهو التحول والتبدل من حالة إلى أخرى ومن هيئة إلى أخرى ، والجعل كمفهوم هو فعل يأتي دائماً بعد  فعل الخلق  ، و [ جعل لكم الأرض فراشاً ]  ،  أي صيرها وحولها بالفعل  لتكون  المحل الذي  تكون الحياة فيه ممكنة ، [والسماء  بناء  ]  أي جعلها في شكل وهيئة تحمي الأرض والإنسان وتوفر لهما كل عوامل ومقومات العيش  .

  والجعل في الإصطلاح : هو تنظيم في طبيعة العلاقة التي يجب ان تكون بين الأرض والإنسان  ، وتنظيم ذلك بشكل متوازن يرتب الحاجة والحركة بما يتلائم مع القدرة على العيش والحياة    .

 ويجب التنويه على إن الأرض والسماء هما  من طبيعة واحدة ومن سنخ واحد ، وقد ورد في موضع أخر  قوله : [ إن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما ] ، ولهذا لايمكن الفصل الموضوعي والعلمي بين  الأرض والسماء ، سيما إذا ما لاحظنا طبيعة وكيفية تحرك الأرض في جو السماء  ،  نعم وضعت الأرض للأنام  ، والوضع لغة ومفهوماً هو الجعل  ،  أي جعل الأرض لتكون قادرة على حياة الأنام فيها  ،  وذلك مرتب  ضمن قوانين دقيقة ونسب معينة   ، ومن هنا يكون معنى   : -  وأنزل من السماء مآء ..-  ، أي جعل في السماء قدرة على تكثيف الهواء وإنزاله على شكل ماء ينتفع به الإنسان والكائن الحي على الأرض ،والماء كما ذكره الكتاب هو مصدر الحياة  ، وصيغة أنزل تأتي في اللغة على وزن - أفعل  -  الدال على مطلق معنى ومفهوم  النزول  ، أي مطلق ما ينزل من أعلى ، ثم يؤكد النص على نفي الند لله في هذا العمل  ،  أي نفي الفاعلية والقدرة لغيره في فعل ذلك كله ، وهذا كما يقول النص هو للعلم والتذكير والتنبيه [ فلاتجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون ]

 

 

 

 

*   *   * 

 

 

 

 

[ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ] -  23 - 

 

 

النص في الحقيقة دعوة للحوار العلمي ، دعوة من أجل التعرف على طبيعة هذا الوحي النازل على نبي الله محمد – ص -  ، أي إنه دعوة  للدخول في جو هذا القادم من السماء  ، والدعوة في ظاهرها  أتخذت  شكل السجال الذي يتحرك وفقاً لطبيعة الواقع المتحكمة به قوى الريب والشك التي تفرض مفاهيم الرفض والمخالفة  في الفعل ورد الفعل  ، كما يظهر من قوله   : [ إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ]  ، مستخدماً  أداة الشرط  لتكون مصدراً في الفعل  ،  أي  :  إن الذي نزل على عبدنا لا يمكن ان تأتوا بمثله  هذا هو الشرط ،  والمشروط هو ان تأتوا بمثله  ، الذي لايمكنكم الأتيان به  في الكيف و في الماهية و في الموضوع والمعلومة ، وهذا الخطاب  لا ينحصر في الجماعة المخاطبة على نحو مباشر ،  بل هو خطاب تحد لمطلق من يصله ذلك ،  أو لنقل  هو خطاب تحد لمطلق من يتردد ويشك في مصدر هذا الوحي وما يأتي به ،  

 

 

 

 

*  *   *

 

 

 

 

[ فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أُعدت للكافرين ]  - 24 - 

 

 

خطاب الشرط هذا متعلق بجوابه   ، وصيغة التحدي فعل في معنى النفي المطلق   في كل حال  ، يظهر في قوله :  [ فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ] فالنفي والجزم  في الشرط وجوابه ، دال على التوكيد في إستحالة وتعذر الفعل منهم في الواقع  وفي الإمكان ...

 لهذا قال بعد ذلك مباشرة  : [ فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أُعدت للكافرين ]  ، التي يكون فيها معنى التحدي هو للوقاية والحماية من النار  ،  التي قال في وصفها :  – النار التي وقودها الناس والحجارة – وهذا الوصف تعليل للمراد  من التحدي   .

 

   لكن كيف يمكن للناس إن يكونوا وقوداً للنار ؟ وهل هذا النص فيه تناقض  مع  العدل الإلهي  ؟ ثم هل المراد بالناس هو مطلق الناس  ؟  أم إن المُراد هو بعض الناس ؟  وهل  هم مطلق الكفار أم المجرمين  الظالمين منهم   ؟  ،  هذه الأسئلة تفرض نفسها لكي نتعرف على طبيعة المفهوم  ودلالته المعرفية الواردة  في سياق النص  ،  نعم ذكر الكتاب المجيد :  إن الناس كل الناس سيردون جهنم  كما قال في سورة مريم :  [ وإن منكم إلاّ واردها كان على ربك حتماً مقضيا ] ، لكن الورود  هذا  يعني الإشراف أو النظر أو التعريف بها و لا يعني دخولها أو البقاء  فيها  والخلود ،  كما إنه  لا يعني العذاب والعقوبة ، إنما هو مجرد ورود في المطلق  ، بدليل إن الله ذكر إن  البعض من الناس سيُخلدون في النار    ، والخلود  :  في المطلق خلاف العدالة و ضد  لها  ، فالعدالة من لوازمها أو من مقتضياتها  ان تكون العقوبة مقدرة بحسب نوع وطبيعة الجريمة وحجمها   ، وهذا يعني إنه  لابد للعقوبة من فترة من الوقت  تزول بزوالها  ، هذا  حسب قانون العدل الإلهي الذي لايجوز ان  تتجاوز فيه العقوبة  حدود الجريمة ، ووفق  هذا المعنى وبناءً عليه ينتفي  مفهوم  الخلود في النار الذي يرد في لسان النص ويُفهم على غير معناه  .

    ومن أجل رفع التناقض هنا نقول  :  بالجمع بين معنى الخلود في النار الوارد في لسان النص وبين مفهوم العدل الإلهي كما هو   ،  والجمع بينهما يقتضي القول : بتحول من هم في النار خالدين  إلى جنس النار  وماهيتها  ، بحيث تنتفي معه  النار على العذاب  أي تنتفي قدرتها على ذلك ،  وهذا القول يستلزم تحول هؤلاء من الطبيعة   البشرية ومن الإحساس بالنار ليكونوا جزء من النار ومن ماهيتها وطبيعتها  ، وبهذا الجمع ينتفي معنى  دوام العقوبة ، وبها إيضاً يتحقق المراد في صيرورة البعض وقوداً للنار ،  طبعاً هذا الوصف مرتبط ببعض الناس ممن قد تجاوز حدود الله في الجريمة والظلم  والقتل ، وليس هو لمطلق معنى الكفار  ، لأن لفظ -  الكفر -  كما هو وارد في لسان العرب لفظ متعدد المعاني من جهة الوضع ومن جهة المفهوم  ، ولا يجوز إطلاق لفظ الكفر هكذا من دون ذكر القرينة والمصداق الدال عليه   .

     لهذا نقول إن المخلدين في النار هم بعض الكفار  ، وحصراً هم القتلة والمجرمين والظلمة ..

   وقد ورد في ذيل النص عبارة تقول : [ أُعدت للكافرين ]  ، ومفهوم الإعداد مفهوم متوالي متتابع  ، وهذه  إشارة منه إلى إن يوم القيامة يبدأ  حين يموت الإنسان - فتقوم قيامته -   ، بدليل إن الله جعل بعض الناس وقوداً للنار التي أعدت للكافرين ، ولايتم هذا هذا من دون أن تقوم قيامتهم ، فالتحول إلى جنس النار وطبيعتها لايأتي هكذا فجاءت بل يجب ان يتم وفق معايير الحساب والعقاب  ، ويعني هذا إن كل إنسان حين يموت يُحاسب على ما فعله في الدنيا  ، فإن أستحق العذاب وكان من المجرمين عوقب ونال جزاءه ، ويخرج بالتالي من العقوبة ليكون جزءاً منها .

    ويعني هذا إن ما يسمى -  بالبرزخ -  هو تماماً مانطلق عليه بمقدمات المحاكمة التي تبدأ مع الموت ولا تنفصل هذه عن قيامة الإنسان بل هي جزء منها ....  

وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأُتوا به متشابهاً ، ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون ]  -  25 - 

يصادفنا في العادة مصطلحين أو مفهومين يذكرهما الكتاب المجيد الأول هو :  -  الذين آمنوا -  والثاني هو :   -  المؤمنين أو المؤمنون  - ، والفرق بينهما يدخل في باب العموم والخصوص ، -  فالذين آمنوا  -  مفهوم خاص ويُراد  به من هم  من آمن  بمحمد بن عبدالله نبياً ورسولاً  خاصة ً ، وأما المؤمنين أو المؤمنون : فهو مفهوم  عام يطلق على كل من آمن بالله من أهل الديانات  السماوية  ، وبناءً على هذه القاعدة يكون  مفهوم -  الذين آمنوا -   هو جزء من مفهوم المؤمنين أو المؤمنون   ، بإعتبار إنهم  آمنوا بالله وآمنوا بمحمد بن عبدالله نبياً ورسولاً ، لكن الذي  يجري عليهم من احكام الرسالة المحمدية لا يجري ولا يلزم  غيرهم من عموم من آمن بالله .

 لكن احكام النبوة المحمدية ملزمة للجميع  وهي غير أحكام الرسالة   ، والفرق بين أحكام الرسالة وأحكام النبوة  كبير وواضح  ،  فأحكام  الرسالة  تتعلق بالوظائف العملية  والعبادات والطقوس  ، في حين  تتعلق أحكام النبوة بالمفاهيم العلمية والعقلية وهذه غير هذه  بكل تأكيد   ،  إذ إن أحكام النبوة عامة مطلقة  وأحكام الرسالة خاصة  مقيدة   ..

  نعم ذكر النص فعل -  بشر -   كفعل ماض وعلقه  -  بالذين آمنوا – بشرط العمل الصالح ، والعمل الصالح  :  هو مصطلح يطلق على كل عمل الخير  ، العمل الذي يستهدف بناء الإنسان وتحقيق سعادته في الدنيا  ، من دون تمييز بين إنسان وإنسان آخر ،  لا على أساس اللون ولا على أساس العرق ولا على أساس  الدين أو الطائفة أو المذهب ، بل جعل من العمل الصالح مفهوم مطلق وهدفه الإنسان وسعادته  ، والعمل الصالح هو ليس الصلاة أو الصوم ولا هو سائر الطقوس والشعائر  ، بل إنه يعنى مطلق عنوان المعاملة الحسنة والسلوك الحسن في الحياة وفي المجتمع ، وهنا تكون الجنات التي بشر الله بها -  الذين آمنوا -  وردت في السياق ذاته وفي المعنى نفسه  .

النص يقول :  إن مصير الإنسان الذي يعمل الصالحات هو الجنة أو الجنات  ،  والبشارة حينما جاءت في النص -  للذين آمنوا  -  إنما جاءت  من باب ذكر المصداق القريب كبيان وكتوضيح وليس كإلزام وخصوص ، إذ إن كل مؤمن بالله ويعمل صالحاً فهو من أهل الجنان وله أجره عند الله ولا خوف عليه .

 نعم  ذكر النص وصف للجنات وما فيها من نعم  ، وهذا يجري في سياق الحث والتمسك بالعمل الصالح وفعله  من الذين آمنوا ، كما إنه حينما وصف التشابه في النعم والرزق في الجنة هو من أجل ذلك الهدف   ، هو قول يجري في بيان غلبة النعم وكثرتها  ، كذكر الأزواج  فيها إنما جاء في هذا السياق بدليل إنه ذكرها من دون ذكر العلاقات بينهما  ،  ليجعل منه ذكراً مطلقاً ،  في السعة وفي العطاء وفي النعمة والفضل ، وذكر الخلود في الجنات لمن يعمل الصالحات تعبير منه على أهمية العمل الصالح وما يدره في الحياة الآخرة  ، ولم يميز الله في العمل الصالح وفعله بين الذكر والأنثى بل جعل ذلك لعموم من آمن بالله واليوم الآخر ...

 

 

 

*  *   * 

 

 

 

 

[ إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها ، فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم ، وأما الذين كفروا فيقولون ماذآ أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيراً ويهدي به كثيرا ، وما يضل به إلاّ الفاسقين ]  - 26 - 

 

 

 

هذا النص يتحرك في دائرة تعميم فكرة الإيمان بعد العلم ،  أو لنقل إن الله ومن أجل إثبات الحق لا يجد  حرجاً في إستخدام  كل العناصر المؤدية إلى هذا الغرض ، والتي تساهم في عملية التوعية العلمية والمعرفية لدى الناس ، من خلال إستخدام وسائل التعليم المعروفة التي تؤدي إلى إيصال الذهن إلى المطلوب  ، فالبعوضة استُخدمت كمثل في التنبيه  إلى قدرة الله  في الخلق  ، وفي هذا الإستخدام البسيط لم يرى الله بأساً في ذلك  ، فالإشارة منه  تركزت على القدرة في الخلق لا على الحجم  ولا على غير ذلك  ، هذه القدرة في الخلق أعتبرها الله مطلقة  ،  تبدأ من أصغر مخلوق إلى أعظم مخلوق ، ولتعميم هذه الفكرة ذكر الله ان  : - الذين آمنوا يعلمون إنه الحق -  فالتركيز من الله هو بالإعتراف في قدرة الله على الخلق  ،  ثم يأتي العلم بعد ذلك بان هذا الكون بما فيه مخلوق من قبل الله ، وهذه الجدلية المعرفية مرتبطة مفهوماً بالذين آمنوا  بالله والذين يؤمنون بان الخالق لهذا الكون بما فيه  هو الله  ، وكأن الله يشير إلى المعنى الذي يسود في ألسن الناس والقائل إن - الإيمان يدعوا للعلم -  ، فالعلم  بحقيقة الخلق أثر من  تعليم الرب ، وهذا ما اشار اليه النص بقوله – انه الحق من ربهم -   ،  أي إن الذين آمنوا يعلمون إن الله هو القادر على الخلق  ،  وهذا العلم جاء من التعليم الذي تلقوه من الرب  ،  وبالضد من هذا العلم يقف  المعاندين موقف السخرية والتشكيك في إرادة الخلق التي ضربها الله مثلا  للناس بالبعوضة كمخلوق صغير وضعيف  ، وهذا دليل على ان الكفر أصله عدم العلم ، فالذين كفروا لايعلمون  ،  وعدم العلم ناتج لعدم الإيمان  ، فالإيمان يدعوا للعلم والعكس صحيح

 ...

 

 

 

 

*  *  * 

 

 

 

 

[ الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أُلئك هم الخاسرون ] -  27 - 

 

النقض  :  في اللغة ضد الإبرام ، قال البراء : والنقض : هو الإلغاء  بعد الإبرام  ، وأصله ثلاثي صحيح من نقض[ ن، ق ، ض ]  أي الغى   ، وجملة - الذين ينقضون عهد الله  -   دالة على إن الذين ينقضون ما عاهدوا الله عليه ورد في صيغة -  ميثاق -  ، و العهد  :  في الإصطلاح  إتفاق بين الله والناس  ، وهو العقد  : الذي يعني الإتفاق بين الناس بعضهم البعض   ، والصيغة الجامعة للعهد وللعقد هو الميثاق  فلا عقد من دون ميثاق ولا عهد من دون ميثاق ، والميثاق :   هو مجموعة القوانين والبنود التي يتفق عليها بين الأطراف ومهمتها تنظيم وتحديد العلاقة بينهم  ، ونقض العهد مع الله هو إلغاء للميثاق كله أو بعض بنوده وفقراته ،  والإلغاء  يؤدي إلى قطع العلاقة مع أوامر الله التي يجب ان توصل ، والقطع هذا هو الفساد في الأرض ، فإلغاء أي  من  فقرات و بنود الميثاق  المتفق عليه بين الناس وبين الله ، يؤدي إلى الفساد في الأرض ،  بإعتبار كون الميثاق يتكفل بتنظيم العلاقة بين الناس ومع الله  ،  هذا التنظيم الذي يؤدي إلى إصلاح الإنسان وعمارة الأرض  ، والتي هي غاية الميثاق والعهد الإلهي مع الناس ، ودون ذلك يكون الخسران وخيبة الأمل وفقدان المستقبل ... 

 

 

 

 

*   *   *  

 

 

 

[ كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون ] -  28 - 

 

 

                 -  كيف تكفرون بالله -  أي كيف تنكرون الله وقد كنتم  -  أمواتاً  فأحياكم  -  ، أي ولم تكونوا في الوجود أصلاّ  ،  ويجب التنبيه إلى إن  مفهوم -  أمواتاً -  هو ليس  الموت الطبيعي  المتعارف عليه[ أي فقدان الروح عن البدن ] إذ لا بدن في الأصل حتى تكون هناك روح    ، إذ  الأصل هو عدم  الوجود بالفعل    [أي عدم  الوجود المحسوس  بالفعل ]    ،  وأما مفهوم  – يميتكم –  فهو فعل دال على الموت الطبيعي المتعارف عليه  -   أي الإماتة بعد الإحياء  - [ أي فقدان الروح عن البدن ]  ، والروح  :  هي ذلك الدم المتحرك في جسم الكائن الحي ، وهي بهذا المعنى جزء من المادة  ،  بدليل قوله تعالى : [ يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ]  ،  وأوامر الله جميعها أما مادة أو تتعلق بمادة ،  وعالم الأمر الإلهي  هو عالم مادي بإمتياز     .

 

                 ومفهوم أمواتاً لا علاقة له بمعنى الموت الطبيعي إلاّ من حيث الوصف والتقريب   ، ذلك لأن متعلق الفعل فيه ولازمه هو الخلق والتكوين  بدليل قوله – فأحياكم - ،  والإحياء  :   هو الخلق من عدم ، والخلق من عدم يعني بداية  بث الروح في  البدن ،  وبعد هذا قال :  - ثم يميتكم ثم يحييكم -  والتقابل بين الموت والحياة هو تقابل موضوعي  محسوس معلوم ، فالحياة هنا تأتي بعد  الموت مباشرة  ،  والتي يُقال عنها  الحياة الآخرة  ، فهي تلك التي يكون فيها كل شيء مختلف عن الحياة الدنيا .

 

                  وقد قلنا : إن القيامة أو قيامة الإنسان تقوم  بمجرد موت الإنسان  ، وهذا هو معنى الحياة التي أشار إليها النص هنا  ، وإستعمال لفظ الموت هو للتدليل عن الإنقطاع عن العالم المحسوس بالنسبة للإنسان في الحياة الدنيا ، وذكر الحياة بعد الموت ورد للتدليل على حقيقة القيامة وعالم الآخرة  ،  ومنه نفهم معنى قوله  تعالى :  [ ثم إليه ترجعون ] والرجوع إلى الله هو الرجوع إلى العالم الأول الذي هو عالم ما قبل الخلق ..

 

 

 

 

*   *   *  

 

 

 

[  هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم ] -  29 -  

 

 

الخلق  : هو الصنع من عدم ، وأصله ثلاثي صحيح من – خ، ل ، ق -  واللفظ متعلق بفعل الوجود والتكوين ، وهوهنا يتعلق بالغاية من الفعل والوجود ، فكل مافي الأرض مخلوق من عدم أي لم يكن فكان ، وكما قلنا لابد للخلق من غاية يتعلق الفعل بها ، ومادام الخلق مرتبط بالأرض فهو حتماً يرتبط بمعنى التوازن وتمهيد الأرض  ، لتكون صالحة للحياة فيها أو عليها ، وقوله – استوى -  ، والإستواء :  ليس بمعنى القيام والوقوف بل هو الإنتهاء ، والمراد منه أي أنتهى من تسوية وتنظيم السماء فجعلها – سبع سماوات -  أي سبع منظومات متشكلة من كواكب وأجرام تسير وتتحرك وفق قواعد محددة بحيث لاتصطدم مع بعض ولا يزاحم بعضها بعضا  .

 ولفظة – سبع – لاتعني العدد الصحيح في الحساب ، بل إنه إستطراد جاء في صيغة الإستعارة المجازية التي تعني الوصف في السعة والتنظيم والدقة لوضوح المعلوم وهو الأرض ، وقياس ذلك في ميزان العلم وقوانينه ، ومن هنا قال : [ وهو بكل شيء عليم ] أي عالم بكل تفاصيل عملية الخلق ، عالم بكل أشراطها وقوانينها ونتائجها ، معتبراً هذه العملية الجبارة برمتها خُلقت من أجل خير الإنسان وسعادته ..

 

 

[ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ،  ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ قال : إني أعلم مالاتعلمون !! ]  -  30 -  

 

   هذا النص يشير من الناحية المعرفية  للتحول الذي طرء على التغيير في  حياة الكائن البشري  ، أي التحول من الطبيعة البشرية إلى الطبيعة الإنسانية   .

  ومعلوم إن الكائن البشري مخلوق من عدم  ، وأما الإنسان فهو تحول في حياة وطبيعة الكائن البشري هذا ، وهذا التحول أطلق عليه النص مفهوم -  الجعل  -  والجعل :   لغة هو التطور والتحول  ،  وهو موضوعياً يعني الصيرورة فيما بعد الخلق     ، و الفرق بين الخلق والجعل يظهر بكون  :   

 

الخلق  :  هو  بداية النشأة والتكوين  ،  أي بداية الوجود من العدم  ، والكائن البشري حينما خلق لم يكن موجوداً بالفعل ،  فكانت بداية خلقه من طين ثم   بث فيها الروح  ، وطبيعة الكائن البشري المخلوق هو الطبيعة الحيوانية من الغرائز والشهوات والتي بها يتحرك وبها يفعل ويقيم علاقاته تبعاً لشهواته وغرائزه وهو في هذا يشبه كل الكائنات الحية  .

   

 

                 وأما الجعل  : فهو تحول في طبيعة هذا الكائن البشري  ، وعملية التحول : هي تطور داخلي حدث لهذا الكائن تطور في العقل و في الوعي العقلي وفي الإرادة ، هذا التطور أدى إلى تحكم هذا الكائن بغرائزه وشهواته لمصلحة إرادة العقل  ، وقد أشار الله لهذا التحول في صيغة  : [ إني جاعل في الأرض خليفة ]  ،  والجعل أصله    فعل ثلاثي صحيح من  – جعل - ، وإستخدام أسم الفاعل هنا لوقوع  فعل التطور و التحول بالفعل في حياة وطبيعة الكائن البشري ليصبح ويكون إنساناً  ،  من خلال تطور قوآه ومداركه العقلية لكي تستوعب القوانين والأنظمة وتتحكم بإرادة الأمر والنهي والإختيار  ، ومن خلال هذا التحول أصبح بمقدوره العمل والتحرك والبناء وفقاً  لما يحقق نماءه وسعادتة وتقدمه  ، لكن عملية التحول هذه مرت بمراحل متعددة وأزمنه متعددة  لاندري مدآها  وكيفيتها  ، عاش فيها الكائن البشري صراعاً  مع الغير ومع قوى الطبيعة ، وكان صراعاً دموياً في الغالب أعتمد على القتل وسفك الدماء  من أجل تحقيق رغباته وشهواته  .

                  في ظل هذا  الواقع  جاء الإستفهام الإنكاري من الملائكة منسجماً مع واقع الحال وليس غريباً عنه ، لأن الخلافة عن الله في الأرض تقوم على العدل والإنصاف  في تطبيق القوانين والعمل بها   ، ولما كان ذلك الكائن قد مارس القتل وسفك الدماء ،  فهو لذلك لا يصلح لكي يكون خليفة لله في الأرض  هذا -  من وجهة نظر الملائكة  -  .

                   ونحن نقول : إن الإستنكار هذا منهم  طبيعي لأنه أصطحب وأخذ بعين الإعتبار واقع حال هذا الكائن البشري وما كان يمارسه من أعمال  وقتل وجريمة ، ومثل هذا  الكائن لا يصح ان يكون – خليفة – لله  ،  من هنا جاء هذا الإستنكار  ،  وهو إن أخذناه في سياقه الموضوعي فهو إستنكار وجيه .

                  

                  والإستنكار كما نفهمه هو إستغراق : في المعنى أي إن من يتولى دور الخلافة عن الله وتنظيم وعمارة الأرض يحتاج إلى التقوى والطاعة والإنقياد لأوامر الله ، أي  إن المستخلف يجب أن يعمل وفقاً لما يأمر به ويريده الله ، لذلك قالوا : [ ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ]  ، أي إننا نحن أحق بهذا الدور من هذا الكائن الدموي الشرير   ..

 

                 طبعاً يجب القول بان - دور الخلافة -  عن الله في الأرض ليس بالضرورة إن المستخلف متقياً فقط ، بل يجب أن يكون المستخلف عالماً وعاقلاً ومتقياً  ،  أعني إن صفة التقوى وحدها لا تجعل من صاحبها خليفة ذلك لأن كثيراً من الأتقياء لا يصلحون ليكونوا خلفاء لله ، فالتقوى وحدها لاتؤدي الغرض في إدارة شؤون الحياة وتنظيم السلوك  العام ،  نعم التقوى لازمه ولكن لزومها يجب ان يكون مصحوباً بالعلم والعقل ، وهذا ما أراد النص بيانه من خلال حذف فكرة الطاعة العمياء وتنفيذ الأوامر من دون علم وقناعة ووعي ، وهذا ما لم يلاحظه الملائكة في إنكارهم ، فهم لم يلاحظوا التطور الداخلي في الوعي والإرادة والتحكم العقلي لهذا الكائن .

 

                  ولهذا قال إيضاً  : - إني أعلم ما لاتعلمون -  ، وهو هنا ينفي ان يكون المستخلف عنه متقياً مطيعاً وحسب ، بل جعل ذلك من اللوازم التابعة للعلم والعقل ، خاصة في مجال إدارة الحياة وعمارة الأرض ، وهذه خاصية يلزمها النظر والإرادة والإختيار  ،  وليس الطاعة والخضوع  والإنقياد وتلبية الأمر فقط  من دون علم ووعي ، وهذا منه تعالى تنبيه إلى أهمية الإختيار لمن يتصدى لقيادة المجتمع والحياة ....

                  

                  

                  

                 *  *  * 

                  

                  

                 [  قال  :   - وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة ، فقال : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين؟   *  قالوا : سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ]  - 31 ، 32 - 

                  

                  

                 بعد الكلام  المتقدم عن مفهوم جعل الإنسان خليفة لله على الأرض ، جاء النص هنا ليؤكد  : إن عملية الإستخلاف وطبيعتها ترتبط بالعلم والعقل والمعرفة إرتباط معلول بعلته و إرتباط وجود بعدم   ، ولايرتبط الإستخلاف بمدى الطاعة والخضوع والإنقياد  ، لأن قضية الاستخلاف لله تقوم على أساس  العلم والقدرة على الإختيار  بين الأشياء  ، وليس  على أساس التقوى وحسب  .

                  فالتقوى  :  وإن كانت ضرورية وهامة لصيانة الفرد والمجتمع من الخطأ ، لكنها تظل قضية شخصية وليست قضية عملية ، فالتقوى وحُسن العبادة من دون العلم وحدهما  لايؤهلان الفرد ليكون قادراً على قيادة وتنظيم المجتمع ، وهذا ماأراد النص بيانه وتوضيحه ، ولو دخلنا عالم النص لوجدنا فيه التالي :

                 1-  إن الله -  علم آدم الأسماء كلها   -  وتعليم آدم  هذا مرتبط بقدرت آدم  العقلية على التقبل والتأمل والنظر ، وجملة -  علم آدم -   جملة خبرية  متعلقة بمجموعة النظم والإشارات التي تساعد في عملية التعرف على الأشياء  ،  التعرف على أسمائها وصفاتها والفائدة منها  ،  ومن وجودها ومدى الحاجة إليها .

                 2 -   ثم إن -  آدم  -  هو أسم جنس لا أسم نوع ، والمقصود به  مطلق الكائن البشري الذي خلقه الله من أديم التراب ،  والله حين خلق جنس آدم لم يكن الخلق منه على مستوى الفرد والنوع العددي ، بل ان هذا الخلق وصف في الإستغراق الدال على الكثرة  في العدد وفي النوع   ، وجنس آدم لا يعني  الذكر دون الأنثى كما يظن البعض ،  بل يعني الذكر والأنثى على السواء ، وأما - حواء  -  فلا وجود لها في الكتاب المجيد  ،  لكنها موجودة في الخيال وفي الميثولوجيا وفي الوهم والخرافة العتيقة .

                 3 -  والله حين خلق آدم الجنس خلقه من ذكر وأنثى كثيراً ومتعدداً ومختلفاً  في اللون وفي اللغة وفي البيئة والمكان  .

                  

                 *  نعم لقد دخل آدم النوع تجربة في الإعداد والتوجيه لمعرفة الوعي والقدرة العقلية والذهنية لديه  ، وبالتأكيد لم تكن تجربة الإعداد تشمل كل الجنس البشري بل كانت التجربة  لبعض النوع منه  ، ومهمة التجربة كما يظهر الحكم  بأهلية هذا الكائن ليكون خليفة لله على الأرض .

                  

                 قال تعالى  :   -  وعلم آدم الأسماء كلها -  والأسماء  :  هي الموجودات المخلوقة بالفعل  على الأرض من الكائنات الحية وغير الحية ،   ومعلوم إن معرفة آدم بهذه الأسماء هي معرفة ذاتية ، تولدت بشكل طبيعي لدى آدم الذي عاش صراعاً مع هذه القوى ، ومن خلال ذلك تطور وعيه المعرفي والعلمي بهذه الموجودات وبماهيتها  ، وتعرف على خيرها وشرها  ، وأستطاع ان يميز بين ما ينفعه  منها  وما يضره ، واضعاً لهذه الموجودات أسماء وصفات تُعرف بها وتتميز بها عن غيرها ، هذا الشيء هو الذي جعل آدم عالماً بماهية وطبيعة المخلوقات الأرضية التي هو جزء منها ،  لكن الملائكة التي أعترضت على خلافته لا تعرف العالم الأرضي بمخلوقاته وموجوداته ، وعدم العلم منها طبيعي كونها مخلوقات من عالم آخر ومن ماهية أخرى  ،  وقد أختبر الله قدراتهم العلمية في معرفة الموجودات الأرضية  فكان جوابهم  :  -  سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علمتنا –   ،  وهنا أثبت الله إن إستنكارهم كان خاطئاً من وجهين : 

                 الأول :  إن الملائكة  لها  وظيفة في التسبيح وفي تبليغ الأوامر من الله ، وهي لذلك مخلوقات مجبرة لا تستطيع  الإختيار ولا تملك الإرادة  .

                 والثاني :  إن الملائكة ليست من المخلوقات الأرضية  أو الكائنات الأرضية بحيث يقع عليها ما يقع لهذه الكائنات البشرية ، ولهذا فلايتاح لها ان تدير شؤون عالم غير عالمها ،  يُظهر  هذا محدودية علمها وقدرتها في هذا الشأن بدليل قولهم المتقدم ..

                  

                        

 

 

       *   *   * 

 

 

 

[ قال : يا آدم أنبئهم بأسمائهم ، فلما أنبأهم بأسمائهم ، قال : ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض ، وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ]  - 33 - 

 

الإنباء :  لغة هي الإخبار الصادق الذي لا يحتمل الكذب ، وتوجيه الخطاب لأدم كي يخبر الملائكة بالأسماء محل الجدل ، دال على ثقة الله وعلمه بهذا الكائن حين جعله خليفة في الأرض ، قال :  -  فلما أنبأهم -  على نحو الحقيقة جاء التأكيد منه تعالى على نحو قاطع -  ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض -  ، أي أعلم إن عملية الاستخلاف هذه تتم وفق معايير وشروط موضوعية أساسها  العلم بالمستخلف والعلم بماتؤدي إليه عملية الاستخلاف ككل ، أي إنها ليست عملية عبثية أو عملية ترجيحية للإختبار فقط  .

 

والأسماء محل الجدل والإختبار هي :

1 -  أما ان تعني مطلق اسماء الموجودات المخلوقة في الطبيعة والأرض وهذا هو الراجح والذي يؤيده أخبار مروية عن الإمام الصادق  .

2 -  وإما ان يكون معناها خصوص أسماء الملائكة بدلالة قوله – أنبأهم بأسمائهم -  والمخاطب القريب كما هو ظاهر  في فعل-  أنبأ -   هم الملائكة ، والباء فيها  للتخصيص أي خصوص أسمائهم  ، أي أخبرهم بأسمائهم واحداً بعد واحد ، [  والإخبار على هذا النحو مشعر بحقيقة كون  علم هذا الكائن  مستقل وذاتي  ، وفي المقابل ظهر عجز  الملائكة  في بلوغ ذلك العلم وتحصيله ]  .

والجمع في صيغة -  أعلم غيب.. -    دليل على تحقق المُراد في القضية محل البحث ، أي  [ ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ] ، والربط بين علم الغيب وعملية الاستخلاف ربط في المتعلق  الذي اصله واحد هنا ،  ويعني هذا صحة توكيل  الكائن المستخلف ليقوم بعملية البناء والإعمار في الأرض ، التي هي أصل الوجود وغايته ، وفي الجملة يكون ذكر علم الغيب  هنا كتوكيد على قدرة الله وإرادته ..

 

 

*   *   * 

 

 

 

[ وإذ قلنا للملائكة أسجدوا لأدم فسجدوا إلاّ إبليس أبى وأستكبر وكان من الكافرين ] -  34 -

 

 

 

                 وإذ قلنا  للملائكة أسجدوا لأدم   ، فعل -  قلنا – فعل ماضي ، وفعل – أسجدوا – فعل أمر  ، والجمع بين الماضي والحاضر في محل واحد هو للتفصيل والبيان ، و- أدم - في هذا النص  هو -  أدم الترابي  -  ذلك الكائن البشري الأول  الذي خلقه الله من طين ، وهو ليس -  أدم العقلي -  الذي صار خليفة لله في الأرض  ، فالسجود المطلوب هو لأدم الترابي  ، وفعل - أسجدوا – لا يعني السجود المتعارف عليه -  أي بتعفير الجبين على الأرض -  كما نفعل في الصلاة ، بل إن السجود هنا :  هو الإعتراف بهذا المخلوق الجديد ، ولذلك بادرت  الملائكة بالإعتراف بهذا المخلوق ، لأن الملائكة تفعل ما يأمرها الله به   ،  لذلك قال : - فسجدوا – أي فسجد الملائكة إمتثالاً وطاعة لأمر الله ، ويجب ان نعرف إن الخطاب في هذا النص عام  ورد بصيغة الخاص بدليل ورود ذكر الجن في البين ،  أي إن خطاب العموم هذا لجميع المخلوقات التي حضرت الأمر بالسجود  ، لكن الجن رفض الإعتراف بهذا الكائن الجديد ، معللاً هذا الرفض بداعي الأفضلية في الخلق  ، دل على ذلك قوله الصريح -  ءأسجد لما خلقت طينا -  بلحاظ كون الجن مخلوق من نار -  والجان خلقناه من نار السموم -   ، والنار أفضل في الماهية من الطين  ، وفي صيغة التفاضل هذه كذلك قال : - خلقتني من نار وخلقته من طين -  ، وهذا القياس في الرتبة والدرجة  أوجد في نفسه التكبر والرفض قال  :  -  فأبى وأستكبر -  إعتزازاً بذاته وبمادته المصنوع منها ولم يعترف ، وفعل -  أستكبر -   أصله من الكبر أي التكبر أو الإستكبار الدال على الطغيان وعصيان الأوامر لذلك كان – من الكافرين -  أي كان من الرافضين لوجود هذا الكائن الجديد  ...

 

 

 

*  *  * 

 

 

 

[  وقلنا : يآدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ] -  35  - 

 

 

الياء للإستغراق ، والأمر الإلهي لأدم ان يسكن هو وزوجه الجنة أمر وجوبي ، والغرض منه بيان ماهية هذا الكائن وبيان ردات فعله تجاه ما يؤمر به  ، [  والجنة هي  ليست الجنة الموعودة جنة عدن ، بل هي مكان في الأرض جمع الله فيها من كل الثمرات والخيرات والرزق الذي خلقه الله في مكان ومحل واحد ، وإطلاق لفظ الجنة عليه من باب المجاز لتنوع الخيرات فيها والثمرات ]  ، وأدم وزوجه وردا  على نحو الإستغراق والمثال لا العدد والزوج  المعدود   ، وذكرهما في سياق النص  بيان لتجربة الإختبار التي قصدها الله وأرادها في الفعل ورد الفعل والإستجابة من هذا المخلوق .

 لذلك قال تعالى  :  -  وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة –  ، والتقييد للأمر  المطلق كان بمثابة المعرفة المقصودة لردات فعل أدم تجاه الأمر و النهي ، معتبراً  الإقتراب من الشجرة مورد النهي  عصيان للأمر ، وعصيان الأمر ظلم بحق العاصي ،  أي إن العاصي يظلم نفسه بعدم الإمتثال للأوامر ، قال : - فتكونا من الظالمين -   ...

 

 

*   *   * 

 

 

 

 

[ فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه ، وقلنا : أهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ]  -  36  -  

 

 

  فعل – أزل –  من الزلل أي الخبط وعدم التركيز والميل والإنحراف عن الجادة الصحيحة ،  و- الشيطان -  لغة من شاط  وهو هنا بمعنى الغرائز والشهوات لدى الكائن البشري ، والشيطان ليس كائناً منفصلاً عن الطبيعة البشرية بل هو منها  ، وجملة -  فأزلهما الشيطان -  جملة خبرية تدل على غلبة الغرائزية على العقلية لدى  أدم  ،  ولذلك فهو لم يمتثل للأمر بالنهي عن الإقتراب  من الشجرة  ، مما أدى إلى خروج أدم من الجنة  محل التجربة ،  خروج  بعد العصيان وعدم الإمتثال للأوامر ، لذلك قال تعالى : -  أهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين -  وفعل  -  أهبطوا -    :  من هبط  والهبوط يعني الإنخفاض في الدرجة والمنزلة  ، وهو هنا ليس بمعنى النزول من أعلى  كما قد يتوهم  وإن كان من مصاديقه  ، بل هو هنا يعني الإنتقال من مكان محدد يتبع نظاماً  معيناً  في  الأوامر والنواهي ، إلى مكان أوسع يكون الأمر والنهي فيه خاضعاً لإرادة الإنسان وإختياره ، ومع الأمر بالهبوط تتجلى الحكمة من الخلق في صيرورة هذا الكائن مريداً مختاراً ،  وليس مجبراً ومسيراً  ، وجملة -  بعضكم لبعض عدو – إشارة إلى الصراع الذي سيعيشه هذا الكائن مع رغباته وشهواته [ وهو صراع ذاتي  ] وهذا الصراع سيستمر مع وجود هذا الكائن على الأرض ، وهو  صراع بين إرادة الخير والشر وصراع بين إرادة الحق والباطل ، وصفة – العدو –  وردت  للإستغراق في وصف الحال في كل زمان وكل مكان  ،  وهو وصف لما يخص علاقة هذا الكائن بمحيطه وبنزوعاته .

 

   ملاحظة : يعتبر العدل والحرية والسلام من الأهداف المطلوبة في ذاتها لذاتها ، ولكي تتحقق على الأرض  ، يتطلب وجودها سيادة للقانون الذي يلزمه هزيمة للإستبداد والدكتاتورية والظلم ، ولأن منطق الصراع في الأرض منطق  مادي موضوعي لذلك جُعلت - الأرض -  مستقراً لهذا الكائن في إدارة صراعه وإنجاز قضاياه  وتحقيق مطالبه  ، وكونها  – متاع -   فهي مكان للتمتع بالحياة لما تحتويه من نعم وخيرات ، لكنه متاع إلى حين وهذا منه تذكير باليوم الأخر اليوم الموعود ...

 

 

 

*  *  * 

 

 

 

[ فتلقى أدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ] 37 - 

 

 

التلقي هو التلقين ، و - كلمات –  بصيغة التنكير تعني مجموعة القيم والقواعد التي تحدد سلوك وعمل أدم في الحياة ، أي إن أدم تلقى  أو تلقن من مربيه – ربه -  هذه القواعد التي  هي : الوصايا العشر التي وصى بها الرب جميع الأنبياء والرسل ، والتي وردت مرتبةً في سورة الأنعام من 151 إلى 153 ،  و على النحو التالي    :

   الكلمة الأولى : هي التوحيد وعدم الشرك .

 والكلمة الثاني :  هي بر الوالدين والإحسان إليهما  .

  والكلمة الثالثة :  هي تحريم قتل الأولاد خشية الفقر والإملاق .

 والكلمة الرابعة  :  هي تحريم فعل وإرتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن .

  والكلمة الخامسة :  هي تحريم القتل إلاّ بالحق   .

   والكلمة السادسة :  هي حماية مال اليتيم من التعدي وحماية اليتامى من الظلم الذي يلحق بهم  .

  والكلمة السابعة  :  هي العدل في الميزان وفي الأحكام والعدل في الحياة  .

    والكلمة الثامنة  :  هي الصدق في القول والعمل وتحريم الكذب في القول والعمل  .

  والكلمة التاسعة :  هي الوفاء بالعهد والوفاء بالإلتزامات وعدم نقض المواثيق من غير سبب  .

  والكلمة العاشرة  :  هي الدعوة للوحدة ونبذ الخلاف وحماية الفكر وحماية الحقوق وحماية الحياة من التعدي والظلم وحماية البيئة من التعسف والخرق   .     

هذه الكلمات التي تلقاها أدم من ربه وتعهد بالإلتزام والعمل بها ، هي التي أهلت أدم من جديد ، ومن خلالها  جدد الله الثقة به وتاب عليه  من العصيان وعدم إمتثال الأوامر ..

 

ملاحظة :

 

سياق النص وعمومه مشعران بأهمية قبول الآخر المختلف ، وعدم الإنجرار إلى ردات الإنفعال المتعجلة التي تحدث في الغالب نتيجة  لتناقض الأراء وإختلافها ، فالرب  هنا أراد تعليم الخلائق على الصبر وعلى الحكمة في إتخاذ المواقف من الغير  في القبول والرفض  ، فالمطلوب هو :

1-  طرح تأثيرات العواطف والإنتماءات الضيقة جانباً  .

2 – والخروج من دائرة الإنفعال  والإجراءات المتعجلة والسماح للعقل ان يأخذ دوره اللازم  .

 

فارادة الرب تريد عدم الإحتكام للإنفعال والغضب  الذي تخلقه العواطف الجياشه الغير منضبطة وكذا تصنعه المرحلة وضغوطاتها   ، فالنظر إلى الأمام وتحرير الفعل من واقع الزمان والمكان المحددين هو مُراد  الرب  ، يظهر هذا في موقفه من أدم  حين مارس الخطيئة ، إذ إنه لم يستحظر  إغراءات العقاب  ، بل قدم عوضاً عنها مجموعة قوانين تعيد لأدم توازنه وشخصيته ، وهي من وجهة نظر أخرى تبدو تعاليم الرب لأدم وكأنها بمثابة التنبيه  من خطورة الإنفعال ،  وعليه يجب ان يكون مرناً في مواجهات التحديات والمشكلات  التي تعترضه ،  لكي يكون إيجابياً في سعيه للخير ، ونحن نعلم  ان  -  لا صواب مطلق أو لا خطأ مطلق -  هذا بالنسبة للطبيعة الأدمية  ،   وهذا ما أكده الرب في دعوته للعمل الصالح وأثره في تحرير أدم من الذاتية ، وعلى ضوء ذلك  قبل الرب توبة أدم ، بعدما وجد فيه العزيمة والإخلاص والصدق ، ومعلوم إن فعل -  تاب -  فعل ثلاثي صحيح ، يأتي في السياق صفة وأسماً دالاً على معناه ، ولذلك كان  -  هو التواب الرحيم -  ورحمة الله  جاءت في صيغة الصفة المضافة التي سبقت عقوبته ، وذلك لأهمية العدل والعفو والسماح للمخطأ في ان يعيش لكي يعالج خطأه ...

    

قلنا : أهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هُدى فمن تبع هُداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ] -  38 - 

 

جملة -  أهبطوا منها ... -  جملة خبرية في صيغة الجمع لأدم  ومن معه ، لكي يتركوا دار التجربة والإختبار ويعيشوا دار الواقع  المؤهلة لحمله وحمايته  ، والتي من أجلها خُلق  ، فالخلق في البدء كان من أجل بناء الأرض وعمارتها ، ولكي يكون ذلك كذلك : لابد لأدم ان يعيش صراعها وعنفها بكل وعيه وبكل قدرته ، إذ لم يكن مطلوباً منه في البدء وعلى الدوام ان يعيش الكسل والدعة والخمول ، فالحياة السلبية مرفوضة من وجهة نظر الله لأنها لاتنتج الإبداع ولا تصنع الحياة المثمرة البناءه ، من أجل ذلك وعليه كان يجب لأدم ان يعيش الحياة بكل تناقضاتها ومشكلاتها وردات فعلها ومدى تحمله وقدرته على تجاوز ذلك بنجاح ، وحين جاء الأمر الربوبي – بترك محل الإختبار والتجربة -  واصل الرب رعايته وتوجيهه قائلاً : - فإما يأتينكم من هدى ... -  أي إنكم لن تتركوا لوحدكم في مواجهة قدركم ، بل سنمدكم بكل أسباب القوة وبكل عناصر الفعل الإيجابي ، الذي يمكنكم فيه تسخير ما في الأرض لخدمتكم ولخدمة مشروعكم في البناء والإعمار ،  وموضوعة الهداية موضوعة مشتركة وفاعلها الله وأدم في الأمر والنهي ، لذلك قال متابعاً : - فمن تبع هُداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون -  ، والملاك في الطمأنينة هو بالعمل وفق القواعد ووفق الوصايا والأصول المقررة ، لذلك يكون لا خوف من الضلال ولا خوف من الإنحراف ولا خوف من إرتكاب الحماقات ، وهم في الأخرة لا يحزنون بل يفرحون بما قدمت أيديهم إتباعاً للهدى وعملاً به  ...    

 

 

 

*  *   *  

 

 

 

[ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ]  -  39 - 

 

الكفر كما بينا في صفحات سابقة له معاني متنوعة ترتبط بموضوعه وسياقه ، والكفر هنا يعني الإنكار  ، كما إن الكذب هنا يعني التزييف  ، وظاهر النص يتحدث عن الجماعة التي تُنكر وتزيف آيات الله البينات  ، والآيات هي جمع آية والمُراد بها  كل شيء  معجز أو هي كل شيء لا يستطيع الإنسان الإتيان بمثله ، ولهذا عرفت الآية بأنها المعجزة  ، والآية في لسان النص عبارة عن  كل أمر تكويني ، فخلق السماء آية وخلق الإنسان آية  وو ...ألخ  ، والغيب هو آية ونكران الغيب هو نكران للآيات ، ولهذا ربط الله الكفر بالآيات وبين العقاب المترتب على ذلك ، فجعل النار للمنكرين مثوى لهم خالدين فيها ، وقد مربنا شرحاً لمعنى الخلود في النار ومُراده فلا نُعيد ..

ملاحظة :

نرى إن النص يتناول مفهوم التقابل بين الإيمان والكفر ، ونكران الإيمان هو تكذيب للحقايق الكونية ولعالم الوجود ، والتقابل كما نفهمه من وجهة نظر الكافرين ، هو عدم إتباع أو لنقل عدم إلتزام بمبدأ الهدى ، والذي يجر إلى رفض مبدأ الخلق والخالقية ، ولذلك وجه النص الأنظار لهذا المضمون ، في سياق توجيه لطبيعة الكفر والتكذيب ، وهذا التوجيه تعيين للواقع العملي المطلوب وهو كذلك تنويه للخروج من دائرة التنظير ، فنكران الحقايق والتكذيب بها هو نكران للواقع الطبيعي ولنظمه وقوانينه ، وهذا مالم يتم وفق دليل وعلم وحجة ، يكون صاحبه من أهل النار بل مخلدٌ فيها ، أي إن المطلوب هو الدليل في الرفض وفي القبول ، ...

 

 

 

*  *   *  

 

 

 

  [ يابني إسرائيل أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أُوف بعهدكم وإيآي فارهبون ] -   40 - 

 

 

و -  إسرائيل –  الصفة لفظة مركبة من ، -  إسرا -  بمعنى العبد ، و – إيل -  بمعنى الله ، أي إن إسرائيل هو : -  عبدالله -   ، و- إسرائيل – الأسم يعني : - يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ) ع ( -  ، وبني إسرائيل هم بنو يعقوب ، والخطاب في النص للجمع ، ويعني كل بني إسرائيل من الأولين والأخرين ، قال -  أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم -  ، ومفهوم النعمة التي أنعم بها عليهم  هي  نعمة : -  النبوة والرسالة -  إذ جعل  منهم  الأنبياء والرسل ، وأختارهم للقيام بمهمات النبوة والرسالة وتنفيذها وكالة عنه تعالى ، هذه هي النعمة العظيمة التي خصهم بها دون سوآهم  ، وبها فضلهم  على كثير ممن خلق تفضيلا   ، وفعل – أذكروا – يعني بلغوا وانشروا هذه النعم على العالمين ، بلحاظ كون التفضيل بتلك النعم لا يخصهم  وحدهم فهو  لهم ولغيرهم من بني الإنسان ، ، والنعمة هذه هي شرف لهم وتميز كما إنها عهد وميثاق بين طرفين هما :

1 -  الله من جهة كونه صاحب هذه النعم وملهمها ومبدعها .

2 – بنو إسرائيل من جهة ثانية الذين أصطفاهم  وفضلهم بها على العالمين .

والعهد صفة شرعية قانونية تتم وفق شروط ومعايير  ، تكون في صيغتها الإجرائية على نحو ميثاق بين طرفين ، وأي مخالفة لشروط وفقرات الميثاق هذا يُعد ذلك خروجاً على العهد وما أُلتزم به ، والعهد بطبيعته الإجرائية ملزم للطرفين والتحرر من هذا الإلتزام يلزمه موافقة من الطرفين ، إذ لا يجوز الخروج عليه من دون إذن أو موافقة الطرف الآخر ، والإلزام صفة شرعية  :  وهي  تذكير بأهمية العهد قبل إجراءه أو الموافقة عليه ، ولهذا نرى ذلك جلياً في قوله تعالى : -  وأُوفوا بعهدي أوف بعهدكم - ، فالمطلوب هو إلتزام متقابل ، ولا يعقل ان نطالب  من  طرف الإلتزام  بأداء ما عليه من واجبات واستحقاقات دون إلزام الطرف الأخر بها ، وهنا يأخذ التذكير هذا شكل الإجراء الحاسم في اللحظة التي تتم فيها عملية الإخلال بمشروعية العهد وميثاقه ، فالعهد وما يتبعه ليس عملية عبثية أو مزاجية تابعة للتقلبات والأهواء ، بل هو مشروع متكامل وقانون فيه عقوبات وجزاءات ، وهذا ما يجب النظر إليه بعين الرعاية والإعتبار ، خاصة وإن الطرف الأول الذي هو الله صاحب النفوذ والقدرة المطلقة ، لذلك قال في هذا الشأن : - وإيآي فارهبون -  ، والرهبة : هي الخشية وهي الخوف ، وقيل : بل هي الخوف المركب من الكلمة ومعناها ، أي الخوف من قدرة الله  والعلم بذلك على الهلاك والإهلاك  ....

    

 

 

*   *   * 

 

 

 

[  وأمنوا بما أنزلت مُصدقاً لما معكم ، ولا تكونوا أول كافر به ، ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلا وإياي فاتقون ] -  41 -  

 

أبتدأ الخطاب هنا بالدعوة للإيمان والتصديق بالذي أنزله الله مؤكداً وموثقاً للذي نزل عليكم ، وفي هذا المجال قال تعالى : -  وأمنوا بما أنزلت مُصدقاً لما معكم -  ، فسياق الكلام في النص وظاهره ،  هو دعوة للإعتراف بإن الإيمان في ذلك واحد  غير مجزء ،  ووحدة الإيمان  كما هي منتظمة في سُلم وفي سلك واحد ، بمعنى نفي التفكيك والتفريق في موضوعة الإيمان وفي طبيعته وفي المطلوب منه  ، أعني الوحدة بين الإيمان في المتقدم و الإيمان  في المتأخر من الكتب والأنبياء والرسل   ، بإعتبار كون مصدر الإيمان وغايته واحدة في هذا الشأن ، فالإيمان بالمتقدم يلزمه تصديق بالإيمان بالاحق ، والإيمان المطلوب : هو الإيمان بصحة المُنزل وصحة صدوره ، وبأنه صادر من مشكاة واحدة ، لهذا يلزم ان يُصدق بعضه بعضاً ، وهذا ليس من قبيل قول أهل الكلام بل هو مُراد صاحب التنزيل ، وقد خص  – بني إسرائيل –  في البيان دون سواهم لإعتبارات ذكرناها  ، منها كونهم أهل كتاب ،  و منهم كذلك عامة الأنبياء والرسل ، ولهذا فهم أولى من غيرهم بالتصديق بما نزل من كتاب وحكمة ، سيما وإن هذا النازل يُصدق بالذي  معهم  ، وكما قلنا  :  فالهدف منه تحقيق وحدة الإيمان ووحدة مصدر الإيمان وغايته  ، والنص يُركز على أهمية ذلك في سياق تركيزه  على وحدة الرسالات  والكتب  ، وذلك يستلزم الإيمان لا الكفر بها وعدم التصديق أو  الرفض لها ، ، فالرفض يعني رفضاً لمفهوم النبوة والرسالة من أصل لما بينهما  من ترابط وتداخل ، لذلك قال منوهاً في هذا السياق : - ولا تكونوا أول كافر به – في صيغة النفي والتوكيد  المعرفي ، ثم تابع في السياق نفسه قائلاً  : - ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلا -  أي إن الإيمان الذي نطلبه ليس داخلاً في باب التجارة والمساومات التجارية من  البيع والشراء ،  لأن الإيمان هنا متعلقه الله وآيات الله وهذه ليست من الأشياء التي يقع فيها بيع وشراء ،  إذ مهما كان الثمن المدفوع في هذا المجال فإنه ثمن بخس  ، قليل الفائدة لذلك نعته بالقول إنه  – ثمناً قليلا-  ، وهذا  إحتراز  قدمه الله لبني إسرائيل لكي لايدخلوا الإيمان بالله وبانبياءه ورسله في الصفقات المادية التجارية ،  فذلك غير هذا في الماهية وفي الطبيعة وفي الغاية ، وتخصيص بني إسرائيل في المقام إشعار منه بطبيعة المسؤولية الملقات على عاتقهم ولعلمه بهم ، جاعلاً من التخصيص عنصراً مضافاً ،  يُحتم عليهم القيام بما أُوكل إليهم ، لذلك قال : - وإياي فاتقون -  رابطاً بين ذلك الإيمان وبين الوقاية من عدم التصديق به حماية لهم ولما هو مطلوب منهم بالفعل ... 

 

 

 

 

*  *  *

 

 

 

 

[  ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ] -  42 - 

 

     -  لا تلبسوا –  أصلها من الإلباس بمعنى الخلط والتمويه  ، وجملة : - ولاتلبسوا الحق بالباطل -  أي لا تخلطوا  الحق وقيمه في  الباطل وزواياه ، فيظهر من ذلك وكأن الحق هو الباطل ، والإلباس يجري  ليس فقط في الجانب النظري والفكري بل وفي الجانب العملي السلوكي إيضاً  ، يتم هذا من جهة الواقع حين يكون الكلام عن الحق بلغة الباطل في الإستخدام وفي التوظيف ، وبذلك يتم المُراد من  تشويش الذهن والعقل معاً لدى المتلقي ، بحيث تبدو وكأن دعوة الحق ماهي إلاّ دعوة باطل ، وطبعاً يتم هذا وفق منهج وعمل كيدي مقصود بذاته لغيره  ، واللبس والتلبيس في لغة العرب المتعلق فيها وبها دائماً المُخاطب سواء أكان الفرد  أو  الجماعة ،  لذلك قال في السياق  : - ولا تلبسوا .. - أي ولا تخلطوا على الناس مفاهيم الحق  وكأنها الباطل  ، متبعاً ذلك بالقول : - وتكتموا الحق -  ،  [ وفعل -  كتم - يدل على الإخفاء دون الإظهار في الشكل والصورة والصوت ]  ، أي إخفاء في الدال والمدلول والدلالة  ، لذلك  قال ولا تكتموا الحق ، والحق هنا هو التنزيل الذي جاء  مصدقاً  لما هو موجود بالفعل من الكتب ومبينٌ لها ، فإخفاء  الحق هو  في إلباسه ثوب الباطل والحديث عن الحق في هذا اللباس  ، هذا مع العلم بإن الحق ورد في صيغة تأكيد العلم به قال : - وأنتم تعلمون – أي إنكم تعلمون إنه الحق ومع ذلك تلبسونه ثوب الباطل إخفاءاً له كي لا يتعرف عليه الناس فينجذبوا إليه  ...

 

 

 

*  *  * 

 

 

 

[ وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ]  -  43 -  

 

 

                 أقيموا -  الفعل في صيغة الجمع يعني التشييد والبناء ومفردها -  أقم –  ، و إضافت - الصلاة – إلى الفعل  من باب التعريف بالمُراد ، والصلاة هي الصلة بين العبد وربه ، وهي الصلة بين الإنسان وأخيه الإنسان ، والأصل فيها  من الوصل ضد القطع ، وقيل  : هي الدعاء  لغةً  ، وفي الإصطلاح  :  قيل هي مجموعة الأعمال المخصوصة التي يؤديها الفرد بنية التقرب إلى الله ، والأمر بالصلاة متعلق بما تؤدي إليه من مُراقبة  الفرد لنفسه ،  وهو يعيش لحظات اللقاء والتقرب مع  الله  ، والصلاة يلزمها الوضوح والصدق لكي تكون علاقة صحيحة  مع الله ، أي رفض لما  يقوم به البعض من الإلباس والتلبيس في الأعمال ، و معلوم إن  مفعول فعل صلى وفاعله  متعلق بالفرد نفسه صاحب الفعل ، لكن أثرها عام بدليل فعل الإتصال بالغير من خلال الصلة بالله ، التي تجعل من الشعور بالأخر جزء من الشعور بالنفس ، ولهذا جعل الرب الأمر بالصلاة ليكون فعلها في الحياة أشمل من حركاتها الوظيفية المحددة ، ذلك لأن الهدف هو بناء الوحدة الإجتماعية المتصلة مع بعضها ، ولكي تكتمل صورة البناء المجتمعي عزز دعوته بالقول : -  وأتوا الزكاة -  وفعل أتى من القدوم والتقديم والحضور ،  والزكاة من زكا أي نمى ، والزكاة هي التنمية في مقابل الهدم ، وهي عنوان عام لكل ما يمكن تزكيته  في المال والنفس والعلم  ،  بل وفي كل ما من شأنه ان يُنتفع به على نحو عام  ، ولهذا أمر الله بتقديم الزكاة تحقيقاً للتنمية  والمصلحة العامة ، و تكون أوكد مع المال بإعتباره مصدراً لرعاية المعوزين وأهل الحاجة ، يؤخذ من الأغنياء ليكون عوناً للمحتاجين  ، ولهذا قيل عنها  بإنها  العنصر الهام في ترميم وبناء المجتمع والدولة  ، ولذلك تبدو الحاجة إليها واضحة  ، كما تبدو الحاجة هامة لدافعي الضرائب في ترسيخ الوحدة الإجتماعية والشعور بالإنتماء الوطني والإنساني ، ناهيك عن إن تجميع المال بيد طبقة معينة من الناس وحرمان الأخرين منه ، إجحاف بحق المجتمع وبحق الحياة نفسها التي تقوم في الأساس على التبادل ، ولذلك جاء الأمر بالزكاة على نحو الإلزام ، معززاً ذلك الأمر بدعوته بالقول : - وأركعوا مع الراكعين -  والركوع هو الخضوع وإمتثال الأمر  من  فعل ركع  ، وليس هو الحركة التي نؤديها وقت الصلاة المعينة ، وصيغة الأمر بالركوع مشعرة بوحدة السياق  في وحدة الأمر في وجوب الإتباع للأوامر في الصلاة والزكاة والركوع لبناء الحياة وتطورها  ....

     

 

 

 

*   *   * 

 

 

 

[ أتامرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ؟  وأنتم تتلون الكتاب  أفلا تعقلون !! ] -  44 -  

 

 

  يسلط النص هنا على الإضطراب الوظيفي والنفسي والإزدواجية التي يعيشها البعض في الفكر والممارسة ، جاعلاً من ذلك الإضطراب إشكالية معرفية وإشكالية منهجية خطيرة ، فقوله تعالى  : - أتامرون الناس بالبر  -  ، ورد هذا البيان في صيغة الإستفهام الإنكاري ، أي إنكار لحال الناس الذين يأمرون بالبر وينسون أنفسهم ، إذ القاعدة العقلائية تقول :  إن الأمر بالشيء يقتضي الإيمان به ، لأن العمل مرتب على أساس الإيمان  ومقتضاه ، ولا يتم الأمر بالبر ويكون  صادقاً من دون الإيمان بلوازم البر وما يقتضيه فالبر يلزمه  :

أولاً :  ان يبتدأ من الذات المعبر عنها بلسان النص بقوله -  أنفسكم - .

وثانياً :  إلى الأخر الذي هو موضوع البر .

  فالأمر بالبر  - ونسيان النفس -  يعني ذلك خرق لقواعد الإيمان ، الذي يعني التضليل والتجهيل في مقابل الوعي ، فالدعوة للخير والعدل والسلام دون الإيمان بها وممارستها ذاتياً يعني الكذب والتضليل والجهالة والتناقض  ، فالأمر بالبر لازمه كما قلنا :

1 -  الإيمان به ، إيماناً ينعكس في صيغة العمل .

2 -  إن تكون النفس الآمرةبالبر قد عاشته على مستوى الوعي والقناعة والعقل والضمير .

3 -  ان تكون النفس الآمرة بالبر حاضرة في دعوتها غير مغيبة ولا غائبة .

وأي خلل في ذلك يعني خلل في الإيمان بالبر والإحسان والعمل الصالح ، وذكر النفس في هذا إنما يتجلى في التذكير بقوله : - وأنتم تتلون الكتاب -  ، والتلاوة تعني الترتيب والتنظيم في مُرادات الكتاب وغاياته وموضوعاته  ، والتلاوة ليست القراءة المجردة بل هي القراءة القائمة على التحليل والتفكيك والمقاربة ، لكي تتضح من الكتاب ما يريده وما يطلبه بالفعل ، لذلك ذيّل ذلك بالقول : - أفلاتعقلون -  ، أي إن الأمر بالبر يتطلب حضور العقل قبل كل متعلق ، ولهذا جاءت لفظة وتنسون بعد لفظة أتامرون ولهذا دلالة في تمام المراد وحركيته ..  

 

 

 

 

*  *  * 

 

 

 

[ وأستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلاّ على الخاشعين ] -  45 - 

 

في النص 43 كان  الأمر بإقامة الصلاة على نحو تحقق الخضوع والإمتثال المطلوب  في معنى  -  صلاة الراكعين -  ، و يقول هنا : - أستعينوا بالصبر والصلاة – في صيغة الأمر ، والإستعانة  :   لغة هي طلب العون والمساعدة ، وأصلها  -  أعان – فعل رباعي صحيح   ، وطلب العون  لا يكون إلاّ من الآخر ، ومن هنا  حدد الله العون المطلوب وممن يطلب فقال : - أستعينوا بالصبر والصلاة -   ، وهذا دليل على إن الإستعانة بما هي مصدر تكون أما ذاتية وأما موضوعية ، والذاتي  معلوم والموضوعي مكتسب من الغير – والصبر والصلاة تكون الإستعانة بهما على كل مالايمكن تحمله من جهة البدن والنفس ، لهذا قال – أستعينوا بالصبر والصلاة -  والصبر المحمود الموجب :  يعني تحمل الأذى مع القدرة على دفعه ومواجهته ،  ولا يُعد تحمل الأذى مع عدم القدرة صبراً ، وأما الصلاة فهي  الصلة والإرتباط بعالم القدرة والفعل ، وطلب العون  لازم من أجل التمكن في حال التدافع وعدم الأستسلام واليأس ، ولذلك قال : - وإنها لكبيرة -  والضمير يعود على الصلاة وليس على الإستعانة ، أي إن الصلاة في عمقها قادرة على الضخ في عمق الإنسان كل دواعي ومقومات القوة في حال المواجهة والتحدي في الدعوة وفي الإيمان ، وهي لهذا كبيرة ولكن : - على الخاشعين -  الذين يعيشون الصلاة بكل أبعادها وعمقها ودلالتها ، وهي كبيرة للذين يعيشون معناها معايشة حضور ورؤية ، - والخاشعين – هم كل الذين تعرفوا على الحق معرفة اليقين في كل بُعد وزاوية من حياتهم وفي كل شأن من شؤونات الكون ...

 

 

 

 

*  *  * 

 

 

 

[ الذين يظنون إنهم ملاقوا ربهم وإنهم إليه راجعون ] -  46 - 

 

كان الحديث في النص المتقدم عن صفات ولوازم -  الخاشعين -  ، ولكي يستكمل هذه الصورة جاء بالوصف التالي قال : - الذين يظنون إنهم ملاقوا ربهم ..-  والظن هنا هو اليقين وليس الشك كما توهم بعض التعريفات المعجمية ، وصفة اليقين  العلم الموصول بين عالمي الدنيا والأخرة ، فهم يعلمون  إنهم ملاقوا ربهم في الدنيا ملاقاة تجلي في الصفات والأسماء  ، وليس ملاقات مشاهدة و عيان ، وهم في ذلك  على يقين  ، كما إنهم على يقين بأنهم إليه راجعون : - وإنهم إليه راجعون -  وعطف اللقاء على الرجوع من باب الحتم واليقين بالنسبة لهم ، وهذا يستلزم  الإتباع الواعي لمتطلبات الأمر  في العمل الفكر والممارسة ...

 

 

 

 

*  *  * 

 

 

  [ يا بني إسرائيل أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ] -  47 - 

 

 

 

الخطاب في هذا النص عام لجميع من يقع تحت عنوان أو مسمى -  بني إسرائيل  -  ،  ولما لم يُكن هناك تقييد نتمسك بالإطلاق الذي يدل على ان لفظ الأبناء في اللغة والإصطلاح هم ليس الأولاد  ، والفرق بين الأبن والولد فرق واضح ، فالأبناء :  لفظ عام ولا يعني الأولاد من الصُلب  ،والأبناء  هم مطلق الأتباع ومن بينهم الأولاد البايولوجيين ، أي إن كل من ينتمي إلى إسرائيل من جهة نبوته فهو له أبن   ، وكل الجماعة التي أمنت به نبياً من أبناءه ، والأبوة  هنا  من جهة الرعاية والتعليم لا من جهة الولادة والتناسل ، وقد أستخدم النص هذا لتقريب اللفظ إلى المعنى وهذه عادة جارية في لسان العرب ، وهي إستعارة مجازية في تقريب اللفظ إلى المعنى المُراد بحسب الواقع وما كان سائداً في نسبة المؤمنين من اليهود [ ببني إسرائيل]  ، فالخطاب إذن يقول :  إن أتباع إسرائيل النبي قد حباهم الله بنعم وافرة ، وهي كثيرة ومرتبطة بطبيعة إسرائيل ودعوته التي جاءت وفق ما قرره الله وأراده ، ومن بين تلك النعم إنه أخرجهم من هيمنة الطاغوت وسلطته إلى فضاء الحرية ورحابتها ، ومنها إيضاً إنه علمهم الشريعة ونظام الحياة وحدد لهم الحقوق والواجبات ، فالتفضيل هو من هذه الجهة  ، أي من جهة كونهم يعلمون السنن والشريعة وغيرهم لايعلمون النظام والقانون ، فالتفضيل حسب الواقع تفضيل للشريعة وما فيها ، وليس هو تفضيل لهم من حيث بشريتهم ، فالبشر عند الله سواء ، ونسبة الفضل من الله إليهم في ضمير المتكلم هي نسبة إعتبارية تعود لما عندهم من الشريعة والنبوة  ، فكون إسرائيل نبيهم والنبوة فضل ولطف واصطفاء منه تعالى ، لذلك فضلهم بالنبوة وإتباعها ، ولم يفضلهم ككائنات بشرية ، إذ التفضيل في الخلق مخالف للعدل الذي فيه الكل سواء قال تعالى : - ولقد كرمنا بني أدم - ، ومنه يظهر معنى كون – فضلتكم – تعليل وإشارة لما سبق من النبوة والشريعة ، فهو تفضيل تشريع لا تفضيل تكوين ...

 

  

 

  

*  *  * 

 

 

[ وأتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يُقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون ] -  48 -  

 

نحن هنا أمام فعل خاص  هو فعل -  أتقوا – المعطوف الذي والذي يخاطب به الواحد في صيغة الجمع ، والتقوى هي الوقاية وهي الحذر والحيطة ، وفي الفقه هي الإلتزام التام بأحكام الشريعة ، أي إن العمل بالشريعة في الدنيا وقاية من العقوبة في الآخرة ، إذ إن أحكام الآخرة ناجزة غير قابلة للإستئناف ، وفيها إيضاً : -  لا تجزي نفس عن نفس شيئا -  ففي الآخرة تنتفي الوسائط مع إنتفاء العمل بالموت ، ولايمكن فيها طلب العون والنصرة من أحد ، مهما كان ذلك الأحد نبياً أو إماماً أو ولياً صالحاً ، ولم يبق للمرء غير عمله الذي قام به في الدنيا ، ذلك هو العمل الصالح ، وفي اليوم الآخر تنتهي السلطة الزمنية للأنبياء ولغيرهم ، وتبقى سلطة الله وحاكميته التي تعمل وفق ما عمل المرء في حياته الدنيا ، وهذا القول : نفي للشفاعة في الآخرة من النبي أو من غيره كما يدعي أهل المذاهب والفرق ، فهناك تتجلى أهمية العمل في الدنيا وصلاحه ، وفي سياق نفي الوسائط حث الرسول محمد – ص – أبنته فاطمة على العمل وعلى الإيمان قائلاً كما في الخبر المشهور : - يافاطمة بنت محمد أعملي ، فوالله لا أغني عنك من الله شيئا -  ، إذن فالمطلوب هو صحة العمل وصحة الإيمان ، وهذا وحده الكفيل بصيانة الإنسان وحمايته في اليوم الآخر ، إذ إن مقتضى العدل الإلهي ساري في التطبيق والجريان على الجميع دون تمييز ،  ولكن لماذا قال تعالى : - ولايؤخذ منها عدل - ؟؟ مالمُراد بذلك ؟ وماهو  العدل المقصود ؟  ، قلنا : إن العدل في اليوم الآخر هو الأحكام التي تصدر من المولى بحسب طبيعة عمل كل فرد في الدنيا ، أي إن العدل صفة للموصوف الذي هو العمل ، فالعدل هناك من جنس العمل ، ومقياس العدل في الآخرة يتناسب طردياً مع طبيعة العمل في الدنيا ، قال تعالى : -  فمن يعمل مثقال ذرة خير يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره -  ، وهذا لا ينفي حصول العفو والرحمة منه والعفو والرحمة كذلك يتحركان وفق آليات وسياقات العمل وطبيعته ، إذ من غير الممكن وقوع العفو منه تعالى في الآخرة ، لمن أجرم وظلم وأستباح دماء الناس وأعراضهم ، وهو غير ممكن الحصول لمن أستحل حرمات الناس وقذف محصناتهم ، فهؤلاء محرومون من رحمة الله وغفرانه ، ولهذا جاء الأمر بالتقوى قبل ذلك اليوم تفادياً وحماية للإنسان ، كما إنه رد للشفاعة من حيث هي تواكل وإبطال للعمل في الدنيا ، بحجة حصول الشفاعة في الأخرة ، وفي هذا الصدد ذّكرّ علي بن أبي طالب الناس بالقول : -  اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل - ، فهناك تنقطع الوسائل والوسائط ولم يبق غير العمل الصالح الذي ينفع الإنسان ، قال تعالى : - والعمل الصالح ينفعه - ...

وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ] –

 

يواصل هذا النص  التذكير بالنعم التي منَّ الله بها على -  بني إسرائيل -  بقوله : - وإذ أنجيناكم من آل فرعون -  ، أي أنجيناكم من الظلم والقتل الذي كان يمارسه فرعون وجماعته ضدكم ، ولفظة – آل -  تعني عموم الذين أتبعوا فرعون في فكره وعقيدته  ، وقيل هي إستغراق في العدد يُراد به الكثرة في الوصف  ، وهي لا تعني – أهل البيت -  أي خاصة المرء  من أهله ،[  كما توهم  البعض من المفسرين في قولهم إن  – آل محمد – هم  خصوص أهل بيته ] ، وهذا الكلام غير صحيح  لأن -  الآل  -  شيء  ،  و- وأهل البيت -  شيء أخر ، ،

 فالأولى :  تعني كل من ينتمي أو يؤيد أو يؤمن بفكر فرعون فهو من آل فرعون   .

 والثانية  :  فتعني خصوص أهل بيت الرجل  من الزوجة والأولاد ..

وعلى هذا يكون كل من آمن بمحمد نبياً ورسولاً هو من – آل محمد -  ،  وكذلك الحال يكون كل من آمن بفرعون وفكره وعقيدته  من – آل فرعون –  ، وليس المهم درجة الإيمان أو الوعي أو التمسك بها  ، كما جرى الخطاب في النص على وجه العموم ، أي عموم بني إسرائيل  ، أي من آمن  به نبياً ورسولاً ، خاطبهم النص  بالقول : إنني قد أنجيتكم من – آل فرعون -  ومن سلطته ومن بطش أصحابه وجماعته ، الذين كانوا يذبحونكم وصفاً لحال التعنيف والغلظة والشدة التي كانوا يمارسونها بحقهم  ، - ويستحيون نساءكم - ، ومفهوم – الإستحياء -   لا يعني  الحياء ، بل هو التعدي على عناصر الحياء في نساءكم من الإغتصاب والقتل ودفعهن لممارسة الرذيلة وكل عمل مخل بالكرامة والحياء ، والنساء لفظ عام من – نسا -  ويعني التابعات لإسرائيل النبي من النساء في دعوته ونبوته ، والتذكير من قبل الله بذلك ، إنما يُراد به حث الجماعة المؤمنة بإسرائيل على التمسك بما جاء في شريعته من أحكام ، كما إن عليهم واجب الإتباع وعدم الخروج على ذلك بدليل وفرة النعم التي أغدقها عليهم والرعاية والحماية .. 

 

 

 

 

*  *  * 

 

 

 

[  وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ] -  50 - 

 

 

في النص السابق كان الكلام  عن فعل النجاة من فرعون وجماعته – آل فرعون - ، وهنا بيان للكيفية التي تمت بها تلك النجاة ، ضمن الوصف الذي جاء على نحو : - فرقنا -  والفرق : هو التمييز وهو  العزل  بين أثنين أو أكثر بإستخدام وسيلة أحدى وسائل العزل المادية  ،  ومادام الكلام عن الغرق والبحر ، فالمتبادر من سياق الكلام هنا كون -  الفرق -  بالفعل هو : الجسر بمفهومنا الدارج ، ولكنه ليس هو كذلك بالتأكيد ، إنما هو وسيلة عبور أمنة جعلها الله  - لبني إسرائيل -  تحميهم من بطش فرعون وآله ، ولهذا جاء التعليل على نحو -  نجاة -  بني إسرائيل ، - وإغراق -  آل فرعون -   و فعل أغرق جاء  في صيغة  – أغرقنا -  التام الدلالة المنجز الفعل  ، الظاهر في قوله : - وأنتم تنظرون – أي  إنكم كنتم تنظرون لكيفية الإغراق وكيفية النجاة ، وهذه نعمة مضافة لكم بفضل مالديكم من نبوة ورسالة ، وفعل – أنجيناكم -  فعل مركب ودلالته في الإنتقال بكم من الضفة التي كان يهيمن عليها فرعون وآله ، إلى الضفة الأخرى من البحر ، والبحر هنا كناية عن البعد بين الضفتين ، وهو من المفاهيم التي يصح إطلاقها على النهر الوسيع إيضاً ، بإعتبار ما فيه من ماء كثير يصعب معه العبور ، ولذلك سمي البحر كذلك من هذه الجهة ...

 

   

 

 

*  *  * 

 

 

 

[ وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم أتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ] - 51 - 

 

 

                 واعدنا – من الوعد الفعل الثلاثي الصحيح المصدر ، والوعد هنا ورد في سياق حركة النقلة التي حصلت – لبني إسرائيل -  بعد نجاتهم وعبورهم ، فبعد العبور والنجاة جاء دور مرحلة الإعداد والتوجيه لتولي مهام النبوة والرسالة والعمل بهما ، ولأن ذلك يحتاج لتدريب مخصوص ، قال – واعدنا موسى -  أي ضربنا معه موعداً لتعليمه وتدريبه  وكذا لإمتحان قدراته على ذلك ،  وكان المُراد من ذلك ان يعيش موسى التجربة في شكلها العملي بعيداً عن المؤثرات في -  أربعين ليلة -  ، ولم يرد في النص ذكر للنهار ،  وهذا دليل على ان نبوة موسى وملاقاته بربه كانت تتم في الليل ،  كما في المرة الأولى في الطور التي أنس بها نارا ، كما إن النص لم يحدد لنا كم من الليل ، هل كل الليل أم نصفه أم ثلثه ؟ هذا الأمر تركه النص ونحن لا نستطيع البت فيه ، نعم المتيقن هو إن اللقاء يتم في الليل ،  والوصف بالأربعين ليلة  : في لغة التنزيل هي ليست من الأعداد الحسابية المعدودة  ، بل هي للأستطراد والمثال والأستغراق كما نرى  ، وهي دوماً محكومة بالعامل النسبي المختلف في التحديد والنظر بين الله والإنسان ، ويعني ذلك إن العدد في لسان النص يأتي في الغالب لتقريب الذهن ، لكي يتقبل مفهوم حركة النقلة في المراحل الزمنية وتسلسلها الكيفي ، وهو تقريب إقتضائي ومجال تداوله -  العقل التجريبي – الذي هو عقل كل الأنبياء  ،  [  قبل محمد – ص - الذي كان عقله تجريدياً متطوراً بالنسبة لعقول باقي الأنبياء ، ولهذا قيل إن :  العقل التجريدي أكمل العقول وأتمها بالنسبة للبشر  ] ، وذكر – الأربعين – لبيان المتعلق ، وهو الخرق وعدم الإلتزام بقواعد الشريعة ووصايا موسى النبي ، والخرق تمثل في – أتخاذهم العجل -  إلهاً ومعبوداً ، والعجل : هو ليس ذلك الحيوان البهيمي المعروف من فئة الأبقار ، بل هو نوع من الأصنام عندهم يشبه ما كان يتخذه عرب الجاهلية من الأصنام – كاللات والعزى وهبل -  ، أي إنهم في ذلك قد انحرفوا عن الشريعة ووصايا الرسول إلى عباداتهم القديمة في التقرب إلى الله زلفى ، وهذا دليل على ضعف إيمانهم بموسى وبشريعته ، إذ لم يكن تمسكهم بالشريعة في زمن سلطة فرعون إلاّ بإعتباركونهم مستضعفين عاشوا الخوف ولم يكن إيمانهم عن إعتقاد راسخ ، وهذا يعني إن الإيمان في زمن الخوف لايمتلك مقومات الصمود لأنه يعبر عن ردات فعل هي أقرب إلى النفاق منه إلى الإيمان ، لذلك كان العبور من لوازم كشف الإيمان وإظهاره على حقيقته ، ولذلك قال : - من بعده وأنتم ظالمون – والضمير يعود لموسى وليس للعبور  ، وقد ورد في  بيان السبب ، أي إنكم أنحرفتم عن الإيمان وعن الشريعة بعد ذهاب موسى لميقات ربه ، والإنحراف هذا ذاتي وهو  - ظلم  -  حصل منكم  ، ولم يكن من فعل الغير كما كان في زمن فرعون ، أي إنكم ظلمتم انفسكم بإتخاذكم العجل وتركتم ماعليه موسى من شريعة ومنهاج ..

 

 

 

*  *  *


[ ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون ] - 52 - 

 

-

 

-قوله تعالى :  -  ثم عفونا عنكم -   العفو  صفة القادر ، وهي من صفات الله  الثبوتية الموجبة  ، ونسبة هذه الصفة إلى الإنسان من باب الإعتبار والمجاز ، كما في معظم صفات الله التي يقع فيها الإشتراك في الوصف مجازاً وإعتباراً ، وقوله -  عفونا – الضمير فيه يعود لله  ، ولا يعود على موسى ، وإن كان الملاك في السياق متعلق بالخلاف مع منهج موسى وشريعته  ، فيكون المعنى : - إن الله قد عفا عنكم بعد توبتكم وإعترافكم بخطئكم -  وهذا المعنى يوحي بان المطلوب عند الله عدم الإصرار على الخطأ والخطيئة ، وجملة -  لعلكم تشكرون – تعليل وإثبات لحسن النوايا من جانب ، ودفعهم للإعتراف بخطئهم والعودة إلى حضن الشريعة والوصايا الحقة من جانب أخر ،  والشكر يعود للعفو ، أي إن شكر من بإستطاعته العقوبة واجب   ، كما إن  العزم على عدم  العودة للخطأ والخلاف من جديد واجب إيضاً  ، ووجوب الشكر يلزمه إعتراف بالخطأ وبقدرة الله  ... 

 

 

 

*   *   * 

 

[ وإذ ءاتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون ] - 53 -

 

 

 فعل -  أتى – فعل ثلاثي صحيح المصدر ، ويعني القدوم والحضور والعطاء والنزول ، والفعل في صيغته – أتينا –  تعني قدمنا إلى  موسى -  الكتاب والفرقان -  [ أي كلمنا موسى ، فنبوة موسى تمت عن طريق الكلام المباشر ، وقد ورد في الكتاب قوله  : - وكلم الله موسى تكليما - وليس عن طريق الوحي والملائكة  ] ومعلوم إن الإتيان يتم عن قرب وملامسه وهو غير المجيء الذي يكون فيه الوقوع من بعد ، والكتاب : هو رسالة موسى في الأمر والنهي وفي  احكامهما  ، والرسالة  : هي مجموعة النصوص والأبواب والموضوعات والفصول ، مثل  باب الصلاة وباب الصوم وباب الزكاة وغيرها   .

وأما الفرقان :  فهو نبوة موسى في التوحيد  وفي الغيب وفي الخلق وفي التكوين وفي الوصايا العشر وفي أحكام الحق والباطل  .

والفرقان  : هو فصل من فصول الكتاب  و هو جزء منه ، والتفريق بين الكتاب والفرقان لازم لمعرفة  كلاً منهما ، والفرق بينهما كالفرق بين الكتاب والقرآن ، [ فالقرآن فصل من فصول الكتاب وليس هو الكتاب هو جزء  منه  ، هو النبوة  وليس الرسالة  ]   ، والأمر كذلك بالنسبة للكتاب والفرقان ، أعني بالنسبة لنبوة ورسالة موسى  ، وجملة -  لعلكم تهتدون -  بيانية تعليليه ، أي لكي تهتدوا بالكتاب والفرقان ، لأنهما أتيا  لهذا السبب ، فسبب الإتيان هو الهداية ...

  

 

*   *   *  

 

 

[ وإذ قال موسى ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم بإتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ، ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ]  54 - 

 

 

أعتبر موسى مخالفة أوامر الله  ظلماً ، ولذلك قال : - ياقوم إنكم ظلمتم أنفسكم - ، وصفة الظلم من حيث هي إن تعلقت بالنفس عُدت من  أسوء أنواع الظلم وأقساها ، ومن أجل رفع الظلم هذا تقدم موسى بمبادرة  -  التوبة -  ، قال فيها : - فتوبوا إلى بارئكم -  والتوجه بالتوبة إلى البارئ دون غيره من الأسماء والصفات ، دليل  على إن صفة البارئ هي القادرة على محو الذنب وإزالته ، وهي من  الإبراء أو التبري  ، ومعناها طلب البراءة من الذنب الذي  علق في الذهن والعقل بسبب الإعتقاد الباطل في مسألة العجل ، ولذلك جعل التوبة موازية لحجم الذنب ، قال : - فاقتلوا أنفسكم –  ، أي إن التوبة الصحيحة في هذا المجال هي بقتل النفس  ، وفعل – أقتلوا – ليس بمعنى أذبحوا أو أعدموا أنفسكم  ، بل المُراد به هو تصحيح الإعتقاد من خلال إلغاء سلطة – النفس الأمارة بالسوء    من الهيمنة وطردها من ساحة التأثير والفعل ، وهذا تعبير مجازي جاء من باب الإستعارة للتدليل على عظم وخطر الفعل الذي قاموا به بإتخاذهم العجل إلهاً ، فهذا الفعل منهم هو قتل للنفس وحرف لها من ان تعيش الإيمان على نحوه الصحيح ، فجاء موسى ليصحح لهم المسار من خلال التركيز على قتل دواعي الإنحراف بالنفس معتبراً ذلك هو التوبة الصحيحة ، التي تحقق لهم رضا البارئ ، من خلال قوله : - إنه هو التواب الرحيم - ، وصفة التواب تعني الكثير التوبة وهي صفة مبالغة ، أي إنه قابل التوبة لرحمته أولاً ، ولعلمه  بأنفسكم ثانياً  ...   

 

 

 

*   *   * 

 

 

 

[ وإذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ] -  55 - 

 

 

ظاهر النص يتناول الطبيعة المعرفية للإيمان ، تلك الطبيعة التي كانت قائمة على التجربة والمشاهدة ، وهذه الطبيعة كانت جارية في حياة الأنبياء قبل محمد – ص -  ، فهذا إبراهيم النبي وقصته المشهورة وقوله – ربي أرني كيف تحيي الموتى ؟ -  ، وهذا موسى نفسه سار على الطريق يظهر ذلك في مقولته الشهيرة – ربي أرني أنظر إليك -  ، أي إن أدوات المعرفة التقليدية في العقل التجريبي تعتمد في الإثبات والنفي على المشاهدة الحسية ، والتي على ضوئها يحكم ويُصدق ، والعين هي واحدة من أدوات العقل التجريبي ، ولهذا طلب قوم موسى منه ان يريهم الله جهرة ، قالوا : - لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة -  ، أي إنهم ربطوا التصديق بنبوته وإنه مرسل من قبل الله بالرؤية الواضحة – جهرة – أي جهاراً ، ، على نحو عملي محسوس ومشاهد ، وهذا ليس من باب رد دعوة النبوة بقدر ما هو جري في سياق ما هو سائد بالفعل من المعرفة ، ولذلك لم يقع ذلك منهم عند الله مورداً للتعجب أو الإستغراب ، ولهذا كان الجواب منه عليهم من طبيعة السؤال نفسه ، قال – فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون -  ..

 

ملاحظة :

نرى في النص إن الإيمان عُلق بالرؤية ، والسؤال المطروح ، هل المقصود من ذلك : هو رؤية الله بما هو ذات مقدسة ؟  أم إن المُراد منها  : هو رؤية صفاته في القدرة والعظمة ووغيرها  ؟

ظاهر القول منهم يبدو وكأن المُراد هو – ذات الله – بما هي هي ، ولكن هذا السؤال على هذا النحو يكون ممتنع بدليل إن ذاته ممتنعة قال : - ليس كمثله شيء -  فذات الله ليست هي الله ، إنما الله مظهر وصفة من صفاته ، وظهور وتجلي صفاته ممكن إذا  كان المطلوب منه إثبات الإعتقاد والإيمان ، وهذا ظاهر كلام قوم موسى في ان يريهم الله جهرة ، فاخذتهم الصاعقة : التي هي الرجفة مع فقدان التوازن والإحساس المصحوب بالذهول والإندهاش ، وأصلها من – صعق -  الدال على الحدوث اللحظي الفجائي ، وقد حدث ذلك لموسى نفسه حين – خر موسى صعقا - ، وجملة -  وأنتم تنظرون – متعلقة بجواب الشرط  -  بالصعقة – وليست بالرؤية ، أي إنكم تنظرون لقدرة الله وكيف تجلت بالصعقة لإثبات نبوة موسى وإنه مرسل من قبل الله   ...  

 

 

 

*  *   * 

 

 

 

[ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ] -  56 - 

 

 

الملاحظ لظاهر النص يجد إنه يتحدث عن البعث بعد الموت الطبيعي ، لكن واقع حال النص إنما يتحدث عن ذلك في ظل ما تقدم من سياقات الإيمان والتصديق في نبوة موسى ، وهذا يعني إن مفهوم البعث هنا هو غير مفهوم البعث هناك في الدار الآخرة ،  كما إن الموت هنا هو غير الموت المعروف  ، بدليل كون الموت هنا  جاء كصفة للموصوف ، أي لما كان قد حصل لقوم موسى نتيجة -  للصاعقة -  ، التي أدت في لحظة ما  إلى فقدان الشعور والإحساس بالحياة ،

وتسمية ذلك الحدث بالموت يأتي من باب الإستعارة اللفظية والكناية المعللة ، فالموت هنا لا يعني ذهاب الروح عن البدن ، بل هو الحدث المصاحب للصعقة من الذهول والخوف والإندهاش ، وإطلاق لفظ الموت عليه تجوزاً لعظمة الفعل وما تلاه ، والبعث : هو ليس عودة الروح للبدن ، بل هو عودة الإحساس والشعور ورفع حالة الخوف ، وهو إرجاع من وقع تحت هول الصاعقة إلى وضعه الطبيعي ، وقد سمى النص ذلك بعثاً لأهميته وعظمته ، وللتأكيد على ما نحن فيه ، تكون الصاعقة : ليس الفعل المادي الذي يحصل من التماس الكهرومغناطيسي مع جو الأرض ،  بل هو فعل ذاتي يحصل للفرد حين يتعرض لشيء أكبر مما هو مألوف ، بدليل قوله تعالى : فأخذتكم -  والأخذ بلسان النص يعني بيان  لقدرة الله أو هو بيان لما حصل منها ، ويكون -  الأخذ – في لحظة التحدي أو في لحظة التأكيد عليه ، ولأن ذلك كذلك : جاء التعليل بصيغة التمني بقوله – لعلكم تشكرون -  ولا يكون الشكر إلاّ مع الوجود بالفعل ، أي لعلكم تشكرون قدرة الله في عودة الإحساس والشعور لكم بالحياة  من جديد بعد ان سلبها منكم .. 

 

 

 

*   *    * 

 

 

 

[ وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى ، كلوا من طيبات ما رزقناكم وماظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ] -  57 -  

 

                 وظللنا عليكم الغمام – الظلال جمع ظل وهو كل شيء يقي الإنسان من الحر أو البرد  ، [ قال الطبري و – الغمام -  :  هو ما غم السماء فالبسها من سحاب وقتام وغير ذلك مما يسترها عن أعين الناظرين ، وكل مغطى فان العرب تسميه مغموماً ] ، والغمام عندنا هنا : هو السحاب الخفيف اللطيف ، الذي جعله الله لهم لينزع منهم الخوف والتوتر الذي حصل بفعل ما حدث لهم من -  الصاعقة -  ، وأما قوله – وأنزلنا عليكم  المن والسلوى  -  ،[  أنزلنا أي  صيرنا أو جعلنا أو وضعنا أو وهبنا  ، والأنزال من باب الأفعال ] ، وقد أعطى النص  للأنزال هنا قيمة  مادية  ، ليتم به عملية التهدئة والسكينة ، وهو  لا يعني النزول من أعلى كما قد يتوهم ، بدليل إنه جعل لهم   -  المن والسلوى – مأكلا وهما  من نعم  الطبيعة  ، والجملة كما يظهر أرشادية في التنبيه لأهمية التوازن الداخلي وضرورة – المن والسلوى –   في ذلك الشأن  ، يأتي هذا بعد ما حصل لهم من هبوط  أثر الخوف ، فكان لازماً رفع قوى الحياة فيهم  ، لذلك جعل الله لهم مما حولهم طعاماً وشراباً ونبههم  إلى ذلك ، بدليل قوله : - كلوا من طيبات مارزقناكم -  وإضافت الطيبات للرزق دليل على إن – المن والسلوى -  كانتا من طيبات الرزق في الطبيعة التي من حولهم ، [ وهذا الكلام إنما يجري في سياق الحركة التي تمت  ، بعد البعث والأمن والأستقرار ]  ، وأما قوله تعالى : - وماظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون -  فهو توكيد منه على إن مخالفة الأوامر -  باتخاذهم العجل -  كان ظلماً لأنفسهم  ، ولذلك جاء الربط منه في الإستثاء التالي -  ولكن كانوا أنفسهم يظلمون - ، أي إنهم في فعلهم المخالف قد ظلموا أنفسهم ...

 

 

[  وإذ قلنا أدخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا ، وادخلوا الباب سجدا ، وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين ] – 58

 

                 ادخلوا – هذا الأمر موجه لموسى وقومه ان يدخلوا  – هذه القرية –  وهذا الأمر ياتي  في سياق الحديث  عن الوضع الذي عاشه قوم موسى بعد العبور ،  و -  القرية -   هي أسم لمكان ما ،  وقد أختلف الرواة في أسمها وصفتها    ، ولم يذكر لنا الكتاب المجيد أسم ذلك المكان وصفته إنما ترك الأمر هكذا مبهماً  ، والقرية عندنا ليس سوى مكان لتجمع الناس وعيشهم   ، وإضافة أسم الإشارة إليها يأتي في مقام البيان والأهمية اللاحقة  ، من حيث كونها صارت مكاناً للأستقرار والرزق ، بدليل قوله تعالى  : -  فكلوا منها حيث شئتم -  أي كلوا من خيرات هذه القرية  كما ترغبون ، والمشيئة في لسان النص هي للتشريع بدليل وجود فعل الأمر  – كلوا –  ، وأما قوله – رغدا -  فهو تعبير عن كثرة الرزق   الطيب الهنيء  ، ثم قوله : - وأدخلوا الباب سجدا -  ، والسجود هو التواضع ونكران الذات حين الدخول ، أي أدخلوا بتواضع دخول المسالمين وليس دخول المتكبرين أو المحاربين ، ولكي يستكمل مشهد الدخول أمرهم بقوله : - وقولوا حِطةُ نغفر لكم خطاياكم – المطلوب هو  ان يقولوا قولاً يغفر الله لهم فيه ذنوبهم ، وحِطةُ على وزن فعله ، وهي من الحط أي الرفع ، ومعناها أحطط عنا [ أي أرفع عنا ] خطايانا وذنوبنا   ، والخطايا جمع خطيه أي الذنوب الكثيرة ، ويكون معنى قوله -  حِطةُ  - هي الإستغفار من الخطايا والتوبة النصوحة منها ، وهذا القول وحده الذي يزيل الخطايا ويحقق المغفرة من الله ، ومن يستغفر الذنوب يُغفر له ، ومن يفعل ذلك فهو المحسن ، لذلك قال – وسنزيد المحسنين – فضلا ونعمة ...

 

 

                 *   *  * 

 

 

[ فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم ، فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون ] -  59 - 

 

 

فعل – بدل –  من أفعال الحركة و يعني التغيير في القول والعمل   ، والتبديل متعلق بالقول الذي طُلب منهم ، وقد سماه الله -  ظلماً -  كما يظهر في قوله تعالى : - فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم –  ، أي إنهم بدلوا قولهم ومما كانوا مأمورين به  بعد ما دخلوا القرية    ،  وهذا التبديل في القول والعمل  هو الذي وصفه النص بالظلم  ،   قال تعالى  - الذين ظلموا - ، أي إن الذين بدلوا قولهم بالتغيير  هم الظالمين  ، و الظلم في القول له  يظهر بالكذب وبتشويه الحقيقة وبتغيير السلوك  ، والظلم في لسان النص هو كل مايقع على الإنسان نتيجة  لمخالفته الشريعة والأمر ، والقول المُبدل هو القول  :  – حِطةُ -  كما يظهر في النص السابق  ،  الدال على الإعتراف بالذنب والبراءة منه بالإستغفار ، وإستبدال ذلك القول بقول غيره ،  هو ظلم وتعدي على – أهل القرية -  من دون وجه حق  ، وهو  تخريب للقرية وتدمير لخيراتها وممتلكاتها ، لذلك قال :   – أنزلنا على الذين ظلموا رجزاً من السماء    ، والرجز :  هو العذاب في صيغة مادية يعيشونها بالفعل والواقع ، ووجود السماء مرافقاً للرجز دليل على إن العذاب كان في مقابل الظلال التي منّ الله بها عليهم ، والإشارة إلى السماء تأتي من باب كونها تمثل مركز القوة التي لا سلطة لهم عليها ،  ويكون ذلك بمثابة الوصف للعذاب أو للعقوبة ككونها من القوة بحيث لا يمكن ردها أو الحؤول دون وقوعها ، والسماء  :  لا تعني الجهة في مقابل الأرض  ،  بل هي صفة للقدرة في تحقق العذاب من جهة القول ، وهذا إستخدام مجازي من باب الإستعارة لغلبة مفهوم اللفظ ومعناه في ذهن المتلقي ،  فالأرض من حيث الواقع هي سماء لغيرها من الكواكب  .

  ويكون معنى الكلام في النص هو :  إن الله عذب من بدلوا قولهم وما أتفقوا عليه حين دخلوا القرية سجدا وقالوا حطة  ، وكل من يبدل قوله من بعد ميثاقه يستحق العذاب    ، وأما قوله    :  -  بما كانوا يفسقون -  فالضمير فيه يعود على الذين بدلوا قولهم  ، والفسق :  هو  كل خروج على الشريعة ، وأصله من فسق المرتبط بعصيان الأوامر وفعل المنكرات  ، لذلك كان العقاب منه تعالى مرتبط بطبيعة فعلهم  وخروجهم على الشريعة والنظام   ...

 

 

*  *  * 

 

 

 

[ وإذ استسقى موسى لقومه ، فقلنا اضرب بعصاك الحجر ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل اناس مشربهم ، كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مُفسدين ]  -  60  -  

 

 

فعل -  استسقى –  فعل ثلاثي صحيح المصدر ، من السقاية ويعني  طلب السقاية ، وطلب السقاية يكون بعد إنحباس الأمطار ونضوب المياه ، وطلب موسى السقاية من الله لقومه بإعتبار كونه  الوسيط بينهم وبين الله القادر  ، فكان الجواب منه تعالى يتحرك وفق سياقات الواقع الموضوعي الذي رافق نبوة موسى ، بدليل قوله تعالى  : - فقلنا أضرب بعصاك الحجر -  والقول يبين لنا هنا حركة النقلة في إثبات نبوة موسى موضوعياً  ، فجواب الطلب كان من الله  على نحو   فعل : - أضرب - ، والضرب ليس هنا الضرب المتبادر الشائع في الذهن العام ، بل هو الضرب :  هو الرفع والتحريك ، وإضافة – العصا -  للفعل بإعتبار كونها أداة القدرة بيد موسى في إثبات نبوته ،  ، فكأن  المُراد هو التدليل على قدرة عصا موسى في تلبية طلب السقاية ، قال – فانفجرت – بعد الضرب  – اثنتا عشرة عيناً -  ، والإنفجار : هو قوة دفع داخلي تحصل بأثر تحريك خارجي ، يكون بمثابة قوة ضغط في إخراج المياه الجوفية من باطن التربة إلى سطح الأرض ، ولم يكن الأمر مجرد – خروج دفعي للماء -  ، بل كان تشقق للصخرة على نحو منتظم ومحدد بعدد ما له دلالة خاصة ، في إستيعاب هذا  العدد  لقوم موسى ، والعدد هو -  أثنتا عشرة  عيناً -   :  عدد صحيح دال على عدد الأسباط من  قوم موسى    ، لذلك قال لكي يعلم  : -  كل اناس مشربهم -  ، ثم بعد ذلك أمرهم بالأكل والشرب معتبراً ذلك العطاء رزق من الله لهم يستوجب الشكر عليه ، قال -  ولا تعثوا في الأرض مفسدين - ، وصيغة النهي في الفعل هنا للتحريم  ، أي تحريم كل فساد في الأرض   ، لأن الفساد تخريب للأرض بماعليها من خيرات ونعم وهبها الله للإنسان كي يتمتع بها ...

 

 

 

*   *   * 

 

 

[ وإذ قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد ، فادع لنا ربك يُخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقشآءِها وفومها وعدسها وبصلها ، قال : أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟ ! أهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءو بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بايات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ] - 61 -