الديباجة

 

الغلو في اللغة : قال الطبرسي في مجمع البيان ، ( الغلو : هو مجاوزة الحد ) ، يُقال غلا في الدين غلواً - تفسير سورة النساء النص رقم 171 - .

وقيل : هو من غلا غلاء فهو غال ، وغلا في الأمر غلواً بمعنى جاوز الحد ، قال أبن فارس في المقاييس : - الغين واللام والحرف المعتل - أصل صحيح يدل على إرتفاع ومجاوزة القدر .

قال أبن منظور في اللسان : غلا في الدين غلوا ، أي تشدد وتصلب حتى جاوز الحد .

وقال الفيومي في المصباح المنير : وغلا في الدين غلواً من باب قعد تصلب وتشدد حتى جاوز الحد ، وغالى في أمره مُغالاةً أي بالغ .

والغلو في الإصطلاح معناه كما :

قال الشيخ المفيد رحمه الله : الغلو هو التجاوز عن الحد والخروج عن القصد ، وفي تفسيره لقوله تعالى : - ولا تغلوا في دينكم - قال : أي لا تتجاوزوا على الحد في المسيح ، وهو تحذير من الخروج عن القصد ، ( فجعل ما أدعته النصارى في المسيح غلواً لتعديه الحد ) - أوائل المقالات ص 238 - .

ويقول الشيخ المفيد يكون المرء مُغالياً فيما لو :

1 - أدعى الإلوهية في النبي أو الإمام أو إدعاء النبوة في الإمام .

2 - وصف النبي أو الإمام ببعض الصفات الإلهية .

أ - كاضفاء صفة الخلق أو الرزق لهم ، وهذا ماكانت تقوله المفوضة ( وهم فرقة قالت : بان الله فوض أمر هذا الكون إلى النبي أو أهل بيت النبي ) .

ب - أو إدعاء علمهم بالغيب مطلقاً .

ج - أو وصفهم للأئمة بصفات تخرجهم عن البشرية .

د - أو القول بان ذات النبي - ص - وذوات الائمة كانت موجودة قبل خلق آدم ..

ه - أو القول بان خلق آدم كان من أجل خلقهم

وأما التطرف : فهو من باب تفعل من الطرف ، كقولهم للشمس إذا دنت للغروب تطرفت ، وكل من تجاوز الحد وخرج عن الإعتدال يصح ان نقول عنه - متطرف - ، وجاء في المعجم الوسيط مادة طرف : تطرف بمعنى جاوز حد الإعتدال ولم يتوسط ..

وفي الإصطلاح قيل : هو الإنحراف في الفكر وفي السلوك وفي الإعتقاد ، وقيل : بل هو النقص في المعرفة التي تؤدي بصاحبها لعدم الإيمان بكل ما هو منطقي وعلمي أو متصور و عقلي .

كما فعل أهل الكتاب حينما قالوا بان المسيح هو الله أو أبن الله ، وهذا هو الإنحراف في الفكر وفي الإعتقاد ، ومثله فعل بعض الشيعة حينما قالوا : بان الإمام علي هو خالق الكون أو بيده إرادة تدبير الكون ، وهذا هو الإنحراف في الفكر وفي العقيدة ، ومثل هذا الفعل حينما قال البعض من المسلمين : بان الشمس قد إنكسفت لموت إبراهيم أبن النبي محمد ، كل هذا غلو وإنحراف في الفكر وفي العقيدة ، بل غلى قوم ببعض الفقهاء معتبرين فتاواهم ممضاة ومقررة من قبل الإمام الغائب المعصوم .

إذن فالغلو هو ظاهرة غير طبيعية و سلوك غير طبيعي مرتبط بالفكر و بطبيعة التفكير ووسائل وأدوات المعرفة ، ولهذا يكون الغلو في حقيقته نقص معرفي وعلمي يؤدي بصاحبه إلى تبني كل ما هو غير منطقي وعلمي من الأشياء ، ولا يقتصر الأمر في ذلك على أهل الديانات السماوية فقط بل هو منهج وسلوك بشري يلجئ إليه قليلي العلم والمعرفة ، نجد هذا في الهند وهم يتبركون في نهر الكنك ظناً منهم إيماناً بقدرته على الشفاء والتطهير من الذنوب ، و نفس الشيء نشاهده في مجاهل أفريقيا ولدى الهنود الحمر ، والعالم حافل بهذا النوع من الإيمان والإعتقاد الخاطئ .

لكن الله ومن خلال كتابه المجيد حارب هذا السلوك في الفكر وحاربه في الإعتقاد ، معتبراً إن ما يقوله أو يردده بعض رجال الدين في هذا المجال هذيان وكفر الهدف منه :

صرف أنظار الناس عن إحتياجاتهم الخاصة .

وتزييف أحكامهم وعقولهم في نظرتها إلى الأشياء .

وإلهائهم في الجدل الخاوي البعيد عن المنطق والعلم .

إذن فالله في كتابه المجيد قد حارب الغلو منهجاً وسلوكاً وحارب كل تواليه ولواحقه ، داعياً الإنسان لكي يفكر بحرية ويحكم على الأشياء من غير مؤثرات ليكون حكمه عليها صحيحاً وواقعياً .

فهو قال لمن آمن أو أعتقد بألوهية المسيح بن مريم : - قاتلهم الله – 30 براءة ، وهي كما ترون عبارة شديدة اللهجة وصفاً ودلالةً ، وهو في معرض الرد على دعواهم قال : - يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ، ولا تقولوا على الله إلاّ الحق : إنما المسيح عيسى أبن مريم : رسول الله ، وكلمته ، ألقاها إلى مريم ، وروح منه ، .. - النساء 171 .

و قال في مكان آخر : - لقد كفر الذين قالوا : إن الله هو المسيح أبن مريم  ، : وقال المسيح يابني إسرائيل أعبدوا الله ربي وربكم ، إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة - المائدة 72 .

وقال في نص لا حق : - وإذ قال الله ياعيسى بن مريم ءأنت قلت للناس أتخذوني وأمي ألهين من دون الله ؟ ! ، قال : سبحانك ! ما يكون لي ان أقول ما ليس لي بحق ، إن كنت قلته فقد علمته - المائدة 116 .

والجدل أو الحكاية في النص المتقدم هي عبارة عن لسان حال المتكلم لا إنها كلام قد وقع بالفعل بين الله والمسيح ، لسان الحال هذا الوصف ورد في الكتاب المجيد كبيان فيه تأكيد من قبل الله على أن عيسى بن مريم لم يقل إنه إله من دون الله ، وهذا التأكيد إنما تحرك وفق السياقات الطبيعية والمنطقية للصفة البشرية والإنسانيه التي يتمتع بها عيسى كما وإنها من مقتضيات نبوته ولوازمها ، إذن فهذا القول يجري مجرى الكلام في قوله تعالى : - وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا : بلى ....- الأعراف 172 .

وهو في الحالين تعبير عن لسان واقع الحال المضطرد الدائم الحدوث والسيرورة والوجود ، والمرتبط بطبيعة الإنسان وخلقه وتكوينه .

طبعاً الغلو شاع وأنتشر بين أتباع محمد على نحو واسع ، وأختلفت كل فرقة منهم في كيفية الغلو وطبيعته ، لكنهم يشتركون في الموضوعة نفسها ، ولازال الغلو يضرب في أعماق حركة وإيمان المسلمين فبعض الشيعة قالوا : في الأئمة ما لا يقولونه في أنفسهم ، نعتوهم وصفاً وإشارة بالإلوهية و جعلوهم شركاء لله في ربوبيته ، وقال البعض فيهم : إنهم يرزقون ويخلقون ، و قالت طائفة منهم : إن الله حل فيهم أو أتحد ، و قالت أخرى : إنهم يعلمون الغيب ، و زعم البعض منهم قائلين : بان أئمة أهل البيت قد خلقوا قبل خلق الكون نافين عنهم الحدوث ، و قال البعض : ان معرفة الأئمة تُغني عن جميع الطاعات والعبادات ، وإنه لا تكليف مع المعرفة  هذه بعض الأقوال المشهورة في الغلو والقائلين به ، لهذا قال الشيخ المفيد : إن من غلا في أئمة أهل البيت فقد كفر - أنظر تصحيح الإعتقاد ص131 .

وقال الشيخ الصدوق : إن إعتقادنا في الغلاة والمفوضة ، إنهم كفار بالله تعالى - إعتقادات الصدوق ص 97 .

أبواب ومفاهيم الغلو ، أين وكيف ؟

 ، وبما إننا قلنا : إن الغلو هو ظاهرة غير طبيعية ناتجة عن خلل في الفكر وفي المتبنيات الفكرية والسلوكية ، لهذا ربطنا هذا الخلل في الفكر بما ينتج عنه وما يؤدي إليه ، وحين يكون الخلل في الفهم فإننا نعتبر ذلك إبتعاد عن الحقيقة والركون إلى الوهم والإنبهار بكل ماهو غير منطقي وعقلي ، طبيعي إن للغلو أسباب وطبيعي أن تكون له نتائج وآثار ، لكننا نعتبرالغلو مرتبط :

1 - نتيجة و سبب لما هو متراكم في الذهن من أفكار غير صحيحة للدين وللحياة ، فآثار أهل الديانات من الملل والنحل الذين سبقونا لهم دور فيما نحن بصدده .

2 - كذلك هو مرتبط بالفعل السياسي وبالحراك السياسي كالذي نشاهده من الفرق والأحزاب والطوائف وكيف تعظم زعمائها وقادتها سابغين عليهم كل فضل وفضيلة ، يأتي هذا في سياق البحث عن الهيمنة والنفوذ والتسلط ، وهي ومن أجل هذا تتبنى كل ماهو غير واقعي ، لكن القصد منه حرف الأنظار والعقول .

3 - كذلك يكون الغلو تعبير عن الذم كرهاً وقدحاً ، فهو من معاني الأضداد ، يجري في المدح كما يجري في الذم .

4 - ويرتبط الغلو بالجهل وبالتزييف الذي يعمد على إتباعه بعض رجال الدين ، يروي السيوطي في الدر المنثور عن محمد بن كعب إنه قال : لما رفع الله عيسى أبن مريم أجتمع من علماء بني إسرائيل مائة رجل ، ثم أختاروا أربعة منهم للنظر في أمر عيسى ، وقالوا : ما تقولون في عيسى ؟ فقال رجل منهم : هو - الله - كان في الأرض ما بدا له ثم صعد إلى السماء حين بدا له .

وقال الآخر : هو أبن الله .

وقال الآخر : إنه عبد الله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم .

قال فخرجوا على الناس ، فقالوا لرجل منهم : ماذا قلت ؟ قال : قلت هو الله ، وقال ألاخر : إنه أبن الله ، وقال الثالث : هو عبد الله وكلمته وروح منه - الدر المنثور تفسير النص 72 - ...

في هذه الحكاية نلتقي بصنف من البشر لديه القابلية ولديه القدرة على تزييف الحقيقة ، هذا التزييف أساسه ومستنده الجهل والتضليل ، وقيل : بل إن هذا التزييف أساسه الحب الذي يخرج عن الحد ولا يلتزم بالناموس والقدر الطبيعي ، لكنا نعلم إن الله حين أرسل الأنبياء والرسل كان له هدف وغاية أساسها تحرير العقل وتنويره لكي يبتعد عن الخرافة والتضليل ، وتحرير العقل عند الله يرتبط بتحرير أدوات المعرفة لتكون فاعلة وكاشفة وقادرة بيسر وسهولة الكشف على الحكم وهداية الناس إليه .

وظاهرة الغلو أصابت كل أجزاء وحياة المجتمع الإسلامي لدى السنة والشيعة على السواء ، فهؤلاء أتباع ومريدين الإمام أبو حنيفة قالوا فيه وفي حقه مازاد في الوصف والتعبير عن الأنبياء وفضائلهم وكراماتهم : وأبوحنيفة [ هو النعمان بن ثابت بن زُوِطي - بضم الزاء وفتح الطاء - والزوطي هذا رجل من أهل كابل وقع أسيراً حين فتحت كابل ، ثم إشتراه رجل من تيم وأعتقه ، وأما ثابت والد النعمان فلم يذكر عنه شيء في كتب التاريخ ، وقد أُختلف في محل ولادته فقيل في ترمذ وقيل في نسا وقيل في الأنبار وقيل في الكوفة ] ، نعم قيل فيه وفي حقه مدحاً وذماً ما لا يقال في أحد ، كقولهم : إنه كان يُعلم الخضر أحكام الدين في حياته ومن بعد مماته .

مع إننا نعلم إن الخضر الوارد ذكره وصفاً في سورة الكهف كان يعلم موسى النبي أنظر النصوص من 65 إلى 82 من سورة الكهف ، ونحن نعلم إن موسى نبي وإنه كان من أولي العزم ، ومع ذلك كان لا يعلم الكثير من الأشياء والنصوص التي أشرنا إليها تحدثنا عن ذلك ، لكننا في رواية أبي زهرة صاحب كتاب الإمام الصادق والأئمة الأربعة ج1 ص 299 ، نلتقي بحكاية مختلفة وملفقة وغير منطقية يكون فيها أبوحنيفة معلماً للخضر  ، هذا التسويق لهذه القصص كان يُراد منه تزييف الحقيقة في عقول المريدين ، إنه الغلو الناتج عن الجهل و الحب الأعمى الذي لا يستند ولا يقوم على دليل .

وفي نفس هذا السياق من التزييف روى الخطيب البغدادي في تاريخه عن محمد بن يزيد عن سليمان بن قيس عن أبان بن أبي عياش عن أنس عن النبي إنه قال : - سيأتي من بعدي رجل يُقال له النعمان بن

ثابت ويُكنى أبوحنيفة ليحيين دين الله وسنتي على يديه - تاريخ بغداد ج2 ص 289 .

وفي تعليقه على هذه الرواية قال الخطيب البغدادي : هذه رواية باطلة وكاذبة ومزيفة ، ففي سندها محمد بن يزيد الذي قيل في حقه إنه متروك الحديث ، ولأن فيها إيضاً سليمان بن قيس وأبو المعلى وهما رجلين مجهولي الحال ، وأما أبان بن أبي عياش فمتهم بالكذب - قال الذهبي في ميزان الإعتدال وأبن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب : إن أبان بن أبي عياش ضعيف كذاب – .

لاشك إن الذين ينسبون لأبي حنيفة ماليس فيه ، يحطون من قدره ومنزلته العلمية التي هي عندنا محل إحترام وتقدير ، فهو عالم جليل ومجتهد فذ ، لكن ماذا عسانا أن نقول لمن يعتبر إن المسيح حين ينزل من السماء ويعود إلى الأرض سيتبع مذهب أبي حنيفة ؟ ، وماذا عسانا نقول لمن أدعى بأن أبوحنيفة لم ينم طوال 40 سنة من عمره ، وإنه كان يصلي الفجر بوضوء العشاء ؟ ، وماذا عسانا نقول لمن أدعى إن أبوحنيفة كان يكلم البهائم والأنعام ؟ ، وماذا نقول لمن أدعى بان أبا حنيفة قد ختم الكتاب المجيد 70 الف مرة وهو لم يبارح مكانه ؟  ، و ماذا نقول لمن قال : بان الله قد ذكر صفات ابوحنيفة في التوراة مبشراً به وبولادته ؟ ، ماذا نقول لهؤلاء ؟ ولماذا يدعون ذلك ؟ ، لماذا هذا الغلو وعدم الإنصاف ؟ لماذا ؟ .

وفي مقابل هذا الضخ من الإدعاءات والكذب والتزييف يقابله قدح وذم خطير لا ينم عن إيمان ، فمرة أتهموه بالزندقة وفساد العقيدة والدين ، ومرة نفوا عنه صفة الإيمان والإسلام ، ومرة ثالثة قالوا عنه قد كفر مرتين ، وبانه شر من ولد في الإسلام

هذا الغلو في الحب والكره أساسه الجهل وعدم الإنصاف وتزييف الحقايق والإعتماد على العاطفة دون العلم والعقل

البحث في الغلو في مفرداته وفي القائلين به ، ونجد في هذا السياق المثال نفسه والغلو نفسه لدى أغلب الفرق والمذاهب الإسلامية في أئمتهم وزعمائهم ، من دون إستثناء فهاهم اتباع الإمام - مالك بن أنس الأصبحي - مؤلف كتاب الموطأ وصاحب المذهب المعروف ، يقولون و قالوا فيه الشيء الكثير من الأقوال المبالغ فيها والتي لاتنم عن واقع أو حقيقة بحيث ، قالوا : إن الإمام مالك بن أنس عاش في بطن أمه ثلاث سنيين - أنظر مقدمة تنوير الحوالك ص3 - ، و لا ندري ماالفائدة من هذا القول وما القيمة المرجاة من ذلك ، وكلنا يعلم إن بقاء الطفل في بطن أمه ثلاث سنيين مخالف للطبيعة ولسنن الحياة ، أعني إستحالة أن يظل الطفل أكثر من تسعة أشهر في بطن أمه ، إذن : فما هي الفائدة في بقاء الطفل ثلاث سنيين في بطن أمه ؟ وما هو الفضل في ذلك ؟.

وقالوا كذلك : إن النبي محمد – ص – كان يأتي مالكاً في كل ليلة في منامه  ، وزادوا فيه فقالوا : إن مالكاً هو حجة الله على خلقه  ، ثم قالوا : لا يوجد كتاب صحيح في الأرض بعد كتاب الله غير كتاب الموطأ للإمام مالك  .

كل هذا الكلام و كل هذا الخيال أنتشر وذاع في أيام الخلافة العباسية والتي بظلها كثر الوضاعون ودُست الأخبار والفضايل لمن هب ودب بحق مالك وبحق غيره ، يقول السيوطي في تاريخ الخلفاء ص294 : إن هارون الرشيد ذهب ذات مرة إلى المدينة وكان بمعيته المأمون والأمين فقرءو الموطأ عند مالك .

وقد قيل في ذلك : إن ما قام به الخليفة هارون وولديه من فعل هذا لم يكن إلاّ ككون كتاب الموطأ قد كتبه شخص رباني مقدس وليس بإعتباره كتاب فقه وأحكام  ، والمتأمل يجد في سلوك الخليفة هارون هذا ليس سوى سلوك سياسي ودعائي ليس إلاّ ، كان يُريد منه رسم سياسة معينة في مقابل سياسة أخرى ، كما إننا لم نجد في فعل هارون هذا : هو بجعل أو رفع مالك بن أنس لمصاف القديسين والإلهيين ، إنما كان فعلاً سياسياً خالصاً يهدف من خلاله الترويج لحكمه والتبرير لعمله ولمذهبه السياسي ، لكن هذا الفعل وذلك السلوك قد وظف من قبل أتباع مالك لوضع الأخبار في فضله وفضائله والمغالات فيه ، بحيث صار عندهم رجلاً إلهياً مقدساً ليس مثله أحد في هذا الكون  .

نعم إن الغلو في الإشخاص وفي الفرق هو المذهب وهو الطريقة المتبعة لدى المريدين والأتباع ، فهذا الإمام الشافعي محمد بن أدريس قد غالى فيه أصحابه ومحبيه بحيث قالوا فيه أشياء ومعجزات غريبة وعجيبة ، فمثلاً قال فيه إسماعيل المُزني وهو من تلاميذ الشافعي : بإن النبي جاءه في المنام وقال له ، يا إسماعيل : من طلب محبتي وسار على سُنتي ، وجب عليه إتباع محمد بن أدريس الشافعي لأنه مني وأنا منه  ، ومثل ذلك قاله أحمد بن نصر قال : سألت الرسول في منامي ، قلت : يا رسول الله ، من نتبع في أمور ديننا ومعتقدنا ؟ فقال : عليكم بمحمد بن أدريس الشافعي فهو مني وأنا منه ، وإن الله قد رضي عنه وعن أصحابه والتابعين له إلى يوم القيامة ، وهكذا قال أحمد بن حسن التيريذي قال : رأيت النبي في المنام وسألته عن الإختلاف بين ابوحنيفة ومالك والشافعي فأجابني : عليك بالشافعي فإنه مني وهو المُتبع لسنتي - الغدير ج5 ص244 - .

والمتأمل يرى كيف أصبح الغلو من التابعين نهجاً وسلوكاً وكيف غدت الروايات والفضائل تُفصل تبعاً و كلاً حسب مذهبه وجماعته ، والغريب في كل هذه الفضائل إنها كانت تأتيهم وهم نيام ، والغريب كذلك إن النبي فيها يوزع الفضائل تبعاً لرغبة المريدين والأصحاب.

والغلو كما قلنا وكما عرفناه مرض وعقم عقلي وعلمي يلجأ إليه قليلي الحيلة في مقابل قوة العلم والمعرفة ، إنه الحب الأعمى الذي يُضل صاحبه فيغويه ، وفي مقابل هذا الحب هناك الحقد والكراهية والبغضاء الذي يأتي من المعارضين ، وقد نال الشافعي من هذا الشيء الكثير قولاً وفعلاً ، كقولهم : إن الشافعي رجل خارج ومخالف للدين الحنيف ، وفي ذلك جاءوا برواية عن أبي هريرة قال فيها ، إن النبي محمد – ص – قال : سيظهر في أمتي رجل يُقال له محمد بن أدريس تفتتن به الأمه وتكون فتنته أشد من فتنة أبليس - الغدير ج5 ص 244 -

إذن فالغلو يرتبط  بالإفراط في الحب تارةً وطوراً في الكراهية  وثالثة الأثافي يرتبط بطالبي الجاه والمنصب ،( أولئك المنافقون المتزلقون عديمي الضمير والشرف ) ، وهو في جميع الأحوال مرض خطير وخروج عن الطريق يؤدي بصاحبة للخطأ في الإعتقاد والحكم .ً