الحلقة الثانية

آية الله الشيخ إياد الركابي

في الحلقة الماضية كنا قد تحدثنا عن حالة النزول وشأنيته وكيف تأسس في فكر بعض الصحابة وبعض التابعين من أصحاب الخيال والقصص والحكايا ، وهو أستعراض في المنهج كنا ننشد فيه التصريح والتقرير وكذا القول : - بان مفهوم - سبب النزول أو شأن النزول - ، هو من المصطنعات التي أبتدعها بعض القصاصَين من الصحابة ومن تبعهم وجرى على أثرهم أهل الأخبار والتفسير ، مع إن التنزيل في الكتاب المجيد لا يتعدى المعنى الذي قال به غير واحد من الأصوليين في باب - المفهوم والمصداق - ، وفي ذلك المعنى يكون لنصوص الكتاب المجيد قدر وحجم ودور في الدوام والإستمرار والحياة ، وحين نقول : إن نصوص الكتاب المجيد هي ليست مقيدة بزمان ما أو مكان ما ، ذلك لأن تقييدها بسبب معين يفقدها حيويتها وعنصر قوتها ومُرادها وغايتها النهائية .

وسنواصل في هذه الحلقة البحث عن - سبب النزول - كما قال به القصاصيَن من الصحابة - الحكواتيين - من أمثال - أبي هريرة وغيره - ، ودليلنا على ذلك حكايته التي ساقها في سبب نزول قوله تعالى : - أُحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نساءكم ..-

قال : ( كان المسلمون قبل أن تنزل هذه الآية إذا صلّوا العشاء الآخرة حرم عليهم ، - الطعام ، والشراب ، والنساء - ، حتى يفطروا ، وإن عمر بن الخطاب أصاب أهله بعد صلاة العشاء ، وإن صرمة بن قيس غلبته عينه بعد صلاة المغرب فنام ، فلم يشبع من الطعام ، ولم يستيقظ حتى صلى رسول الله العشاء فقام فأكل وشرب ، فلما أصبح أتى رسول الله فأخبره بذلك ، فأنزل : - أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نساءكم - ، يعني بالرفث مجامعة النساء ، وقوله : - كنتم تختانون أنفسكم - ، يعني تجامعون النساء ، وتأكلون وتشربون بعد العشاء ، وقوله : - فلآن باشروهن - ، يعني جامعوهن - وأبتغوا ما كتب الله لكم - ، يعني الولد - وكلوا واشربوا – فكان ذلك عفواً من الله ورحمة ) - الدر المنثور ج1 ص 197 - .

وحسب رواية - أبي هريرة - يكون مبدأ الصيام بعد صلاة العشاء !!! ، ودليلنا على ذلك قوله : كان الجماع بعد صلاة العشاء حراماً !!! ، وهنا نسأل : وهل إن الله قد أحل الجماع في ليلة الصيام ، كما أحل الطعام والشرب في ليلة الصيام ، نتيجة أو بسبب ما كان يفعله بعض صحابة رسول الله ؟!! ، بمعنى أدق نقول : هل الحليّة جاءت تخفيفاً لصحابة رسول الله من إرتكاب المعصية والذنب ؟ ، ولذلك فقد نسخ الله حكم الحرمة بعدما فعل الصحابة مافعلوا !!!! وهل مقتضى النسخ فعل الصحابة أم علم الله وحكمته ؟ ، هذه الملابسة وهذا الإختلاط الفكري والتشويش النفسي في رواية أبي هريرة كان نتيجة لدواعي التلفيق في فكرة التحريم والتحليل عنده ، يظهر ذلك بقوله : إن عمر بن الخطاب قد جامع زوجته في ليلة الصيام ، والجماع كان محرماً ، فنسخ الله التحريم وأستبدله بالحليَة ، كما في قوله – أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نساءكم - ، قال : نزلت تلك الآية في شأن عمر أو بسبب فعل عمر .

وأما في شأن - صرمة بن قيس الأنصاري - فيقول أبو هريرة : إنه قد أكل وشرب بعد صلاة العشاء ، وبما إن الأكل والشرب كان محرماً بعد صلاة العشاء ، فلذلك نسخ الله حكم التحريم وأستبدله بالحليَة !! أي إن النسخ كان نتيجة لفعل صرمة أو بسبب فعل صرمة ! ، ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة رواية ابي هريرة فيما يخص فعل عمر لأننا نؤمن إن القضايا الشخصية لفعل الصحابة هي قضايا خاصة ولا تخضع لقانون الخطأ والصواب ، وسواء جامع عمر زوجته أم لا ، فهذا الفعل منه لا يهمنا لأنه مسألة شخصية محضة ، ولا نجد من الحكمة مناقشتها إذ لا ضرورة في المقام تقتضي ذلك أو تدعوا له ، ولكننا سنتوقف مع قول ابي هريرة : كان الجماع في ليلة الصيام حراماً ، ثم نسخ الله ذلك الحكم فجعله حلالاً !! هنا نتوقف معه طويلاً ، ونقول : هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ؟ ، أعني إننا نحتاج للدليل المحكم المعتبر على ذلك القول من الكتاب المجيد أو من السنة الصحيحة المعتبرة ، إذ لا يصح في مثل هذه القضايا إطلاق الأقوال والإسترسال فيها ، كما لا يجوز الإعتماد على الأخبار والروايات التاريخية فقط في هذا المجال ، ولقد ثبت في محله عدم صحة ذلك أو التأسيس عليه ، إذ لا يصح القول : إن الله قد نسخ الحكم الشرعي مراعاةً لفلان أو تبعاً لفلان من الناس كائناً من يكون ، فأحكام الله لا تتنزل تبعاً لمزاج ولا لرغبة من أحد ، إنما هي قوانين وشريعة دالة على معنى محدد مُراد ومطلوب في ذاته ولغيره ، وذلك عند الله معلوم في الأصل وفي المبدأ .

كان ذلك الكلام عن فعل عمر بن الخطاب ومضاجعته لزوجته في ليلة الصيام ، ونفس الكلام نقوله في عمل - صرمة بن قيس - للتشابه بينهما في القضيتين في الإستدلال والبرهان ، وذلك مقرر في أصول الفقه وأصول الإجتهاد المعتبرة ، والتي تقول : إنه في حال أثبات الحكم الشرعي في مسألة ما يلزمنا : إيجاد الدليل أولاً فيما يثبت صحة ذلك الحكم وحجيته واعتباره ، ويتساوى في ذلك القول مفهوم حجية الخبر الواحد الصحيح الذي من لوازمه ، ان يكون صحيحاً من جهتي السند و الدلالة ، ورواية أبي هريرة المتقدمة فلا نحرز منها تلك الشرائط الدالة على صحتها وإعتبارها ، وسنحيل القارئ العزيز إلى ما يقوله المحققون من العلماء في هذا الباب .

ومن باب التعريف والتوكيد نقول : إن رواية أبي هريرة هي رواية تخالف العقل أولاً وتخالف ما يحكم به وفق الشروط الموضوعية التي يلتزم بها ، وحين نقول ذلك فإنما نعني مخالفتها لحكمه وتقريره ، وفي ذلك نشير إلى معناها ومضمونها ، وفي حال مخالفة الرواية للشروط الموضوعية تلك يُحكم بسقوطها من الإعتبار ، ومفهوم المخالفة والموافقة التي نقول بهما يتضمنان نفي كل ما يسيء إلى الله أو كل ما يؤدي إلى نسبة الظلم أو الجهل إليه ، ورواية ابو هريرة تقول : كان الجماع في ليلة الصيام بعد صلاة العشاء حراما ! ، ولكنه أي الله قد نسخ حكم الحرمة وأستبدله بالحلّيّة ، وذلك بعدما رأى أن بعض الصحابة قد جامعوا نسائهم في ليلة الصيام ! .

وهذا القول كما ترى مخالف لحكم العقل ، الذي يعتبر الله حكيما وعليما ولا يصدر عنه أو منه القبح أو الظلم ، ومفهوم القبح والظلم ممتنع على الحكيم العليم في البدء وفي مقام التكوين والتشريع ، إذ لا يعقل أن يؤسس الحكيم العليم أحكامه على الظلم ، بل إن الحكمة والعدل من مقتضيات كماله وعلمه ، وبناءً على ذلك : يكون كل حكم مخالف لتلك القاعدة قبحاً وظلماً ، بدليل إن المخالفة تتضمن الظلم للعباد ، في حين يكون الأصل عند الله وفي تشريعه تحقيق مصلحة العباد ، لأنها القاعدة التي من أجلها تم التشريع وأمر به .

وحين شرع الله الصيام وأمر به جعل لازمه ومقتضاه حصول التوازن بين حاجات الجسد وحاجات الروح ، بحيث لا يطغى فيها جانب على آخر ، ومسألة الجماع في ليلة الصيام هي من مقتضيات حاجات الجسد في إشباع غريزته الجنسية الطبيعية لذلك جعلها الله مباحةً وحلالًاً في ليلة الصيام ، وفي المقابل جعل الله نهار الصوم للرياضة الروحية كطريق موصل للكمال والتقوى التي جعلها الله غاية الصيام وهدفه ، ولو قيل : إن الله قد حرم الجماع ليلة الصيام في شهر رمضان ، قلنا : إن ذلك التحريم سيكون مخالفاً للطبيعة وللغريزة وللحاجة وللتوازن التي قلنا بها بين حاجات الجسد وحاجات الروح ، وهذه المخالفة إن وجدت فستكون - ضد الحكمة من الصيام أو التكليف به - ، ويكون ظلماً للعبد والظلم من الله على عباده قبيح ، والله لا يفعل القبيح كما قلنا ، ومن هنا نقول : إن الله لم يشرع ولم يحكم بالحرمة مطلقاً في هذا الشأن ، بدليل قوله تعالى - هن لباس لكم وأنتم لباس لهن – وموضوعة اللباس لا تتحقق إلاً بفعل الجماع وبذلك تكون الملابسة على رأي – أبي مسلم الأصفهاني في جامع التأويل - ، والتمثيل باللباس هو من باب الإستعارة أو الكناية عن الحماية من الحر والبرد ومن كل ما يؤثر من القوى الخارجية ، هذا في جانب وفي جانب أخر : تكون الحماية صوناً لهما من الإنحراف الجنسي والأخلاقي وهذا هو المطلوب هنا ، ولذلك أحل الله ليلة الصيام الرفث إلى نساءكم .

كما نفهم من قوله تعالى : - هن لباس لكم وأنتم لباس لهن - إنها إشارة ودلالة على إن تحريم الجماع ظلم للإنسان ، ولذلك فهو خلاف للطبيعة وللحكمة ولشريعة الله ، ومعلوم بالضرورة إن الله في شريعته لا يحرم ما يكون فيه ظلما للعباد مطلقاً ، ولذلك نرد رواية أبي هريرة هذه لأننا نعتقد : إن الله حكيم عليم ومقتضى حكمة الله وعلمه أن لا يشرع ما يخالف حكمته وعلمه ، ونحن في موقفنا هذا إنما ننتصر لله ضد القصص والحكايا التي لا تستند على دليل ، كما إنه رد على من يلتزمون بحديث الصحابي ويرجحونه على كتاب الله واحكامه ، وموقفنا هذا ناظر إلى كون الصيام شرعة قديمة في الديانات جميعها ، ولم نسمع ان الله فيها قد حرم الجماع ليلة الصيام أو إن حكمته أقتضت ذلك فيحكم بما يخالف الطبيعة والمصلحة ! .

ثم إن رواية أبي هريرة ليست مُخالفة للعقل وأحكامه فقط ، إنما هي كذلك تُخالف الكتاب المجيد وأحكامه ، وهذا الكلام تدل عليه القواعد الأصولية التي تقول : إن كل رواية أو خبر يخالف الكتاب المجيد فهو مردود أو مردودة ، ورواية أبي هريرة تخالف الكتاب المجيد فهي لذلك رواية مردودة ولا يمكن الإعتماد عليها أو إعتبارها .

ونحن لو تدبرنا قوله تعالى : - هن لباس لكم وأنتم لباس لهن - ، سنرى إنها تحكي عن صحة وجواز الجماع مع الزوجة في ليلة الصوم ، ومفهوم الصحة وعلة الجواز هذا أساسه هذه الجملة أعني : - هن لباس لكم وأنتم لباس لهن - ، وأما علة الجواز فأساسها الطبيعة البشرية والحاجة الغريزية ومبدأ التوازن في الحياة بين حاجات الجسد وحاجات الروح ، ومبدأ هذا التوازن وأصله هو تحقيق السعادة للإنسان ، فلو قلنا مع رواية أبي هريرة بحرمة الجماع ليلة الصيام ، فان ذلك التحريم يترتب عليه القول بمخالفة الطبيعة والحاجة وما يحقق السعادة للبشر ، كما يترتب عليه القول بخلاف حكمة الله ، وعليه يكون الكلام في الآية دليل على صحة الجماع في ليلة الصيام على نحو مطلق ، وأما رواية أبي هريرة فهي مردودة لمخالفتها للكتاب المجيد .

ولقد قلنا : إن كل ما يخالف الكتاب المجيد فهو مردود وهذا هو الأصل الأولي ، وبما إن رواية أبي هريرة : ضعيفة السند ومخالفة لحكم العقل ومخالفة لكتاب الله المجيد فهي لذلك رواية تاريخية ساقطة من الإعتبار ومن الحجيّة .

النص الثاني :

روى البخاري عن البراء بن عازب قال : ( لما نزل صوم شهر رمضان ، كانوا لا يقربون النساء رمضان كله ، فكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله - علم الله إنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم ) - الدر المنثور ج1 ص 197 – في هذه الرواية نقرأ التالي :

أولاً : - حرمة الجماع في كل أوقات الليل في رمضان - ، ودليلهم قوله : - فكان رجال يخونون أنفسهم - أي إن الله لو لم يحرم الجماع لما تحققت الخيانة .

وثانياً : ركاكة مفهوم التقابل الذي قالوا به عن معنى ، فانزل - علم الله إنكم كنتم تختانون أنفسكم - بقولهم فنزل : - أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نساءكم - ، أي إنه أحل لكم الجماع بعد الخيانة !! فكان ذلك منه نسخاً للتحريم .

وثالثاً : - إن رواية البراء بن عازب لم تبين لنا شرط الحرمة أهو مع النوم أو بعد صلاة العشاء ؟ ! ، بل جعلتها مطلقة في كل أوقات وساعات ليل رمضان .

ومن باب التوكيد نقول : إن رواية البراء بن عازب لا يمكن الإعتماد عليها في إثبات حرمة الجماع في ليالي رمضان ، كما لا يمكن الإعتماد عليها في القول بان حكم الحرمة قد نسخ على أساس رواية أبن عازب ، لأن في كل ذلك القول دليل على المخالفة : ( مخالفة للعقل وللكتاب وللطبيعة وللحاجة وللمصلحة الإجتماعية وضروراتها ) .

النص الثالث :

روى السيوطي في الدر المنثور ج1 ص 197 ، عن كعب بن مالك إنه قال : ( كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فنام - حرم عليه الطعام والشراب والنساء - حتى يفطر من الغد ) - ، هذه تشترط الرواية النوم لكي يحرم الطعام والشراب ، في حين تشترط رواية أبي هريرة لحرمة الطعام والشراب صلاة العشاء !! .

وكما قلنا في رواية أبي هريرة ، كذلك نقول هنا في رواية كعب بن مالك : لأن هذه الرواية كسابقتها مخالفة للعقل وللحكمة وللكتاب و للواقع الإجتماعي ، ولهذا فلا يمكن الإعتماد عليها في تأسيس الحكم الشرعي ، ولا يمكننا الإعتماد عليها في القول بحرمة الجماع وحرمة الطعام والشراب ، لأنها ببساطة تخالف الحكمة من التشريع والمنطق والعقل .

كنا فيما مضى نبين خطأ الفكرة والمفهوم القائل بحرمة الجماع في ليلة الصيام ، بناءً على روايات - سبب النزول أو شأن النزول - ، والآن سنفتح ملف الفكرة الأخرى أعني مفهوم تحريم الطعام والشراب في ليلة الصيام ، لماذا حرم ذلك ؟ وكيف حُرم ذلك ؟ ونقول : إن رواية أبي هريرة قالت ، كان تحريم الطعام والشراب بعد صلاة العشاء ! ، أي إنها أشترطت حرمة الطعام والشراب بعد صلاة العشاء ، ولكن رواية كعب بن مالك جعلت حرمة الطعام والشراب بعد النوم ، وأما رواية البراء بن عازب فجعلت الحرمة في كل ساعات الليل في رمضان ، وهذا تهافت وضجيج .

يقول البراء : - كان أصحاب النبي إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل ان يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يُمسي ، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً ، فكان يومه ذلك يعمل في أرضه فلما حضر الإفطار أتى أمراته ، فقال : هل عندكم طعام ؟ قالت : لا ، ولكن أنطلق فاطلب لك ، فغلبته عينه فنام ، وجاءت أمراته فلما رأته نائماً قالت : خيبة لك نمت ؟ فلما أنتصف النهار غُشي عليه فذكر ذلك للنبي فنزلت هذه الآية - أحل لكم ليلة الصيام ... إلى قوله - من الفجر – ففرحوا بها فرحاً شديداً – الدر المنثور ج1 ص 197 ، رواها البخاري والترمذي وأبن جرير والبيهقي وأخرين .

وهذه جملة بيانية ليست معترضة وجدناها في كلامهم عن الجماع ، و في كلامهم عن الطعام والشراب ، وكما قلنا هناك نقوله هنا : بان العقل والحكمة والعدل يقتضي وجود حالة التوازن وحصولها للجسد وللروح معاً ، ومن ضرورات التوازن تلك : أن لا يكون الطعام والشراب محرم في ليالي رمضان ، وبنفس العلة يكون الطعام والشراب محرم في أيام رمضان ، والتحريم في نهار رمضان ويومه ملاكه وعلته الحصول على التقوى التي هي العنصر المقصود من فرضية الصيام ، ويكون التحليل في ليالي رمضان ملاكه تحصيل الطاقة اللازمة التي يحتاجها الإنسان لممارسة حياته في نهار رمضان ، فلو قيل : بتحريم الطعام والشراب في ليالي رمضان .

لقلنا : إن ذلك لازمه مخالفة قوانين الطبيعة وحاجة الإنسان للطاقة في صومه وعبادته وعمله .

ولذلك يكون التحريم في هذا الوضع مخالف لحكمة الله وعلمه بعباده وكذا مخالف للمصلحة الإجتماعية ، وكما قلنا فيما سبق : إن الله لا يشرع ما يخالف مصالح البشر والحياة ، لأن القول بالتحريم تشريع بما لا يطاق وهذا ممتنع على الله ان يأمر به ، كذلك يكون مدعاة لإرتكاب الذنب والمعصية وهذا ما لا يريده الله لعباده في أحكامه ، لهذا نقول : إن الله لا يشرع كل أمر فيه مشقة وأذى أو لا يمكن القيام به ، وعليه فتحريم الطعام والشراب في ليالي رمضان لم يشرعه الله مطلقاً ، وعليه فالقصة التي ساقها بعض الصحابة ومن تبعهم في تحريم الطعام والشراب بعد صلاة العشاء أو بعد النوم ، هي من المحدثات التي لا يمكن قبولها أو الإعتماد عليها في تفسير هذه الآية أو التصديق بسبب نزولها .

ثم إن القول : بان صرمة بن قيس نام ولم يأكل حتى اليوم الثاني ، هو قول فاسد ، لأنه يستلزم القول : إن الله لا يعلم بحال عباده من العمال والفلاحين وأصحاب الحرف ، لأن طبيعة عملهم تستوجب الطاقة والقوة ، ومع تحريم الطعام والشراب عليهم فذلك يؤدي إلى عدم قدرتهم على الصمود ومواصلة العمل بالنهار ، وهذا ان حدث سيكون ضرره كبير على مجمل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية ، إذ ذاك لن يستطيع احد القيام بعمله فيما لو حرم عليه الطعام والشراب ليلة الصيام ، ومن ذلك نتبين إن حكم الحرمة التي يزعمون لا أساس له من الصحة ، ومن يقول به أو يقول بنسخه لا حقاً ، فإنما يسيء الظن بالله وبحكمته وبعدله وبمعرفته بحاجات البشر وبطبيعتهم وبمدى تحملهم وطاقتهم .

من هنا نقول : إن علينا واجب أخلاقي لمناهضة هذه الأفكار التي تعطل الحياة وتبيح لفئة قليلة من المترفين التمتع بها دون سواهم ، وكأن أحكام الله نزلت في خدمة المرفهين وأصحاب النفوذ والسلطان ، ولا نصيب فيها للعمال والفلاحين والمعدمين الذين يكدحون النهار كله في البناء والاعمار ومن اجل عيشة كريمة ، أما التجار والمترفين وأصحاب النفوذ فلا يحسون الألم والجوع والعطش والمشقة ولا يشعرون بعنف الحر والبرد ، لذلك أقول : ليس من الأنصاف ولا من العدل أن يحرم الله الطعام والشراب على عباده المؤمنين لمجرد نومهم جراء التعب والمشقة ، وليس من العدل والإنصاف ان يكون شرع الله مفصل على مقاسات المنعمين والمترفين !! ، وذلك ما لا نعرفه عن حكمته و عدله ..

وايضاً هناك إشكالية مفهومية أخرى تتعلق بمعنى قوله تعالى - كنتم تختانون انفسكم - ، ولا ندري كيف جعلتها رواية البراء بن عازب منطبقة في شأن نزولها على ما فعله صرمة بن قيس ؟ ، مع أن الرجل لم يأكل ولم يشرب حتى اليوم التالي ! ، وهو في ذلك إنما يريد تنفيذ أمر الله وطاعة حكمه !! ، فكيف يقال ان فعل - تختانون - ينطبق عليه ؟ ، مع إنه وكما تقول الرواية لم يخن ولم يرتكب ذنب أو معصية ! .

لكن رواية أبي هريرة وما يُنسب لقتاده قولهم في شأن نزول - تختانون انفسكم – ، إنه كان بعض اصحاب رسول الله يأكلون ويشربون في ليالي رمضان بعد صلاة العشاء وبعد النوم ، وذلك كان منهم خيانة !! ، فانزل الله – لقد كنتم تختانون انفسكم - ، وواضح من ذلك أن ابا هريرة يصرح بنزول الآية على بعض صحابة رسول الله ، لأنهم كانوا يأكلون ويشربون بعد صلاة العشاء وبعد النوم ، ولكن كيف له ان يقول بعد ذلك : انها نزلت على صرمة بن قيس مع إنه لم يأكل ولم يشرب ولم يخن ولم يرتكب معصية أو ذنب ؟ ، أليس هذا تناقض وتهافت واضح ؟

ثم ما علاقة الحرمة بالنوم أو بصلاة العشاء ؟ ، وما تأثير ذلك في أصل الحرمة ؟ ، وما هو الرابط بينهما وبين التحريم ؟ ، وما علاقة نسخ التحريم بذلك ؟ ، وهل الرابط بينهما هو من قبيل الرابط بين المعلول والعلة ؟ ، إذ الرابط بينهما ينتفي بمجرد أنتفاء المعلول عن علته ، ثم ما حاجتنا نحن للتعبد بقول الصحابي في هذه المسائل بعد أن ثبت عدم صحتها ؟ ، وقول الصحابي لازمه الدليل على صحته وموافقته للكتاب المجيد ، وتلك شروط موضوعية يلتزم بها الجميع على ما أظن ، والروايات في أسباب النزول لا تتحرك وفق سياق واحد بل نجد فيها التعارض والتضاد ، والتعارض في الروايات مُسقط لها من الاعتبار ، فما بالك وهي تخالف الكتاب المجيد والحكمة والعدل وتخالف العقل والمنطق والأصول المعتبرة والعلم ..