في ظلال آية المودة -  الحلقة الثانية –

 

تناولنا في الحلقة الماضية على نحو عام  مفهوم الأجر في آية المودة و قلنا  : إن الأجر هو لفظ عام لمطلق الأجر في الدنيا والأخرة ، وقلنا كذلك : بأن الأنبياء لم يطلبوا أجراً مادياً على دعوتهم إلى الله  كما إن كتب الأخبار لم تنقل  لنا  ذلك  ، وحتى النبي محمد  -  ص -  في حواريته الشهيرة مع -  أبو الوليد بن المغيرة -  لم يطلب من قومه أجراً مادياً على دعوته   -   أنظر السيرة النبوية  لأبن هشام ج 1 ص 293 -  .

 و لقد قلنا :  إن الشيخ المفيد كان واضحاً حين جعل :  أجر النبي في التقرب إلى الله هو الثواب الدائم ، وهو مستحق على الله تعالى في عدله وجوده وكرمه  ، وليس المستحق على الأعمال يتعلق بالعباد ، لأن العمل يجب ان يكون لله تعالى خالصاً .. – تصحيح الإعتقاد ص 68 -   ،  وهو في ذلك إنما كان يردُ على الشيخ الصدوق وجماعة الأخباريين  في هذا الباب ، الذين جعلوا من الأخبار حاكمة على الكتاب وحجة عليه  .

نعم لقد مررنا على بعض تلك الأخبار في الحلقة الماضية وسنناقشها بالتفصيل في هذه الحلقة  ،  وكنا قد  توقفنا عند سورة الشورى وآية المودة فيها ،  وما إذا كانت  مكية أم مدنية ؟ والتمييز بين المكي والمدني في الآيات والنصوص له دلالة ومعنا معين   ،  والتمييز  يعني التعرف على الجو والواقع الإجتماعي والموضوعي الذي رافق الآية و الذي تحركت فيه ودلت عليه .

 وفي هذه الحلقة سنواصل البحث والتذكير بخبايا الآية والفاظها ومعانيها ونقول :

عرف الزمخشري : -  القربى –  بمعنى القرابة  ككونها مصدرا فهي كالزلفى والبشرى ،  والمراد منها  - أهل القربى  -  ،  -  الكشاف ج3 ص 81 - .

وهذا التعريف  من الزمخشري غير صحيح  لأنه قد جعل المراد من القربى   هو  -  أهل القربى -  ،  لأن ذلك يستلزم  : التقدير اللفظي  -  بذوي -  وهذا التقدير  غير صحيح لأنه  :

أولاً   -   مخالف للأصل و لا ضرورة موجبة في ذلك  ،  أي إنه  لا توجد ضرورة تدعوا للتقدير في آية المودة  ، لأن الآية  في وضعها ولفظها ودلالتها هذا صحيحة ودالة على معناها  ولا تحتاج للتقدير الزائد .

وثانياً   -  إن التقدير المفترض هذا مخالف  لظاهر الكتاب المجيد ، أعني إن الكتاب المجيد أستعمل لفظ  -  أهل القربى –  في معنى  ، أولي القربى أو ذي القربى أو ذوي القربى ،  فقد جاء لفظ -  أولي القربى -   في سورة النساء 8 وفي التوبة 113 وفي النور 22 ، وورد لفظ -  ذي القربى -  في البقرة 83 وفي النساء 36 وفي المائدة 106 وفي الأنعام 152 وفي الأنفال 41 وفي النحل 90 وفي الإسراء 26 وفي الروم 38 وفي فاطر 18 وفي الحشر 7 ،  وورد لفظ  الجمع -  ذوي القربى -  في البقرة 177 .

ولو كان المراد في الآية  -   أهل القربى  -  فكان يجب ان يكون اللفظ منسجما  مع ظاهر الكتاب  ،   وكان يجب ان يكون القول -  ذي القربى -  أو – ذوي القربى – أو -  أولي القربى -  ، ليكون  هكذا -  إلاّ المودة في ذوي القربى -   ،  ولو قال ذلك لصح  ولما وجد فيه أي خلل لغوي  ، وعليه فمن أدعى كون  معنى -  في القربى – هو -  ذوي القربى -   هو إدعاء غير صحيح ولا يستند على دليل محكم  ، لأنه مجرد رأي شخصي وفيه تحميل للكتاب المجيد ما لا يحتمل ..

ولكن علا ما  تدل  آية المودة إذن ؟ 

بعد إن عرفنا معنى كلمة -  القربى -  في قوله تعالى -  قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى -  بأنهم هم -   القرابة   -   ،  وعرفنا إن التقدير فيها   ب  – ذوي –  زيادة مخالفة للأصل والظاهر ، فتكون القربى ليس  بمعنى أهل القربى .

ثم إننا قد  أثبتنا  بالدليل كون آية  المودة من سورة الشورى آية مكية  ، والخطاب فيها  للكفار والمشركين من أهل مكة ، أي  إن الخطاب فيها كان لعشيرته ولقومه من قريش ، والخطاب  يقول لهم بلسان الرسول – ص -  :  إني لا أريد منكم  يابني قومي على ما أدعوا  له  أجرا ، إنما أريد منكم  حفظ القرابة بيننا فنحن  من عشيرة  ومن شجرة واحدة  ،  أعني إنه كان يريد حفظ  العلاقة  ورابطة القرابة  بينهم وعدم الإعتداء عليه وعلى المؤمنين به   .

 وقد مر كلامه مع عتبة أبن المغيرة في هذا الباب  كما في حديث السير ج1 ص293 ،  هو إذن  كان يريد التأكيد  والدعوة إلى ما يؤمن به فيقول  : إن كنتم تريدون الحق فاتبعوني وأمنوا برسالتي ، وإن كنتم لا تريدون ذلك فدعوني وشأني ولا تقفوا بوجهي ولا تألبوا الناس ضدي ، وأحفظوا القرابة بيننا .

وعليه فالمودة المقصودة في هذه الاية لا تعني المحبة القلبية  بل تعني  الصلة ورابطة القرابة  هذا أولاً ، وثانياً  :  إن لفظة -  في –  هي  سببيه وليست ظرفيه مكانية  ، وثالثاً  :   إن حرف الإستثناء  – إلاّ -   دال على الإستثناء المنقطع  بمعنى -  لكن -  وليس على الإستثناء  المتصل كما ذهب إلى ذلك صاحب الميزان رحمه الله . 

ثم إن القول  بان جملة  -  في القربى -   تدل على  -  ذوي القربى  -  ،  مخالفة صريحة لظاهر  الكتاب وعموماته ، وكما قلنا هو إدعاء ليس عليه  دليل  يمكننا التثبت منه  ، كما إن -   ذوي القربى  -   معنى عام  يشمل  كل أو جميع أقرباء النبي حتى أبولهب وأبناءه  ، ولهذا لا يمكننا  القول هكذا بان معنى -   ذوي القربى  -   هم أهل بيت النبي  خاصةً !!!!.

وكما قلنا فالخطاب في الآية موجه للكفار وليس للمسلمين   ،  لأن النبي  إنما يتحدث عن الرسالة وعن الدعوة إلى الإسلام لذلك جاء الكلام منه عن  حق القرابة  مع أهل مكة  ،  ومن يدعي إن الآية مدنية فعليه أن يأتينا بالدليل على ذلك  ، وليس مجرد الإدعاء  ولقد أوردت  الأدلة في الحلقة الماضية  على مكية الآية  .

 ثم إن لفظ  -  الأجر -  في الآية ليس  بمعنى الأجر  الإفتراضي  بل هو الأجر الواقعي الموضوعي   .

·         *   *   * 

 

والآن حان الوقت لنناقش الأخبار التي ذكرناها في الحلقة الماضية ، والتي أعتمدها الشيخ الصدوق في إعتبار المودة في الآية تعني محبة  أهل البيت  !!!

الخبر الأول :  مارواه البرقي في المحاسن عن الإمام الصادق والذي ورد فيه قوله -  أبى الله إلاّ أن يجعل حُبنا مفترضاً أخذه من أخذه وتركه من تركه واجباً ، فقال -  قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودة في القربى – نور الثقلين ج4 ص571 الخبر رقم 61 - .

 وفي الحلقة الماضية قلنا :  إن  في الفكر الإسلامي وفي  المدرسة الإسلامية إتجاهين  أو قل نزعتين ،  الأولى :  تجعل من الأخبار حاكمة على الكتاب وحجة عليه ، والثانية :  تجعل من الكتاب هو الأصل الذي تستنبط منه الأحكام وهو الحاكم على الأخبار .

 وقلنا إن الشيخ الصدوق رجل إخباري أعني هو ممن يؤمن بحاكمية الأخبار على الكتاب ، وما مال إليه الصدوق  رده الشيخ المفيد  بالإتكاء على  كلام لعلي – ع – جاء  فيه  : -  أعقلوا الخبرإذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية فان رواة العلم كثير ورعاته قليل .. – نهج البلاغة الكلمات القصار 98 - ، وأيضاً بالإعتماد على ما جاء  في نهج البلاغة الخطبة 210  قول علي -  ع -  : -  وإنما أتاك ( بالخبر) أربعة رجال ليس لهم خامس :

1 -  رجل منافق مظهر للإيمان متصنع بالإسلام لا يتأثم ولا يتحرج يكذب على رسول الله متعمداً ، فلو علم الناس أنه منافق كاذب لم يقبلوا منه ، ولم يصدقوا قوله .

2 -  ورجل سمع من رسول الله شيئاً لم يحفظه على وجهه فوهم فيه .

3 -  ورجل ثالث سمع من رسول الله شيئاً يأمر به ، ثم نهى عنه وهو يعلم أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم .

4 -  وأخر لم يكذب على الله ولا على رسوله مبغض للكذب خوفاً لله وتعظيماً ولم يهم بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به على ماسمعه ولم يزد ولم ينقص .

وهذا يعني  إن رواة الأخبار هم هذه الأصناف الأربعة لا غير ومن بين هؤلاء واحد فقط يمكننا الإعتماد عليه في رواية  الأخبار وأما الثلاثة الباقية فلا يعتد بهم ولا يعتبر  ،  هذا مع العلم بان  كتب الأخبار لم تحذف  مع الأسف من بين صفحاتها هذه الروايات الغير معتبرة ،   نلاحظ هذا  في  تفسير نور الثقلين وفي تفسير البرهان وغيرهما الكثير ، كتب لم تفرق بين ماهو صحيح وماهو غير ذلك  ،  كتب تساوي بين الأخبار مما يختلط في ذهن الناس الصحيح من السقيم   ..

أقول :  وفي المجمل فإن صحة الخبر من عدمه مرتبط بالمعيار الذي عليه يتم القياس ،  فالخبر الموافق للكتاب  والمتفق مع الحقايق العلمية والعقلية هو الخبر المعتمد ومادونه فيضرب به عرض الجدار ولهذا نقول :

إن الخبر الأول :  ضعيف الإسناد لجهة عدم ذكر أحد رواته   ، والخبر الذي يكون على هذا النحو يُقال عنه -  حديث مرسل -   والمرسلات من الأخبار لايعتمد عليها في إستنباط حكم شرعي إستحبابي أو كراهي ، ثم إن عدم ذكر أسم الراوي يجعلنا في شك ،  ما إذا كان هذا المحذوف صادق أم كاذب ، وما إذا  كان من أتباع السياسة والسياسين والمروجين لهم  أم كان رجلاً صالحاً  وصاحب علم ودين  ؟  ، وعلى كل حال  فالخبر  ضعيف الإسناد ولذلك  لا يعتد به لضعفه ، وكما قلنا فالخبر الضعيف الإسناد لا يمكننا أن نجعله حجة في إستنباط الأحكام  حتى في باب الكراهة والإستحباب ، فمابالك بالمسائل الكبرى  وتفسير الكتاب والتعرف على معانيه  .

ثم إن الخبر  الأول  :   يقول – ابى الله إلاّ ان يجعل حبنا مفترضاً -  وهذا غير صحيح من الناحية العقلية ،  ذلك لأن الحب ليس أمراً تكليفياً كالأوامر والنواهي بل هو شأن قلبي  ، أعني إنه ليس شأناً قهرياً   ، كما إن طبيعة ومفهوم الحب لا يأتي بقرار رسمي ولا يخرج كذلك بقرار رسمي  ذلك لأنه  علاقة قلبية ، لكن الخبر مع الأسف يريد القول : بان محبة أهل البيت  فرض واجب  وكأنها أمر تكليفي  ، مع إن الحب للمؤمنين وولايتهم عامة لاخصوصية فيها كذلك قال الله  -  والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض -  ،  ولأن ذلك كذلك فلا دليل على تخصيص النص بمحبة أهل البيت   دون سواهم من المؤمنين .

كما إن الخبر   :   في سياقه اللفظي هذا مخالف للمعنى الصحيح للآية والذي شرحناه سابقاً ، فالخبر على هذا النحو هو تحريف للآية عن سياقها وعن معناها ، ومعلوم إن جُل الذين قالوا بالتحريف إنما أعتمدوا على الأخبار والروايات في ذلك ، وهذا الخبر في صيغته هذه يحرف النص من خلال الإدعاء بان محبة أهل البيت فرض واجب   ، في حين إن المحبة كوضع طبيعي وكما هي في الكتاب  لا تكون  معلقة بقرار وأمر إنما هي  شأن قلبي  خالص  ،  ذلك لأن المحبة  من حيث هي ليست من الأوامر ولا هي من النواهي حتى تدخل في باب الوجوب  والنهي  ، ومن يقول بذلك تبعاً للأخبار إنما يحرف الكتاب المجيد عن سياقه ومعناه ، ولهذا كنا   دقيقين حينما ذكرنا رأي الإمام علي في رواة الأخبار الذين صنفهم إلى أربعة أصناف ،   واحد منهم صادق والبقايا لا يعتد بهم .

يتبع